الشعراء والقرآن
منصف الوهايبي
إنّ محاكاة النصّ القرآني قديمة في التّراث العربي، وأمثلتها وشواهدها أكثر من أن نأتي عليها في هذا المقال. ومثالها السّيوطي في «رشف الزّلال من السّحر الحلال»، والمعرّي في «الفصول والغايات».
غير أنّ المحاكاة تتجلّى أكثر في شعر العرب، وقد كان القرآن يجري من الشعراء مجرى المحفوظ والمأثور، بحيث يمكن أن يتسلّل إلى القصيدة في استخفاء، فيشغل البيت أو جزءا منه. وقد تستدعيه القافية، فيسدّ مسدّها؛ وليس هو الذي يستدعيها. وإذا كنّا في هذا المقال نتمثّل بأبي تمّام دون غيره، فلا يفوتنا أن نشير إلى أنّ المقتبس القرآني لم يكن وقفا عليه؛ فهو من المطّرد في شعر القرن الأوّل للهجرة، وإن كان لا يسدّ مسدّ القافية إلاّ في أبيات قليلة جدّا من القصيدة، كما هو الشأن عند حسّان بن ثابت وكعب بن مالك وعبدالله بن رواحة… من الذين استمدّوا بعض صورهم ومعانيهم من القرآن، وترسّموه أسلوبا وأداء ولفظا؛ بل عند المحدثين من شعراء القرن الثّاني للهجرة مثل أبي نواس والعبّاس بن الأحنف والحسين بن الضّحّاك الخليع ومسلم بن الوليد. بل عند المعاصرين مثل بيرم التونسي. وربّما جرى هذا المقتبس استملاحا واستظرافا؛ وعلى هذا الطّريق، تناشده القدامى، وحفلت به مصنّفاتهم.
في شعر أبي تمّام تقع الآيات والمفردات القرآنيّة من البيت موقع القافية، وبعضها يتخلّل القصيدة. على أنّ الشّاعر ينحو بها كلّها منحى واحدا، فقد يضمّن الآية بنصّها في بيت، وقد يغيّره تغييرا طفيفا في آخر، لضرورة معنويّة أو وزنيّة في الأعمّ الأغلب.
من ذلك قوله:
وبيّن الله هذا من بريّتـــــهِ في قوله «خُلقَ الإنسانُ من عَجـَلِ»
فقد ضمّن أبو تمّام جزءا من الآية السّابعة والثّلاثين من سورة «الأنبياء»: «خُلقَ الانسانُ من عَجلٍ سأوريكم آيتي فلا تستعجلون»، من دون أيّ تغيير؛ وتمّ له ذلك من دون عنت لأنّ هذا الجزء «موزون»: (فعلن/ مستفعلن/ فعلن) كما هو الشّان في كثير من آيات القرآن.
وقوله:
السّالباتُ امرءا عزيمـتهِ = بالسّحر والنّافثاتُ في عُقَـدِهْ
فالقافية في البيت الثّاني، مأخوذة من سورة «الفلق»: «ومن شرّ النّفّاثات في العُقد»، وقد أجرى الشّاعر عليها ما أجرى، من استبدال صيغة المبالغة «فعّال» بصيغة اسم الفاعل، وإحلال التّركيب بالإضافة «عقده» محلّ الاسم المجرور «العقد»، حتّى يناسب المعنى.
وقوله:
ومَنْ يأذنْ إلى الواشين تُسْلَقْ = مسامعهُ بألسنةٍ حِـــدَادِ
فالتّركيب بالنّعت «ألسنة حداد» مأخوذ من الآية «سلقوكمْ بألسنةٍ حِدادٍ»
وقوله:
ذكرَتكُمُ الأنواءُ ذكرى بعضـكمْ فبكت عليكم بكرةً وأصـيلاَ
فقد سلك بالقافية مسلك الآية الثّانية والأربعين من سورة «الأحزاب»: «وسبّحوه بكرةً وأصيلا».
وقوله يصف فرسا حمله:
صافي الأديم كأنّما ألبستـهُ = من سـندسٍ بُرْدًا ومن اسْتبرقِ
فالبيت الثّاني يكاد يكون صياغة للآية الحادية والثّلاثين من سورة «الكهف»: «يحلّون فيها من أساورَ من ذهب ويلبسون ثيابا خضرا، من سندسٍ وإستبرقٍ»، وتطويعها للوزن لا أكثر ولا أقلّ. وربّما هو إشارة إلى الآية الرّابعة والخمسين من سورة «الرّحمن»: «متّكئين على فرشٍ بطائنها من إستبرق».
وقوله :
هم صيّروا تلك البروق صواعقًا فيهم وذاك العفو سوطَ عـذابِ
فالتّركيب بالإضافة «سوط عذاب» وقد سدّ مسدّ القافية مأخوذ من الآية الثّالثة عشرة من سورة «الفجر»: «فصبّ عليهم ربّك سوطَ عذاب»
وقوله:
أحطت بالحزم حيزومًا أخا هِمَمٍ = كشّاف طخياءَ لا ضيقًا ولا حرجَا
فصيغة النّفي «لا ضيقا ولا حرجا» التي قفل بها، تحوير للآية الخامسة والعشرين بعد المئة من سورة «الأنعام»: «ومن يرد أن يضلّهُ يجعلْ صدره ضيّقا حرِجا كأنّما يصّعّد في السّماء». وقد نقلها من صيغة الشّرط حتّى تناسب الصّورة التي رسمها لممدوحه، إلى صيغة النّفي.
وقوله:
وإن تورّدتُ من بحر البحور ندى = ولم أنلْ منـه إلاّ غَرفة بيدِي
فقوله «غرفة بيدي» تحوير بسيط للآية التّاسعة والأربعين بعد المئتين من سورة «البقرة»: «فلمّا فصل طالوت بالجنود قال إنّ الله مبتليكم بنهر، فمن شرب منه فليس منّي، ومن لم يطعمه؛ فإنّه منّي إلاّ من اغترف غَرفة بيده…».
وقوله:
قد سقتني الأيّام من يدها = سُمّا لفقدي له بكأس دهـاقِ
فالتّركيب بالنّعت الذي يسدّ مسدّ القافية، مأخوذ من الآية الرّابعة والثّلاثين من سورة النّبأ «إنّ للمتّقين مفازا/ حدائقَ وأعنابًا/ وكواعب أترابًا/ وكأسًا دهاقا».
وقوله:
شهدت لقد أوى الإسلام منهُ = غداتَئذٍ إلى ركْنٍ شـــــديدِ
فالتّركيب بالنّعت «ركن شديد» مأخوذ من الآية الثّمانين من سورة «هود»: «قال لو أنّ لي بكم قوّة أو آوي إلى ركْن شديد». وكذلك الشّأن في البيت الثّامن والعشرين من القصيدة نفسها:
رأوا ليثَ الغريفةِ وهو مُلْقٍ ذراعيهِ جميعا بالوصيدِ
فقافيته مشتقّة من الآية الثّامنة عشرة من سورة «الكهف»: «وكلبهم باسط ذراعيهِ بالوصيدِ… «
وقوله في المدحيّة نفسها:
كأنّ جهنّم انضمّت عليهمْ = كلاها غير تبديل الجـلودِ
لقيت سواه أقواما فكـانوا = كما أغنى التّيمّم بالصّعيدِ
فالتّركيب بالإضافة «تبديل الجلود» تحوير للآية السّادسة والخمسين من سورة «النّساء»: «كلّما نضجتْ جلودهم، بدّلناهم جلودا غيرها». وكلّ ما فعله الطّائي أنّه أدخل «غير» المضافة لفظا، على وجه الاستثناء، ونقل الصّورة من سياق إلى سياق؛ ولكنّ الأصل الذي قبس منه، ظلّ يتوهّج فيها. وكذلك قوله «التيمّم بالصّعيد»، فقد ألمّ فيه بالآية الثّالثة والأربعين من السّورة نفسها «فتيمّموا صعيدا طيّبا»؛ أو ربّما بالآية السّادسة من سورة «المائدة»، وهي تكاد تكرّر الآية المتقدّمة.
وقوله:
جالت بخيذرَ جولة المقدارِ = فأحلّه الطّغيانُ دارَ بَوارِ
فالتّركيب بالإضافة «دار بوار» مأخوذ من الآية الثّامنة والعشرين من سورة «إبراهيم»: «وأحلّوا قومهم دارَ البوارِ»، وقد غيّره الشّاعر تغييرا طفيفا، فحذف أداة التّعريف»ال» حتّى يفرغ التّركيب في الوزن ويستقيم عليه؛ وكأنّ القافية قالب تفرغ فيه العبارة القرآنيّة ومثال لما يصاغ منها. وكذلك قوله:
مكرا بنى ركنيْه إلاّ أنّه وطَدَ الأساسَ على شفيرٍ هارِ
فالتّركيب بالنّعت «شفير هار» ليس إلاّ صياغة للتّركيب القرآني «جرف هار» في الآية التّاسعة بعد المئة من سورة «التّوبة»: «أفمن أسّس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسّس بنيانه على شفا جرف هار…».
وكذلك الشّأن في قوله:
لو لم يكِد للسّامريّ قبِيلُهُ = ما خار عجلهمُ بغير خُوارِ
فالأثر القرآنيّ واضح فيه، إذ استأنس أبوتمّام في نصب قافية البيت، وفي صياغة الصّورة بالآيتين السّابعة والثّمانين والثّامنة والثّمانين من سورة «طه»: «فكذلك ألقى السّامريّ / فأخرج لهم عجلا جسدا له خوار».
وكذلك في البيت الخامس والأربعين:
ثانيه في كبد السّماء ولم يكنْ = لاثنين ثانٍ إذْ هما في الغارِ
فقوله «إذ هما في الغار» مأخوذ بنصّه من سورة «التّوبة»: «ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إنّ الله معنا».
ومن شعره الذي نحا فيه منحى القصص القرآنيّ، ما جاء في أخبار أبي تمّام: «اجتمعنا بباب عبد الله بن طاهر من بين شاعر وزائر، ومعنا أبو تمّام، فحجبنا أيّاما فكتب إليه أبو تمّام:
أيّهذا العزيز قد مســّنا = الضّرّ وأهلـنا أشــــــتاتُ
ولنا في الرّحال شيخ كبـيرٌ = ولدينا بضاعةٌ مزْجـــاةُ
قلّ طلاّبها فأضحتْ خســــــارا = فتجاراتنا بــها ترّهـاتُ
فاحتسبْ لنا الأجر وأوفِ لنا = الكيلَ وصدّق فإنّنا أمواتُ
فقد استعار في هذه الأبيات الهزليّة، لا الألفاظ والقوافي فحسب، بل القصّة كلّها كما جاءت في الآيات التي تخيّرها من سورة يوسف: «قالوا يا أيّها العزيز مسّنا وأهلنا الضّرّ، وجئنا ببضاعة مزجاة؛ فأوف لنا الكيل وتصدّق علينا… إنّ له أبا شيخا كبيرا فخذ أحدنا مكانه».
إنّ المحاكاة حتّى لو كانت «هزليّة»، ليست قيمة غريبة عن الجماليّة، على نحو ما تقول بذلك بعض الجماليّات الفلسفيّة. ذلك أنّ الأمر يتعلّق بنوع من اللعب أساسه الكلمات نفسها، أو هو بعبارة أخرى تلاعب بالكلمات أو لعب بها وعليها. فإذا كان من أظهر وظائف اللغة التّخاطب والتّواصل، كان من الطبيعي أن يكون كلّ جزء من اللغة قابلا للفهم أو أنّ الشكل اللغوي لا يستخدم إلاّ بمعنى مفهوم؛ أو هو قابل للفهم. وإذا استعمل المتكلّم كلمة في معنى مختلف، أو هو استعملها حسب المعنى المتعارف في الظاهر، وكان قصده معنى آخر، فإنّ حصيلة ذلك ليس الغموض كما هو الشأن في اللغة الخاصّة، وإنّما المعنى المزدوج. وهذا المعنى هو الأساس في هذا المقتبس القرآني الذي تقبّله أسلافنا بأريحيّة كبيرة.
.