وائل عبد الفتاح - ولماذا لا نخدش الحياء؟

https://alcarma.files.wordpress.com/2009/03/click-here.gif?w=125&h=70

1
لماذا نغضب من محاكمة احمد ناجي؟
الجديد في هذا الغضب، هو الصداقة غالبا. أغلب المتضامنين مع احمد ناجي اصدقاء، مجموعات من الناس في زحام مدينة، معلقة بين اكثر من زمن وثقافة لا يغادرها الماضي، يصنع مساراته لتصبح “ نوستالجيا عند الرومانسيين، وقبضة غاشمة عند السلطويين، هواة جمع النفايات من كل عصر، لتصبح مركز “ هوية ثابتة”، تعزل سكان هذه المدينة رهائن “ كود “ عمومي، هابط من أعلي، يقاوم “ البدعة “ و“ الابداع “ و“ التغيير“.

الاصدقاء لاتجمعهم عناصر العزلة والثبات مثل اللون او العرق او العائلة او الانتماءات القديمة او العقيدة، بل عناصر مثل الذوق/الخيال/اسلوب الحياة. وهي معاني “ مهملة “ او “ هامشية “ امام “الخيال العام “ الذي تتراكم حوله حزمة معاني وقيم واخلاق ثقيلة. غارقة في ركودها. تخشبها. سباحتها على هلام من نفايات مستهلكة تحللت مع الزمن. لكنها مازالت مستخدمة كأنها حقيقة نبيلة.

الصداقة، دفعتني حماسة عاطفية، الي وصفها ذات مرة علي هذا النحو الرومانتيكي: “ الاصدقاء… انهم عائلة المدينة..”.. كنت احاول لحظتها مديح الصداقة بتقريبها الي اهم “ كيان “ في حياة ثقافة محافظة: العائلة .

الصداقة اصلا خطر علي العائلة، ذلك الكيان السلطوي الصغير الذي يعيد انتاج مؤسسات القهر الكبيرة، علي نطاق ضيق، يمثل “ الصديق” بالنسبة له: خطر محتمل، فهو “المحرض” علي التمرد، الانشقاق، ارتكاب الخطايا العائلية. الصديق كاسر سيطرة العائلة علي طفلها، هو الغريب القادم من خارج الكتلة المتماسكة. مهدد الانسجام .

العائلة تكره تهديد الصداقة ( وتحاول ضبطها/السيطرة عليها/شيطنتها /باعتبارها مصدر الشرور )، وتبذل محاولات عنيفة لترويض الصديق والصداقة، لتصبح “ ذيلا “ للعائلة او تابعا لنظامها مكرسا لها بدلا من عملها في تفكيك “ الانضواء “ و“الخضوع “.

الصداقة “ مفك “ نظام كامل، رغم انها ليست نظاما ثابتا، ولا تعبر عن ديمومة بديلة، لكنها رمز وعلامة الانفلات، وطريق سرعان ما يصبح عابرا، لاكتشاف الذات، فالشخص نفسه يتغير، ويختلف، ويموت انسانيا اذا اصبح اسير صورته الثابتة، وهي الصورة الموازية لصعود الفاشية النائمة في المجتمع دفاعا عن صورته الثابتة/المحفوظة/المتخيلة.

الفاشية الدفاعية، نزوع الي الضبط، وتوحيد القياس، وتنشيط صناعة “ الموديل الواحد “ وتعميمه، عبر اليات ابرزها مطاردة الاختلاف وردم الفجوات بركام من الثقافة السائدة، يمكن ان نسمها “ نفاية الديناصورات“… التي تتجسد في كتل متهالكة معلقة فوق الرقاب مثل “ الحياء العام “ او “ ازدراء الاديان “ او “ الوطنية “ او “ الهوية “…هذه الكتل المعلقة /بعيدا عن الواقع /الحياة /العصر مصدر اطمئنان لغالبية تسيطر عليها الهستيريا ، وهي نفسها تهم تحاصر “ الاقلية “… والمتمردة علي “ الهراء العمومي”.. المتحصنة في “فقاعاتها الشخصية “ او فقاعة الصداقة الاكثر اتساعا.

الصداقة، اختيار فردي، خارج رابطة الدم الطبيعية، او بدائلها من تنظيم سياسي مثل الحزب/الجماعة حيث يجتمع الاعضاء علي ايمان بفكرة او عقيدة او ايدلوجيا تمثل المرجع، وترسخ صورة عن الذات ،فوق اختياراتهم الفردية، وهي بالتالي اعلي منهم، او تقاس مكانة و موقع الضو بالتماهي معها.

الصداقة علاقة مؤقتة ( ليست مثل صلة الدم ابدية ،و قد تنقلب الي عداوة مع تغيير الافكار والانحيازات ، او كما يعتبر جاك دريدا ان الصداقة تحمل في جوهر وجودها احتمال العداوة )، ولا تعبر عن حشد /جموع /شعب ، مجرد مجموعة صغيرة ( دائما صغيرة..) يجمعها اهواء وغوايات ، قبل اي شيء ، تختلف عن فكرة “ الشلة “ ( بالمعني الاجتماعي/السياسي الذي يقترب من فكرة اللوبي او العصابة المدافعة عن مصالحها ضد الجميع) .


2

بهذه الصداقة, تحرك التضامن ضد محاكمة احمد ناجي علي كتابة روايته “ استخدام الحياة “ و“اخبار الادب” علي نشرها الفصل الخامس من الرواية…

التضامن لم يعبر عن وجود سابق علي المعركة ( منظمات مجتمع مدني /احزاب سياسية /روابط نقابية للكتاب او المثقفين والفنانين).. ولم ينتظر مبادرات من “تجمعات ادباء وفنانين وصحفيين “ علي مختلف اشكالها وحالها الراهن .

تلك الكيانات ارتضت بموقع الزوائد المزركشة في الجسم السلطوي الكبير، تنوب عنه في مهام سلطوية مهنية، وتعيد انتاج صور نمطية للاديب والفنان والصحفي، لتتماهي مع “الواعظ” او “ المبشر “ للخطابات الموحدة للصفوف.

هذه الكيانات تحولت مع تحلل خطابات الاصطفاف، واكتشاف كارثيتها الي مصانع تعبئة الافراد في معلبات رديئة الصنع، وتدافع عن شروط عضويتها وقدرتها السلطوية علي المراقبة، اكثر من دفاعها عن الحرية اساس النشاطات القائمة علي الابداع من كتابة وفن وصحافة.

الروابط بدت في موقعها من الدفاع عن حرية غير مشروطة للاديب، مجرد سلاحف سلطوية، تختار موقع “الحكمة” المتردد بين تكريس “ السائد “ من اخلاق ومفاهيم وتصورات حكيمة احيانا باقتصار مراقبتها علي الخروقات فيما تسمه “ ميثاق الشرف”، الذي يعني بالحفاظ علي “ الخطاب العمومي” رغم تهتكه، وجموده، وعبثيته، وفي المقابل تتعامل بخجل مع مايتعلق بالحرية، وتقرنها دائما بكلمة “ المشروطة “ او “المسئولة”، كأن الحرية كتالوج محفوظ في مكان سري، وليس حركة دائبة لا تتوقف .

لهذا اختار “الاصدقاء “ عنوان ” ضد محاكمة الخيال” لحملة الدفاع عن احمد ناجي، رغم مارأي فيه البعض سذاجة، او رومانتيكية، لكن “الخيال “ على مايبدو كان الكلمة الاقرب الي ما هو “ غائب” ومطارد .

هي دفاع عن حرية الاختلاف، او الخروج عن حالة التواطؤ العمومية، والتي لا تسمي الاسماء بمسمياتها، وتجتهد لا في الخيال بل لكي يمر كلامها من فلاتر القبول من الغالبية ويتجنب مواقع تفجير الازمات.

هذه تعاليم الاجيال الاكبر، يقولون دائما: “ فكر في التوافق”، وهي طريقة لم تؤدي الي التأثير في الغالبية، او تغيير صفقات التواطؤ، لكنها ادت الي انحسار او انعزال لاعبي الخيال في دوائر ضيقة.

وحتي في هذه الدوائر الضيقة ( رواية احمد ناجي ليست بيست سيلر، ولا اخبار الادب جريدة شعبية)… ستجد من يسعي الي عقاب اديب علي حريته.


3

كتبت عن رواية احمد ناجي…. رابطا بين اختفاء المساحات الشخصية، وبين الجحيم الذي تذهب اليه المدينة… ”اختفاء مساحة شخصية في هذا اللحظات الجحيمية لا يعني اكثر من أسى صغير… فالمدينة كلها ستختفي في لحظة من لحظات الكون النادرة حين تتحول الكوابيس الي واقع والخيال يتضاءل ليصبح تعليقا علي احداث يومية.

المدينة ستختفي كما تخيل احمد ناجي في روايته “ استخدام الحياة “.

ناجي الخجول كما عرفته اول مرة. والقاسي كما رأيته يخبيء الرقة في حوافظ سميكة مما يتيسر من كوابيس الهجران والجفاف الانساني.

كيف لهذه الرقة ان تختار جحيمها لتحكي عنه ؟ لن تسأل نفسك كما لن تعتبر ان اختفاء مساحاتك تلو الاخري علامات هذا الجحيم… كما ان رواية ناجي و تقصيها لمسارات سلالة منقذي العالم واصحاب مهامه الرسولية، ليست نبؤة بل هي تقرير حال لجزء منك ينام جانبك و تمنحه الحبوب المهدئة او تذهب به الي اصدقاء من اطباء نفسيين ، ستسمع شكاويهم اخر الليل مع تداول ايقاعي للزجاجات الخضراء من “ ستيلا “ التي يعتبر طول عمرها (١١٥ سنة اي اكبر من تنظيمات مثل الاخوان المسلمين عاشت علي الابتزاز ونشر الكآبة وتضييق المجال العام بلافتاته واعلاناته التجارية عن جنة الله…) من دواعي الالفة مع المدينة.

ليست مرضا ذلك الذي تعانيه ولا وحدة من النوع الذي كان ابراهيم ناجي او محمود حسن اسماعيل يلعب به ليصنع رومانتيكياته الفادحة، ولا حتي كما صنع منها صلاح عبد الصبور اسئلته الوجودية في صيغ عراف صوفي انيق يتجول بين مدن قديمة.

الرومانتيكا غالية هذه الايام، ولها اقراصها المعلبة، واكوانها التي تقتلها احلام الخلاص المعماري، كما في رواية ناجي و كما كشفت رسومات ايمن الزرقاني المكبوت تحت الاقنعة البشرية، التي تحتل الشوارع قبل “ نهاية العالم..”.

الجحيم ليس بعيدا…وهذا مالن يحله تكرار كلمات البهجة او الذهاب الي الرقص في علبة الليل “افتر ايت “ ..كأنها تعاويذ اسبوعية تتلي في معابد تختصر الحياة في طقوسها الشبقية بدون شبق…”


4

هو نوع من غضب “ تلك الاقلية “، المزعجة “للميل العام “ ، حيث كل الطرق تؤدي الي “ نظام ابوي “ ، يكرس الخضوع و “السمع و الطاعة “ لثقافة /واخلاق/وخيال ودين “الاباء” ..باعتبارها علامات الخير و الفضيلة.

كل الجماعات المطلقة اعتمدت في مقاومتها للتجدي علي مقولة : “..اننا علي دين الاباء “ ..وهذه المقولة تلهم حماس الحشود خلف سلطة من مصلحتها : تكريس السائد ، وتعبئة المستقبل في “ الاقنية القديمة “ رغم تعفنها .

“تللك الاقلية “ بتكوينها ، ليست “ شعبا بديلا “ ولا حشدا في معبد الاب الخالد…لكنها تشير الي “احتمال اخر “ و “ امكانية غير الاندماج” و “ عالم جديد ..” بدون ثنائيات مغلقة.

اي ان “تلك الاقلية “ هي طاقة حرة ، غير منظمة ( سلفا ) للخروج عن “ الاصطفاف “ ، شعار الانسجام الكامل للمجتمع خلف قيادة ( ديكتاتور عادل/اب راعي/وصي يسمعك باذن كبيرة و يراك بعين كبيرة /ويحول حياتك الي متاهة تنتهي عند قمته المدببة) .

خلخلة “ الاجماع “ هو سر التغيير ، وهو ليس خروجا بالمعني المعادي /او القطعي ، لكن”..تلك الاقلية “ بطاقتها الاولى تحرر الاجماع من سطوة “ السير كالقطعان ثمنا لحياة امنة”.

القطعان تعتصم كعهدها بالمعروف/المستقر/السائد ، وتعتبر الخروج عنه

“ نهاية العالم” ، رغم ان الخراب الذي نعيشه، ليس مجردا ، لكنه الخراب القرين بالغيبوبة في “ كهف النفايات “،..هي نهايات مرحلة “ الاب الذي يلتهم عائلته “ ، او الانظمة التي تبني علي “ الفرد “ الملهم /الزعيم/الاله او نصفه /الوسيط بين السماء و الارض ، كأن الحياة اسيرة تنظيم سماوي ، مقدس ، تبني فيه الالهة لتلتهم الناس في داخلها.

فرد واحد يلغي الفردية و الاختيار ، ومؤسسات الدولة تتحول كلها الي تجليات للاب ، تنازلا عن طبيعتها او تكوينها في بناء الدولة ( الدستور و القوانين ) التي تتحول الي اقنعة تخفي شراسة “القطيع في لحظة التهام الفرد “ باسم الاب ولصالحه. وكل مدافع عن “ الميل العام “ هو وكيل الاب /البطريرك الذي تتحسد فيه الامة ( الكل في واحد) وتتجلي منه “ الاخلاق و القيم “ الحارسة للتماسك و الاستمرار .

و رغم ضعف الاب و عجزه كما ظهر في الستينات و مابعدها ، الا ان الابوة /البطريركية لها قدسيتها ، وقسوتها.، فهي “الاقدار “ التي لا فكاك منها و الحل باعتبارها تمثل “ الطبيعي و العادي و العام “

وبالتالي فالخروج عنها خدش ( كفر / خيانة /هرطقة ) بهذا الطوطم المقدس.


5

كيف اصبح “ الحياء العام “ مقدسا ، رغم مرثيات “ غياب الاخلاق” التي تكاد تكون يومية.

الحياء في اللغة ، له معاني منها : الحشمة ( اي تغطية الجسد ) و الانزواء او الانقباض..، اي انه بعيدا عن المعني الشخصي( الخجل من الافعال القبيحة ) ، فان احد المعاني العامة هي الانسحاب داخل “ مخابيء مسلحة“.

والاخلاق كما يراها “ حراس الفضيلة “…” ماتت” ولم تدفن بعد….بينما تستمر حفلات الندب واللطميات علي غيابها ؟

الشر يكشف عن نفسه في شن حروب باسم “ الحياء العام “ ، تخوضها فرق الدفاع عن “اخلاق ميتة “ و استبدالها باخلاق محفوظة في مشارح رثة ، لا تخفي رائحتها النتنة.

وكيل النيابة في قضية احمد ناجي استفزه النص الذي كتبه احمد ناجي لاسباب تتعلق بحدود معرفته ، والعالم الذي يتكون في رأسه من ثقافته القريبة كما ظهر من” خطب الجوامع “ و” دروس الوعاظ “ التقليديين.

تخيل ان النص “صيد ثمين “ في معركته للدفاع عن الفضيلة و الاخلاق ، والغي المسافة بين عمله القائم علي تحقيق العدالة ، وضمان الحريات ، وبين صورته الذهنية عن المحارب و الواعظ ، سعيدا بصعوده منبر البطولة في “الحرب المتخيلة “.

تعاملت النيابة مع الرواية علي انها “ حرز “ من احراز جريمة ، استدعي لها خطبة من خطب العالم الخيالي المستوحي من مجازات عذاب القبر ، ومعارك هرمجدون ، و تجربة عبور البرزخ.

وفي خطاب الاحالة الي المحكمة كتب نصا كاشفا لعقلية وثقافة ونفسية “ محارب الاخلاق” التي تلبست وكيل النيابة .

النص يكشف عن “ ذوق” مفارق في الكتابة ، عن الذوق الذي يمكن ان ينحاز الي رواية ناجي المكتوبة بلغة عصرية ، تعيش في عالمها، تتوخى واقعية ( لتصنع فانتازيا الجحيم القديم …والواقع مشحون بالبذاءة في كل تفاصيله ..بذاءة الفاظ منها احتجاجي و منها التعبيري …وبذاءة افعال ليس اقها التعذيب و القتل و الاستغلال…كيف يمكن ان تكتب نصا عن الواقع و انت هارب الى عالم سرديات النصوص المكتوبة علي هوامش الكتب المقدسة ، وهو عالم اكثر ابتذالا من الشتيمة ، فارغ من المعنى ، مثل اي بلاستيك رديء .

كيف تكتب دفاعا عن الاخلاق بهذه الجدية و يتم استقباله علي انه عبث مثير للخوف و السخرية معا؟

هذا “ الذوق “ اختار للدفاع عن “الاخلاق” هذه “ البلاغة “ البلاستيكية ، فارغة المعنى ، المشغولة بألفاظ ، فتعتبر الشتيمة جريمة لا تغتفر ، ودليل علي “ انهيار العالم “ بينما تجد للقتل مبررات و تمنحه معاني بطولية.

هي سلطة “ ذوق” مقيم في المخابيء ، لكنها اكبر من ذلك ، تمتلك سلطة المحاكمة و بقانون العقوبات ( لتطارد الاديب بالحبس و الغرامة) ، سلطة ثقافة تدافع عن مواقعها خارج التاريخ .

وبالتأكيد كان هناك في عصر من دافع عن عادة و ثقافة “وأد البنات” بمنطق انها درة “ الحياء العام “.


6

اخلاق فيكتوريا.. هي مستنقعنا اللذيذ.

فيكتوريا هي اشهر ملكات بريطانيا.حكمت عندما كان اسلوب الحياة الانجليزي مثل الامريكي الآن هو الموديل القابل للانتشار.بداية من طقس شرب الشاي في الساعة الخامسة بعد الظهر وحتي النظرة الي الحب والجنس. عصر فيكتوريا هو قمة عظمة بريطانيا. الامبراطورية الغنية القوية…التي لاتغيب عنها الشمس من القاهرة الي الهند…وكان اسم الملكة هو علامة ابهة وقوة الامبراطورية ودلالة علي مجتمع اراد أن يصور نفسه نموذجا للتمسك بالفضيلة والتقاليد.. تمسك الي حد التزمت.اشتهر العصر بالحياة السرية التي يمارس فيها الاغنياء والاقوياء حياة سرية تتطرف فيها النزوات الجنسية الي حدود لم تعرفها البشرية حتي الان «وهذا ما جعل اشهر مواقع البورنو علي الانترنت.. تسمي نفسها باسماء تلعب علي فكرة العصر الفيكتوري»…وفي المقابل كان التزمت هو عنوان الحياة العلنية.. ادعاء للفضيلة وكلام عن الاخلاق الرشيدة.. وتعليمات بانضباط مهذب في علاقات الغرام.

فيكتوريا نفسها كانت متطرفة في التمسك ب”الاخلاق.. لكن الايام كشفت فضيحتها مع خادم الاسطبل الملكي الذي انجبت منه طفلة تستر عليه خبراء القصر واخفوها في المانيا.اي بدلا من اعلان الحقيقة وهي احتياج الملكة للحب بعد وفاة زوجها.مارست حريتها في السر.و كانت هذه سمة العصر الفيكتوري.

المجتمع المصري يعيش الان العصر الفيكتوري «لكن بلا ابهة ولا قوة الامبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس.. ».. يمارس في السر العاب مبتذلة في الحب والجنس.. من الزواج العرفي الي انتشار شبكات بيع المتع الرخيصة الي حد غير مسبوق وبتقاليع علي حدود التطرف.. وكل هذا تحت ستائر ثقيلة من الالتزام بالشكل «الحجاب.. وترديد أيات دينية قبل كل لقاء غير شرعي.. حتي أن بعض المحترفات بعد أن تقبض ثمن ليلتها تقول الحمد لله.. وفي عز العلاقة الساخنة تتوقف فجأة لانها سمعت الاذان.. ».. كل هذه سمات العصر الفيكتوري «هم ايضا كانوا يهتمون بالادعية المسيحية والملابس المحتشمة.. ويغطون ارجل طاولات السفرة حتي لا تثير الغرائز». توقفت اول مرة عند “ العصر الفيكتوري المصري “عندما نشرت نسخة من كتاب الروض العاطر (ضمن ملاحق عن الكتب الممنوعة في صحيفة ” الفجر ” سنة ٢٠٠٦ )

نشرته يومها ضمن 3 كتب محرمة.لكنه وحده الذي اثار الحوارات واللعنات والغمزات.

علي تليفون الجريدة.. وفي برامج الفضائيات.. وضمن رسائل الموبايل القصيرة.. وعلي ناصية باعة الصحف…. وفي المقاهي.

لم يتخيل قراء اول سنوات الالفية الثالثة أن هناك كتاب تربية جنسية من تاليف شيخ متخصص في الفقة.. وموجه اساسا الي الوزير «اي اعلي سلطة في تونس».

القراء تعودوا علي أن الجنس.. مشروع خطيئة. لا مكان له في النور والعلن.. بل في كهوف سرية.. وفي علب بيع المتع الرخيصة.

الجنس ليس علاقة حرية او.. رحلة في سبيل لذة «ربما اقوي لذة».. يتحرر فيها الجسد وتطير الروح خفيفة… الجنس هو الوتر الحساس الذي نخفيه تحت اغطية ثقيلة من عادات النفاق الاخلاقي.

نشرت في الملحق التالي كتابا اخر اكثر شهرة ومن نفس القائمة المحظورة هو«رجوع الشيخ الي صباه».اسم شهير في التربية الجنسية الشعبية.

والمدهش أنه بقراءة لا تستدعي اسلحة الإخلاق الرشيدة سيكتشف القاريء أن اغلب الخيال الشعبي عن الجنس مستمد من «رجوع الشيخ».

وكتب التربية الجنسية القديمة.. هي نافذة علي التفكير واتصال مع فنون الحياة الممنوعة علي الناس.

الكتاب ممكن أن يكون غريبا عن ثقافة هذه الايام.اولا من ناحية مصطلحاته المهجورة…وثانيا من استخدام تعبيرات في وصف العلاقات والاعضاء الجنسية اصبحت الان في خانة الكلام العيب والاوصاف البذيئة.

وهذا دليل اخر علي أن الاخلاق نسبية وتتغير حسب العصر والثقافة.. والمجتمع.فهذه الكلمات كانت عادية.. والان هي عارية/مكشوفة.

ولهذا فان قراءة كتاب رجوع الشيخ «الحافل باوصاف ووصفات تهدف كلها الي سعادة الجسد وراحة الروح في رحاب لذة الجنس».. ومن قبله الروض العاطر.. هو نوع من الرغبة في التواصل مع ثقافة حب الحياة.

هذه الكتب كانت تمنح المعرفة لمجتمعات تعبر من البدوية الي الحضارة.تحاول اكتشاف دروب المتعة واسرارها.

ولا نعرف لماذا منعت ولا كيف اصبحت محرمة.
ربما نجد تفسيرا في أن الجنس هو اول الطريق للقهر السياسي.
والكبت الجنسي هو مخزن البارود الذي يغلقه الطغاة علي المجتمعات الضعيفة لتفجرها من داخلها.

السيطرة علي الجسد هي سيطرة علي المجال الشخصي.هي اخضاع الفرد.واجباره علي الوقوف في طابور الثقافة العمومية بلا تميز ولا ملامح شخصية.

الفاشية تتكلم اولا عن تربية الفرد…وانضباط اخلاقه.لا تتكلم عن حريته.ولا عن عشق الحياة.

والديكتاتورية تكره القراءة لانها تعلم الفرد أن يكون ثقافته الشخصية بعيدا عن بروجرام ثقافتها الرشيدة.هذه الانظمة تطارد العقل وتمنع التفكير.. وتبدأ عادة بالجنس.تجعل الكلام عنه في خانة الابتذال.لاجنس بعيدا عن الخطيئة.لاعلاقات حرة.ولا معرفة عن المتعة خارج الكتالوج.

من هنا يبدأ القهر.وتبدأ سلطة رجل الدين.. والديكتاتور.

واذا تأملنا كل محاولات سلطات فاشلة سياسيا ..سنجدها تبدأ من الكلام عن الفضيلة و الاخلاق…لانها انظمة عارية ـمن كل قيم …(تقهر الناس و تقمعهم و تمتص قوتهم لكي تستمر في السلطة ) و تريد تغطية مجتمع (تحت شعارات اخلاقية..و خوفا من مؤامرة انحلال قادمة …ولكي تشعر الناس انفسهم بالذنب والعار…)

..ولن نتغير الا اذا نسفنا نفق النفاق الطويل…وما تبقي من قدرة هذه الشيزوفرينيا علي ان تكون هي عنوان الاخلاق.

..لن نتغير الا اذا ذهبت اخلاق فيكتوريا الي مدفنها بدون اسف…وبكتابة علي المدفن تقول:الاخلاق الوحيدة هي احترام حقوق و حريات الاخرين.

كن متزمتا لكن ليس من حقك ان تفرض التزمت.
انت حر في ان تكون محافظا لكنك لست حرا في تخيل انك بوليس علي حريتي.
اكتفي بما تعرفه و تعلمته لكن لا تجعله سدا عاليا امام حياتي.
ولتذهب فيكتوريا و اخلاقها في مصر الي جحيم لا قرار له.


7

هكذا قابلت “الصداقة” في المحكمة تنينا بائسا.

يتصور التنين نفسه يقود سرب من ” محاربين ” في سبيل انقاذ الاخلاق …ويكاد يهتف وهو يوجه أشباحا لم يحددهم : لن نترككم و سنلاحقكم …ولم يعرف من يقصد بهذه الاشباح التي يطاردها ولا لماذا يدافع عن اخلاق تحتاج آلي انقاذ …( الاخلاق نسبية، و ابنة زمنها…)

اسلماذا يقذف الجميع بكل هذه الاكليشيهات التي دفعت ناصر امين في مرافعة الدفاع عن احمد ناجي الى استخدام اكليشيه كان يفكر في حذفه مثل : ” الادب باق وانتم زائلون “


8

تحولت المحكمة الي حفلة في طريق صراع مع التنين قبل انقراضه .

كيف نواجهه ؟

هل نشعر بالرضا لان ناصر امين ألقى في حجرهم بكتب التراث من ادب وفقه و سيرة ، لتضاف الى دلائل جهلهم بما يدافعون عنه ؟ ام نحزن لأننا اعتمدنا على صكوك من التراث لمواجهة التنين الاخلاقي ؟ هل لا يمتلك الاديب حرية الا لأنها موجودة في كتب الاولين؟

انا عن نفسي سعدت بالصوت العالي لتنين النيابة و تلبسه روح خطب الجوامع / وتعبيراته الخشبية الفارغة من اي معنى رغم ان عالمه الافتراضي يجعله يصدق انه حامل معاني الي حد التخمة …نعم انه يتلذذ بالفوارغ من الكلمات و الصياغات ويلهو بالمجازات المستوحاة من حزمة محفوظة من خيال الفانتازيا العقابية في كل الاديان ….عاد معنا التنين التعس الي جلسات المقهي ولعب دوره في صناعة فكاهة مرة.


9

وكيل النيابة وهو يحاول تصنيف رواية احمد ناجي ، قال أنها بعيدة كل البعد عن الادب الرفيع الذي كتبه احسان عبد القدوس و نجيب محفوظ …وهما بالذات وعلى اختلافهما من كبار “الخداشين “…و تمت مرمطتهما” من اجيال سابقة من سلالة التنانين المحاربة من اجل “الاخلاق” ولم يدرك الوكيل طبعا ان استشهاده باعداء الاخلاق في لحظة اخرى ، يعني أنهما انتصرا و ان اخلاقه التي يدافع عنها ماتت وهم يلعق جثتها.

10

لكن “ الالفاظ تشرح نفسها..”

بهذه الجملة كادت القضية ان تغلق بدون نقاشات ، او مرافعات ، او “ حق في الدفاع “ يعتمدعلى شرح لخصوصية المجال الادبي ، ولا في المسافة بين “ الحقيقة” و “الفن “ .

اي ان القضية قامت على “ الغاء “ المسافة لتصبح الالفاط مجرد بذاءة عارية ، و ليس تصويرا للبذاءة ، وتصبح الرواية مجرد اعترافات شخصية علي ارتكاب جرائم ، او الدفاع عنها ، وهو ما سمي في اقوال صاحب الشكوى :” نشر الفحشاء بين الناس.. ومخالفة الاداب العامة” ، الي اخر هذه الاتهامات التي تبنتها النيابة العامة ، واذا مدت علي استقامتها تهدد الروائي بعقاب اوسع علي اعترافه بجرائم قام بها “ بطل احداث الرواية“ مثل تدخين الحشيش .

وفي هذا “ قتل “للمسافة بين الواقع و الفن /الحقيقة و الخيال ، وهو عدم احساس بالابداع الذي يجعل المسافة ملتبسة ، والالتباس سر من اسرار الجمال ،

قتل المسافة هو علامة على “ شراسة “ قوة السيطرة ، التي تريد عالم ضحلا ، وتراه عالما مثاليا ، بريئا ، لانه من السهل حصاره و التحكم فيه.

..وهذه هي لحظة ظهور كائنات ميتة تريد العودة الي الحياة ، وهو ما عرفناه في سينما هوليوود باسم “ الزومبي”.

11

يهبطون من عالمهم ، يتحولون بين لحظة وشقيقتها ، من كائنات وديعة الي وحوش مفترسة.زومبي الحياة المصرية الحديثة ؟ اولئك الذين يثيرون عطفك كلما رأيتهم ، او لم ترهم ، فهم “لايرون “ بالعين العادية ، لا تلتقطهم إلا عين العطف ، فهم ابناء الاستبداد باسنانه الطويلة ، ناهشة الارواح و القلوب ، ضحاياها يلتهمون الجثث ، فعلا و رمزا ، واقعا و افكارا.

قابلت زومبي من هؤلاء بعد موقعة الجمل بيوم او يمين ، كنت في طريقي من بيتي القريب، الي ميدان التحرير ، في واحدة من الجمع الثورية ، كنا مجموعة اصدقاء ، وهذا طريقنا المعتاد ، الزومبي ايضا لم يكن وحده ، لكنه اوقفنا ، وهو في هيئة صبي لا يتجاوز الخامسة عشر ، يحمل قطعة خشب طويلة في طرفها الامامي مسامير بارزة ، بينما يقود المجموعة زومبي اربعيني بجلباب البوابين الريفيين المعتاد في وسط البلد .

“ رايحين فين “

سألنا الزومبي القائد..وايدته نظرات الزومبي الصبي…

اشرنا فقط و بنوع من التعالى الي ميدان التحرير…

فالتقي صوت الصبي و قائده فيما يشبه الهتاف : “..ممنوع..”

ولما كنا في لحظة انهيار السلطة ، وتفكك ملكية “الحكومة” للشوارع و هندستها ، سألنا باستنكار : “ مين الي منع….”

-“ احنا”

كانت الاجابة تلقائية بشكب مذهل، وتصاحبها نظرات عيون غير آدمية ، هذه لحظة التحول : الاستعداد لاعلان سلطتهم المرعبة ، بما يصاحب ذلك من خدر في “ الضحايا “ اي تحن الذين تصورنا اننا في حرب مع السلطة ، ونقترب من النصر عليها ، لكن ظهور الزومبي نقل الحرب الي منطقة تنزع عنا انسانينا و تجردنا من كل بسالة يوقظها ادرينالين الوقوف في وجه السلطة…

رغم وصول شرر الزومبي ، لم نتوقف امام التحذير واكملنا الاسئلة الميتا واقعية : انتم مين..”

وكانت الاجابة الحاسمة : “ احنا الشعب…”
ساعتها ادركت انه ليس امامنا الا الهرب …

12

قابلنا الزومبي كثيرا بعد الطلب علي التغيير .

قابلناهم و هم “ المواطنون الشرفاء “ المحاربون من اجل “ الاستقرار” و استمرار “ الوضع علي ماهي عليه “ من قهر و ذل و استغلال وحياة بائسة.

هم المتلذذون بالمازوخية …نراهم يبررون القتل و الحرق مادام من “السلطة “ ويقفون سدا امام المطالبين بالتغيير والباحثين عن مصالحهم .

هم ضد مصلحتهم…

رأيناهم كثيرا ، اخرها في محاكمةاحمد ناجي ، هم المحاربون في فرق مراقبة “خدش الحياء “ … ( يشبهون الشرطي الذي يطارد قبلة بين حبيبيين ، وفي المساء يشترك في اغتصاب سجين او سجينة)…

صاحب الشكوى هو“الجندي المجهول..” الذي لن تشعر بضراوته حين يخرج الوحش النائم بداخله.لنتعرف اسمه ، ولا حكايته الخاصة ، لكنه سيترك علامات الافتراس في الجسد و الروح.

هو “ رجل صغير “ بمصطلحات عالم النفس النمساوى فيلهلم رايش ، تلميذ فرويد الغامض

كيف يتحول الرجل الصغير الي فاشي تحت الطلب..؟

هذه قصتنا بين الثبات و التغيير . قصة لم تبدأ عندنا ، لكن في هذا الوادي الطيب ، المتماهي مع الاستقرار الي حد العبادة.تلاقت سلالات الرجل الصغير و ازدهرت مزارع تربية وتثمين كنز “ الانظمة.لالرجل الصغير ، دائما رجل وصغير ، له لحظة توحش ، ينتفخ فيها كيانه ، ويرتدي بداخله ملابس الحرب متخيلا نفسه: بطل الابطال ، عنتر محرر القبيلة ، قائد سلاح الحناجر القاتلة.

لا احد يعرف متي يقابل الرجل الصغير لحظته تلك ، لكنها غالبا ماتكون دفاعا عن “ سلطة سائدة “ ، مادية او معنوية ، وربما يكون هذا الرجل نفسه ضحية لتلك السلطة التي يدافع عنها ، لكنه في اللحظة الذهبية ، تغمره مشاعر حنو و شهامة ، لا يعرفها في العادة ، لكنها تدفع الوحش الذي يتربي داخله منذ الولادة ، الي الخروج.

تنتابهم حماسة فجائية ، يدافعون فيها عن شيء من العناوين الكبيرة مثل : الاخلاق او الوطن او الدين ؟

كيف تنتابه الحماسة؟ ومالذي يحرك الوحش الذي بداخله فجأة وهو الساكن ، الراضي ، الرابض في بالونته الشخصية ؟

ماذا دار في رأس عامل في استوديو سينما سنة ١٩٨٦ ، وبعد اعوام طويلة من ظهور السينما في مصر ، ان يدير قرص التليفون و يتصل بالمباحث ليبلغ عن “ فعل فاضح في الاستوديو “؟

“الفعل الفاضح “ كان مشهد حب بين يحي الفخراني ومعالي زايد في فيلم رأفت الميهي “ للحب قصة اخيرة “ ، مالذي استيقظ داخله فجأة وهو يشاهد تحضير المشهد، ودفعه الي الشعور بانه شاهد علي جريمة او ساكت عنها ؟

كيف قطع عامل الاستوديو الخيط الرفيع بين الفن والواقع ؟ و كيف سارت “الدولة “ خلفه وحركت قوة بوليس لتلقي القبض علي المجرمين و تصحبهما الي الحجز ؟

العلاقة بين الدولة ، و شخص تلبسه فجأة شبح وكيل “ الاخلاق “ العمومية ، غامضة و مريبة وتحتاج الي فحص..؟

ربما تكون العلاقة واضحة و فاضحة بالنسبة لحكاية طالب ازهري مشي مشوارا طويلا الي مكتب التلغراف سنة ١٩٢٥ ليرسل بلاغا ضد كتاب طه حسين : “في الشعر الجاهلي” ، الدولة وقتها بقيادة الملك /السلطان احمد فؤاد الثاني تحلم بوراثة الخلافة العثمانية ، وتريد اثبات انها “ قلعة الاسلام الحصين“ بمعارك تخوضها لتبدو في جانب “ المطلق” ( الثقافة السائدة /المعتمدة من الله/او المستوحاة من روح الشعب /او غيرها من اشكال الكل في واحد /)…وضد “النسبي“ ( الانساني /المتغير / الخادش للمستقر التعس).

متى يتحول” الرجل الصغير “ في لحظة ما الي مراقب للسكون ، مشجعا لخطاب الانقراض. ، حارسا مخابيء /ملاذات الكوارث…؟

13

..لماذا لا نخدش الحياء العام ؟
كيف نحارب من اجل “ الحياء “ من قبلة ، او عشق ، او جنس ، دفاعا عن“الفجور” في القتل او القهر او التعذيب او الاغتصاب…؟



ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت في العدد الأخير من مجلة عالم الكتاب
 
أعلى