(1) السرد بضمير المخاطب
ضمير المخاطب في الأدب، أو حتى في السرد، ليس ظاهرة جديدة، ولا ظاهرة خاصة بالأدب العربي؛ فقد ألفنا "الحديث" إلى القارئ وبضمير المخاطب في كل الثقافات الشفاهية، التي تقوم على لقاء حي بين متكلم ومستمعيه. وكان من الطبيعي أن تنهض البلاغة القديمة في كل الآداب، على حضور المخاطَب، ورغبة المتكلم في إقناعه بكل السبل. واتخذ هذا التفاعل بين المتكلم والمستمعين صورًا متعددة على مدار التاريخ، وجدت أبرز تجلِّ لها في نوعين من الأدب القديم على وجه الخصوص، هما "الشعر الغنائي" و"الخطابة".
ولم يكن السرد ببعيد طوال تاريخه، ومنذ الملاحم اليونانية، عن هذا التفاعل بين متكلم ومستمعين، فكثيرًا ما قطع الراوي/الشاعر سرد الحكاية، متجهًا بضمير المخاطب إلى المستمعين أحيانًا، وإلى إحدى شخصياته أحيانًا أخرى، وإلى العالم بأشيائه وأحيائه مرة ثالثة.
وحين وصلنا إلى العصر الحديث، عصر الكتابة والاتصال عن بعد، لم يلتزم السرد – ولا الشعر طبعًا – بما تفرضه علاقة الكاتب/ القارئ الجديدة هذه، وظل لعقود طويلة، محكومًا بتلك الرغبة العميقة في الحفاظ على العلاقة الأصلية الأقدم بين المتحدث ومستمعيه.
وقد عبرت هذه الرغبة عن نفسها في كل مراحل الأدب العربي الحديث واتجاهاته، بدءًا من التجارب الروائية الأولى، سواء تلك التي انبنت على الأدب الشعبي، أو تلك التي انبنت على الموروث النثري الفصيح، والتي وجدت شكلها النهائي في كتاب "حديث عيسى بن هشام" للمويلحي، ثم مرورًا بعد ذلك بما كتبه المنفلوطي، وطه حسين ورفاقه، من أعمال كانت في حقيقة أمرها "أحاديث" أكثر منها "قصص"، وانتهاءً بكتابات يوسف إدريس الذي استخدم "فن الحديث" إلى القارئ بشكل أكثر مكرًا وخفاءً، بحيث وضعه في إطار موضوعي صلب ومشوِّق، اقترن برؤية المدرسة الواقعية في الخمسينيات وما تلاها، وبحيث اختفى ذكر القارئ/المخاطب في شكله المباشر، ونابت عنه كما رأينا مؤشرات أخرى غير مباشرة، ربما كانت أعمق أثرًا.
في كل هذه الحالات، كان ضمير المخاطب يُستخدم بصور ودرجات ولأهداف مختلفة، ويتوجه في الأساس إلى القارئ، وظل الأمر كذلك إلى أن تم اكتشاف تقنية سردية بالغة القسوة والضراوة، عرفت باسم "تيار الوعي". وكانت تلك هي النقطة التي صعد عندها ضمير المخاطب في السرد، إذ أصبح من الممكن أن يخاطِب الراوي نفسَه، في مونولوج أوتوبيوجرافي مطوّل قد يستغرق النصَّ كله، قصة كان أو رواية. وأصبح ضمير المخاطب هذا يشير إلى الراوي المتكلم وهو منقسم على ذاته يكلمها ويذكِّرها، كما يشير وفي اللحظة نفسها، إلى القارئ الذي لا يستطيع أن يتفادى الاصطدام بهذا الضمير، إذ يتوجه إليه بالخطاب، فيفاجئه ويربكه.
ومن هذا المونولوج الأوتوبيوجرافي نفسه، اشتُـقَّت صيغ أخرى مربكة من ضمير المخاطب في السرد، مثل الصيغة الطلبية التي تأخذ شكل أوامر ونواه ونصائح وإرشادات وتساؤلات، لا تدري مِمَّن ولا إلى من تتوجه ، قد يتجه بها الراوي إلى نفسه أو إلى شخص آخر، هو في الحقيقة جزء من ذاته، يستحضره وكأنه يدلي إليه باعتراف، أو يحكي له ما حدث، أو يشركه في التجربة، أو يتخذ منه ذريعة للتذكر، أو ربما يوبخه ويسخر منه ويشتمه.
في هذه الحالة، تتحول القصص إلى عالم مربك على حافة الحلم أو الجنون، لأنك لا تعلم مَن يتحدث إلى مَن في هذا العالم القصصي، أو ـ على الأقل ـ لأن شخصيات هذا العالم محمومة لا تكف عن حديث المحمومين إلى أنفسهم، ولكن أمامنا نحن القراء، وعلى مسمع منا، وبطريقة تكاد تمحو المسافة المستقرة نسبيًّا، بين الراوي والبطل والمروي عليه والقارئ الفعلي.
وفي هذه الحالة أيضًا، يتغير معنى ضمير المخاطب؛ فبعد أن كان جزءًا من حالة الشعر والمناجاة الغنائية التقليدية، التي يتوقف عندها تقدُّم السرد، ويحل التأمل والغناء والوصف بدلاً منه ، أصبح جزءًا من حالة التشظي والسخرية والعبث والعدوان والقبح والفظاظة، وكلها خصائص اقترنت بما سُمِّي "ما بعد الحداثة".
من هذه الخصائص وغيرها، تشكَّل ما سمَّاه النقاد المعاصرون "السرد بضمير المخاطب" Second Person Narrative، وهو نوع من السرد يكشف عن أمور جديدة، أهمها استخدام ضمير المخاطب وسيلة للسرد، وسيلة لحكي القصص نفسها، وليس مجرد الاتصال مع القارئ أو الالتفات إليه، أو حتى مخاطبة الأشياء والمجردات، كما كان يحدث في صيغ المناجاة التقليدية.
اتسعت المساحة التي يحتلها السرد بضمير المخاطب على نحو لافت في العقود الأخيرة، بحيث أصبحت "الأنت" جزءًا من القص، وليس مجرد "أنت" اتصالية بين الكاتب والقارئ، وبحيث تجاوز كلام الراوي المناجيات والتساؤلات والأوامر، وغيرها من الصيغ الطلبية المعروفة الموجهة إلى هذا القارئ.
أصبح كلام الراوي بضمير المخاطب تمثيليًّا أوتقريريًّا (خبريًّا وليس إنشائيًّا إذا استخدمنا لغة البلاغة الكلاسيكية)؛ فهو يحكي القصة، ويرسم الشخوص، ويحدد الأحداث، ويعيِّن الزمان والمكان والظروف مستخدمًا ضمير المخاطب، تمامًا كما يفعل الراوي بضمير المتكلم أو بضمير الغائب، ولكن مع إضافة بعد جديد وهام يرتبط بحضور هذه "الأنت".
وحين يكون ضمير المخاطب شخصية داخل قصة، فإنه لن يكون شخصية بالطريقة التي يكون بها ضمير الغائب أو ضمير المتكلم؛ لأن هناك علاقات محتملة ومربكة يتفرد بها ضمير المخاطب حين يستخدم، ويثيرها لدى القارئ.
لقد تغيرت طبيعة "الأنت" في السرد المعاصر؛ فبعد أن كانت تشير في غالب الأمر إلى القارئ العزيز، وتؤكد علاقة "المصاحبة" و"الزمالة" التي تجمعه بالكاتب (كما كان الحال عند المنفلوطي وطه حسين وحتى يوسف إدريس)، أصبحت في هذه النصوص المعاصرة لا تشير إلى القارئ، وإنما إلى شخصية في القصة، أو إلى الراوي الذي يتحدث إلى نفسه أو ذاته البديلة.
ومع أنه لا توجد في هذه الحالة، علاقة مباشرة بين القارئ وما يشير إليه ضمير المخاطب، فإن إيعاذًا غامضًا بالخطاب يظل قائمًا هناك، يظل هناك إيحاء بالتوجه المباشر إلى القارئ. إن غموض المرجع الذي تشير إليه "الأنت" في نصوص الأدب المعاصر، يفتح احتمالات جديدة لفهم هذه النصوص وتأويلها.
ومن الغريب أن "الأنت" التي كانت - هي نفسها - فيما مضى جزءًا من علاقة المصاحبة، والزمالة، والتشويق، والحنو، أو حتى التعالي، التي تجمع المتكلم بالسامع، أو القارئ بالكاتب ، قد أصبحت في الأدب المعاصر جزءًا من علاقة جديدة بينهما ، علاقة قائمة على "التغريب" و"كسر الألفة"، إن لم نقل قائمة على "التهديد" و"الانتهاك" و"العدوان"، وكلها كلمات يستخدمها نقاد ما بعد الحداثة لوصف جوانب من هذه العلاقة، بل إنهم يقولون إن هذه العلاقة العدائية الظاهرة، قد تستخدم كاستراتيجية "إغرائية".
إن علاقة العدوانية هنا ربما تكون – شأن الشجار بين عاشقين - جزءًا مكملاً للعلاقة الإيروتيكية بين الكاتب والقارئ عبر النص، أي جزءًا من "لذة النص". "العدوانية" و"الانتهاك" و"الاستجواب" و"الاتهام"، و"الانتزاع"، هي - كما يقول برايان ماكهيل - صورٌ للعلاقة الجديدة بين الكاتب والقارئ، صور سالبة ربما، ولكنها أفضل من لاشيء، خصوصًا حين يكون البديل هو انعدام العلاقة تمامًا.
كانت كل جماليات الحداثة قد استخدمت "الأنت" الصريحة ، فأصبحت الحلقة التواصلية بين الكاتب والقارئ ملتوية، وأصبح التوجه إلى القارئ يتم بشكل غير مباشر؛ فقد حل "العرض" محل "السرد" (حسب مصطلحات بيرسي لوبوك). وبدلا من أن يرتبط الخطاب الحداثي بقارئه وجهًا لوجه، أعرضت الحداثة عن القارئ، وطلبت منه أن يستنتج كل الأشياء التي يدل عليها هذا الإعراض.
وهكذا يأتي ضمير المخاطب في السياقات الحداثية والحداثية المتأخرة، ولكن بطريقة يفقد معها وظيفة التوجه المباشر، ويتم استبدال ضمير المخاطب بضمير المتكلم أحيانًا، في إشارة إلى أن الشخصية تتحدث إلى نفسها، أو إلى ذات بديلة إلى حد ما، في نوع من الديالوج الداخلي .
ما معنى أن يختار كاتب ضمير المتكلم أو ضمير الغائب أو ضمير المخاطب، ما لم يكن لهذه الوسائل البلاغية أو اللغوية علاقة بالمعنى والدلالة والرؤية. بعض النقاد ومنذ عقود (واين بوث Booth خصوصًا في كتابه الرائد "بلاغة السرد") كان قد لاحظ هذا الاهتمام المتزايد بضمائر السرد ووجهة النظر والصوت .. إلخ، ونبهنا إلى أن هذا قد لا يعني أي شيء، وسخر من النقاد الذين ينصب عملهم على إحصاء المرات التي ترد فيها "الأنا" في رواية ما.
والواقع أن المسألة ليست مجرد استخدام ضمير بدلاً من ضمير آخر في حكي القصة، كما تصوَّر بوث ودارسون آخرون ، ولو كان الأمر كذلك فعلاً لما حظي هذا "الأسلوب" السردي بعناية أحد . إنما المسألة أن هذا الصعود لضمير المخاطب في السرد، وعلى هذا النحو الجديد، جاء انعكاسًا لتبدلات مهمة دخلت على طبيعة الأدب في العالم الذي نعيشه، طبيعة العلاقة بين الأنا والأنا الأخرى (الإنسان ونفسه)، وبين الأنا والآخر (الإنسان والذوات والأشياء الأخرى)، وطبيعة العلاقة بين الكاتب والقارئ..
ومهما يكن من أمر ، فإن صعود ضمير المخاطب بصوره التي سأتحدث عنها هنا، يضع السرد بأنواعه المختلفة في أرض جديدة وخصبة، لكنه يضعه أيضًا في موقف قلق وغريب؛ ذلك أنه يهمش العالم الخارجي (الموضوع الأصلي للسرد)، وإذا حدث واقترب منه (وكثيرًا ما يحدث) فإنه يحوله إلى جزء من عالم داخلي غير موثوق فيه، أو يعتمد منظور السخرية. وهكذا يكون السرد في قلب الواقع ولكن دون مسئولية معلنة، ودون انطلاق واضح من أي موقف أيديولوجي.
وهكذا يمكن لصعود ضمير المخاطب في السرد المعاصر أن يثير أسئلة جديدة، و أن يفتح أبوابًا واعدة لفهم العلاقة بين أنواع الأدب المختلفة، ويمكن أن يتجاوب مع مداخل جديدة في الدرس الأدبي
يتأبى أسلوب "السرد بضمير المخاطب" على التعريف الواضح، وهذا الافتقار إلى تعريف واضح كان واحدًا من المعوقات التي وقفت في طريق التناول المناسب لهذه الظاهرة. والمشكلة الأكبر هنا، هي كيفية الفصل بين نصوص كانت تستخدم ضمير المخاطب بطريقة مشوقة، وربما بطريقة دالة (كما رأينا عند المنفلوطي، وطه حسين، ويوسف إدريس)، وهذه النصوص الجديدة التي خلقت "أسلوبًا" - أو ربما "نوعًا" - أدبيًّا آخر، له تقاليده وأغراضه الجديدة.
خيري دومة
ضمير المخاطب في الأدب، أو حتى في السرد، ليس ظاهرة جديدة، ولا ظاهرة خاصة بالأدب العربي؛ فقد ألفنا "الحديث" إلى القارئ وبضمير المخاطب في كل الثقافات الشفاهية، التي تقوم على لقاء حي بين متكلم ومستمعيه. وكان من الطبيعي أن تنهض البلاغة القديمة في كل الآداب، على حضور المخاطَب، ورغبة المتكلم في إقناعه بكل السبل. واتخذ هذا التفاعل بين المتكلم والمستمعين صورًا متعددة على مدار التاريخ، وجدت أبرز تجلِّ لها في نوعين من الأدب القديم على وجه الخصوص، هما "الشعر الغنائي" و"الخطابة".
ولم يكن السرد ببعيد طوال تاريخه، ومنذ الملاحم اليونانية، عن هذا التفاعل بين متكلم ومستمعين، فكثيرًا ما قطع الراوي/الشاعر سرد الحكاية، متجهًا بضمير المخاطب إلى المستمعين أحيانًا، وإلى إحدى شخصياته أحيانًا أخرى، وإلى العالم بأشيائه وأحيائه مرة ثالثة.
وحين وصلنا إلى العصر الحديث، عصر الكتابة والاتصال عن بعد، لم يلتزم السرد – ولا الشعر طبعًا – بما تفرضه علاقة الكاتب/ القارئ الجديدة هذه، وظل لعقود طويلة، محكومًا بتلك الرغبة العميقة في الحفاظ على العلاقة الأصلية الأقدم بين المتحدث ومستمعيه.
وقد عبرت هذه الرغبة عن نفسها في كل مراحل الأدب العربي الحديث واتجاهاته، بدءًا من التجارب الروائية الأولى، سواء تلك التي انبنت على الأدب الشعبي، أو تلك التي انبنت على الموروث النثري الفصيح، والتي وجدت شكلها النهائي في كتاب "حديث عيسى بن هشام" للمويلحي، ثم مرورًا بعد ذلك بما كتبه المنفلوطي، وطه حسين ورفاقه، من أعمال كانت في حقيقة أمرها "أحاديث" أكثر منها "قصص"، وانتهاءً بكتابات يوسف إدريس الذي استخدم "فن الحديث" إلى القارئ بشكل أكثر مكرًا وخفاءً، بحيث وضعه في إطار موضوعي صلب ومشوِّق، اقترن برؤية المدرسة الواقعية في الخمسينيات وما تلاها، وبحيث اختفى ذكر القارئ/المخاطب في شكله المباشر، ونابت عنه كما رأينا مؤشرات أخرى غير مباشرة، ربما كانت أعمق أثرًا.
في كل هذه الحالات، كان ضمير المخاطب يُستخدم بصور ودرجات ولأهداف مختلفة، ويتوجه في الأساس إلى القارئ، وظل الأمر كذلك إلى أن تم اكتشاف تقنية سردية بالغة القسوة والضراوة، عرفت باسم "تيار الوعي". وكانت تلك هي النقطة التي صعد عندها ضمير المخاطب في السرد، إذ أصبح من الممكن أن يخاطِب الراوي نفسَه، في مونولوج أوتوبيوجرافي مطوّل قد يستغرق النصَّ كله، قصة كان أو رواية. وأصبح ضمير المخاطب هذا يشير إلى الراوي المتكلم وهو منقسم على ذاته يكلمها ويذكِّرها، كما يشير وفي اللحظة نفسها، إلى القارئ الذي لا يستطيع أن يتفادى الاصطدام بهذا الضمير، إذ يتوجه إليه بالخطاب، فيفاجئه ويربكه.
ومن هذا المونولوج الأوتوبيوجرافي نفسه، اشتُـقَّت صيغ أخرى مربكة من ضمير المخاطب في السرد، مثل الصيغة الطلبية التي تأخذ شكل أوامر ونواه ونصائح وإرشادات وتساؤلات، لا تدري مِمَّن ولا إلى من تتوجه ، قد يتجه بها الراوي إلى نفسه أو إلى شخص آخر، هو في الحقيقة جزء من ذاته، يستحضره وكأنه يدلي إليه باعتراف، أو يحكي له ما حدث، أو يشركه في التجربة، أو يتخذ منه ذريعة للتذكر، أو ربما يوبخه ويسخر منه ويشتمه.
في هذه الحالة، تتحول القصص إلى عالم مربك على حافة الحلم أو الجنون، لأنك لا تعلم مَن يتحدث إلى مَن في هذا العالم القصصي، أو ـ على الأقل ـ لأن شخصيات هذا العالم محمومة لا تكف عن حديث المحمومين إلى أنفسهم، ولكن أمامنا نحن القراء، وعلى مسمع منا، وبطريقة تكاد تمحو المسافة المستقرة نسبيًّا، بين الراوي والبطل والمروي عليه والقارئ الفعلي.
وفي هذه الحالة أيضًا، يتغير معنى ضمير المخاطب؛ فبعد أن كان جزءًا من حالة الشعر والمناجاة الغنائية التقليدية، التي يتوقف عندها تقدُّم السرد، ويحل التأمل والغناء والوصف بدلاً منه ، أصبح جزءًا من حالة التشظي والسخرية والعبث والعدوان والقبح والفظاظة، وكلها خصائص اقترنت بما سُمِّي "ما بعد الحداثة".
من هذه الخصائص وغيرها، تشكَّل ما سمَّاه النقاد المعاصرون "السرد بضمير المخاطب" Second Person Narrative، وهو نوع من السرد يكشف عن أمور جديدة، أهمها استخدام ضمير المخاطب وسيلة للسرد، وسيلة لحكي القصص نفسها، وليس مجرد الاتصال مع القارئ أو الالتفات إليه، أو حتى مخاطبة الأشياء والمجردات، كما كان يحدث في صيغ المناجاة التقليدية.
اتسعت المساحة التي يحتلها السرد بضمير المخاطب على نحو لافت في العقود الأخيرة، بحيث أصبحت "الأنت" جزءًا من القص، وليس مجرد "أنت" اتصالية بين الكاتب والقارئ، وبحيث تجاوز كلام الراوي المناجيات والتساؤلات والأوامر، وغيرها من الصيغ الطلبية المعروفة الموجهة إلى هذا القارئ.
أصبح كلام الراوي بضمير المخاطب تمثيليًّا أوتقريريًّا (خبريًّا وليس إنشائيًّا إذا استخدمنا لغة البلاغة الكلاسيكية)؛ فهو يحكي القصة، ويرسم الشخوص، ويحدد الأحداث، ويعيِّن الزمان والمكان والظروف مستخدمًا ضمير المخاطب، تمامًا كما يفعل الراوي بضمير المتكلم أو بضمير الغائب، ولكن مع إضافة بعد جديد وهام يرتبط بحضور هذه "الأنت".
وحين يكون ضمير المخاطب شخصية داخل قصة، فإنه لن يكون شخصية بالطريقة التي يكون بها ضمير الغائب أو ضمير المتكلم؛ لأن هناك علاقات محتملة ومربكة يتفرد بها ضمير المخاطب حين يستخدم، ويثيرها لدى القارئ.
لقد تغيرت طبيعة "الأنت" في السرد المعاصر؛ فبعد أن كانت تشير في غالب الأمر إلى القارئ العزيز، وتؤكد علاقة "المصاحبة" و"الزمالة" التي تجمعه بالكاتب (كما كان الحال عند المنفلوطي وطه حسين وحتى يوسف إدريس)، أصبحت في هذه النصوص المعاصرة لا تشير إلى القارئ، وإنما إلى شخصية في القصة، أو إلى الراوي الذي يتحدث إلى نفسه أو ذاته البديلة.
ومع أنه لا توجد في هذه الحالة، علاقة مباشرة بين القارئ وما يشير إليه ضمير المخاطب، فإن إيعاذًا غامضًا بالخطاب يظل قائمًا هناك، يظل هناك إيحاء بالتوجه المباشر إلى القارئ. إن غموض المرجع الذي تشير إليه "الأنت" في نصوص الأدب المعاصر، يفتح احتمالات جديدة لفهم هذه النصوص وتأويلها.
ومن الغريب أن "الأنت" التي كانت - هي نفسها - فيما مضى جزءًا من علاقة المصاحبة، والزمالة، والتشويق، والحنو، أو حتى التعالي، التي تجمع المتكلم بالسامع، أو القارئ بالكاتب ، قد أصبحت في الأدب المعاصر جزءًا من علاقة جديدة بينهما ، علاقة قائمة على "التغريب" و"كسر الألفة"، إن لم نقل قائمة على "التهديد" و"الانتهاك" و"العدوان"، وكلها كلمات يستخدمها نقاد ما بعد الحداثة لوصف جوانب من هذه العلاقة، بل إنهم يقولون إن هذه العلاقة العدائية الظاهرة، قد تستخدم كاستراتيجية "إغرائية".
إن علاقة العدوانية هنا ربما تكون – شأن الشجار بين عاشقين - جزءًا مكملاً للعلاقة الإيروتيكية بين الكاتب والقارئ عبر النص، أي جزءًا من "لذة النص". "العدوانية" و"الانتهاك" و"الاستجواب" و"الاتهام"، و"الانتزاع"، هي - كما يقول برايان ماكهيل - صورٌ للعلاقة الجديدة بين الكاتب والقارئ، صور سالبة ربما، ولكنها أفضل من لاشيء، خصوصًا حين يكون البديل هو انعدام العلاقة تمامًا.
كانت كل جماليات الحداثة قد استخدمت "الأنت" الصريحة ، فأصبحت الحلقة التواصلية بين الكاتب والقارئ ملتوية، وأصبح التوجه إلى القارئ يتم بشكل غير مباشر؛ فقد حل "العرض" محل "السرد" (حسب مصطلحات بيرسي لوبوك). وبدلا من أن يرتبط الخطاب الحداثي بقارئه وجهًا لوجه، أعرضت الحداثة عن القارئ، وطلبت منه أن يستنتج كل الأشياء التي يدل عليها هذا الإعراض.
وهكذا يأتي ضمير المخاطب في السياقات الحداثية والحداثية المتأخرة، ولكن بطريقة يفقد معها وظيفة التوجه المباشر، ويتم استبدال ضمير المخاطب بضمير المتكلم أحيانًا، في إشارة إلى أن الشخصية تتحدث إلى نفسها، أو إلى ذات بديلة إلى حد ما، في نوع من الديالوج الداخلي .
ما معنى أن يختار كاتب ضمير المتكلم أو ضمير الغائب أو ضمير المخاطب، ما لم يكن لهذه الوسائل البلاغية أو اللغوية علاقة بالمعنى والدلالة والرؤية. بعض النقاد ومنذ عقود (واين بوث Booth خصوصًا في كتابه الرائد "بلاغة السرد") كان قد لاحظ هذا الاهتمام المتزايد بضمائر السرد ووجهة النظر والصوت .. إلخ، ونبهنا إلى أن هذا قد لا يعني أي شيء، وسخر من النقاد الذين ينصب عملهم على إحصاء المرات التي ترد فيها "الأنا" في رواية ما.
والواقع أن المسألة ليست مجرد استخدام ضمير بدلاً من ضمير آخر في حكي القصة، كما تصوَّر بوث ودارسون آخرون ، ولو كان الأمر كذلك فعلاً لما حظي هذا "الأسلوب" السردي بعناية أحد . إنما المسألة أن هذا الصعود لضمير المخاطب في السرد، وعلى هذا النحو الجديد، جاء انعكاسًا لتبدلات مهمة دخلت على طبيعة الأدب في العالم الذي نعيشه، طبيعة العلاقة بين الأنا والأنا الأخرى (الإنسان ونفسه)، وبين الأنا والآخر (الإنسان والذوات والأشياء الأخرى)، وطبيعة العلاقة بين الكاتب والقارئ..
ومهما يكن من أمر ، فإن صعود ضمير المخاطب بصوره التي سأتحدث عنها هنا، يضع السرد بأنواعه المختلفة في أرض جديدة وخصبة، لكنه يضعه أيضًا في موقف قلق وغريب؛ ذلك أنه يهمش العالم الخارجي (الموضوع الأصلي للسرد)، وإذا حدث واقترب منه (وكثيرًا ما يحدث) فإنه يحوله إلى جزء من عالم داخلي غير موثوق فيه، أو يعتمد منظور السخرية. وهكذا يكون السرد في قلب الواقع ولكن دون مسئولية معلنة، ودون انطلاق واضح من أي موقف أيديولوجي.
وهكذا يمكن لصعود ضمير المخاطب في السرد المعاصر أن يثير أسئلة جديدة، و أن يفتح أبوابًا واعدة لفهم العلاقة بين أنواع الأدب المختلفة، ويمكن أن يتجاوب مع مداخل جديدة في الدرس الأدبي
يتأبى أسلوب "السرد بضمير المخاطب" على التعريف الواضح، وهذا الافتقار إلى تعريف واضح كان واحدًا من المعوقات التي وقفت في طريق التناول المناسب لهذه الظاهرة. والمشكلة الأكبر هنا، هي كيفية الفصل بين نصوص كانت تستخدم ضمير المخاطب بطريقة مشوقة، وربما بطريقة دالة (كما رأينا عند المنفلوطي، وطه حسين، ويوسف إدريس)، وهذه النصوص الجديدة التي خلقت "أسلوبًا" - أو ربما "نوعًا" - أدبيًّا آخر، له تقاليده وأغراضه الجديدة.
خيري دومة