جهاد فاضل - بنو عذرة والحب العذري

في كتابه «في الحب والحب العذري» ينعت الدكتور صادق جلال العظم الحب العذري بالظاهرة العاطفية الغريبة»، ويرى أن العاشق العذري، (أو العاشقة العذرية) لا يحب في الحقيقة شخص حبيبته بقدر ما يحب عشقه لها، ولذلك نراه يفضل بعدها على قربها لأن البعد يؤجج نار العشق ويترك المجال للعاشق لأن يتلذذ، بينه وبين نفسه، بأعنف المشاعر وأعذب الأحاسيس، ولأن يستمتع بحالات الألم والتمزق والقلق والسقم والبلاء التي تطرأ عليه وتنزل به من جراء بعده وحرمانه. أما في ساعات اللقاء فإن عشقه يضعف ويخبو. ولذلك لا يطلب العاشق اللقاء إلا كمقدمة ضرورية لتحقيق الفراق من جديد. ثم إن الحب العذري انعزل عن المحبوب ولم يعد يتأثر به لأن موضوعه ليس إنساناً حياً يتغير ويتبدل في مجرى الزمان، وإنما هو صورة مجردة ثابتة في مخيلة العاشق يسبغ عليها أروع الصفات التي لا تحول ولا تزول على مدى الدهر.

وما يقوله صادق جلال العظم في كتابه هذا عن الحب العذري (صدر الكتاب لأول مرة عام ١٩٦٨) ينزع عن هذا الحب صدقيته وأصالته ويجرده من النزاهة والسمعة التي له في التاريخ وفي الوجدان على السواء، ويتعامل معه كظاهرة مرضية وغريبة في الذات البشرية. أو لنقل إنه ينظر إليه كحالة من حالات الزيف والاصطناع لا كحالة أصيلة قابلة لأن توجد ولأن يكون لها ولتجلياتها مكانة ذات شأن في الحياة وفي الابداع.

ولكن آخرين، سواء في آدابنا العربية، القديمة أو الحديثة، وكذلك في الآداب الأجنبية، تعاملوا بتوقير بالغ مع ظاهرة الحب العذري، واعتبروها من أنبل صور العشق التي وصل إليها البشر، فأي زيف أو اصطناع في عاشقين تطغى على حبهما العفة والاخلاص والتوحيد والحرمان والطهارة؟ ولماذا لا ننظر إلى هذين العاشقين على أن مكابداتهما مثلت انتصاراً للروح على الجسد، وهزيمة للنفس الأمارة بالسوء أمام المثالية الخلقية التي يؤمن بها العاشق العذري؟ ولماذا تحتل العذرية، أو العفة، مكانة كريمة في تاريخ الوجدان وفي الآداب العالمية؟ في كتاب له عن التروبادور، يتساءل مؤلفه مارّو عما إذا لم تكن العفة مرادفاً للوفاء، ويستشهد بكاتب آخر يقول إن الحب يجعل الإنسان عفيفاً. إنه، أي الحب، لا يكاد يتيح للمحب أن تخطر له فكرة احتضان امرأة جميلة غير حبيبته. فالعفة إذن نتيجة حب عظيم.

وفي مقال له في دائرة المعارف الإسلامية عن «العذرية»، يرى المستعرب الفرنسي لوي ماسينيون «ان هذا الغرض الأسطوري يمجد قبيلة بدوية، مثالية، يموت فيها المحبون عشقاً عندما يدفعون بالود إلى أقصاه حفاظاً على رقة العواطف وعلى الوفاء لعفة غير مقدسة، ولكي لا يمدوا أيديهم إلى المحبوب». هذا هو رأي ماسينيون في الحب العذري العربي القديم، وفي الحب العذري بوجه عام. ولعل من أهم ما في نظرته هذه، أنها تلفت الانتباه إلى الجانب المخيالي من الغرض الشعري وإلى الجانب المثالي لدى المجموعة الاجتماعية.

ولكن الحب العذري، وبمعناه الشائع المعروف، وجد بالفعل في تراثنا، ونُسب إلى قبيلة بني عذرة العربية المعروفة في الجزيرة في صدر الإسلام، وكذلك إلى شعراء ينتمون إلى هذه القبيلة مازالت الذاكرة العربية تردد أشعارهم إلى اليوم، وينظر الباحثون إلى ظاهرتهم على أنها من أنبل وأجمل ظواهر الحب والعشق في التراث العربي.

فإذا عدنا إلى تاريخ العرب، وإلى قبيلة بني عذرة بالذات، أمكننا العثور على ما يرسم تصورهم للحب، أي إلى تعريف يقترحونه لمكابداتهم هذه في «روضة المحبين ونزهة المشتاقين» لابن قيّم الجوزية، يرد: «قال سفيان بن زياد: قلت لامرأة من عذرة رأيتُ فيها هوى غالباً خفت عليها الموت منه: ما بال العشق يقتلكم معاشر عذرة من بين أحياء العرب؟ فقالت: فينا جمال وتعفف، والجمال يحملنا على العفاف، والعفاف يورثنا رقة القلوب، والعشق يُفني آجالنا، وإننا نرى عيونا لا ترونها».

يشيع الصدق في كلام هذه السيدة «العذرية» تشرح ببساطة ما بدا عليها لسفيان بن زياد، كما تشرح له خلفية ما بدا من صفات وخصائص قبيلتها من جمال وتعفف. الظاهرة إذن تاريخية وأصيلة في آن. وُجدت قبيلة بين قبائل، أو أحياء العرب عُرفت بنزعة تطهّر وروحانية وتبتّل في الحب عبّر عنها شعراء كثيرون خرجوا منها (ومن قبائل أخرى أيضاً) لا يمتنع أن يكون هناك تفاوت أو اختلاف بين هؤلاء الشعراء في التعبير عن مشاعرهم أو في درجة النرجسية أو الصدق التام لمبادئ العذرية - إن جاز التعبير - عندهم. لذلك يبدو التعميم الذي لجأ إليه صادق جلال العظم في وصف ظاهرتهم تعميماً متعسفاً لأنه هدم أسس هذه العذرية واستخف بها أصلاً وفصلاً، في حين أن ما قدمته، سواء لشعر الغزل العربي أو لقاموس العشق والعاشقين، هو أجلّ وأكرم مما صوره أو قدمه.

ولعل التصور الذي يقدمه الدكتور الطاهر لبيب للحب العذري في كتابه «سوسيولوجيا الغزل العربي/ الشعر العذري نموذجاً» (المنظمة العربية للترجمة في بيروت) هو التصور الأقرب إلى التاريخ وإلى الصحة من أي تصور آخر يتصل بتشخيص هذا الحب.

يرى الطاهر لبيب أن مجموعة بني عذرة مجموعة اجتماعية محددة اعتنقت نمطاً من الحب حمل اسمها، بقطع النظر عما إذا كان ولد فيها أو نُقل إليها. هذه المجموعة نسبت إلى نفسها، كما نُسب إليها، هذا الحب فتماهت معه وعبّرت عنه. وكان هذا في مرحلة أدبية مفصلية ظهر فيها شعر حضري صريح «الإباحية» لنعتبر إذن مجموعة بني عذرة عينة ممثلة لمن يسمون عذريين، وذلك تيسيراً للتحليل واقتراباً من الواقع الملموس، وسواء أكانوا من أصول جنوبية أم لا، فإن بني عذرة وهم من جذام المتفرعة عن قضاعة، استقروا في وادي القرى، بدءاً من فترة غير معروفة، ولكنها بكل تأكيد سابقة للإسلام، ووادي القرى هو في الجزء الجنوبي الجاف من المنخفض الواسع الممتد من العُلا إلى مستوى خيبر والذي يمدده وادي الحمض إلى المدينة. وعلى الحدود الشرقية لهذه المنطقة توجد مدينة ثمود التي سميت لاحقاً مدائن صالح. وكل المعطيات المتوافرة تبعث على الاعتقاد بأن ثروات منطقة وادي القرى النسبية لم تكن من نصيب بني عذرة. هناك إشارات إلى أن مواطن بني عذرة كانت قبل الإسلام قد سكنتها أسر من اليهود. وهناك غياب لأي تعلّق بالحياة التجارية، بل وحتى الفلاحية، في الشعر المنسوب إلى شعراء بني عذرة. هناك، على العكس من ذلك، إيحاء متكرر بالانتماء إلى نمط رعوي وإن لم يكن فيه ما في الشعر البدوي من افتخار بالحياة الرعوية.

على أن دراسة المجموعة العذرية تلاقي صعوبات جمة بنظر بعض الباحثين، ومنهم الطاهر لبيب، إذ المنتمون إليها، عن طريق الشعر، لا ينتمون كلهم إلى قبيلة بني عذرة التي سكنت وادي القرى. لقد نشأوا متفرقين جغرافياً: عبدالله بن عجلان هو من قبيلة نهد، جنوب الجزيرة العربية، شمال غرب نجران، في اتجاه مناطق مكة والطائف. أما مجنون ليلى فتعيده الروايات إلى قبيلة عمرو بن صعصعة، الساكنة أيضاً مناطق مكة. وأما جميل بثينة، فأغلب الاحتمال أنه قضى أغلب عمره في وادي القرى، شمال المدينة. واختلاط الأنساب هذا يزيد الأمر تعقيداً، إذ لا يندر أن نجد فرع قبلية في شجرات نسب مختلفة، وهذا ينطبق بوجه خاص على تلك القبائل التي أخذتها الهجرات الكبيرة في اتجاه اليمن ثم نحو الشمال. ومهما كان الأمر فالأرجح أن أولى المراحل المعروفة في مسار العذريين كانت الهجرات المتتالية التي عرفتها قبائل الجنوب نحو الشمال بداية على الأقل من القرن السادس بعد جفاف الجوف اليمني إثر انهيار سد مأرب، أواسط ذاك القرن. وقد ذهب الباحث الفرنسي فاديه إلى أن الأسطورة العذرية التي نشأت مع عبدالله بن عجلان والتي وجدت لدى جميل وعروة ممثلين لها تبدو جغرافياً إسقاطاً على شمال المدينة لذكريات أو لأعراف كان مهدها منطقة تقع في الجنوب الشرقي من مكة، على مشارف اليمن. نشأت في القبائل المحيطة بمكة، ثم انتقلت لاحقاً في العهد الإسلامي إلى بني عذرة بتأثير من النخبة المدينية المكية وجماعات النعمان بن بشير وابن أبي عتيق.

على أن المهم في الموضوع أن العذرية حالة أصيلة لدى عاشقين كثيرين وليست مجرد حالة شعرية خالصة، أو حالة نفسية يتلبسها الشاعر لكي تظهر مفاعيلها في قصيدته. إن الجوع العاطفي يؤجج المشاعر بالطبع، ولكن الشاعر العذري لم يكن يلجأ إلى هذا الجوع عن سابق تصور وتصميم، وإنما كان يجد نفسه جائعاً فيكتب من وحي ما هو عليه. وحتى عندما كان يلقى حبيبته، فإنه لا يطفئ جوعه بل يستمر عليه. ثمت عفة مركوزة في ذاته يؤججها البعاد بالطبع ولكن لا يطفئها اللقاء. ومن الظلم لهذا العاشق تصويره بصورة الذي يتقصد الفراق لكي يصل بقصيدته، لو بحالته النفسية، إلى أعلى الذرى. قد يكون في هذه العذرية الكثير من الحلم والبراءة وحتى الأسطورة. ولكن كل ذلك من لزوميات العاشق والشاعر وحتى الإنسان. وباستطاعة علم النفس أن يقدّم بالطبع الكثير من التحليل بشأن الحب العذري. ولكن صفحة هذا الحب لا يجوز قراءتها باستخفاف أو تهوين وبخاصية على ضوء التحليل الماركسي وما إليه، كما فعل صادق جلال العظم في كتابه.


.
 
أعلى