فوزي يمّين - ليل

سيّارة قديمة مركونة عند منعطف لا أحد فيها، تنتظر صاحبها، مفاتيحها فيها (لماذا لا تشعل محرّكها وتنطلق؟)، شجرة هرمة ساهمة تدير ظهرها للطريق تناديها أوراقها وما من مُجيب. الليل مطعم مُقفَل والنجوم فوقه لمبات نيون: تضيء تنطفئ، تنطفىء تضيء، تحترق.

* * *

الأولاد
أجمل ما في الأولاد وقاحتُهم. يقولون الأشياء كما هي، من دون لفّ ودوران. لذلك ربّما يتلقّون الضرب، ليسكتوا.

* * *

عزلة
إذا كان لا بدّ من التخفّي ففي الساحات العامّة. بين الترحيبات والقبلات والمجاملات لا ينتبه إليك أحد. العزلة تفضح.

* * *

نومٌ ثقيل
تنام على بطنكَ، على ظهركَ، على خاصرتك اليمنى، ثمّ تنقلب على اليسرى، ثمّ على ظهركَ، وعلى بطنكَ من جديد. تغمر الوسادة، تضاجعها إنْ أحببت. تحشر يدكَ تحت بطنكَ، تحت إبطكَ، وراء رأسكَ، تفلتها. تعدّ الخرفان، صعوداً نزولاً، وبالعكس، ومن اليمين إلى اليسار، وبالعكس. فضلاً عن الخرفان، تعدّ العنز والجبال والظلال. تضيء اللمبة، تطفئها، تحرقها. تدخّن سيجارة من الشبّاك حتّى آخر درفة. تتفقّد جهازك الخليويّ، مرّة، مرّتين. كلّ شيء يسير في أثيره على أحسن ما يُرام. تضيئه، تطفئه، تخرسه، تعميه. تتحسّس رغبتك المعتصرة تحت اللحاف. تتفقّد عمرك المضبوب في الخزانة. تمرّ على شريط ذاكرتك المكرور في الجارور. تنادي على أفكارك الصغيرة المشرورة في أرجاء الغرفة: يا أفكاري الصغيرة هلمّي إليّ! أخيراً تدسّ الوقت كالضرير تحت السرير.
نمْ ولا يكن لك هَمّ. غداً، في أقصى الأحوال، إن استيقظت، تكتشف مرّة أخرى أنّك لم تزل على قيد الحياة. هِهْ!

* * *

ساحة عامّة
آخر صرعات الموضة، والسيّارات الجديدة تماماً، والأجهزة الخليويّة الشفّافة اللمّاعة، والاسكربينات ذات الكعب العالي الطقّاق، وتسريحات الشعر المبتكرة، والنظّارات الشمسيّة المختلفة الحجم واللون، وحلاّبات النهود المتوحّشة الحارّة، وكلاّبات الفروج المشروطة الساخنة. فنجان قهوة ثقيل جدّاً في كعبه حجر. سيجارة مسمومة تنسرب إلى الرئة ببطء لذيذ. وترٌ مسائيّ يترجّع نغمُه حتّى الفجر، ينقف الساهرين العائدين مع أولى النسمات المترنّحة. عجائز متّشحات بالسواد ذاهبات إلى أوّل قدّاس، يدلفنَ بمشيتهنّ كغربان، وينقرنَ حبوب سبحاتهنّ المتدلّية من أصابعهنّ المتهدّلة. صديقٌ عريض كجوزة، تافه، مخنّث، خبيث، لا يتوقّف عن الكلام في السياسة والجنس والطبخ بالنبرة نفسها، والإيقاع نفسه، والملامح الغليظة المنتفخة نفسها، وحركات اليدين الواسعتين نفسها، وعليك أن تشاطره المحادثات والنّكات والجعة والسباب الودّي.
يكفي! تفكّر أن تنهض بلا استئذان وتمشي. تتلفّظ بكلمة لا معنى لها. صاعقة تفقع في الجوّ. تصفع الهواء الواقف أمامك صفعة واحدة ترميه على الأرض. تتقيّأ جالساً كما أنت على الطاولة، وتحديداً على كتاب فوقها تحاول قراءته. تسحب عضوك وتستمني على مهل، وبلذّة فائقة، مستحضراً أطيب النساء اللواتي مررنَ ذات يوم أمام عينيك، وانحفرنَ في قرنيّتهما الخلفيّة. هنا تتلذّذ، تغمض عينيك، وتمرّغ لسانك على شفتيك ضربة واحدة. أممممممم! الشهوة جرسٌ عتيق عميق يخشّ في العروق كسلاسل مبخرة سكرانة.

* * *

يوغا
لا آخر الليل أوّل النهار، ولا آخر النهار أوّل الليل. ساهراً يتفقّدك جسدُكَ بعينيه المفتوحتين أكثر من اللزوم، مخافة أن تهرب منه. أن تنسحب فجأةً كالبرق بعد انتهائه من المضاجعة. أن تقفز كاللصّ من الشبّاك وهو مُستلقٍ على السرير. أن تخرج كالخيط من الباب وهو ذاهب إلى المطبخ ليأكل. أن ترمي بنفسك من كوّة الحمّام وهو يبول. وهكذا...

* * *

نصائح جوفاء، وصايا خرقاء
إنتبهْ إلى يديك وهما تتلمّسان الطريق صعوداً في اتّجاه نهد صغير، فجّ، ساخن، حارق، عنيد لا يستسلم، يترنّح كمركب سكران بين أمواج جائعة في عاصفة يتيمة.
إنتبهْ إلى قدميك وهما تحثّان الخطى ببطء وانخذال نزولاً نحو ساحة خيبتك وسط مدينة أشباحك حيث لا تنتظرك سوى كلماتك الموتورة وظلالك المكسورة، وغراب أعور واقف على عود يرندح أغنية بالمقلوب.
إنتبهْ إلى قضيبك وهو ينتصب رويداً رويداً في شارع مزدحم، أضغطْ عليه، أضربْه، إطعجْه، خذْه جانباً وامعسْه على أقرب حائط صارخاً فيه: "كلب إبن كلب"!
إنتبهْ إلى رأسك يكشط في راحة يدك وأنت تحلم بالسفر، وبأن غداً تأتي أشرعة طويلة كأعناق زرافات وتحملك على رأس بريقها الأبيض. وجهك والأفق. تريد سيجارة؟ ها البحر علبة كبريت زرقاء، ها الريح تأتي وتذهب، ضاربة الموج ومرتدّة كمهماز سريع.
إنتبهْ إلى خصلات شعركَ وأنت تنفشها ذاهباً إلى حبيبتك تلسعها لترتاح. فما كان يُفترَض أن يكون سعادة، غدا هديّة مسمومة. الحبّ آخر معقل للخزي، آخر مخزن للسمّ الوفيّ.
إنتبهْ وأنت تعيد ليلاً ترتيب نهارك: الأهل في الشغل، الأولاد في الغيمة، المجرمون خارج السجن، الحياة على الطريق، الحبّ خاتم في غيوم البئر، الركوة على النار، القهوة دم أسود.
إنتبهْ إلى شفتيك وهما تمجّان بلؤم سيجارة بائتة تشتعل بطريقة خرقاء ربّما تنفجر في وجهك، والدخان المنسرب منها إلى الوراء ينذر حقّاً بذلك، إنتبهْ.
إنتبهْ أن تُخطئ في عدّ أصابعك وأنت تحسب معها السيجارة.
إنتبهْ إلى أوّل الخريف وآخر الربيع، فيهما من هواء الوشاية ما يكفي لفتل رأسك. أمّا الشتاء فتنام فيه كدبّ قطبيّ، والصيف تشمّره كأكمام قميص، ثمّ تنطلق مراوحاً فصولك.
إنتبه إلى عينيك وأنت ترمشها مبكراً أن يهرب حلم ليلة أمس.
إنتبهْ وأنت عائد آخر المساء، بعد كأسين طويلتين من الويسكي، خفيفاً كمفاتيح الفوز، أن لا يعرفك البيت، ويحسبك عصفوراً غريباً عابراً أضلّ طريقه في زحمة الهواء.
إنتبه كلّ ليلة، وأنت تغفو، من لغم تحت المخدّة.
إنتبهْ إلى انتباهك يفلت منك كلّ يوم، كلّ لحظة، الآن.

* * *

حدّ أدنى
كلّ مساء، قبل أن ينطفئ الليل تشعله بسيجارة. الغد يوم آخر. أصلاً كلّ غد يوم آخر. كيف الحال؟ اليوم أسوأ من البارحة أفضل من الغد. كلّ يوم هو اليوم. تحزم وترحل. إلى مكان بعيد غريب، مع الوقت قريب أليف. على الأقلّ تمشي فوق رصيف نظيف. على الأقلّ ترتاح من الراحة، وأنّك فعلاً لا تفعل شيئاً هنا وتلوم نفسك بشدّة. إنّما على ماذا؟ اليوم أفضل من الغد. الغد يوم آخر وربّما أخير. على الأقلّ يكون هناك أقلّ. أقلّ من كلّ يوم يطبق كطنجرة على رأسك، يتلف أعصابك، ويحرق حلقك. أقلّ من أقلّ. حدّ أدنى. أدنى من أدنى. أقصى.
* * *
صلاة
إذا كان من صلاة فيا الله، يا طريّاً كثدي، الزهرة عينك وها عطري ينحدر، وظلالي تنسحب على ركبتك وتنحسر في الندم. إذا كان من صلاة فيا الله حين تأتي ساعتي أنزلْني من شرفة ألمي، واسحبْ روحي كشعرة من العجينة، وارْمِها في أقرب هواء كي تدور ولا تقع، ثمّ ارحلْ من دون أن تنظر وراءك، واتركْني هنا أفرفر في أرضي مجزرة طازجة.

* * *

رقصة
وأنت تستمع إلى وقع الحروب ترقص، نقطة الدم التي تدور مع الأرض منذ قابيل تلحسها فتهتاج، تثيرك رائحة الذبح كما تثيرك رائحة امرأة مشطوفة الكعبين تقدح شرراً في الباحة الخلفيّة المعتمة للشهوة، كلّما مشيت في الشارع تفرقع بشاربين أحمرين تقطر منهما رغوة الرغبة الحامية، المحاور ساخنة، ولسانك، والرؤوس المنفصلة عن أجسادها تبرق في السماء، تتقادم دفعة واحدة نحو منزلك، ثمّ تجمد أمام نافذتك، وتخشّ، الرؤوس المنفصلة عن أجسادها واقفة معلّقة في الهواء كجرس مبحوح، عينها في عينك لا ترفّ، الرؤوس المنفصلة عن أجسادها، أجسادها الملتصقة بترابها التي منه وإليه كما يُقال، وقيل إنّ أوّل رأس طار تلقّفه الهواء بيديه وهدهده فغفا في حضن السماء ولم يسقط على الأرض، وقيل إنّ الأرض انتظرته فترة طويلة فاتحة فمها حتّى عطشت ويبست، إلى أن كرّت الرؤوس بعدها تباعاً وجرت الأمور، الرؤوس التي تتطاير وتلمحها خطفاً من نافذة غرفتك ونافذة سيّارتك ونافذة المقهى المجاور، ويسألك عنها أولادك فتقول إنّها عصافير عابرة، أحياناً تظهر وأحياناً لا، لكن الآن موسمها، وأحياناً تكون الأرض بلا سماء، مقطوعة الرأس، وأحياناً تكون السماء بلا أرض، مقطوعة الجسد، وأحياناً يكون ضوء على الرأس وعتمة على الجسد، أو عتم على الرأس وضوء على الجسد، لكن دائماً أنت بين عتمة وضوء - لا هي عتمة ولا هو ضوء، وبين ليل ونهار - لا هو ليل ولا هو نهار، تنهض كلّ يوم كباب يحاول استجماع أخشابه المحروقة ولا يستطيع، وتفعل، كما لك في العادة أن تفعل، تزرع قنبلة صغيرة بين كلّ كلمة وكلمة كيما تنفجر كلّها أخيراً فتصل كلماتك، بلا رأس ولا جسد، متشظّية، رائعة، وجميلة، كما لم يقرأها أحد من قبل.




.

صورة مفقودة

Auguste Delacroix
 
أعلى