إنّ محاكاة النصّ القرآني قديمة في التّراث العربي، وأمثلتها وشواهدها أكثر من أن نأتي عليها في هذا المقال. ومثالها السّيوطي في «رشف الزّلال من السّحر الحلال»، والمعرّي في «الفصول والغايات».
غير أنّ المحاكاة تتجلّى أكثر في شعر العرب، وقد كان القرآن يجري من الشعراء مجرى المحفوظ والمأثور، بحيث يمكن أن يتسلّل إلى القصيدة في استخفاء، فيشغل البيت أو جزءا منه. وقد تستدعيه القافية، فيسدّ مسدّها؛ وليس هو الذي يستدعيها. وإذا كنّا في هذا المقال نتمثّل بأبي تمّام دون غيره، فلا يفوتنا أن نشير إلى أنّ المقتبس القرآني لم يكن وقفا عليه؛ فهو من المطّرد في شعر القرن الأوّل للهجرة، وإن كان لا يسدّ مسدّ القافية إلاّ في أبيات قليلة جدّا من القصيدة، كما هو الشأن عند حسّان بن ثابت وكعب بن مالك وعبدالله بن رواحة… من الذين استمدّوا بعض صورهم ومعانيهم من القرآن، وترسّموه أسلوبا وأداء ولفظا؛ بل عند المحدثين من شعراء القرن الثّاني للهجرة مثل أبي نواس والعبّاس بن الأحنف والحسين بن الضّحّاك الخليع ومسلم بن الوليد. بل عند المعاصرين مثل بيرم التونسي. وربّما جرى هذا المقتبس استملاحا واستظرافا؛ وعلى هذا الطّريق، تناشده القدامى، وحفلت به مصنّفاتهم.
في شعر أبي تمّام تقع الآيات والمفردات القرآنيّة من البيت موقع القافية، وبعضها يتخلّل القصيدة. على أنّ الشّاعر ينحو بها كلّها منحى واحدا، فقد يضمّن الآية بنصّها في بيت، وقد يغيّره تغييرا طفيفا في آخر، لضرورة معنويّة أو وزنيّة في الأعمّ الأغلب.
من ذلك قوله:
وبيّن الله هذا من بريّتـــــهِ في قوله «خُلقَ الإنسانُ من عَجـَلِ»
فقد ضمّن أبو تمّام جزءا من الآية السّابعة والثّلاثين من سورة «الأنبياء»: «خُلقَ الانسانُ من عَجلٍ سأوريكم آيتي فلا تستعجلون»، من دون أيّ تغيير؛ وتمّ له ذلك من دون عنت لأنّ هذا الجزء «موزون»: (فعلن/ مستفعلن/ فعلن) كما هو الشّان في كثير من آيات القرآن.
وقوله:
السّالباتُ امرءا عزيمـتهِ = بالسّحر والنّافثاتُ في عُقَـدِهْ
فالقافية في البيت الثّاني، مأخوذة من سورة «الفلق»: «ومن شرّ النّفّاثات في العُقد»، وقد أجرى الشّاعر عليها ما أجرى، من استبدال صيغة المبالغة «فعّال» بصيغة اسم الفاعل، وإحلال التّركيب بالإضافة «عقده» محلّ الاسم المجرور «العقد»، حتّى يناسب المعنى.
وقوله:
ومَنْ يأذنْ إلى الواشين تُسْلَقْ = مسامعهُ بألسنةٍ حِـــدَادِ
فالتّركيب بالنّعت «ألسنة حداد» مأخوذ من الآية «سلقوكمْ بألسنةٍ حِدادٍ»
وقوله:
ذكرَتكُمُ الأنواءُ ذكرى بعضـكمْ فبكت عليكم بكرةً وأصـيلاَ
فقد سلك بالقافية مسلك الآية الثّانية والأربعين من سورة «الأحزاب»: «وسبّحوه بكرةً وأصيلا».
وقوله يصف فرسا حمله:
صافي الأديم كأنّما ألبستـهُ = من سـندسٍ بُرْدًا ومن اسْتبرقِ
فالبيت الثّاني يكاد يكون صياغة للآية الحادية والثّلاثين من سورة «الكهف»: «يحلّون فيها من أساورَ من ذهب ويلبسون ثيابا خضرا، من سندسٍ وإستبرقٍ»، وتطويعها للوزن لا أكثر ولا أقلّ. وربّما هو إشارة إلى الآية الرّابعة والخمسين من سورة «الرّحمن»: «متّكئين على فرشٍ بطائنها من إستبرق».
وقوله :
هم صيّروا تلك البروق صواعقًا فيهم وذاك العفو سوطَ عـذابِ
فالتّركيب بالإضافة «سوط عذاب» وقد سدّ مسدّ القافية مأخوذ من الآية الثّالثة عشرة من سورة «الفجر»: «فصبّ عليهم ربّك سوطَ عذاب»
وقوله:
أحطت بالحزم حيزومًا أخا هِمَمٍ = كشّاف طخياءَ لا ضيقًا ولا حرجَا
فصيغة النّفي «لا ضيقا ولا حرجا» التي قفل بها، تحوير للآية الخامسة والعشرين بعد المئة من سورة «الأنعام»: «ومن يرد أن يضلّهُ يجعلْ صدره ضيّقا حرِجا كأنّما يصّعّد في السّماء». وقد نقلها من صيغة الشّرط حتّى تناسب الصّورة التي رسمها لممدوحه، إلى صيغة النّفي.
وقوله:
وإن تورّدتُ من بحر البحور ندى = ولم أنلْ منـه إلاّ غَرفة بيدِي
فقوله «غرفة بيدي» تحوير بسيط للآية التّاسعة والأربعين بعد المئتين من سورة «البقرة»: «فلمّا فصل طالوت بالجنود قال إنّ الله مبتليكم بنهر، فمن شرب منه فليس منّي، ومن لم يطعمه؛ فإنّه منّي إلاّ من اغترف غَرفة بيده…».
وقوله:
قد سقتني الأيّام من يدها = سُمّا لفقدي له بكأس دهـاقِ
فالتّركيب بالنّعت الذي يسدّ مسدّ القافية، مأخوذ من الآية الرّابعة والثّلاثين من سورة النّبأ «إنّ للمتّقين مفازا/ حدائقَ وأعنابًا/ وكواعب أترابًا/ وكأسًا دهاقا».
وقوله:
شهدت لقد أوى الإسلام منهُ = غداتَئذٍ إلى ركْنٍ شـــــديدِ
فالتّركيب بالنّعت «ركن شديد» مأخوذ من الآية الثّمانين من سورة «هود»: «قال لو أنّ لي بكم قوّة أو آوي إلى ركْن شديد». وكذلك الشّأن في البيت الثّامن والعشرين من القصيدة نفسها:
رأوا ليثَ الغريفةِ وهو مُلْقٍ ذراعيهِ جميعا بالوصيدِ
فقافيته مشتقّة من الآية الثّامنة عشرة من سورة «الكهف»: «وكلبهم باسط ذراعيهِ بالوصيدِ… «
وقوله في المدحيّة نفسها:
كأنّ جهنّم انضمّت عليهمْ = كلاها غير تبديل الجـلودِ
لقيت سواه أقواما فكـانوا = كما أغنى التّيمّم بالصّعيدِ
فالتّركيب بالإضافة «تبديل الجلود» تحوير للآية السّادسة والخمسين من سورة «النّساء»: «كلّما نضجتْ جلودهم، بدّلناهم جلودا غيرها». وكلّ ما فعله الطّائي أنّه أدخل «غير» المضافة لفظا، على وجه الاستثناء، ونقل الصّورة من سياق إلى سياق؛ ولكنّ الأصل الذي قبس منه، ظلّ يتوهّج فيها. وكذلك قوله «التيمّم بالصّعيد»، فقد ألمّ فيه بالآية الثّالثة والأربعين من السّورة نفسها «فتيمّموا صعيدا طيّبا»؛ أو ربّما بالآية السّادسة من سورة «المائدة»، وهي تكاد تكرّر الآية المتقدّمة.
وقوله:
جالت بخيذرَ جولة المقدارِ = فأحلّه الطّغيانُ دارَ بَوارِ
فالتّركيب بالإضافة «دار بوار» مأخوذ من الآية الثّامنة والعشرين من سورة «إبراهيم»: «وأحلّوا قومهم دارَ البوارِ»، وقد غيّره الشّاعر تغييرا طفيفا، فحذف أداة التّعريف»ال» حتّى يفرغ التّركيب في الوزن ويستقيم عليه؛ وكأنّ القافية قالب تفرغ فيه العبارة القرآنيّة ومثال لما يصاغ منها. وكذلك قوله:
مكرا بنى ركنيْه إلاّ أنّه وطَدَ الأساسَ على شفيرٍ هارِ
فالتّركيب بالنّعت «شفير هار» ليس إلاّ صياغة للتّركيب القرآني «جرف هار» في الآية التّاسعة بعد المئة من سورة «التّوبة»: «أفمن أسّس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسّس بنيانه على شفا جرف هار…».
وكذلك الشّأن في قوله:
لو لم يكِد للسّامريّ قبِيلُهُ = ما خار عجلهمُ بغير خُوارِ
فالأثر القرآنيّ واضح فيه، إذ استأنس أبوتمّام في نصب قافية البيت، وفي صياغة الصّورة بالآيتين السّابعة والثّمانين والثّامنة والثّمانين من سورة «طه»: «فكذلك ألقى السّامريّ / فأخرج لهم عجلا جسدا له خوار».
وكذلك في البيت الخامس والأربعين:
ثانيه في كبد السّماء ولم يكنْ = لاثنين ثانٍ إذْ هما في الغارِ
فقوله «إذ هما في الغار» مأخوذ بنصّه من سورة «التّوبة»: «ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إنّ الله معنا».
ومن شعره الذي نحا فيه منحى القصص القرآنيّ، ما جاء في أخبار أبي تمّام: «اجتمعنا بباب عبد الله بن طاهر من بين شاعر وزائر، ومعنا أبو تمّام، فحجبنا أيّاما فكتب إليه أبو تمّام:
أيّهذا العزيز قد مســّنا = الضّرّ وأهلـنا أشــــــتاتُ
ولنا في الرّحال شيخ كبـيرٌ = ولدينا بضاعةٌ مزْجـــاةُ
قلّ طلاّبها فأضحتْ خســــــارا = فتجاراتنا بــها ترّهـاتُ
فاحتسبْ لنا الأجر وأوفِ لنا = الكيلَ وصدّق فإنّنا أمواتُ
فقد استعار في هذه الأبيات الهزليّة، لا الألفاظ والقوافي فحسب، بل القصّة كلّها كما جاءت في الآيات التي تخيّرها من سورة يوسف: «قالوا يا أيّها العزيز مسّنا وأهلنا الضّرّ، وجئنا ببضاعة مزجاة؛ فأوف لنا الكيل وتصدّق علينا… إنّ له أبا شيخا كبيرا فخذ أحدنا مكانه».
إنّ المحاكاة حتّى لو كانت «هزليّة»، ليست قيمة غريبة عن الجماليّة، على نحو ما تقول بذلك بعض الجماليّات الفلسفيّة. ذلك أنّ الأمر يتعلّق بنوع من اللعب أساسه الكلمات نفسها، أو هو بعبارة أخرى تلاعب بالكلمات أو لعب بها وعليها. فإذا كان من أظهر وظائف اللغة التّخاطب والتّواصل، كان من الطبيعي أن يكون كلّ جزء من اللغة قابلا للفهم أو أنّ الشكل اللغوي لا يستخدم إلاّ بمعنى مفهوم؛ أو هو قابل للفهم. وإذا استعمل المتكلّم كلمة في معنى مختلف، أو هو استعملها حسب المعنى المتعارف في الظاهر، وكان قصده معنى آخر، فإنّ حصيلة ذلك ليس الغموض كما هو الشأن في اللغة الخاصّة، وإنّما المعنى المزدوج. وهذا المعنى هو الأساس في هذا المقتبس القرآني الذي تقبّله أسلافنا بأريحيّة كبيرة.
لا أعرف كيف يفلح الواحد منا في حفظ صحة عقله ورأسه، أبطمرهما في الرمال، والتغاضي عمّا يبلغه من أخبار، لا تتحدث إلا عن خرق القوانين، واستباحة أدنى الحقوق، وعلى رأسها حرية التعبير والمعتقد، أم بالشجب والتنديد، مع اليقين المسبق بأن هذا كله لن يؤدي إلى نتيجة؟
والتجاوزات والخروقات هذه لا تأتي من عصابات إرهابيين، أو من دول مارقة، نبتت ذات ليلة وتمدّدت، وإنما من أنظمةٍ معترف بها عالمياً، ويتم ترويجها على أنها رمز الاعتدال، في حين أنها تظهر من خلال ممارساتها أنها على نقيضه تماماً.
ثمة، الآن، شاب فلسطيني مولود في السعودية، يدعى أشرف فياض، متهم بالإساءة إلى الإسلام والردة، من خلال كتاباته كشاعر. تقول "هيومن رايتس ووتش" إن فياض اعتُقل، أولاً، في رمضان 2013، إثر نقاش حاد مع رجل في مقهى بشأن شعره، وقُدّمت شكوى لدى هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، تتهمه بأنه قد أساء إلى الإسلام. وتقول شقيقته الموجودة في غزة إنهم أطلقوا سراحه حينها، لعدم توفر أدلّة، وبالتالي لعدم وجود قضية. لكن، في بداية 2014، استدعي أشرف للتحقيق مجدداً، فحُكم عليه مبدئيّاً بأربع سنوات سجن مع 800 جلدة، لتورطه بعلاقات غير لائقة مع الجنس الآخر. الدليل؟ صور في هاتفه الجوال تظهره برفقة نساء في معرض فني!
إلا أن استئنافاً للحكم من النيابة العامة أدى، أخيراً، إلى إصدار حكم جديد بالإدانة، بتهمة "سبّ الذات الإلهية ودعوة صغار السن إلى الإلحاد"، مع فرض عقوبة الإعدام. أحكام الإعدام في السعودية تنفّذ عادة بقطع الرأس. يقال إنّ لفياض أملاً ضئيلاً، فبمقدوره أن يستأنف لدى أعلى محكمة سعودية خلال 30 يوماً. يقال، أيضاً، إن هناك ضغوطاً مورست، وعلاقات ومصالح سياسية تداخلت وتضافرت، لإصدار حكمٍ كهذا.
لكن، تبقى التهمة هي الردة والإساءة إلى الإسلام، كما بيّنهما التحقيق من كتابات الشاعر البالغ 35 عاماً، والذي نفى أن يكون قد تعرّض للذات الإلهية، قائلاً إن ما كتبه يحكي عن الوضع في فلسطين، وعن القضية الفلسطينية.
ثمّة الآن وراء عذابه الجسدي والنفسي عذاب إضافي، يصعب وصفه، لأنه كافكاوي بامتياز. خسارة الحياة عبثاً، مقارعة قمم من الظلامية والتعنت والجهل والتخلف، والوجود رغماً عنك في معركةٍ لا تملك فيها أي سلاح للدفاع عن نفسك.
لا أعرف قيمة أشرف فياض شاعراً. لا أريد حتى أن أعرفها الآن، لا أريد أن أعرف رأيه في الدين، وإن كان فعلا قد أساء إليه. أريد فقط أن أذكّر بحق كل شخص بالتعبير عن رأيه، بأن الشعر والأدب، إجمالاً، هو تفلّت وشكّ ودحض واعتراض. إنه لحظة مكثفة، ليست واقعية دائما، أو ذاتية أو شخصية. وأن أشرف، وفي أسوأ الأحوال، أي وإن كان ملحداً أو مرتداً، وهو ما لم يثبت، لا يستحق القتل، لأن من ينصّب نفسه مكان الإله، مفتياً بالموت والحياة، يسيء إلى القانون الإلهي والدنيوي على السواء، متحوّلاً إلى قاتلٍ يفوق المشكك والمرتد إساءة.
كان من عادة الملوك، حين يغضبهم أحد رعاياهم، اتخاذ القرار بنفيه إلى أقاصي البقاع، اتقاءً لشرّه. لم لا تتبنى المملكة السعودية وملكها مثل طرق المعاقبة هذه، فترحّل فياض بعيداً، تلغي إقامته، وتمنعه حتى من اللجوء الى البلدان التي لها مع المملكة مصالح، وهي عديدة.
أخيراً، المريع فعلاً ليس قرار الإعدام فحسب بحق شاب بريء، بل إن التعليقات المنهمرة على مختلف وسائل الاتصال الاجتماعي هي ما يجمّد الدماء في العروق، حيث تجري محاكمات مقتضبة موازية لأشرف فياض، يبرر أغلبها عقوبة القتل، ويدعو إليها، حتى ليتساءل من يقرأها في أي زمن انعدام رحمة ترانا نعيش، ومتى جفّت قلوب الناس، وامتلأت بكل تلك القسوة؟
أشرف فياض شاعر سعودي محكوم الآن بالإعدام بتهمة الكفر لأن قضاته أَوَّلوا عدداً من قصائد إحدى مجموعاته على أنها ملحدة أو داعية للإلحاد. لم نقرأ هذه القصائد ولا نعرف وجه الإلحاد فيها، ويغلب على الظن أنها قصائد قلقة وأنها ذات معاناة دينية ومحاورة للمقدس وتمرد عليه. نقول ذلك لأن تهمة الكفر والتجديف تساق ضد خصوم سياسيين غالباً، إذ ثمة من يضعون أنفسهم مكان المقدس ويعتبرون أن المس بهم مس به، ويكفرون كل من يتناولهم بنقد. وَهَبْ أن القصائد كافرة أو ملحدة فكيف نحكم بالإعدام على فكرة، وكيف نقاضي واحداً بفكرة ما خطرت له. ماذا نترك لداعش التي تعدم كل من لا يؤيدها على أنه كافر. لا ضرورة للتذكير بالآيات التي تبيح حرية المعتقد فلست فقيها، ولا أضع نفسي بين الفقهاء، ولا أعتقد أن من حق إنسان أن يفسر العقيدة أو أن يدعي تمثيلها. ماذا ترك القضاة السعوديون لداعش، ومن أين لهم أن يخاصموها ما دام لهم منطقها ذاته وأوالياتها ذاتها وأحكامها ذاتها.
ثم أننا لا نعرف في تاريخ الثقافة العربية أن شخصاً في عصر الخلافة وعصر الإسلام أعدم بتهمة الكفر وتهمة الإلحاد وهي تهمة لحقت بكثيرين، كثيرين من المفكرين والعلماء والفلاسفة والأدباء، ولنا أن نحصي من هؤلاء ابن رشد والفارابي والكندي والحلاج، والتوحيدي وابن سينا، حتى أن التهمة لحقت متصوفاً شهيراً كابن عربي، على أن التهمة لم تكن جزافاً على المعري والرازي وابن الراوندي الذي كتب من جملة ما كتب كتاباً ضد القرآن ولم يُقتَل ولا أُعدِم، كذلك الرازي الذي أنكر القيامة واليوم الآخر ولم يُذكَر أنه عُذِّب أو سُجِن أو حُكِم بالقتل. المعري الذي نقرأ قصائد كثيرة له في الشك والتجديف والإنكار، وهذه لم تجعل قاضياً في عصر الخلافة يرميه بالكفر ويحاكمه على أقواله وقصائده، ويحكم عليه بالقتل.
كان هذا في عصر الخلافة، ومات ابن الراوندي والرازي والمعري في أسرتهم وتُركوا يعتقدون ما اعتبروه صواباً وحقاً، وتركوا لشبهاتهم وشكوكهم؛ واليوم في القرن الواحد والعشرين وفي دولة لا برلمان فيها ولا دستور، سوى ما يعتبره حكامها واكليروسها شرع الله يُحكَم شابٌّ شاعرٌ أخذه الشعر إلى القلق الروحي وإلى العصيان الإلهي، وهذا ما يعانيه كل امرئ في حياته، فالشكوك كما أوضح الجاحظ هي مفتاح العقل، وهي لذلك حق طبيعي وطبع إنساني، وإذا سعينا إلى طمسها وإلى المقاضاة عليها، جاز لنا أن نحاكم الناس جميعاً وأن نأخذهم جميعاً بشبهاتهم وشكوكهم. محاكمة الناس على أفكارهم وشبهاتهم ووساوسهم ومقاضاتهم عليها ليست من حق أحد، والدولة التي تقاضي أشرف فياض على قصيدة يحسن بها أن تقاضي نفسها أولاً على حكم ليس فيه تمثيل للشعب ولا قانون.
أتخيَّل في ذلك اليوم
حين تقولون
يا ربُّ يا ربُّ!
باسْمِك هذا قتلنا
وهذا سَحَلْنا
وهذا اغتصبنا،
ويا ربُّ يا ربُّ!
باسمِك
نحن ذبحنا
قلوباً
ونحن أبدنا
شعوباً
وعِثْنَا شمالا
وعِثنا
جنوباً
………..
أتخيله عائِفا مشمئزاً
يقول لكم:
لست أعرفكم
أيها القتَلهْ!
ثم يَطْرَحُكُمْ
مثل سَقْطِ مَتَاٍع
إلى المَزْبلهْ!
"سأُعيدك إلى بلد أبيك". بهذه العبارة، هدّد أحدهم، الشاعر والتشكيلي الفلسطيني أشرف فياض (1980) الذي يواجه حكم الإعدام في السعودية، بدعوى احتواء مجموعته الشعرية "التعليمات.. بالداخل" (الفارابي، 2008) على "أفكار إلحادية".
بلدُ أبيه هي خان يونس في غزّة. أمّا أبوه، عبد الستار، فقد رحل اليوم عن 83 عاماً، بينما يقبع أشرف في السجن. وتلك العبارة، فلا تتأتّى سوى من عقلية تظنّ الأرض حكراً على أناس دون آخرين، وتنظر إلى الوافد إليها بوصفه دخيلاً لا مكان له عليها. هي العقلية نفسها التي تظنّ أنها موكّلة، بشكلٍ حصري، للدفاع عن الله ودينه.
في كانون الثاني/ يناير الماضي، اعتُقل فيّاض بعد أن نقل صاحب العبارة، إثر خلافٍ شخصي بينهما، إلى "هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" أنّ مجموعة فيّاض الشعرية تتضمّن أفكاراً "تدعو إلى الإلحاد، وتتعرّض إلى الذات الإلهية". حُكم عليه بالسجن لأربع سنوات و800 جلدة. لم يعرف أحد عن الموضوع إلّا حين استؤنفت القضية، وتحوّل الحكم إلى إعدام.
ما أن صدر الحكم، حتى راحت المواقع الإخبارية، ووسائل التواصل الاجتماعي تتقاذف الخبر، وانطلقت الحملات المندّدة بالحكم والداعية إلى إسقاط كل التهم الموجّهة إلى فيّاض.
"
اللجوء: أن تقف في آخر الصف.. كي تحصل على كسرة وطن. الوقوف شيء كان يفعله جدك دون معرفة السبب
"
تراوحت المبادرات بين تلك الشخصية، مثل حملتي "100 قصيدة إلى أشرف فياض" و"100 لوحة إلى أشرف فياض"، اللتين أطلقهما الشاعر المصري محمد حربي ومجموعة من أصدقائه، وتلك النداءات التي أطلقتها منظمات غير حكومية، مثل "العفو الدولية"، من أجل إطلاق سراحه. بينما يكتفي بعضهم، مثل أحمد عبد المعطي حجازي بـ"مناشدة" السعودية لـ "إعادة النظر في الحُكم".
وُلد فيّاض، قبل 35 عاماً، في السعودية التي هُدّد بالطرد منها، تحديداً في مدينة أبها، لعائلةٍ غادرت غزّة قبل نصف قرن من الزمن.
على صفحته في فيسبوك، كتب الشاعر السعودي محمد خضر: "توفي والد أشرف فياض قبل قليل. رحل حزيناً وغاضباً ومتسائلاً. توفي عبد الستار متأثراً بقضية ولده. توفي وقد طال صراخه من عام ونصف. بأوراقه الكثيرة ومراجعاته وثمانين عاماً وأكثر، كان يريد أن يودّع المكان الذي أحبه بهدوء أكثر وبحب".
عبر الاطّلاع على ما نشره أصدقاء فيّاض والمتضامنون معه من مقاطع ضمّتها مجموعته الشعرية، نقرأ هواجسه تجاه الحياة والحرب والحب، إضافة إلى تساؤلات مجبولة بهمّ الاغتراب والمنفى: "لا تقنطوا.. أبشروا بالغربة التي منها تفرّون/ تلك التدريبات مكثّفة على العيش في جهنّم.. وظروفها القاسية/ إلهي.. هل جهنّم في مكانٍ ما على الأرض؟".
من أعمال فيّاض الفنية
نقرأ أيضاً: "اللجوء: أن تقف في آخر الصف.. كي تحصل على كسرة وطن. الوقوف شيء كان يفعله جدك دون معرفة السبب.. والكسرة أنت. الوطن: بطاقة توضع في محفظة النقود. الصورة: تنوب عنك ريثما تعود. والعودة: كائن أسطوري ورد في حكايات الجدة. انتهى الدرس الأول".
"يشتغل فيّاض في قصيدته وفنّه انطلاقاً من صميم حياته وما يدور حوله في العالم"، يقول خضير، صديق الشاعر، موضّحاً في حديثٍ إلى "العربي الجديد": "إنه يقترب من الحياة مكرّساً الفن ومقولته من أجلها، يقترب من الواقع واليومي المعيش، طارحاً أسئلته الخاصة عن الوجود والغربة وبلاده البعيدة، تاركاً للفن والكتابة الإجابة النهائية".
وحول الصداقة التي تجمعهما، يقول: "كنت رافقته من خلال "جماعة شتا" الفنية. كان لاذعاً تجاه الأفكار الجاهزة وتجاه الدرس الإبداعي المؤطَّر، وتحمله رؤيته، التي يصر أن تكون جديدة في كل مرة، إلى الاشتغال على أعمال بأدوات جديدة، بعيداً عن فوضى المشهد الثقافي ومؤسساته".
للشعر عوالمه التي تظل علاقتها بالواقع ملتبسة، كما هي علاقة الواقع مع كل من الحلم والخيال وحتى الجنون. ففي الشعر لا مجال للحديث بعقلانية، ولا مجال للتفسيرات العلمية، ولا للتأويلات الدينية أو الفلسفية، حيث خيال الشاعر وأحلامه هي التي تصوغ رؤيته للعالم. فرؤية الشاعر تقوم أساسًا على حلمه بحياة أجمل وأفضل، لذا فهي تسعى إلى "الهدم" من أجل "إعادة البناء"، وعلى أسس جديدة مركزها ثلاثيّة "الحبّ والخير والجمال".
ومن هنا، من هذه الأسس للبناء، التي تعتمد الحبّ والحريّة والتمرّد وهموم الوطن والإنسان، من جهة، والاستغلال والقهر والقمع والكبت، من جهة مقابلة، وهي أبرز الثيمات التي تشغل الحيز الأساس في ديوان الفلسطيني أشرف فيّاض "التعليمات بالدّاخل".. من هنا، تنطلق شاعرية أشرف و"شِعريّته"، كما تظهران في قصائد هذا الديوان، من رؤية جديدة إلى العالم بمكوّناته، بدءًا من الكائنات الحيّة، البشر والشجر والطبيعة عمومًا، وصولًا إلى أحدث منتجات العلم والتقنية، مرورًا بما تنطوي عليه هذه المكوّنات من علاقات، انبثاقًا من رؤية خارجة على المألوف والسائد، وربّما رؤية تسعى إلى "الخدش" حينا، والهدم حينا آخر، حيال صور الخراب والموت التي يشهدها العالم اليوم.
الديوان الصادر في دار الفارابي- بيروت (2007، 214 صفحة)، يضمّ عددا كبيرا من القطع متفاوتة الحجم، تتوزّع على عناوين رئيسة، في تجربة تبدأ بـ"حيّز من الفراغ"، وتنتهي بما يسمّيه "استنتاجات"، وما بينهما، يلتقط الشاعر خلالها (التجربة) صورا وتفاصيل من حياتنا، ومن خلال مشاهداته وانطباعاته من الحياة عموما، وما يعانيه الإنسان من الحروب وطغيان القيم المادية اللاإنسانية في مجمل الحياة السائدة، على مستوى الفرد والجماعات. لكن الشاعر يختار أسلوبه الخاص، البسيط والمباشر حينا، ضمن تقشّف شديد في البلاغة، والصور السرياليّة حينا آخر، للتعبير عن رؤيته النابعة من الألم أساسا للتجربة.
وانطلاقا من إنسانيته أوّلا، ومن فلسطينيّته أخيرا، يجوب الشاعر في حقول من "ألغام" الهوية الكونيّة. فمن منطلق إنسانيّته، يرسم لنا فيّاض صورا من التجاوز على إنسانية الإنسان وحريّته في العيش والتعبير. ومن منطلق فلسطينيته يستحضر صورا من الحنين إلى وطنه المفقود. وهو في الحالين ينطلق من حالة هي خارج التصنيفات الضيقة أو العنصرية، كما أنّها لا تنتمي إلا إلى الحياة في أرقى تجليّاتها، ولتعزيز المبادئ أو أخلاقيات البشر الطبيعية، في مواجهة "قوى الشرّ" التي تفسد الحياة البشرية والطبيعية.
الديوان الذي هو قيد المحاكمة، إلى حدود صدور حكم الإعدام بحق صاحبه في السعودية، هو محاولة لأن يقول ما يرى، والتفاصيل أكثر من أن يتم الإلمام بها، غير أن الرؤية الكلية والجوهرية لنصوص هذا الكتاب تتمركز حول رفض السائد بكل صوره، رفض صور الانتهاك التي تجتاح عالمنا، فمن صورة "الهواء ملوّث.. وحاويات القمامة كذلك/ وروحك منذ أن امتزجت بالكربون/ وقلبك منذ إغلاق الأوردة/ ورفضه منح الجنسية/ للدم العائد من رأسك"، ينقلنا كما لو بعين سينمائيّة إلى مشاهد من البؤس تحيل إلى ما أصاب روح الإنسان من انهيارات ونهايات مأساويّة للبشر.. حيث الإنسان لا "يملك ما يكفي ليواسيه أمام نوائب هذا الدهر"، وحيث "الماء لا يصلحُ لريّ الأزهار".
وفي محاولة للتغلغل في جذور هذه الرؤية المتشائمة، نقف مع أشرف وهو يعلن في ما يشبه اليأس، في نص بعنوان "عاشق مأجور"، نرى كيف يختزل حالة هذا الإنسان الفرد، فهو يختصر ويكثّف أحوال الفلسطينيّ خصوصا، والمنفيّين عموما حين يقول "تحت أنقاض الأيام المغموسة بالقسوة../ أشعر بدوارٍ من فرط الهذيان المتحلّق حولي/ أبحث عن وطن أعشقه أو يعشقني/ عن بيت يؤوي كل سبايا حرب لم تحمل أوزارا/ عن سقف غير سماء ملّتْ من أن تستر عورة تاريخي..". وحيث الإنسان يصرخ أيضا معلنا عن بدايات رؤيته هذه "منذ نعومة أفكاري/ وأنا أتمرّسُ أن أعشق../ لم أتوقف يوما عن تعليب القلب../ وحفظ الأشعار مبرّدة كي تبقى جاهزة للنظم إذا احتجت إليها".. فنحن هنا حيال عالم تهيمن عليه روح التصنيع والتعليب، الروح المنافية للحياة الطبيعية للإنسان.
ولاستكمال ملامح الصورة، نرى كيف يخرج من الوطن، ويعودُ إليه مرارا، وفي الأثناء نرى عزلة الكائن الشخص، وما يفعل المنفى بروحه، ونخلص إلى أن "الوطن المجهَدَ ما عاد ليتسع الآن لقلب أضحى كالفندق../ استيقظ وهم الرؤية في أخيلتي/ كانت تجربة زاخرة باللامعنى/ خطواتي تحملني نحو المبهم من طرق العزلة/ عن مجتمعات الشرف الأبديّ/ خانتني حتى خطواتي/ حملتني نحو المنفى الفرديّ بعيدا/ عن وطن لم أعرف أرصفة لموانئه/ علقت في أنفي رائحة الوطن..".
ومع ما يلحّ عليه من فكرة غياب الوطن، وتعدد صور هذا الغياب كما يقول "الوطن بعيد.. جدّا/ وليس لديّ وسيلة نقل تُرجعني.."، إلا أن الشاعر يلحّ أيضا على فكرة التغيير، وكيف يمكن أن يصنع من هذا البؤس والمنفى أملا أو حلما بتغيير نحو الأفضل، وذلك من خلال صورة رمزية محملة بالدلالات، إذ نراه يرجع "في إحدى نوبات الشوق الجامحة"، ليثير "قضايا الحيّ البائس"، كي يصنع "من أصوات كمنجات الشحّاذين نشيدا وطنيّا للعشّاق".
ثمة إذن هذا العزف على ثنائية الوطن/ المنفى، والوطن/ الغربة أو الاغتراب، سواء كان منفى إجباريا أم اختياريا، فرديا أم جماعيا، ففي ما يرى الشاعر ويعتقد في نص بعنوان "قوانين الوطن الثلاثة" أن "كل وطن آمن.. أو في حرب مستمرة.. يظل في القلب ما لم تؤثر عليه غربة من الذات"، هذا أولا، فيما ينص القانون الثاني على أن "الغربة المؤثرة في روح لا كتلة لها تتناسب طرديا مع هذيانك.. مع وهم الاستقرار.."، بينما يؤكد القانون الثالث أن "لكل فقدان وجود مفترض". وبهذه الثلاثية الجامعة، يتجسد الوطن في صورة من صور الاكتمال التي هي مثال للإنسان الطبيعي.
وعلى سبيل المزج بين الواقعيّ والحلميّ، ولكن بقدر من السخرية، نرى من الأعراض الناجمة عن الغربة والمنفى أنها تؤدي إلى "تضخّم في الهذيان/ إفراط في الأرق.."، ونرى الشاعر في رؤية أخيرة وهو يعلن بقدر عالٍ من التفاؤل "أتقن الهطول على حبّات الرمل/ لكي أصنع منها نُصبا للإنسان.."، وأن المطر اختاره أن يحيا "قلبا يتسع لشتّى أعراق الإنسان".
هل تنجح قصائد شعراء العالم في إنقاذ رقبة أشرف فياض؟
أحمد ناجي
"لأن التوبة عمل قلبي مختص بأمور القضاء الأخرى، وليس مناط القضاء الدنيوي عليه، لذلك فقد رجعنا عن ذلك وقررنا قتل المدعي عليه وحد الكفر وبه حكمنا". ليست هذه عبارة من رواية لكافكا، حيث البطل إنسان واقع في شراك سلطة لا متناهية القوة بلا عقل منطقي، بل هي العبارة التى بررت بها المحكمة العليا في أبها حكمها على الشاعر أشرف فياض بالإعدام، أو للدقة قتله. فلا تستخدم المحاكم السعودية لفظ الإعدام، بل تفضل لفظ أكثر مباشرة وإثارة للفزع كالقتل.
نجح موقع رصيف22 في الحصول على نسخة من أوراق قضية أشرف، التي تكشف الكثير من التفاصيل عن كيفية تعامل القضاء السعودي مع مثل تلك القضايا. وعن أشرف فياض وواقع الشعر والفن في السعودية. (الصور في آخر الموضوع).
هاتف المدعي عليه
أشرف فياض هو شاعر وناقد فني، برز اسمه في السنوات الأخيرة في مشهد الفن المعاصر السعودي. فرغم أنه يحمل الجنسية الفلسطينية، ولد وعاش حياته كلها في السعودية، وظهر أكثر من مرة في القناة السعودية الثقافية الرسمية. ونظم عشرات المعارض الفنية داخل المملكة وخارجها، وفي عام 2008 أصدر ديوانه الشعري "التعليمات في الداخل"، الذي نشرته دار الفارابي.
كانت حياة أشرف تمضي بشكل هادئ، حتى استوقفه مشهد في إحدى الأسواق، حيث مجموعة من "المطاوعة"، الشرطة الدينية، يعنفون مراهقاً، حينذاك أخرج أشرف هاتفه، وصور ما يحدث أمامه ثم رفع الفيديو على الانترنت، ليضاف كسجل جديد لتجاوزات الشرطة الدينية في السعودية.
أقوال جاهزة
المحكمة قالت إن قبول توبة أشرف أمر في يد الله، وعليهم تنفيذ الحكم بقطع رأسه
تحولت هذه الحادثة إلى لعنة أشرف، فتدفقت البلاغات الكيدية عليه. في البداية تم إيقافه وتفتيشه، وتفتيش هاتفه المحمول. طبقاً للجزء الأول من أوراق القضية، فقد عثرت المحكمة داخل هاتفه المحمول على "صور حية لسيدات وفتيات ومحادثات بينه وبينهم تحتوي على عبارات خادشة للحياء، وتشير إلى إقامته علاقات عاطفية مع فتيات".
استدعت المحكمة أيضاً ديوان أشرف، وقامت بتحليله بشكل شرعي، إذ رأت في المجاز الذي احتواه الديوان إشارات إلحادية. لكن أشرف أنكر مسألة الإلحاد، وشهد بالشهادة أمام المحكمة، وكما يرد في أوراق القضية، فقد ثبت أنه نظم معارض فنية تدعو إلى الإسلام، وأدخل بعض الأجانب إلى الإسلام. لذا حكمت المحكمة عليه بالبراءة من تهمة الإلحاد، لكن إدانته بتهمة الفسق بسبب الرسائل الخاصة بينه وبين فتيات، ووجود صورهن معه في معارض فنية محلية وعالمية، وحكمت عليه بالسجن أربع سنوات مع 800 جلدة.
إلا أن جهة الادعاء لم ترضٓ بهذا الحكم واستأنفته، فأعادت محاكمته بتهمة الإلحاد إذ رأت أن الإلحاد ثابت عليه بسبب تغريدات كتبها على موقعه على Twitter، وبسبب بعض الجمل في قصائده. وقالت المحكمة إنه حتى لو كان أشرف مسلماً، وأعلن توبته، فقبول تلك التوبة في يد الله، لكن التهمة ثابتة عليه. لذلك يجب أن يوقع عليه الحد وهو الإعدام بقطع الرأس.
بعد إعلان خبر حكم الإعدام، أصيب والد أشرف بجلطة في الدماغ، وتوفي بعد ذلك بيومين في المستشفي حزناً على الابن المهدد بقطع الرأس.
مائة قصيدة لعتق رقبة شاعر
على مدى الأيام الماضية، تصاعدت حملة التضامن مع أشرف فياض عربياً وعالمياً، فاحتفى مهرجان برلين الأدبي بأشرف وشعره، وأعلن تنظيم عدد من القراءات الأدبية تضامناً معه وللمطالبة بالإفراج عنه.
كذلك أطلق نادى القلم الدولي حملة توقيعات شارك فيه كتاب عرب وعالميون، لمطالبة السلطات السعودية بإيقاف تنفيذ حكم الإعدام. كما انطلقت في 3 ديسمبر حملة "سنحرر شاعراً بقصيدة"، إذ ستقام في القاهرة، ورام الله، وغزة، وتونس، أمسيات لقراءة أشعار أشرف. وفي القاهرة استضافت دار ميريت للنشر أمسية لقراءة أشعاره، وفي رام الله استضاف متحف محمود درويش أمسية مماثلة، وفي مقر الاتحاد الجهوي للشغل بتونس أقيمت أمسية أيضاً.
على شبكة الانترنت انطلقت حملة التضامن مع الشاعر المهدد بقطع الرأس، لتشمل جميع أشكال التضامن الإلكتروني المعتادة. كذلك وجهت الحملة نداءً إلى المثقفين العرب للتضامن مع أشرف من خلال قراءة أشعاره في أي مكان وتصوير القراءة ورفعها على شبكة الانترنت. ومن المقرر أن تستمر حملة التضامن وسلسلة القراءات الشعرية كل أسبوعين، إلى حين عتق رقبة أشرف فياض من تحت سيف السياف.
يُذكر أن أشرف لا تزال لديه فرصة أخيرة لاستئناف الحكم الصادر بحقه أمام المحكمة العليا.
وحيداً كان ..
يسألُ نفسهُ ؛ كيف حال السماء
التي سرق أنجمها الرأسماليون ؟
كم تُساوي الوردةُ اليوم ؟
والزيتونة في باحة الدار
كيف صار طعمها؟
لعلّ بصيرةَ الشُعراء لا زالت كعهدي بهم ..
ولعلّ حبيبتي تلبسُ القلادةَ التي أودعتها سرِّي
وتذكرني عند مغيب كل شمسٍ ،
وفي المساء تلعن المسافات التي بيننا ..
أظنني نسيتُ أن أخبرها ألّا تطيل النظر للأقمار
التي زيّنت بها سقف غرفتها !
*******
وحيداً كان وشارداً
حينَ سمعَ :
لم يكُن الذين كفروا بالقصيدةِ
ليؤمنوا يوماً بحُريّةِ شاعرٍ ..
"قالها العُصفورُ "
الذي حطّ على شُبّاكِ زنزانتِه يواسيهِ ،
وراح يذكُرُ لهُ أيّام الصِبا
( دلال العذارى في قصائدِهِ ،
الخمر المعتَّقة التي كان يعتصرها من ريشته ،
النهود التي كانت تتخفّى بين شظايا الصور )
ثُمّ عاتَبهُ
لماذا كلّمت الله أمامهُم يا أخي ؟!
ألم يُحذرك أبوكَ : أن لا تقصُص رؤياكَ على هؤلاء !
فأجابهُُ ما الحريّة ؟!
سوى أن أرمي قصيدتي كسهمٍ صوب السماوات
وأرحل قبل تقسيم الغنائم !
عندما كنا صغارًا..
كان الله يتسلل كل ليل
إلى صناديق ألعابنا
ليرتبها،
كي لا تنهرنا أمهاتنا..
حين تفيق في الصباح..
كنا نقتسم معه شطائرنا
ونصطحبه في نزهاتنا المدرسية
ونجمع كل يوم، شموعًا كثيرة
استعدادًا لعيد ميلاده..
كان الله، صديقنا الخياليّ
وكنا نراه متجسدًا
في كل أبطال القصص،
التي ترويها أمهاتنا.
كنا نرى الله، كل أبطالنا
وكان كل بطل نراه، نظنه الله.
مرة ظننت الله جارنا العجوز
لأنه كان يتقسم خبزه كل يوم
مع قطط الشوارع.
مرة أخرى ظننت الله أمي
عندما رأيتها تجمع الملابس من فوق حبل الغسيل..
كنا نتصور الله
في طالب المدرسة الجديد
حيث كان ذكيًا ولديه علبة تلوين مميزة..
وكنا نتساءل دائمًا..
كيف سندعوه أن يرافقنا
إلى الملعب..
لقد كنا نتساءل أيضًا
عن لون أحذيته المفضلة..
وكنيته التي يغضب كلما ناداه أحد بها
وكيف سيتصرف إذا لكزه شخص في الطابور..
كنا نتساءل إن كان برجوازيًا أو بروليتاريا
وإن كان يضع ربطة عنق
ويبكي كلما سمع شتيمة بذيئة.
كنا نتمنى أن يكون أكبر منا قليلا
يدخن المارجوانا
يسرق أحذية المصلين من أمام المسجد
ويخبيء تحت وسادته صور فتيات جميلات
كنا نتمنى أن يعيرنا صور فتياته الجميلات.
أن يختبيء معنا تحت السلم في أوقات الصلاة
كي لا يجرنا آباؤنا نحو المساجد.
كنا نتساءل إن كان سيطيل شعره
عندما يصبح في الرابعة عشر
نكاية بإمام المسجد، ومدير المدرسة.
إن كان سيرفض أن يحلق شعره
كلما نهره المتدينون في الشوارع..
ونعتوه باسم امرأة.
إن كان سيرتدي جينزًا
وسلسالًا ذهبيًا طويلا
سلسالًا لا يحبه
لكنه يرتديه.. فقط ليعبر عن غضبه.
كنا نتساءل إن كان أحب فتاة
لم يحدثها
لم يسمع صوتها
ولم يبادلها القبل
إنما أحبها فقط
لأن عينيها جميلتان
و إن كان يمضي ليله كله
متخيلًا
كيف سيبدو وجهها
من دون البرقع.
كنا نظن أن الله
لا يصلح إلا أن يكون صديقًا.
وعندما كبرنا قليلًا..
كان الله يقف في ساحة
يحمل سيفًا
وينفذ أحكام القصاص..
على بعد شارعين من المنزل.
عندما كبرنا قليلًا
لم يكن أحدنا يجرؤ على أن يفكر بالله..
دون أن يتحسس رقبته.
20 ديسمبر
كسجدةِ شكرٍ من قلم الرصاص لشجرةٍ ..
ما زلت أُحرِضُ الحدائق على النمو كغابة كثيفة ،
لن تطأها سوى الظلال العالية ..
*
لن تخون الشجرة .. ظلها
حبل الغصن الطويل ،حبلُ سرةٍ
في طاعةٍ لرحمِ قصائدٍ مُعِدّةٌ للصراخ .
*
مئات المنارات الجائعة ،
ستشتعل على ظهركَ
كوتدٍ في حدقاتٍ بالغةٍ خِسَّة المشانق .
*
البعض يولد بجانب النهر ..
البعض يَسبِقَه جسده قبل أن تبدأ حياته
و التعليمات في أسفل قدميه !
*
كل الشعر ركيك في غرفة الاعدام ،
ثمة فضاءٌ أزرقٌ في ألفةِ ظلٍ طويلٍ ،
يَسهر في قصر المجازات
وحيدا" حتى مطلع الشعر !