عبدالله سليمان علي - الزواج والشيخ والمرأة

يتوهّم كثير من الناس أنّ الزواج شأنٌ دينيّ لا يتمّ إلا بواسطة رجل دين، وقد تكرّس هذا الوهم في أذهانهم حتى أصبح بمثابة العقيدة الثابتة التي لا تقبل الجدل أو النقاش. فهؤلاء يظنون أن التحريم الذي يخيّم على العلاقة الجنسية بين الرجل والمرأة لا يمكن رفعه، وبالتالي تحليل هذه العلاقة، إلا بتدخّل من أحد رجال الدين. والزواج عندهم لا يخرج عن كونه رفعاً للتحريم الدينيّ المتعلق بممارسة العلاقة الجنسية، أي النقطة الأساسية والجوهرية التي تهمّ في الزواج هي ممارسة العلاقة الجنسية بين الذكر والأنثى بالحلال، وألا تكون هناك أيّ شبهة بوقوع الحرام بينهما.

وهكذا استقرّ العرف لدى المسلمين على اختلاف طوائفهم بأنه لا يجوز عقد الزواج إلا عن طريق الشيخ، ورغم أنّ قوانين الأحوال الشخصية لا تنصّ على هذا الأمر بل تحاربه، من حيث الظاهر، بفرض عقوبة على الشيخ الذي يقدم على إجراء عقد زواج خارج المحكمة، إلا أنّ العمل بالعرف السابق ما زال سارياً بين أغلبية المسلمين إن لم نقل جميعهم. وهذا أدّى، فيما أدّى إليه، إلى ازدواجية في عقود الزواج: فهناك عقد يجري أمام الشيخ شفهياً وعقد يجري أمام القاضي كتابياً. وغالباً ما يكون عقد الشيخ سابقاً على عقد القاضي، ويعتبر الكثيرون أنّ عقد الشيخ هو ما يرتّب حلّية العلاقة بين الطرفين أمّا عقد القاضي فلا شأن له بالحلّية وإنما هو ضروري فقط لضمان حقوق الطرفين وإثباتها قانونياً. ولا نبعد عن الحقيقة إذا قلنا إنّ العبرة لانعقاد الزواج وترتيب آثاره، بحسب هذا العرف، تكون في عقد الشيخ أما إجراءات القاضي فليست سوى توثيق لما جرى أمام الشيخ وهناك بون شاسع بين انعقاد العقد وبين مجرد توثيقه.

ونعتقد أن الأساس الذي ساعد على نشوء هذا العرف وترسيخه يكمن في “الخطبة” التي تلاها النبي محمد أثناء عقد قران ابنته فاطمة الزهراء على ابن عمه علي بن أبي طالب، إذ أصبحت الخطبة بعد ذلك سنة نبوية متبعة.

ورغم أنّ الخطبة كإجراء من إجراءات الزواج كان متعارفاً عليها قبل الإسلام، ويكفي أن نذكر للدلالة على ذلك بأن أبا طالب تلا الخطبة لتزويج النبيّ محمد قبل البعثة من خديجة بنت خويلد، لكن الصفة الدينية التي يتمتع بها النبي محمد جعلت من الخطبة بعد ذلك إجراءاً شكلياً من إجراءات الزواج حرص المسلمون على اتباعه والاقتداء به.

وبما أن الخطبة وتلاوتها تحتاج إلى من يحفظ نصها ويقدر على القيام بها، وهم غالباً رجال الدين، أضف على ذلك الصفة الدينية للنبي التي انتقلت بحكم الواقع إلى هؤلاء، فقد استقر التعامل والعرف على الطلب من أحد رجال الدين الحضور لتلاوة الخطبة ومباركة الزواج. ويبدو أن هذا الإجراء تحول من إجراء تمهيدي لطلب الزواج إلى إجراء أساسي لانعقاد الزواج نفسه. وقد ساعد على هذا التحول السلطة المعنوية الكبيرة التي يتمتع بها رجال الدين في المجتمع وهيمنتهم على أفراده.

وهكذا صار حضور رجل الدين مراسم الزواج وقيامة بتلاوة الخطبة من أركان عقد الزواج، واستقر في الوعي الجماعي للمسلمين أنه لا يجوز إجراء الزواج بدون حضور الشيخ ثم حدث الربط بين حضور الشيخ وتلاوته الخطبة من جهة وبين حلية العلاقة من جهة أخرى، وساد الاعتقاد بأن الشيخ بالكلمات التي يتلوها هو من يرفع التحريم عن العلاقة بين الذكر والأنثى ويسبغ عليها طابع الحلية. وللدلالة على هذه الحقيقة يكفي أن نشير إلى أن اللغة المستخدمة للتعبير عن انعقاد الزواج تبرز بشكل واضح الدور الأساسي لرجل الدين في عقد الزواج حيث يقال: “كتب كتابها الشيخ فلان” أو “عقد عقادها” (لغة عامية في العقد يستخدمها أهل بلاد الشام) فهذه العبارات المتداولة تعبر عن كون الشيخ هو الفاعل في عملية انعقاد الزواج وهو المخول وحده بإحداث رابطته بين الرجل والمرأة.

وكان من الطبيعي أن يترافق هذا البروز لدور الشيخ مع تراجع الدور الذي يفترض أن تقوم به الإرادة في عملية انعقاد العقد. فلم يعد للإرادة دور هام في انعقاد الزواج وترتيب الحلية. وعليه أجازت المذاهب الأربعة على سبيل المثال زواج الهازل واستندوا في ذلك على حديث مروي عن النبي محمد يقول فيه بحسبهم: ((ثلاثة جدهن جد وهزلهن جد الزواج والطلاق والعتاق)).

فالهازل هو من يتلفظ بألفاظ الإيجاب أو القبول دون أن تتجه إرادته إليها وإنما يقولها على سبيل المزاح والدعابة، وكان يفترض لولا غياب دور الإرادة، أن يمنع ثبوت الهزل والمزاح من عقد الزواج لأن الزواج باعتباره عقداً بين طرفين يتطلب اتفاق إرادتي الطرفين عليه واتجاهها إلى ترتيب آثاره بينهما وبما أن أحد الطرفين ثبت عدم اتجاه إرادته بهذا الاتجاه فكان المنطق يقضي بعدم انعقاد الزواج لعدم توافر الإرادة الحقيقية المعبرة عن اتفاق الطرفين.

ومن المظاهر الأخرى لغياب دور الإرادة، الحرص الواضح من قبل الفقهاء على إباحة الزواج بالقصر الذين لم يبلغوا سن الرشد القانونية التي تخولهم التعبير عن إرادتهم بحرية ووعي، وكذلك إقرار الفقهاء شرعية زواج المكرهة بعد الدخول بها لأن قبولها بالدخول بعد إكراهها على الزواج يدل بحسب زعمهم على رضاها اللاحق بهذا الزواج ويمتنع عليها الاحتجاج بالإكراه لإبطاله.

ويبدو لي أن إقرار الفقهاء صحة زواج الإكراه بعد الدخول يتضمن نقضاً جذرياً لكل منظومة الزواج الشرعية كما وضعوها وحاولوا بناءها من حيث الظاهر على أساس الإرادة والرضاء. وتوضيح ذلك في النقاط التالية:

إذا كان أحد الطرفين في الزواج، غالباً ما يكون المرأة، مكرهاً أثناء تبادل ألفاظ الإيجاب والقبول فهذا يعني أن الإرادة الحقيقية والرضا الحقيقي غير موجود مما يؤدي إلى بطلان العقد واعتباره كأن لم يكن.
بطلان العقد يعني عدم وجوده وبالتالي سقوط واقعة تبادل الإيجاب والقبول وانتفاء أثرها لأنها لم تقترن بالإرادة. وينبغي أن يعتبر التبادل كأنه لم يكن.
اعتبر الفقهاء أن استسلام المرأة المكرهة أمام زوجها وتمكينه من الدخول بها دليل على رضاها اللاحق بعقد الزواج ومن شأن هذا الرضا أن يسبغ الصحة على العقد.
يلاحظ هنا أن الفقهاء اكتفوا بحدوث الدخول لإقرار صحة زواج المكرهة، ولم يستثنوا مثلاً الدخول الذي يجري تحت وطأة العنف والتهديد والإكراه. إذ كيف يمكن أن نستخلص من واقعة الدخول هنا، وهي أشبه بالاغتصاب، رضا المرأة بالعقد وإضفاء الصحة عليه؟؟؟
حرص الفقهاء عند الحديث عن شروط الإيجاب والقبول التأكيد على وجوب وقوعهما في مجلس واحد، والسؤال الذي يطرح نفسه: لنفترض أن استسلام المرأة دليل على رضاها وقبولها، ولكن هل اجتمع قبولها مع إيجاب الرجل في مجلس واحد خاصة إذا حدث الدخول بعد فترة زمنية من تبادل الإيجاب والقبول الباطلين؟
مما يثير الدهشة هذا التشابه بين حالة زواج الإكراه وحالة الاغتصاب. ففي زواج الإكراه يصبح الزواج صحيحاً إذا اغتصب الرجل المرأة أو دخل بها، وفي الاغتصاب يعفى الرجل من العقوبة إذا قبل الزواج ممن اغتصبها!!.
وقد نتج عن تغييب دور الإرادة نتيجة بالغة الأهمية وهي تغييب المرأة نفسها كطرف في عقد الزواج، إذ ينظر عامة الناس إلى المرأة ليس باعتبارها عاقدةً وإنما باعتبارها معقودٌ عليها فهي محل العقد وليست طرفاً فيه. فتحولت المرأة إلى الشيء الذي يمثل موضوع العقد. فالعاقد هو الشيخ، والرجل هو المنتفع، والمرأة هي محل الانتفاع، والمنفعة التي تمثل جوهر الزواج بالنسبة لهم هي حلية العلاقة الجنسية.

ولا نبالغ إذا قلنا أن التنظيم الفقهي للزواج يدور بمجمله حول نقطة جوهرية واحدة هي كيف تصبح المرأة متعة حلالاً للرجل. وقد يكون أكثر ما يعبر عن هذه الفكرة هو التعريف الذي أورده صاحب الكنز لعقد الزواج إذ يقول بأنه: ((عقد يرد على ملك المتعة قصداً)) فالقصد الأول من العقد بحسب هذا التعريف هو المتعة وامتلاكها وامتلاك محلها.

وبسبب هذا المفهوم لعقد الزواج لم يجز الفقهاء للمرأة أن تمتنع عن زوجها إذا رغب في مجامعتها، ومنحوه حق اغتصابها إذا لم تتجاوب مع رغباته في لحظتها وآنها. فهي ملك له أو على أقل تقدير هو يملك حق التمتع بها متى يشاء. والفرق بين الزوجة والأمة حسب هذا التعريف أن الرجل يملك حق الرقبة في الأمة وضمنه حق التمتع بها، أما الزوجة فإنه يملك فقط حق التمتع بها دون حق الرقبة. وللتوضيح أكثر يمكن القول أنه بحسب التعريف السابق فإن الأمة عين مملوكة أما الزوجة عين منتفع بها فقط فهي ليست مملوكة بالكلية لكن جسدها فقط هو المملوك.

بعبارة أخرى يمكن القول أن المرأة بعد الزواج تتحول إلى نصف أمة فقط وبمباركة من رجال الدين.


.

13991797442.jpg
 
أعلى