محمد خليفة صـديق - فـلسفة الحُب في الإسلام.. منظور الإمام ابن قيم الجوزية

بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة:
الاسلام كديانة سماوية له رؤية خاصة حول الحُب كعاطفة إنسانية أصيلة؛ وقد حفلت النصوص الإسلامية من قرآن كريم وسنة نبوية بالحديث باستفاضة عن هذه العاطفة، كما تعمق عدد من المفكرين وأهل العلم بهذا الشأن في سبر أغوار الحب ومعالجة كل ما يتعلق به باستصحاب رؤية دين الاسلام .
والاسلام حرص منذ بواكير ظهوره ببلاد العرب على غرس المحبة بين الانسان وأخيه الانسان، والقرآن الكريم يربي المسلمين في مجال العلاقة مع الآخر علي العمل لصالح البشرية ونفع الخلق عبر الحوار والتواصل والتلاقي الانساني الذي تحث تعاليم الاسلام عليه، وعندما ندرس تعاليم الاسلام وتوجيهاته بعمق نجده في كل تعاليمه وإرشاداته يهدف الى إيجاد مجتمع متحاب متعايش ومتعاون بين أبناء الاسلام ومن يشاركونهم الدار والوطن أو من يشاركونهم في الأخوة الانسانية .
ومسالة الحُب كغيرها من الميول الانسانية هي من صميم الفطرة الانسانية وتسير بشكل طبيعي تتناسب مع كل الميول التي تهذبها التربية العملية لتصويب مسيرة الانسان باتجاه الخير في المستقبل ، ولما تتمتع به من أهمية نجد أن الإسلام ناقش أمرها باستفاضة ووضع لها من الأسس والضوابط مايضمن سيرها في الإتجاه الصحيح الذي يتماشى مع تعاليم الاسلام .
والحديث عن موضوع الحُب في الاسلام فيه بيان أن الإسلام كان حريصاً على غرس المحبة بين الإنسان وأخيه الانسان، والإسلام الصحيح أرسى أفضل القواعد للعلاقات الانسانية بين الأفراد والأمم والشعوب بصرف النظر عن الإختلاف في العقيدة اواللون اوالجنس على قاعدة من الوسطية والتسامح والعدل.
والمعرفة في الإسلام سابقة للمحبة، فالحُب يترتب على المعرفة التي يؤكدها القرآن الكريم ويرتب عليها العقائد كما قال تعالى :" فأعلم أنه لا اله الا الله ..." الآية، أي أن علمك بالله ومعرفتك به تسبق الإعتقاد فيه ، والذي يوجب بعد ذلك طاعة أمره بالرحمة والتسامح والمودة للناس ومحبتهم وجلب الخير لهم، وغيرها من المشاعر التي تجيش في نفوس المسلمين والتي تعبر عن مدلول الحب الحقيقي الذي يمتد لرسل الله الكرام وخاتمهم الرسول محمد صلى الله عليه وسلم.
سنحاول من خلال هذه الورقة التعرف علي فلسفة الاسلام في تناول موضوع الحُب من خلال المصادر الاسلامية في الكتاب والسنة والسيرة وغيرها ، ونظرة الإسلام لهذه العاطفة ومكانتها في الإسلام، كما ستنحو الورقة لتركز أكثر علي منظور الإمام ابن قيم الجوزية للحب من خلال التعرف علي الإمام نفسه ،ثم علي أسماء الحب المختلفة التي يوردها مع الإختلافات بينها وإشتقاقات هذه الأسماء ومعانيها، ونسبة هذه الأسماء بعضها إلى بعض ، وأسباب ودواعي المحبة ومتعلقاتها ، ومناقشة مقولة إبن القيم "أن العالم العلوي والسفلي إنما وجد بالمحبة ولأجلها" وغير ذلك من المعاني التي يباشرها الإمام ، خلوصاً الي تلمس ملامح البناء الفكري المتماسك للحب عند ابن القيم مع خلاصة وتوصيات للورقة .
أهمية الحب في الإسلام:
وردت كلمة الحُب ومشتقاتها في القرآن الكريم 95 مرة ، مما يدلل علي المكانة السامية التي يضعها القرآن الكريم لهذه العاطفة الوجدانية، وتراوحت استعمالاتها بين مفهوم الحب المعنوي مثل حب العدل والإحسان والخير والتقوي ، وبين الحب المادي مثل حب المال والبنين ومتاع ولذات الدنيا ، والحب المتبادل بين الرجل والمرأة كما في قوله تعالى:"وقال نسوة في المدينة إمراة العزيز تراود فتاها عن نفسه قد شغفها حباً ... الآية ، وحب الأطفال كما في قوله تعالى :" وألقيت عليك محبة مني ولتصنع علي عيني" ، وحب الآخر الوافد كما في قوله تعالى:" والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ...الاية وحب الآخر الملّي الذي يخالف المسلم في المعتقد والدين كما في قوله تعالى:" ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصاري ...الاية ، واستعمالات أخري تنسجم مع المضامين الحقيقية للرسالة الاسلامية القائمة علي المحبة مثل حب الآخرين والحرص علي تقديم الخير لهم ، ويظهر ذلك جلياً في قوله تعالى :" إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين " ، فقد كان النبي محمد صلى الله عليه وسلم حريصاً علي هداية الذين يحبهم من الناس الي دينه ، وهو يحبهم رغم أنهم يخالفونه في الدين والمعتقد ، فأكد له الله تعالى أنه لا يهدي من يُحب من الناس لأن الهداية من الله وليست في يد الرسول عليه الصلاة والسلام.
كما ناقش القرآن الكريم بعض المشكلات التي تنشأ عن عاطفة الحب وعدم التوازن في التعاطي معها في بعض الأحيان ومايسببه من مشكلات، حيث ناقش مشكلة النبي يعقوب عليه السلام مع أبنائه، حيث رأي بعض أبنائه أن أباهم يحب بعضهم أكثر من البعض الآخر كما في قوله تعالى:" إذ قالوا ليوسفُ وأخوه أحبّ الي أبينا منّا ونحن عصبة إنّ أبانا لفي ضلال مبين" ، وترتب علي ذلك أن حاولوا قتل يوسف عليه السلام وإبعاده عن والده حتي يخلو لهم الجو ويتمتعوا وحدهم بمحبة والدهم.
كذلك وردت كلمة مودة في القرآن الكريم 29 مرة وهي مفردة متضمنة للحب وقرينة له، ومن ذلك قوله تعالى: "عسي الله ان يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة... الآية ، أي سيجعل الله للذين كانوا أعداء لكم في يوم من الأيام سيجعل لهم محبة في قلوب الخلق ، ومن ذلك أيضاً قوله تعالي:"وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآياتٍ لقوم يتفكرون" ، أي وداداً وتراحماً وشفقة وحباً بين الرجل وزوجته في ظل عصمة النكاح ، يعطف بعضكم علي بعض من غير أن يكون بينكم_قبل ذلك_معرفة ، فضلاً عن مودة ورحمة. . والسكن هنا ليس سكن المنزل والمبيت بل سكن النفس وراحة الروح وطمأنينة القلب، لأن الحب بين الزوجين طاهر رائع جميل فيه الرحمة والود
والحُب هو أصل كل دين سواء أكان حقاً أم باطلاً ، فإن الدين يتكون من الأعمال الباطنة والظاهرة والمحبة أصل ذلك كله، والدين هو الطاعة والعبادة والاخلاق... والدين الباطل لابد فيه من الخضوع والحب كالـعبادة سواء بخلاف الدين الـظاهر، فـإنه لايسـتلزم الحب وإن كان فيه إنقياد وذل في الظاهر" .
ودين الاسلام من أبرز مرتكزاته معرفة الله ومحبته فإذا تمت محبة الخالق إستوجب ذلك محبة المخلوقات خاصة الانسان الذي استخلفه الله في الارض . وقد تضمنت نصوص الدين الإسلامي دعوة عميقة للمحبة والبر والإحسان ، تبدأ بحبِ الله تعالى وهو أسمى أنواع الحب ، وحبّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحبّ الناس لله ، وحبّهم بعضهم لبعض؛ وحب مظاهر الكون وعدم تدميرها والاعتداء عليها.
وحب المؤمن لله هو حبه له لذاته ولكونه أهلا للحب وإذا غرست محبة الله في القلب ، وسقيت بماء الاخلاص ومتابعة الحبيب اثمرت أينع الثمار وآتت أكلها كل حين بإذن ربها... ولايزال سعي المحب صاعداً الى حبيبه لايحجبه دونه شيء ، ويتبع ذلك رفع الدرجات والتزكية وانفعال الإنسان النفسي نحو الله والانس بذكره لأنه هو الذي أوجده من العدم وزوده بكل مايحتاج اليه في الحياة من عقل ووجدان وجسم مكتمل، كما قال تعالي:" لقد خلقنا الانسان في أحسن تقويم" .
ودعوة دين الاسلام لحب الله جاءت لما نعلمه من صفات كماله ولما يصلنا من نعمه وفضله ورحمته ، وكان من دعاء النبي داوود عليه السلام:"اللهم إني أسألك حبك وحب من يُحبك والعمل الذي يبلغني حبك ، اللهم أجعل حبك أحبّ اليّ من نفسي وأهلي ومن الماءِ البارد علي الظمأ"
الإطلاع المعمق علي نصوص الاسلام يشير الي أن دين الاسلام لايمنع محبة الآخر ولو كان علي دين آخر، والحديث عن ان الاسلام يحض علي العنف والكراهية تجاه الاخر تكذبه النصوص والواقع التاريخي طوال الحقب الاسلامية الماضية حيث كان غير المسلمين من يهود ونصاري وغيرهم يعيشون في ديار الاسلام بسلام وأمان ، بل كان بعضهم يتبوأ المناصب العليا في الدولة فكان منهم الوزير والمستشار وغير ذلك.
والحُب يكون لأسباب عديدة منها الدين، والخلق، والقرابة، والجمال، والجنس.. ونحو هذا، فإن كان للدين فهذه محبة دينية يترتب عليها أحكام دينية، وإن كان لغيره فليست بمحبة دينية، بل دنيوية . ومحبة الآخر إذا كانت لأجل خلُقٍ ، أو قرابة، أو جمال ونحو هذا ، فظاهر نصوص الإسلام يدل على جواز هذا النوع من المحبة، ومن أبرز مايمكن الاستدلال به في هذا الصدد مايلي:
1- مودة النبي صلى الله عليه وسلم لعمه أبي طالب ودل علي ذلك حرصه وإلحاحه عليه بالإسلام ، كما دل عليه شفاعته له في تخفيف العذاب عنه ، فلولا المحبة والمودة لقرابته ونصرته ، لما كان هذا منه ، فإنه لم يفعل ذلك مع غيره ، وقد أنزل فيه قوله تعالى:"إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين" ، فذكر محبته له، ولم ينكر عليه؛ لأنها محبة للقرابة، مع تمني الهداية. •
2- ومن الادلة أن النبي إبراهيم عليه السلام لم يتبرأ من أبيه، إلا بعد أن تبينت عداوته؛ أي ثبوت حربه للدين ، فدل على أنه كان قبل ذلك يواده؛ إذ ضد التبرؤ المودة.
3- قوله تعالي:" لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين * إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون" ، فقد أذن تعالى ببر وقسط الآخر من غير المحاربين، وفي البر والقسط قدر من المودة.
4- قوله تعالى:"وجعل بينكم مودة ورحمة" ، أي بين الزوجين، وهذا عام في كل الأزواج مسلمة، أم كتابية، فإذا أجاز الشارع نكاح الكتابية وهي غير مسلمة ، فذلك يفيد جواز مودتها؛ إذ الزواج متضمن للمودة ، فما كان للشارع أن يأذن بالزواج منها، ثم يمنع من مودتها.
5- أمره تعالى ببر الأبوين ، ولو كانا مشركين وصحبتهما بالمعروف والإحسان إليهما، والبر والمعروف والإحسان، يتضمن شيئا من المودة لا شك.
فهذه المحاب دنيوية، ليست دينية، ولها مصلحة راجحة، تبين إنصاف المسلم وسماحته وحسن خلقه، ومكافأته بالمعروف حتى لمن خالف دينه، وفيها كذلك فائدة في الدعوة إلى الإسلام، فقد يُسلم الأبوان، والزوجة وغيرهم لأجل هذه المودة، بعكس ما لو حل مكانها البغضاء والعداوة الكاملة من كل وجه، فكيف لهؤلاء أن يقبلوا بالإسلام؟، وهل يُقبل إلا بالسماحة والإحسان ؟!.
كذلك هذا النوع من المحبة لا يضر أصل الإيمان؛ لأنها أقرب ما تكون إلى الرحمة والشفقة والرأفة، وقد سميت براً، وقسطاً، ومعروفاً، وإحساناً، وهذه أمور مطلوبة في المسلم تجاه الآخر.
وبعد هذه التوطئة حول فلسفة الحب في الإسلام عموماً، نتعرف علي معالجة الامام ابن قيم الجوزية لموضوع الحُب وفلسفته في هذا الصدد، ونبدأ بالتعريف بالإمام نفسه، ثم ملامح تناوله لأمر الحب ومايتعلق به.
من هو ابن قيم الجوزية :
إبن قيم الجوزية من أعلام الإصلاح الديني الإسلامي في القرن الثامن الهجري ، وكان باحثاً حراً أخذ من كل علم ووعي جميع الثقافات التي إزدهرت في عصره في بلاد الشام ومصر، وكان دائرة معارف حية لعلوم عصره ، وكان قوي الشخصية واسع العلم.
وهو أبو عبدالله شمس الدين محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد بن حريز بن مكي زيد الدين الزُّرعي ثم الدمشقي الحنبلي الشهير بابن قيم الجوزية ، واشتهر بإبن قيم الجوزية لان والده كان قيّماً على المدرسة الجوزية بدمشق _ أي ناظراً ومديراً لهاـ مدة من الزمن.
ولد في اليوم السابع من شهر صفر لعام 691هـ الموافق 1292م، له عدد كبير من المشايخ أبرزهم قيم الجوزية والده وشيخ الإسلام ابن تيمية الذي درس على يديه وتأثر به أكثر من غيره ولازمه منذ سنة 712م ، وابن عبدالدائم والإمام الحافظ الذهبي رحم الله الجميع .
أما تلاميذه فهم كثر وأبرزهم الإمام الحافظ ابن كثير صاحب التفسير المعروف والإمام ابن رجب والسبكي والحافظ ابن عبدالهادي المقدسي والفيروزآبادي صاحب القاموس المحيط رحمهم الله .
إشتهر رحمة الله بالدعوة للاجتهاد وعدم الجمود ، ودعا الي تحرر العقول من ربقة التقليد واتسم بسعة الأفق والمعارف المتعددة والثقافة المعمقة، وقد ترك مؤلفات عديدة في الفقه والأصول والتصوف والسيرة النبوية والسياسة والرياضة والطب والتاريخ وغير ذلك.
ومؤلفاته تصل الي 98 مؤلفا ومنها : زاد المعاد في هدي خير العباد ومفتاح دار السعادة ومدارج السالكين بين منازل اياك نعبد واياك نستعين ، وإعلام الموقعين عن رب العالمين ، والفروسية ، والطب النبوي وطريق الهجرتين وباب السعادتين والطرق الحكمية في السياسة الشرعية والجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي وروضة المحبين ونزهة المشتاقين.
توفي _ رحمه الله _ في ليلة الخميس 13/7/751هـ، 1349م وعمره ستون سنة ، وصُلى عليه في الجامع الأموي ودفن بدمشق.
أسماء الحب وانواعه:
يري ابن القيم أن الحُب كلمة غير عادية في مضامينها ومدلولاتها ولذلك أُعطي الحُب حركة الضم التي هي أشدّ الحركات وأقواها لكي تتطابق مع شدة حركة مسماها وقوته ، ولفقه ابن القيم بأهمية عاطفة الحُب في الإسلام ومتلازماتها خصص لها كتاباً منفرداً تزيد صفحاته علي المائتي صفحة هو كتاب روضة المحبين ونزهة المشتاقين ، ولم يكتف بذلك بل خصص فصولاً حول الحب في عدد من كتبه مثل كتاب مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين والجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي وزاد المعاد في هدي خير العباد وكتاب أمراض القلوب وشفائها.
وفي مفتتح مناقشته لموضوع الحب يستطرد ابن القيم في الحديث عن أسماء الحب العديدة في اللغة العربية ، حيث كل اسم له دلالة محددة ويعالج جزءاً من دائرة الحب الواسعة وهذا من أكبر الادلة علي ثراء اللغة العربية وإتساعها لكم هائل من المعاني والإشتقاقات، يقول ابن القيم:" لما كان الفهم لاسم الحب أشد وهو بقلوبهم أعلق ، كانت اسماؤه لديهم أكثر وهذا عادتهم في كل ما اشتد الفهم له أو كثر خطره على قلوبهم تعظيما له أو اهتماماً به أو محبة له ... فوضعوا له عشرات الاسماء منها: المحبة والعلاقة والهوى والصبوة والصبابة والشغف والوجد والكلف والتتيم والعشق والجوى والدنف والشجو والشوق والتباريح والشجن واللاعج والاكتئاب والوصب والسدم والكمد واللذع والحرق والسهد والأرق واللهف والحنين واللوعة والفتون والخبل والرسيس والود والخلة والخِلم والغرام والهيام والوله.
ثم يبدأ ابن القيم في شرح معني كل اسم من هذه الاسماء للحب واشتقاقاته وجذوره في لغة العرب وأشعارها ، ويبدأ بكلمة الحب نفسها فيقول:" قيل أصلها الصفاء لأن العرب تقول لصفاء بياض الأسنان ونضارتها حَبَب الأسنان ، وقيل مأخوذة من الحَباب وهو ما يعلو الماء عند المطر الشديد، فعلى هذا يكون الحب هو غليان القلب وثورانه عند الاهتياج إلى لقاء المحبوب ، وقيل الحب مشتق من اللزوم والثبات ومنه أحب البعير إذا برك فلم يَقم ... وقيل بل هو مأخوذ من القلق والاضطراب ومنه سمي القرط حِبّاً لقلقه في الأذن وإضطرابه ... وقيل بل هي مأخوذة من الحَبّ جمع حَبّة وهو لباب الشيء وخالصه وأصله ، فإن الحَبّ أصل النبات والشجر، وقيل بل هي مأخوذة من الحٌبّ الذي هو إناء واسع يوضع فيه الشيء فيمتلئ به بحيث لا يسع غيره ، وكذلك قلب المحب ليس فيه سعة لغير محبوبه، وقيل مأخوذة من الحب وهو الخشبات الأربع التي يستقر عليها ما يوضع عليها من جَرّة أو غيرها، فسمى الحب بذلك لأن المحب يتحمل لأجل محبوبه الأثقال كما تتحمل الخشبات ثقل ما يوضع عليها ... وأورد إبن القيم غير ذلك.
ثم يناقش ابن القيم حدود المحبة ، فينقل في هذا الصدد أقوالاً كثيرة مثل أنها هي الميل الدائم بالقلب الهائم، وقيل إيثار المحبوب على جميع المصحوب، وقيل موافقة الحبيب في المشهد والمغيب ... وقيل ميلك إلى المحبوب بكليتك ثم إيثارك له على نفسك وروحك ومالك ثم موافقتك له سراً وجهراً ثم علمك بتقصيرك في حبه ، وقيل هي بذل المجهود فيما يرضى المحبوب ، ... وقيل هي مصاحبة المحبوب على الدوام كما قيل:
ومن عجبٍ أني أحن إليهم وأسأل عنهم من لقيت وهم معي
وتطلبهم عيني وهم في سوادها ويشتاقهم قلبي وهم بين أضلعي
وقيل هي أن يكون المحبوب أقرب إلى المحب من روحه كما قيل:
يا مقيما في خاطري وجناني وبعيدا عن ناظري وعياني
أنت روحي إن كنت لست أراها فهي أدنى إلي من كل داني
وقيل هي حضور المحبوب عند المحب دائما كما قيل :
خيالك في عيني وذكرك في فمي ومثواك في قلبي فأين تغيب
وفي معرض حديثه عن أسماء الحب يقول : "الهوى هو ميل النفس إلى الشيء ... وأكثر ما يستعمل في الحب المذموم كما قال الله تعالى :" وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى" ، وقد يستعمل في الحب الممدوح استعمالاً مقيداً ومنه ماورد في صحيح مسلم أن أعرابياً قال للنبي صلي الله عليه وسلم :" جئت أسألك عن الهوى فقال المرء مع من أحب".
ومن أسماء الحب (الشغف) قال الله تعالى :" قد شغفها حباً " قال الجوهري وغيره: الشِغاف غلاف القلب وهو جلدة دونه كالحجاب ، يقال شغفه الحب أي بلغ شغافه ... وأما الوجد فهو الحب الذي يتبعه الحزن وأكثر ما يستعمل الوجد في الحزن ... وأما إطلاق إسم الوجد على مجرد مطلق المحبة فغير معروف ، وإنما يطلق على محبة معها فقدٌ يوجب الحزن .
ثم يمضي ابن القيم قائلاً: " أما الكلف فهو من أسماء الحب أيضاً ، يقال كلفت بهذا الأمر أي أولعت به فأنا كلف به ... وقيل هو مأخوذ من الأثر وهو شيء يعلو الوجه كالسمسم ... والكلف أيضا لون بين السواد والحمرة وهي حمرة كدرة تعلو الوجه".
وأما الشوق فهو سفر القلب إلى المحبوب وقد وقع هذا الاسم في السنة ففي المسند من حديث عمار بن ياسر أنه صلى صلاة فأوجز فيها فقيل له: " أوجزت يا أبا اليقظان"، فقال: لقد دعوت فيها بدعوات سمعتهن من رسول الله يدعو بهن:اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق أحيني إذا كانت الحياة خيراً لي وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي وأسألك خشيتك في الغيب والشهادة وأسألك كلمة الحق في الغضب والرضا وأسألك القصد في الفقر والغنى وأسألك نعيما لا ينفد وأسألك قرة عين لا تنقطع وأسألك الرضا بعد القضاء وأسألك برد العيش بعد الموت وأسألك لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة ". وهذه اللفظة من أسماء الحب ورد في الصحاح أن الشوق والاشتياق نزاع النفس إلى الشيء ... وقالوا لأن الشوق إنما يكون لغائب فلا معنى له مع الحضور، ولهذا إنما يقال للغائب أنا إليك مشتاق ، وأما من لم يزل حاضرا مع المحب فلا يوصف بالشوق إليه، وقالت طائفة بل يزيد بالقرب واللقاء واستدلوا بقول الشاعر:
وأعظم ما يكون الشوق يوماً إذا دنت الخيام من الخيام
وأما الود فهو خالص الحب وألطفه وأرقه وهو من الحب بمنزلة الرأفة من الرحمة ، قال الجوهري:وددت الرجل أوده وداً إذا أحببته، فالود أصفى الحب وألطفه ... وأما الخُلة فتوحيد المحبة ، فالخليل هو الذي توحّد حبه لمحبوبه وهي رتبة لا تقبل المشاركة ... وقيل إنما سميت خُلة لتخلل المحبة جميع أجزاء الروح ... وأما الغرام فهو الحبُ اللازم، يقال رجل مغرم بالحب أي قد لزمه الحب وأصل المادة من اللزوم ، ومنه قولهم رجل غارم من الغُرم أو الدين.
وأما الهيام ففي الصحاح هام على وجهه يهيم هيماً وهيماناً ذهب من العشق أو غيره ، وقلب مُستهام أي هائم والهُيام بالضم أشد العطش، والهِيام كالجنون من العشق ، والهِيام داء يأخذ الإبل فتهيم لا ترعى فيقال ناقة هيماء، والهِيام بالكسر الإبل العطاش.
وأما التعبُد فهو غاية الحب وغاية الذل يقال عبّده الحب أي ذلـله ، وطريقٌ معبد بالأقدام أي مذلل ، وكذلك المحِب قد ذلـله الحب ووطأه ، ولا تصلح هذه المرتبة لأحد غير الله عز وجل ولا يغفر الله سبحانه لمن أشرك به في عبادته ويغفر ما دون ذلك لمن شاء ، فمحبة العبودية هي أشرف أنواع المحبة وهي خالص حق الله على عباده .

العالم وجد بالحب وللحب:
يري ابن القيم أن المحبة هي الحق الذي به خلقت السموات والأرض ، كما أن الخلق والأمر والثواب والعقاب إنما نشـأ عن المحبة ولأجلها ، كما يؤكد ابن القيم أن العالم العلوي والسفلي إنما وجد بالمحبة ولأجلها وأن حركات الأفلاك والشمس والقمر والنجوم وحركات الملائكة والحيوانات وحركة كل متحرك إنما وجدت بسبب الحب ويقصد بذلك أن حركات الأفلاك وما حوته تابعة للحركة الإرادية المستلزمة للمحبة ، فالمحبة والإرادة أصل كل فعل ومبدأه فلا يكون الفعل إلا عن محبة وإرادة حتى دفع الإنسان للأمور التي يبغضها ويكرهها ، فإنما يدفعها بإرادته ومحبته لأضدادها واللذة التي يجدها بالدفع كما يقال شفى غيظه وشفى صدره والشفاء والعافية يكون للمحبوب وإن كان كريهاً مثل شرب الدواء المر الذي يدفع به ألم المرض، فإنه وإن كان مكروهاً من وجه فهو محبوب لما فيه من زوال المكروه وحصول المحبوب، وكذلك فعل الأشياء المخالفة للهوى فإنها وإن كانت مكروهة فإنما تفعل لمحبة وإرادة، وإن لم تكن محبوبة لنفسها فإنها مستلزمة للمحبوب لنفسه، فلا يترك الحي ما يحبه ويهواه إلا لما يحبه ويهواه ولكن يترك أضعفهما محبة لأقواهما محبة، ولذلك كانت المحبة والإرادة أصلا للبغض والكراهة، فإن البغيض المكروه ينافي وجود المحبوب والفعل إما أن يتناول وجود المحبوب أو دفع المكروه المستلزم لوجود المحبوب فعاد الفعل كله إلى وجود المحبوب.
فالعاقل بحسب ابن القيم لا ينظر الى لذة المحبوب العاجل فيؤثرها وألم المكروه العاجل فيرغب عنه، فانّ ذلك قد يكون شراً له، بل قد يجلب عليه غاية الألم وتفوته أعظم اللذة، بل إن عقلاء الدنيا يتحملون المشاق المكروهة لما يعقبهم من اللذة بعدها وإن كانت منقطعة . فالامور في رؤية ابن القيم أربعة:
1- مكروه يوصل الى مكروه .
2- ومكروه يوصل الى محبوب .
3- محبوب يوصل الى محبوب .
4- محبوب يوصل الى مكروه.
فالمحبوب الموصل الى المحبوب قد إجتمع فيه داعى الفعل من وجهين، والمكروه الموصل الى مكروه قد إجتمع فيه داعيّ الترك من وجهين ، وبقى القسمان الآخران يتجاوز بهما الداعيان، وهما معترك الإبتلاء والإمتحان ، فالنفس تؤثر أقربهما جواراً منهما وهو العاجل ، والعقل والايمان يؤثرا نفعهما وإبقائها والقلب بين الداعيين وهو الى هذا مرة والى هذا مرة وههنا محل الابتلاء شرعاً وقدراً.
وفي ذات المنحي يشير ابن القيم الي أن الحب أصل كل عمل من حق وباطل ، فأصل الاعمال الدينية حب الله ورسوله كما إن أصل الاقوال الدينية تصديق الله ورسوله ، وكل إرادة تمنع كمال حب الله ورسوله وتزاحم هذه المحبة وشبهه منع كمال التصديق في معارضة لاصل الايمان أو مضعفة له، فان قويت حتي عارضت أصلى الحب والتصديق كانت شركاً أكبر، وإن لم تعارضه قدحت في كماله وأثرت فيه ضعفاً وفتوراً في العزيمة والطلب وهى تحجب الواصل وتقطع الطالب وتنكي الراغب.
ويعتبر ابن القيم أن جميع حركات العالم العُلوي والسُفلي تابعة للإرادة والمحبة وبها تحرك العالم ولأجلها فهي العلة الفاعلية والغائيّـة، بل هي التي بها ولأجلها وُجِد العالم ، فما تتحرك في العالم العلوي والسفلي حركة إلا والإرادة والمحبة سببها وغايتها ، بل حقيقة المحبة حركة نفس المحب إلى محبوبه ، فالمحبة حركة بلا سكون ، وكمال المحبة هو العبودية والذل والخضوع والطاعة للمحبوب وهو الحق الذي به وله خلقت السموات والأرض والدنيا والآخرة قال الله تعالى:"وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق"
أسباب الحب ودواعيه:
للحب أمور تستدعيه وتوجبه منها جمال المحبوب إما في الظاهر أو الباطن أو هما معاً، فمتى كان جميل الصورة جميل الأخلاق والشيم والأوصاف كان الداعي منه أقوى ، وداعي الحُب من المحِب عند ابن القيم أربعة أشياء : أولها النظر إما بالعين أو بالقلب إذا وصف له ، فكثير من الناس يحب غيره ويفنى فيه محبة وما رآه لكن وصف له ، والثاني الاستحسان فإن لم يورث نظره استحساناً لم تقع المحبة ، والثالث التفكر في المنظور وحديث النفس به ، فإن شُغل عنه بغيره مما هو أهم عنده منه لم يعلق حبه بقلبه ، وإن كان لا يعدم خطرات وسوانح ولهذا قيل العشق حركة قلب فارغ ومتى صادف هذا النظر والاستحسان والفكر قلباً خالياً تمكن منه كما قيل:
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى فصادف قلبا خاليا فتمكنا
والداعي قد يُراد به الشعور الذي تتبعه الإرادة والميل فذلك قائم بالمحِب ، وقد يُراد به السبب الذي لأجله وجدت المحبة وتعلقت به وذلك قائم بالمحبوب ، ونحن نُريد بالداعي مجموع الأمرين ، وهو ما قام بالمحبوب من الصفات التي تدعو إلى محبته وما قام بالمحِب من الشعور بها والموافقة التي بين المحِب والمحبوب وهي الرابطة بينهما وتسمى بين المخلوق والمخلوق مناسبة وملاءمة وهي السبب الرابع للمحبة عند إبن القيم .
ويري ابن القيم أن نقصان المحبة وضعفها بحسب ضعف ثلاثة أمور:
1- وصف المحبوب وجماله .
2- شعور المحِب به .
3- المناسبة وهي العلاقة والملاءمة التي بين المحِب والمحبوب .
فضعف هذه الثلاثة أو نقصها هو الذي يودى لنقصان المحبة وضعفها ، فمتى كان المحبوب في غاية الجمال، وشعور المحب بجماله أتم شعور، والمناسبة التي بين الروحين قوية فذلك الحب اللازم الدائم ، وقد يكون الجمال في نفسه ناقصاً لكنه في عين المحِب كامل ، فتكون قوة محبته بحسب ذلك الجمال عنده ، فإن حبك للشيء يُعمي ويصم ، فلا يرى المحِب أحداً أحسن من محبوبه ، كما يُحكى أن عزّة دخلت على الحجاج بن يوسف الثقفي فقال لها:" يا عزة والله ما أنت كما قال فيك كُثيّر" ، فقالت:" أيها الأمير إنه لم يرني بالعين التي رأيتني بها".
والحب لايتعلق بالمظاهر الخارجية وحدها فلا ريب أن هناك قدر زائد على مجرد الحسن والجمال، ولهذا كانت النفوس الشريفة الزكية عالية الهمة تعشق صفات الكمال ، فأحب شيء إليها العلم والشجاعة والعفة والجود والإحسان والصبر والثبات لمناسبة هذه الأوصاف لجوهرها ، بخلاف النفوس اللئيمة الدنية فإنها بمعزل عن محبة هذه الصفات.
والمحبوب يقسمه ابن القيم لقسمين: محبوب لنفسه ومحبوب لغيره و المحبوب لغيره لا بد أن ينتهي للمحبوب لنفسه دفعاً للتسلسل المحال ، وكل ما سوى المحبوب الحق فهو محبوب لغيره ، وليس شيء يحب لنفسه الا الله وحده ، وكل ما سواه مما يحُب فانما محبته تبع لمحبة الرب تبارك وتعالى . ويؤكد ابن القيم أن أصل دعوة جميع الرسل من أولهم الى آخرهم انما هو عبادة الله وحده لا شريك له المتضمنة لكمال حبه وكمال الخضوع والذل له والاجلال والتعظيم ولوازم ذلك من الطاعة والتقوى.
آثار الحب ولوازمه:
الحب عاطفة عميقة متصلة بواقعها ولذلك يترتب علي حصولها حدوث آثار ولوازم لهذا الحب ، يقول ابن القيم :" المحبة لها آثار وتوابع ولوازم وأحكام سواء كانت محمودة أو مذمومة نافعة أو ضارة من الوجه والذوق والحلاوة والشوق والانس والاتصال بالمحبوب والقرب منه والانفصال عنه والبعد منه والصد والهجران والفرح والسرور والبكاء والحزن وغير ذلك من أحكامها ولوازمها" .
ويري ابن القيم أن المحبة المحمودة هي المحبة النافعة التي تجلب لصاحبها ما ينفعه في دنياه وآخرته وهذه المحبة هي عنوان السعادة ، وضدها هي التي تجلب لصاحبها ما يضره في دنياه وآخرته وهي عنوان الشقاوة ، ومعلوم ان الحى العاقل لا يختار محبة ما يضره ويشقيه وإنما يصدر ذلك عن جهله وظُلمه ، فان النفس قد تهوى ما يضرها ولا ينفعها ، وذلك ظلم من الانسان لنفسه.
ويري ابن القيم أن النفس في تعاملها مع محبوبها تكون علي ضربين:
1- جاهلة بحال محبوبها بان تهوي الشيء وتحبه غير عالمة بما في محبته من المضرة وهذا حال من اتبع هواه بغير علم .
2- عالمة بما في محبته من الضرر لكن يؤثر هواها على علمها .
لكل نوع من أنواع المحبة توابع لها حكم متبوعها ، فالمحبة النافعة المحمودة التي هي عنوان سعادة العبد ، توابعها كله نافعة وحكمها حكم متبوعها فان بكي نفعه وإن حزن نفعه وإن فرح نفعه وإن إنبسط نفعه وإن إنقبض نفعه ، فهو يتقلب في منازل المحبة وأحكامها في مزيد وربح وقوة ، والمحبة المضرة المذمومة توابعها وآثارها كلها ضارة لصاحبها مُبعِدة له من ربه وكيفما تقلب في آثارها ونزل في منازلها فهو في خسارة.
تحليل ونتائج:
ومن تحليل ومقارنة الآيات القرآنية المتعلقة بالحب وآراء إبن القيم حول أمر الحب يمكن الخلوص الي أن الاسلام له رؤية خاصة للحب تتلاءم مع تعاليمه وأحكامه ، وفي هذه الرؤية نجد أن أعظم أنواع المحبة المحمودة في الإسلام هي محبة الله وحده ، وهذه المحبة هي أصل السعادة للإنسان في الحياة الدنيا وفي الآخرة .
كما إتضح أن مدار القرآن الكريم على الأمر بتلك المحبة المحمودة ولوازمها، من محبة للخلق الذي أوله الإنسان_بقطع النظر عن معتقده أوعرقه أو ثقافته_، وليس آخره النبات والجماد والبيئة وكافة مظاهر الحضارة والكون وعدم الإعتداء عليها.
ومما خلصت عنه هذه الورقة أن المحبة هي أبرز ملامح منهج العلاقات الانسانية في الإسلام ، ومتي ما ساد الحب بين الناس وكان حبهم مستنداً الى حب الله استقام أمرهم ونعِموا بالحياة السعيدة ، وصفت نفوسهم من الكراهية والحقد والغِل وساد السلام بين البشر على الارض وانطفأت نيران الحروب والعداوات.
ونستطيع أن نقول أن الحب هو أحد الأسس المهمة في الاسلام للوصول الي حياة مستقرة بين الجميع يسودها السلام والإعتدال والسماحة والرحمة ، وهو صيغة معتبرة للتعايش مع الآخر باحترام.
ومما لمسناه من إستعراض وشرح لنصوص الإسلام حول الحب تبين أن قيمة الحب في الإسلام تعتبر من أسمى القيم التي يقوم عليها المعتقد والإيمان في الإسلام ولذلك هي قيمة أصلية وراسخة وليست طارئة أو مؤقتة .
ملخص ختامي للورقة:
رمت هذه الورقة للتعرف علي ملامح رؤية وفلسفة الاسلام في التعامل مع موضوع الحب وذلك بإستعراض موجز لبعض نصوص القرآن الكريم وغيرها من مصادر الشرع الإسلامي ، ومن خلال رؤية أحد أئمة الاسلام حول الموضوع وهو الإمام ابن قيم الجوزية المأثور عنه مقولة: " الحب أصل كل عمل من حق أو باطل"، ومقولة: " الحب هو الحق الذي به خُلقت السموات والأرض ، كما أن الخلق والأمر والثواب والعقاب إنما نشـأ عن الحب ولأجله"، حيث عالج ابن القيم موضوع الحب في عدد من مؤلفاته مثل كتاب روضة المحبين ونزهة المشتاقين ومدارج السالكين والجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي وكتاب أمراض القلوب وشفائها وغيرها.
تطرقت الورقة للإسماء المتعددة للحب والفروق بينها ، حيث تحدث إبن القيم عن قريبا من ستين إسماً للحب منها : الهوى والصبابة والشغف والوجد والكلف والتتيم والعشق والجوى والشجو والشوق والشجن واللاعج والوصب والسهد واللهف والحنين واللوعة والفتون والود والخلة والغرام والهيام والتدليه والوله والتعبد وغيرها.
كما ناقشت الورقة اشتقاقات هذه الأسماء للحب ومعانيها ، فمثلاً المحبة قيل أصلها الصفاء لأن العرب تقول لصفاء بياض الأسنان ونضارتها حبب الأسنان وقيل مأخوذة من الحباب وهو ما يعلو الماء عند المطر الشديد فعلى هذا المحبة غليان القلب وثورانه عند الاهتياج إلى لقاء المحبوب.
وناقشت الورقة كذلك نسبة هذه الأسماء للحب بعضها إلى بعض ، بجانب دواعي المحبة ومتعلقها وعلامات المحبة وشواهدها ، كما ناقشت بإستفاضة مقولة إبن القيم أن العالم العلوي والسفلي إنما وجد بالمحبة ولأجلها.
وخلُصت الورقة الي أن الإسلام له رؤية متكاملة ومحكمة لأمر الحب ، وتقوم هذه الرؤية إستناداً علي نصوص محكَمة وآراء أئمة مشهود لهم بالقبول وسعة الفقه والأفق وطول الباع في العلم ، مما يؤكد أن أي إشاعة لأجواء الكراهية أوالعنف أو الغلوّ أوالتطرّف أوالتباغض بإسم الإسلام ، هي ليست من الإسلام في شيء.


توصيات الورقة:
1- إيلاء مزيد من الإهتمام بالتراث الديني والعمل علي تبسيطه وتسهيل التواصل معه لإستخلاص بعض خلاصاته الثاقبة في التعامل مع مستجدات العصر.
2- إبراز قيمة الحب والقيم الدينية السامية التي يدعو إليها الإسلام عالمياً وبكل اللغات والوسائل المتاحة للتقليل من التشويه الذي لحق بصورة الإسلام في وسائل الاعلام.
3- تحديد دور واضح ومِفصلي للنُخب الفكرية والثقافية والقيادات الدينية والإعلامية في المنطقة لإشاعة قيم التسامح والتعايش والحب.
4- العمل علي مزيد من التعريف بمكانة الحب في الإسلام وأهمية إبرازه دينياً وثقافياً وسلوكياً بإعتباره الأساس للعلاقات بين العباد وخالقهم وبين الناس بعضهم ببعض على اختلاف عقائدهم وأعراقهم وثقافاتهم.
5- السعي لإيجاد وسائل غير تقليدية لنشر ثقافة الحب علي أنها جزء من تعاليم الدين وإشتراطات التعايش السلمي والمجتمع المستقر الآمن.
6- العمل علي التعريف أكثر برؤية الاسلام للحب لكي تعمل بفعالية في الحد مما يعاني منه العالم اليوم من صراعات وفتن واضطرابات تعود في غالبها إلى تغييب قيمة الحب في العلاقة مع الله سبحانه وتعالى وفي العلاقات بين جميع الناس.



هوامــش :

) سورة محمد ، الآية:19 .
) محمد فؤاد عبد الباقي، المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم،( القاهرة: دار الحديث،2001م)، ص234-236.
) سورة يوسف ، الآية :30.
) سورة طه، الآية: 39.
) سورة الحشر ، الآية: 9.
) سورة المائدة ، الآية: 82.
) سورة القصص، الآية :56.
) محمد سليمان الأشقر، زبدة التفسير من فتح القدير(الكويت: جمعية إحياء التراث،1999م)، ص515.
) سورة الحشر ، الآية: 9.
) محمد فؤاد عبد الباقي، المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم،مرجع سابق،ص 837-838.
) سورة الممتحنة ، الآية: 7.
) محمد سليمان الأشقر، زبدة التفسير من فتح القدير، مرجع سابق، ص 405.
) سورة الروم، الآية 21.
) محمد سليمان الأشقر، زبدة التفسير من فتح القدير، مرجع سابق، ص 533.
) بتصرف من موقع منتديات بربر، علي الرابط: http://www.brbrnet.net/vb/showthread.php
) ابن القيم ، الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي،( القاهرة : دار الريان للتراث ،1988م)، الطبعة الثانية ، ص244- 245.
)عبد المنعم صالح العلي العزي ، تهذيب مدارج السالكين لابن القيم،( القاهرة : دار التوزيع والنشر الاسلامية ،1997م)، ص455.
) سورة التين، الآية رقم4.
) عبد المنعم صالح العلي العزي ، تهذيب مدارج السالكين لابن القيم، مرجع سابق، ص461.
) د. لطف الله بن ملا خوجه ، مقال بعنوان : هل نحب غير المسلم ؟ ، موقع مكتبة المشكاة ، موجود علي الرابط :
صورة مفقودة
.
• أنظر صفحة 3 من هذه الورقة.
) سورة الممتحنة ، الاية 60 ،61.
) سورة الروم ، الآية 21.
) أنظر: ابن القيم، روضة المحبين ونزهة المشتاقين،( القاهرة : مكتبة الصفا، 2002م) ، الطبعة الاولي ، تحقيق : خالد محمد عثمان، ص9-16 ، وموقع موسوعة ويكبيديا علي الانترنت، علي الرابط: www.ar.wikipedia.org/wik
) ابن القيم ، مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين ،(بيروت: دار الكتاب العربي ،1973م) ،الجزء الثالث ، الطبعة الثانية ، تحقيق: محمد حامد الفقي، ص11.
) ابن القيم، روضة المحبين ونزهة المشتاقين، مرجع سابق ، ص:26.
). للتوسع في أسماء الحب أنظر: ابن القيم، ، روضة المحبين ونزهة المشتاقين ، مرجع سابق، ص:27-31.
) سورة النازعات ، الايتين : 40، 41 .
) مسلم بن الحجاج ، صحيح مسلم ، حديث رقم :2641.
) سورة يوسف ، الاية:33.
) ابن القيم ، مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين، مرجع سابق، ص:19.
) ابن القيم ، روضة المحبين ونزهة المشتاقين ، مرجع سابق، ص: 56،57.
) ابن القيم ، الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي ، مرجع سابق، ص: 232.
) المرجع السابق ، ص: 232.
) سورة الحِجر، الآية:85
) ابن القيم ، روضة المحبين ونزهة المشتاقين ، مرجع سابق، ص:61.
) ابن القيم، الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، مرجع سابق، ص: 230.
) المرجع السابق، ص:243.
) المرجع السابق، ص:243.

قائمة المصادروالمـراجـع:
القــرآن الكــريم.
1- ابن القيم ، الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي،( القاهرة : دار الريان للتراث ،1988م)، الطبعة الثانية.
2- ابن القيم ، مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين ،(بيروت: دار الكتاب العربي ،1973م) ،الجزء الثالث، الطبعة الثانية ، تحقيق: محمد حامد الفقي.
3- ابن القيم، روضة المحبين ونزهة المشتاقين،( القاهرة : مكتبة الصفا، 2002م)، الطبعة الاولي، تحقيق : خالد محمد عثمان.
4- عبد المنعم صالح العلي العزي ، تهذيب مدارج السالكين لإبن القيم،( القاهرة : دار التوزيع والنشر الاسلامية ،1997م).
5- محمد سليمان الأشقر، زبدة التفسير من فتح القدير(الكويت: جمعية إحياء التراث،1999م).
6- محمد فؤاد عبد الباقي، المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم،( القاهرة: دار الحديث،2001م).
7- مواقع متفرقة علي الشبكة الدولية للمعلومات( الانترنت).






ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مؤتمر فيـــلادلفيا الدولي الثالث عشــر
محـور : الحـب والكراهية في الإطار الـديني
فـلسفة الحُـب في الإسلام.. منظور الإمـام ابن قيم الجوزية
محمد خليفة صـديق
 
أعلى