محمد لطيف‎ - الفقيه والمرأة بالمغرب الأقصى خلال العصر الوسيط -العصر المريني نموذجًا-

إن البحث في موضوع المرأة، واستحضار مختلف القضايا التي يثيرها، لمن شأنه أن يصحح الكثير من المزالق في التفسير والتدليل والتأويل، ويراجع العديد من المعلومات التاريخية المشوهة والمتواترة بالخطأ والتي تفيض بها متون معظم الدراسات الاستشراقية المترهلة، التي اتخذت من موضوع المرأة ميدانًا خصبًا لحبك الكثير من نظرياتها اللامنهجية، وتقويماتها الانطباعية وأحكامها القبلية.

وعلى الرغم من أنّ طرق موضوع موقف فقهاء المغرب الأقصى من المرأة قد أجبرنا على تناول جوانب شائكة ما زالت مثار لجاج بين كافة المهتمين، فإنّ ذلك لم يثنينا عن مغامرة النبش في نظرة الفقيه للمرأة، والوقوف عند أهم الفتاوى التي صاغت سلوكها، وتبين مختلف تأثيرات تلك المواقف والفتاوى في صناعة ذهنية المجتمع المغربي عصرئذ، ومدى انعكاسها على وضعية النساء داخل الأسرة، وغيرها من القضايا التي يعتبر تحليلها مدخلاً حقيقيًّا لاستكناه مجمل التحولات التي طرأت على قضية المرأة في المغرب المريني.

أوّلاً: صور المرأة عند الفقهاء

إذا كان الدين الإسلامي قد وضع مبادئ وشرّع قوانين انتشل بها المرأة من المكانة الاجتماعية المتواضعة والمهينة التي عانت منها عبر عصور قبل الإسلام، فاعترف بإنسانيتها ومساواتها مع الرجل، فالمطلع على مصادر تاريخ المغرب خلال العصر الوسيط بشكل عام، وخلال الفترة المرينية على وجه التخصيص، سيكتشف مدى المجهود الذي بذله العديد من الفقهاء في الحط من قيمة المرأة، والتقزيم من مكانتها، فنظروا إليها نظرة تنمّ عن الإهانة والدونية، وبكل ما يفوح برائحة التعصب والازدراء. ومما يعبر عن ذلك، اعتقادهم الراسخ بأنّ المرأة غير مكافئة للرجل وأقل شأنًا منه، [1] وبأنّها "معوجّة أصلاً وفرعًا"،[2] من الواجب الرفق بها، ومحاولة تقويمها. كما اعتبروها كيانًا مشلولاً، وعنصرًا ناقصًا وعاجزًا لا قيمة له ولا دور يقوم به، وبأنّ وجودها الاجتماعي لا يتحقق إلا من خلال الرجل وتحت ظله. فقد قال أحد الفقهاء، بعدم "حرمة دار لا رجل فيها".[3]

والجدير بالملاحظة أنّ هذه النظرة التي تحط من قيمة المرأة، كثيرًا ما حاولت أن تستمد مرجعيتها من أحد الروافد الهامة المحددة لبنية الثقافة السائدة وهو الرافد الديني؛ فبالإضافة إلى تفسير النص القرآني، وتأويله بما ينسجم ويدعم نسق المعايير والقيم التي تعتبر الرجال قوّامين على النساء، [4] وفضلاً عن الاستناد إلى عدد من الأقوال المنسوبة إلى الرسول التي تفيد بالتفاوت بين الجنسين، لم يتردد البعض في الاعتماد على الأساطير الدينية المدينة للمرأة، على غرار تلك المتعلقة بقصة الخلق[5].

وتعميقًا للنظرة الدونية التي رسموها للمرأة، لم يتورع بعض علماء الحقبة المرينية وفقهائها، عن تشويه صورة النساء ومسخ معالمها، فكالوا لهنّ التهم جزافًا، واستنزلوا عليهن كل أصناف النعوت الدميمة، والأوصاف الجارحة التي تحط من قدرهن؛ من ذلك تصويرهم للمرأة على أنّها كائن ضعيف، يفتقد القدرة على المجابهة والدفاع. ويمكن تلمّس هذا التصوير في موقف ابن الخطيب، [6] الذي لم يتردد في وضع المرأة في دائرة ذلك المخلوق البسيط الذي لا يقوى على تحمّل المسؤوليات، ومكابدة قسوة الحياة والصبر على الشدائد.

وفي المنحى نفسه، اقتنع الكثير من الفقهاء بعدم اكتمال دين النساء، فانتقدوا العديد من الممارسات التي عادة ما يقبلن عليها والمفضية برأيهم إلى الكفر والانحراف عن السنّة.[7] فهنّ بنظرهم جاهلات بمجمل أركان الدين الإسلامي من وضوء وصلاة وصيام. والراجح أنّ هذه النظرة التي اجتهد الفقهاء في البحث عما يؤكدها في الواقع، هو ما حدا بالبعض إلى السؤال عن ضرورة اختبار المرأة في عقيدتها.[8]

ومن المفيد أن نشير إلى أنّ بعض المفتين كانوا عاجزين عن التخلّص من هذه النظرة الدونية تجاه المرأة، وحسبنا دليلاً على ذلك، إفتاؤهم بضرورة خضوعها لإرادة الزوج،[9] وإقرارهم بأنّ تدمية الزوجة على بعلها "مائلة إلى الضعف ولا يقام عليها القول بها، لجواز ضربه لها".[10] وذهب أحدهم بعيدًا عندما أجاب بأنّ تطليق الزوجة لنفسها بحكم غياب الزوج يستوجب بعض الشروط، قال: "وما أظنها تتوفّر في نساء هذا العصر".[11]

وفي المنحى ذاته، رفض أحد المفتين من القرن العاشر الهجري/ السادس عشر الميلادي، شهادة النساء، معلّلاً مذهبه ذلك بالقول إنّ من شأنهنّ التحديث.[12] كما وافق الفقيه عبد الله بن يعقوب السملالي الأدوزي (تـ1052هـ/1643م) فقهاء جزولة في إفتائهم بقبول دعوى سفه المرأة لرد ما اغتصب منها من أموال، وبرر ذلك "بجهالتهن فيما يرجع لصوان الأموال وتنميتها، وأنّهن لا يعرفن إلا سياسة البهائم، وتربية الأطفال، وصناعة الطعام".[13]

علاوة على ما سبق، وقع الإجماع بين كثير من الفقهاء على أنّ المرأة عورة تستلزم الحجب والستر، [14] كما عدّوها مصدرًا للشر، ومكمنًا للغدر وعدم الثقة. وتبرز معالم هذه النظرة، في تلك المواقف التي رسمت المرأة أداةً للمكر والكيد، فصوّرت قدراتها الخارقة على الإغراء والخيانة. في هذا الصدد يقول ابن الحاج العبدري "وحيلهنّ في هذا وغيره قلّ أن تنحصر، حتى لقد تلف كثير من الناس بسببهنّ...، فبعض الناس أتلف عليهنّ دينه، وبعضهم نفسه، وبعضهم ماله...".[15]

وبالمثل عُدّت المرأة في نظر بعض الفقهاء مرادفة للشيطان. فهي بمثابة ذلك الجسر الذي يعبر عليه إبليس إلى الرجل لافتتانه وإغوائه، ودفعه إلى الرذيلة. لهذا نُعتن بأنّهنّ "مصائد الشيطان"،[16] ومصدر للأعمال الشريرة، والمكائد العظيمة، لا يسلم المرء منها إلا بتجنب معاشرتهن. وقمين بالإشارة إلى أنّ هذا التمثيل للمرأة في صورة الشيطان، وجد مرجعيته هو أيضًا في بعض قصص القرآن الكريم، وبالخصوص حادثة حواء التي عصت أوامر الله سبحانه، واستسلمت لإغراءات إبليس.[17] فابن الخطيب، [18] عدّ جنس الإناث عمومًا بمثابة النفس الأمارة بالسوء، التي تسعى دائمًا إلى إغراء الرجل وإيقاعه في الخطيئة. أما ابن عبّاد الرندي، فقد جعل المرأة متاعًا دنيويًّا، واعتبر الإقبال عليها مهلكًا، كما وصفها بالنحس والشؤم، حتى أنّه حرم على نفسه النظر إليها.[19]

ثانيًا: الفقهاء وسلوك المرأة

لا يساورنا شكّ في أنّ الذهنية الفقهية التي قدّمت المرأة في صورة الشيطان، واعتبرتها مصدرًا للشر والفتنة، وعورةً لابدّ من صيانتها وحمايتها، جعلت من مسألة خروج النساء من المسائل التي لاقت تنديدًا كبيرًا من قبل جلّ فقهاء الفترة التي نحن بصدد دراستها. ولا غرو، فقد تعالت الأصوات المنادية بالتشدّد في منعهنّ من مبارحة بيوتهنّ، درءًا لما قد ينجم عن ذلك الفعل من "مفاسد"، ودفعًا للشبهات المخلة بآداب الحشمة والعفة.[20] على هذا تواتر القول بأنّ المرأة ليس لها إلا ثلاث خرجات، "خرجة لبيت زوجها حين تهدى إليه، وخرجة لموت أبويها، وخرجة لقبرها".[21]

والجدير بالملاحظة، أنّ العديد من الفقهاء المغاربة قضوا وقتًا طويلاً يفتون في أحوال المرأة وسلوكها داخل البيت وخارجه، فأجمعوا على ضرورة ضبط أفعالها، والمبالغة في ضرب نطاق التضييق عليها،[22] حين دعوا إلى فرض الحجاب عليها فرضًا، بمنعها من الخروج إلى مجالس العلم،[23] أو إلى المساجد،[24] وكذا الذهاب إلى المقابر والمواضع التي يتخذ منها مجالس للتنزّه.[25] كما ألحوا على إرغام النساء على عدم حضور الأعراس والمناسبات حيث يقع الاختلاط والتزاحم،[26] وعلى نهيهنّ عن الغناء على مسمع الرجال.[27] وطالبوا بالتصدي لأيّ تعامل لهنّ مع الرجال الأجانب في خلوات الأزقّة،[28] وقطع عادة خروجهنّ إلى الأسواق وإطالة القعود عند الصنّاع والبائعين لما في ذلك من أمور منكرة، ولما قد يفضي إليه من الفواحش.[29] مثلما دعوا كذلك، إلى إجبارهنّ على عدم حضور مجالس السماع والوعّاظ وتفادي الخروج بالضيق من اللباس والقصير منه، والتخلي عن أنواع الزينة.[30] كما شددوا على الاحتراز من المرور بالأماكن المأهولة، وتحاشي كل ما يجعلهنّ مصدر إثارة للرجل.[31] في هذا الصدد نصح ابن الحاج العبدري الخياط بتجنب تفصيل أو خياطة الملابس الضيقة والقصيرة، لأنّ في ذلك "إعانة على الزنا... وعلى الحرام".[32]

وعلى كل حال، فالظاهر أنّ تلك القيود التي دعا إليها الفقهاء، والمحاذير التي تطالب بمنع المرأة من الاختلاط بحجبها عن الناس، لم تكن بكافية لقمعها عن الخروج، وناجحة لإفشال كل سبل اللقاء المباشر مع الرجل. شفيعنا في ذلك التجاء بعضهم إلى البحث عن المزيد من التدابير العملية الكفيلة بتحقيق هذه الغاية. ولعلّ من النماذج المعبرة في هذا الاتجاه، الفقيه أبا الحسن الصغير الذي لم يتردد حين تولّى خطة القضاء في مدينة فاس، ولاحظ استفحال ظاهرة خروج النساء، في الاستعانة بعدد من الأعوان لمنعهن من ذلك، بل وخصّص جزءًا من مداخيل الأحباس لتلطيخ أكسيتهنّ، حتى انتهين عن ذلك بشهادة معاصريه.[33]

وعلى النهج نفسه سار محمد أبو عبد الله الهبطي في القرن العاشر الهجري/ السادس عشر الميلادي، إذ يخبرنا ابن عرضون في هذا الخصوص، بما قام به في بلاد غمارة من إجراءات راعى فيها التفريق بين الجنسين مراعاة صارمة، على الرغم ممّا كانت تقتضيه حياة هذه المناطق البدوية من اختلاط.[34]

إنّ الدعوة إلى احتباس النساء في زوايا البيوت، وعزلهنّ عن المجتمع، لم تكن مجرّد مواقف فقهية، بل كانت قاعدة سلوكية روّج لها بعض من الفقهاء أنفسهم، حين أمعنوا في شحذ العامة للتحوّط في حجب النساء، وحجزهن داخل المساكن.[35] في هذا المنحى أفتى أحمد القباب بمنع الإمامة على الزوج الذي كانت زوجته تخرج متبرجة، وبادية الوجه.[36] وذهب بعض فقهاء فاس خلال العصر المريني إلى الإفتاء بمنع الزكاة والإمامة على الزوج الذي "لا يغير على زوجته ويرى الرجال جلوسًا معها ولا ينكر".[37] وفي الإطار نفسه جرّح أبو العباس أحمد الونشريسي، في شهادة من له قرينة تخرج سافرة الوجه، وترعى وتحضر الأعراس والولائم مع الرجال، والنساء "يرقصن والرجال يكفون".[38] أما ابن هلال، فألح على عدم السفر مع عرب سجلماسة لأنّهم لا يحجبون حريمهم.[39]

إنّ هذه المواقف الداعية إلى عزل المرأة، وغلق الأبواب عليها، بفرض كل أساليب الحظر لمنعها من الخروج، ومن كل اختلاط مع الرجل، لم تكن من الأمور الجديدة، فهي لم تغب عن اهتمامات القدامى في مختلف مراحل تاريخ الغرب الإسلامي السابقة، لكن الصرامة التي اكتنفتها مقارنة بغيرها خاصة في الأندلس، تحملنا إلى الاعتقاد بأنّها انعكاس لمجموع الخصوصيات التي طرأت على مجتمع الحقبة مدار البحث. ويمكن استجلاء ذلك، من خلال عقد مقارنة بسيطة بين ما نادى به بعض الفقهاء والمحتسبين في كل مجال. ففي الوقت الذي اكتفى فيه ابن عبدون بتنبيه متقبّلي الحمامات المفتوحة للنساء، من الاقتراب من الأماكن التي قد تشرف عليهن،[40] وفي الوقت الذي أفتى فيه أبو القاسم بن سراج بالسماح للمرأة بالبيع والشراء واستئجار الرجال بشرط احتشامها وعدم الخلوة،[41] قضى العقباني بحظر الحمّام على النساء إلا في حالات النفاس والمرض فقط.[42] وأفتى غيره بالتشدد في منع خروج المرأة إلى الأسواق، ومن ممارستها للعديد من الأدوار التي تفرض الخروج. ولعلها مقارنة تدعم ما ذهب إليه عدد من الباحثين الذين اهتموا بالمجتمع الأندلسي، حين أكدوا في دراساتهم على ما تمتعت به المرأة في ذلك المجال من حرية نسبية، ومن وضع متميز.[43]

والواضح من خلال ما نصادفه من إفادات مصدرية، أنّ ما كان للنساء الأندلسيات من تأثير بارز في سلوك نظيراتهن المغربيات، وخصوصًا على مستوى عادة خروجهن ولباسهن،[44] الذي أصبح عند بعض نساء المدن المغربية أكثر أناقة وأقل حشمة،[45] جعل فقهاء الفترة المدروسة يلحّون على ضرورة تخلي نساء الأندلسيين الوافدين عن العديد من العادات المخلّة، في نظرهم، بالحياء والحشمة، من مثل انتعالهن للخفاف الجرّارة التي تحدث أصواتًا عند المشي.[46] ولعل هذا ما يبرر ذلك التحفظ الذي أبداه بعض المغاربة في تعاملهم مع الأسر الأندلسية الوافدة؛ فسكان مدينة سلا كانوا يرفضون كراء البيوت للأندلسيين، بدعوى أنّ نسائهم سافرات.[47]

ثالثًا: مظاهر انعكاس آراء الفقهاء على وضع المرأة داخل الأسرة

لا شك أنّ هذه المتغيرات الطارئة على المجتمع المغربي في تلك الفترة من تاريخه، والتي أدت إلى تزايد حدّة نبرة بعض الفقهاء في الدعوة إلى الإغراق في محاصرة المرأة وتكبيل سلوكها، انعكست على وضع المرأة داخل الأسرة، وتحديدًا في علاقتها الزوجية. ومن القرائن المدعمة لهذا التخريج، أنّ بعض الأزواج الذين تأثروا بفتاوى فقهاء الحقبة وآرائهم، لم يكتفوا في تشديد الحجاب على زوجاتهم بما ضربه عليهن المجتمع من قيود، وبما أسدله عليهن من ستائر، بل بالغوا في ذلك حين جنّبوهنّ مجالسة غيرهن من النساء وبخاصة "الأجنبيات" أو الغريبات،[48] وحين منعوهن من زيارة أقاربهن سواء في أفراحهم أو في مآتمهم.[49] واتسع المنع أحيانًا ليشمل كل ظهور لهنّ في الحياة العامة. [50] ولضمان تحقق ذلك لم يتورع البعض من هؤلاء الأزواج عن التلويح بالطلاق في حالة تخطي قريناتهم لعتبة البيت.[51]

ويبدو أنّ عالم المرأة كان من الخبايا التي كان الرجال يضربون عليها الجدران، ويسدّون الأبواب، ويمنعون التطلع إليها. فقد كان من النادر أن يتداول الرجال فيما بينهم في قضايا متعلقة بالنساء، وإن كان لابد من ذلك فكان يتم بالتعريض والتلميح.[52] بل والملاحظ، أنّ العديد من الأزواج كانوا لا يذكرون نساءهم بأسمائهن، وإنّما يشيرون إليهن عادة بعبارات من مثيل "الأهل" أو "العائلة".[53] في هذا الاتجاه لاحظ أحد الجغرافيين،[54] أنّ الرجال المغاربة كانوا شديدي الغيرة على نسائهم، إلى حد أنّهم كانوا يتركون بالمنزل خصيًّا لمراقبة تصرفاتهن.

ولما كان الحجب لا يعني تواري المرأة عن أنظار الغرباء، بل يعني أيضًا منعها شخصيًّا من النظر إلى ما حولها. فقد عمل الأزواج على إلغاء إمكانية كل مخالطة مشبوهة أو غير مشبوهة بين نسائهم وبين الرجال الأغراب، بدعم كل ما يعيق سبل اللقاء بينهما؛ ومما ينهض دليلاً على ذلك، التصميم الهندسي لمنازل المغاربة خلال العصر المريني، والذي خضع كما تثبته بعض الأبحاث الأركيولوجية التي أجريت على مساكن بعض الأسر الفاسية الميسورة التي تعود إلى منتصف القرن الثامن الهجري/ الرابع عشر للميلاد،[55] لمقاييس هدفها الأساسي استتار نساء المنزل عن الضيوف. ولعل هذا ما يظهر من خلال النوافذ الموجهة نحو الداخل، والكوى المعدودة التي تحمي الناظر منها من خطر الرؤية من الخارج، والممر الضيق الذي يفصل الباب الرئيسي للمنزل عن وسطه، والذي يحجب رؤية ما يدور في الداخل، كما يتيح للنساء الوقت الكافي للاختفاء لمجرد أن يجتاز الباب غريب.[56]

إنّ هذا الحرص الذي أبداه مغاربة العصر المريني خاصة في المدن من عدم انكشاف النساء، يساعدنا على فهم ذلك النوع من النزاعات المتكررة بين الجيران، عندما يعمد أحدهم إلى الزيادة في علو داره، أو فتح كوة تشرف على جاره.[57] كما كان ذلك سببًا لبعض الأزمات الاجتماعية التي عرفها ذلك العصر. ويمكن تلمس ذلك من خلال ما أورده علي الجزنائي[58]، عن تداعيات الحادثة التي عرفتها مدينة فاس سنة 710هـ/ 1310م، والتي أفتى فيها الفقهاء بمنع المؤذنين من الآذان فوق الصوامع.[59]

رابعًا: انعكاس مواقف الفقهاء على لباس المرأة

إذا كانت الجدران تحمي المرأة من الأنظار وهي داخل البيت، فإنّ الحجاب والحايك وغيرها من أنواع الألبسة، تخفي وجهها وتستر مفاتنها، عند الخروج ومخالطة الرجال. ولعلّ هذا ما تكشف عنه الأوصاف الدقيقة التي قدمها بعض الجغرافيين لأزياء نساء عدد من حواضر المغرب الأقصى. فالفاسيات مثلاً، كنّ عند خروجهن "يلبسن سراويل طويلة تستر كل سيقانهن، وخمارًا... يغطي الرأس وكل الجسم، ويحجبن الوجه كذلك بقطعة من قماش لا تظهر منه إلاّ عيونهن".[60] أما نساء مكناسة، فكنّ "محجبات بخمارات من الصوف الأبيض الدقيق جدًّا لدرجة أنّ وجوههن لا ترى".[61] في حين أنّ المراكشيات يلبسن عند خروجهن ثيابًا من الحرير والقماش تسترهن حتى الأقدام، وإذا خرجن من الحمام أخفين وجوههن عن عيون الرجال بالخمار.[62]

إذا كانت النصوص السابقة تدفعنا إلى الاعتقاد بانتشار ظاهرة الحجاب لدى جل نساء الحواضر، فإنّ غيرها والمتناثر في عدد من المظان، تجعلنا نميل إلى القول إنّ هذه الظاهرة اتسعت خلال العصر المريني لتشمل العديد من المناطق البدوية التي كانت فيما مضى لا تعير أدنى أهمية لسفور نسائها. فقد ورد في إحدى النوازل التي استفتى فيها أحمد القباب، أنّ قومًا "من أهل البادية لا يحجبون نساءهم ولا يتحرّوْن من الغيبة، ولا يميّزون بين الحلال والحرام، ثم تابوا فاعتزلوا بأنفسهم وحجبوا نساءهم".[63] كما تمدّنا بعض المصادر بشهادات تفيد أنّ عددًا من القبائل أجبرت إناثها على الحجاب، بعدما كانت لا تبدي أيّ حرج في خروجهنّ واختلاطهن بالذكور من الغرباء.[64]

إنّ الفقرات السابقة التي سعينا من خلالها إلى إبراز حدود التأثير التي كانت لمواقف الفقهاء وفتاويهم في واقع النساء، لا يجب أن تجعلنا نعمّم خلاصة أنّ المرأة في المغرب المريني منعت من كل اختلاط بالرجل، ومن الحضور والفعل في الحياة الاجتماعية، وإن خرجت فمن الواجب عليها إحكام تغطية وجهها وجسمها بمختلف أنواع الأكسية، فثمة دلائل أخرى تحمل إشارات واضحة تثبت أنّ حجب النساء وحجزهن في البيوت، لم تشكل القاعدة العامة، وتفنّد ما ذهب إليه العديد من الدارسين الأجانب، ومن حذا حذوهم من المغاربة، حين عمموا فكرة أنّ فرنسا هي من قامت بتحرير المرأة من الواقع الذي اختزلها في النصف غير الفاعل، والمقموع الذي أسدلت عليه ستائر الظلام.[65]

في هذا الاتجاه، تمدّنا المصادر بمعلومات غزيرة تكشف أنّ الصرامة والشدة اللتين أبداهما الكثير من فقهاء المغرب الأقصى خلال العصر المريني، لم تكونا كافيتيْن لاستئصال ظاهرة خروج المرأة وظهورها بين الناس. فهي تتحدّث، على الرغم من اختلاف منطلقات مؤلفيها وأصنافها، عن أنّ حضور النساء في الحياة العامة كان كبيرًا ومؤثّرًا.

استنادًا إلى ما سبق يمكن القول إنّ ما جاء في كتب الحسبة والمصنفات الفقهية، عن خروج المرأة مبدية زينتها ووجهها لم يبعث من خيال، وأنّ ما كررته بشأن حضورها في الأسواق والأزقة لم يأت من فراغ، بل هو جزء من واقع قد نتفق على نسبيته لكنّه موجود. فقد كانت الخلفية التي أطّرت مؤلفي هذا الصنف من المتون، هي محاربة مجموعة من الظواهر التي اعتبروها بدعًا تتنافى مع المجتمع الأنموذج الذي تصوّروه، لكنّ ذلك ظل مجرد طموح تجاوزه الواقع. ولعل هذا ما يتجلى في اضطرار بعض الفقهاء إلى التعامل معه بنوع من الواقعية والمرونة، حين ربطوا خروج المرأة بالضرورة الملحة وبشروط تقنّنه،[66] وأيضًا عند تحويلهم للخطاب إلى الرجل محذّرين إياه من مخالطة النساء، ومن التعامل معهن. [67]

[1] ابن الخطيب، ريحانة الكتاب ونجعـة المنتـاب، حقّقه ووضع مقدمته وحواشيه، محمـد عبـد الله عنـان، النـاشر، مكتبة الخانجي، القاهرة الجزء الأول، الطبعـة الأولى، 1400 هـ/ 1980م. الجزء الثاني، الطبعـة الأولى، 1401هـ/ 1981م، ج2، ص 118

[2] ابن الحاج، المدخل إلى تنميـة الأعمـال بتحسين النـيات والتنبيه على بعض البدع والعوائد التي انحلت وبيان شنـاعتها وقبحها، طبع على نفقة مصطفى أفندي فهمي الكتبي، وشريكه، المطبعـة العامرة الشريفة، 1320هـ، ج1، ص 159

[3] الونشريسي، المعيار المعرب والجـامع المغرب عن فتـاوى أهل إفريقيـة والأندلس والمغرب، نشر وزارة الأوقاف والشؤون الإسلاميـة، بـالمملكة المغربـيـة، الربـاط، ودار الغرب الإسلامي، بـيروت، 1401هـ/ 1981م، ج10، ص 138

[4]من الآيات القرآنية المعتمدة عادة قوله تعالى: «وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ۚ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ«. سورة البقرة، الآية 228. وقوله عز وجل: «الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ«. سورة النساء، الآية 34. عباس محمود العقاد، المرأة في القرآن، دار نهضة مصر للطبع والنشر، القاهرة، 1976م، ص ص 118-119-120؛ وليلى عبد الوهاب، العنف الأسري الجريمة والعنف ضد المرأة، دار المدى للثقافة والنشر، دمشق، سوريا، 1994م، ص 30

[5]تركي علي الربيعو، العنف والمقدس والجنس في الميثولوجيا الاسلامية، نشر المركز الثقافي العربي، بيروت، ط2، 1995م، ص ص 105- 106

[6]الإحاطة في أخبار غرناطة، حقق نصه ووضع مقدمته وحواشيه، محمد عبد الله عنان، الناشر مكتبة الغانجي، القاهرة، الطبعة الرابعة، 1421هـ/2001م، ج2، ص 285؛ والمقري، نفح الطيب فـي غصن الأندلس الرطيب، وذكر وزيرها لسان الدين بـن الخطيب، دار صادر، بـيروت، 1388هـ/ 1968م، ج6، ص 404

[7]ابن الحاج، المدخـل، ج2، ص 173. ج3، ص 21

[8]الونشريسي، المعيار، ج3، ص ص 86-87-88

[9] ابن هلال، الأجوبة، طبعـة حجريـة، دون مكان الطبع، دون تـاريخ، ص 146

[10] الونشريسي، المعيار، ج2، ص ص 289 -290

[11] الونشريسي، المعيار، ج4، ص 115

[12] العلمي، النوازل، تحقـيـق المجلس العلمي بفاس، منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلاميـة، مطبعـة فضالة، المحمـديـة، 1983م، ج1، ص ص 21-22

[13] الحسن العبادي، فقه النوازل في سوس: قضايا وأعلام من القرن 9 إلى نهاية القرن 14 الهجري، منشورات كلية الشريعة، أكادير، رسائل وأطروحات جامعية-2-، ط1، 1420هـ/ 1999م، ص 174

[14] ابن الخطيب، الإحاطة، ج1، ص 359

[15] المدخل، ج3، ص 52

[16] المصدر نفسه، ج3، ص 52

[17] تركي على الربيعو، العنف والمقدس والجنس، ص ص 105-106

[18] روضة التعريف بـالحب الشريف، عارضه بأصوله وعلق على حواشيه وقدم له، محمـد الكتـاني، دار الثقافة، الدار البيضاء، بيروت، الطبعـة الأولى، 1970م، ج1، ص 166

[19] Paul Nwyia, s.j., Un mystique prédicateur à la Qarawiyin de Fès IBN ABBAD DE RONDA (1332- 1390), Editeur: Impr. catholique (1961), publiées sous la direction de l'institut des lettres orientales de beyrouth, Tome XVII, p 68.

[20] ابن عباد، الرسائل الكبرى، طبعت بتصحيح، أحمد بـن محمـد المهدي بـن العبـاس بـن صابر البوعزاوي، طبعـة حجريـة، 1320هـ، ص 37؛ والمجيلدي، كتاب التيسير في أحكام التسعير، تقديم وتحقيق، موسى لقبال، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر، 1970م، ص 70

[21] ابن الحاج، المدخل، ج1، ص 120

[22] الونشريسي، المعيار، ج2، 537. ج4، ص 130، 420. ج11، ص ص 150، 193

[23] الماجري، المنهاج الواضح فـي تحقـيـق كرامـات أبي محمـد صالح، المطبعـة المصريـة، القاهرة، الطبعـة الأولى، 1923م، ص 260

[24] العقباني، تحفة الناظر وغنية الذاكـر في تغيير المناكـر، مخطوط المكتبة الوطنية، الرباط، رقم 2577 د، ميكروفيلم 1433، (ضمن مجموع)، ص 248؛ وابن الدراج، كـتاب الإمتاع والانتفاع بمسألة سماع السماع، أو اتجـاهات أدبيـة وحضاريـة فـي عصر بني مريـن، دراسـة وإعداد، محمـد بـن شقرون، مطبعـة الأندلس، القنيطرة، دون تـاريخ، ص 130

[25] العقباني، تحفة الناظر، ص 322؛ والونشريسي، المعيار، ج4، ص 420. ج11، ص ص 150، 193

[26] ابن عباد، الرسائل الكبرى، ص 37؛ وابن الحاج، المدخل، ج3، ص 86؛ والونشريسي، المعيار، ج3، ص 252. ج5، ص 250. ج11، ص ص 193- 194

[27] المجليدي، كتاب التيسير، ص ص 70-72

[28] ابن الحاج، المدخل، ج3، ص 86؛ والونشريسي، المعيار، ج5، ص 197

[29] العقباني، تحفة الناظر، ص ص 263، 269

[30]ابن الحاج، المدخل، ج1، ص ص 45- 46

[31] العقباني، تحفة الناظر، ص 268؛ والونشريسي، المعيار، ج2، ص 499

[32]ابن الدراج، الإمتاع والانتفاع، ص 130

[33] الونشريسي، المعيار، ج2، ص 499

[34] ابن عرضون، مقنع المحتـاج فـي آداب الأزواج، الخزانة العامة، الربـاط، رقـم 1026 ك، ص 126

[35] يلاحظ ذلك في تحذيراتهم المتكررة، والتي لا تخلو من صرامة: ابن الحاج، المدخل، ج1، ص 102؛ والعقباني، تحفة الناظر، ص 291

[36] الونشريسي، المعيار، ج2، ص 537. وهو ما أفتى به أيضا أحمد بن عيسى البجائي، ج1، ص 136

[37] المصدر نفسه، ج1، ص 395. ج2، ص 537

[38] المصدر نفسه، ج11، ص 193

[39] الأجوبة، ص 195

[40] ابن عبدون، رسالة فـي القضاء والحسبة، نشر ليفي بروفنسال، ضمن ثلاث رسائل أندلسية في أدب الحسبة والمحتسب، مطبوعات المعهد العلمي الفرنسي للآثار الشرقيـة، القاهرة، 1955م، ص 49

[41] الونشريسي، المعيار، ج5، ص 198

[42] محمد فتحة، الأحكـام والـنوازل والمجتمع أبحـاث فـي تـاريخ الغرب الإسلامي من الـقـرن 12م إلى 15م، بحث لنيل دكـتوراه الدولة فـي التـاريخ، جـامعـة الحسن الثاني، كليـة الآداب والعلوم الإنسانيـة، عين الشق، الدار البيضاء، 1995م، ص ص 720-721. (مرقونة)

[43] إبراهيم القادري بوتشيش، المغرب والأندلس في عصر المرابطين، المجتمع، الذهنيات، الأوليـاء، دار الطليعة، بيروت، الطبعة الأولى، 1993م، ص 43؛ ومحمد فتحة، الأحكام والنوازل، ص 719؛ وعبد العزيز أحمد، "المرأة في الأندلس"، مجلة الكاتب المصري، مج5، ع19، 1947م، ص 522-531؛ ومحمد زنيبر، "المرأة في المجتمع الأندلسي"، مجلة المناهل، ع44، 1994م، ص ص 106-128

[44] مارمول كربخال، إفريقيا، ترجمه عن الفرنسية، محمد حجي، محمـد زنيبر، محمـد الأخضر، أحمد التوفـيق، أحمد بـن جلون، الجمعية المغربيـة للتأليف والترجمة والنشر، مكتبة المعارف للنشـر والتوزيع، الربـاط، 1408-1409هـ/ 1988-1989م، ج2، ص 176

[45] محمد أستيتو، الفقر والفقراء فـي مغرب القرنين 16 و17م، مؤسسة النخلة للكتاب، وجدة، الطبعة الأولى، 2004م، ص 361

[46] الونشريسي، المعيار، ج10، ص 165. ج6، ص 420. ج5، ص 198- 199- 200. ج2، ص ص 499-500

[47] إبراهيم حركات، السياسـة والمجتمع فـي العصر السعدي، نشر وتوزيع دار الرشاد الحديثة، الدار البيضـاء، 1987م، ص 249

[48] الونشريسي، المعيار، ج2، ص 78

[49] المصدر نفسه، ج4، ص ص 297- 298، 418

[50] المصدر نفسه، ج4، ص 216

[51] المصدر نفسه، ج2، ص 64. ج4، ص 211

[52] محمد بوسلام، "الأبعاد التاريخية لنظرة الرجل إلى المرأة"، مجلة أمل، العدد 13-14، السنة 5، 1998م، ص 100

[53] البادسي، المقصد الشريف والمنزع اللطيف في التعريف بصلحاء الريف، تحقيق، سعيد أحمد أعراب، المطبعة الملكية، الربـاط، 1982م، ص 106؛ ومجهول، بلغة الأمنية ومقصد اللبـيب فيمن كان بسبتة فـي الدولة المرينـية من مدرس وأستـاذ وطبيب، تحقيق، عبـد الوهاب بـن منصور، المطبعة الملكية، الربـاط، 1404هـ/ 1984م، ص ص 33، 46

[54] مارمول كربخال، إفريقيا، ج2، ص 172

[55] Maslaw Boris, Terrasse Henri, Une maison Mérinide de Fès, Revue africaine, LXXIX , N° 368- 369, 3- 4e trimestre, 1936 , pp 507-508

[56] روجيه لوتورنو، فاس في عصر بني مرين، ترجمة نقولا زياده، مكتبة لبـنـان، بيروت، 1967م، ص ص 91-94

[57] ابن خلدون، المقدمة، دار الكتب العلميـة، بيروت، الطبعة الأولى، 1993م، ص 322.

[58]جنى زهرة الآس في بناء مدينة فاس، تحقيق، عبـد الوهاب بن منصور، المطبعـة الملكية، الرباط، الطبعة الأولى، 1967م، ص ص 35-54

[59] أجوبة فقهية، مخ. مؤسسة الملك عبد العزيز آل سعود للدراسات الإسلامية والعلوم الإنسانية، الدار البيضاء، رقم 472، ص 229

[60]الحسن الوزان، وصف إفريقيا، ج1، ص 252

[61]مارمول كربخال، إفريقيا، ج2، ص 141

[62]المصدر نفسه، ص 57

[63]الونشريسي، المعيار، ج12، ص 49

[64]مجهول، شرح قصيدة الهبطي في العدة، مخطوط المكتبة الوطنية، الربـاط، ميكروفيلم 1433، (ضمن مجموع)، ص 462؛ وابن عرضون، مقنع المحتاج، ص 110.

[65] Edmond Doutté, Magie et religion dans L’Afrique du Nord, Paris, 1984, pp 42, 84.

[66] المزجليدي، كتاب التيسير، ص 70

[67] ابن الحاج، المدخل، ج3، ص ص 51- 52، 133؛ والعقباني، تحفة الناظر، ص ص 244-245
 
أعلى