عبدالله الجعيثن - المرأة تتغزّل بالرجل

(1+3)
«عشرقة المحاربية» شاعرة عاشت في العصر الجاهلي، ويقول كثير من النقاد إنها تعد أغزل شواعر اللغة العربية، وهي تفخر بهذا الغزل، تقول:
«جريت مع العشاق في حلبة الهوى = ففقتهم سبقاً وجئت على رسلي
فما لبس العشاق من حلل الهوى = ولا خلعوا إلا الثياب التي ابلي
ولا شربوا كأساً من الحب مرة = ولا حلوة إلا شرابهم فضلي»!

ولكن تغزل المرأة بالرجل قليل في أدبنا العربي، بسبب التقاليد الاجتماعية والخوف، وإلاّ فإن المرأة عاطفية أكثر من الرجل وهي إذا أحبت اندفعت جداً وأخلصت، وربما كان هناك غزل كثير للنساء العربيات في من هامن بهم حباً من الرجال ولكن أكثره كتب على الرمال في الخفاء، وبلعت رمال الصحراء عواطف النساء واشعارهن ودموعهن وربما دماءهن.
في العصر الحديث هناك عدة شاعرات تغزلن بالرجل بكل ما في قلوبهن من عاطفة وبشجاعة فائقة، ومنهن (عاتكة الخزرجية، لميعة عباس، نازك الملائكة) عراقيات وسعاد الصباح من الكويت وفدوى طوقان من فلسطين، وفاطمة الدريدي من تونس.. وسنورد لهن بعض الشواهد..

تقول عاتكة:
«الموت إلاّ يوم غدرك.. = والنار إلاّ نار هجرك..
يا سيدي هذي فتاتك = تشتكي لذعات حرك
رحماك هذي طفلة = أولى بعطفك أو ببرك»
يا سيدي كيف السبيل إلى = سلوك أو لهجرك
إن كنت تذنب سيدي = فالقلب يأبى غير عذرك
كن ما تشاء فإنني = لك ما حييت ولا لغيرك»
وقد عاب عليها بعض النقاد تذللها في الغزل كأن الحب لا يذل غير الرجال!

وتقول:
«ما كان ظني سيدي = أنا بلا ذنب نرد
أنصد عنكم مقبلين = وليس فينا من يصد؟
مولاي، هذي مهجة = من حر ما فيها تقد
رحماك لو آسيتها = وجميل عطفك لا يحد
لك في كياني صورة = منها حياتي تستمد
فإذا بدوت لناظري فيا = لسحرك كيف تبدو؟»
لقد أرسلت عاطفتها = بدون أي كوابح اجتماعية..

وتقول فدوى طوقان:
«قلت في عينيك عمق..
أنتِ حلوه..
قلتها في رغبة مهموسة الجرس
فما كنا بخلوه..
وبعينيك نداء..
وبأعماقي نشوه..
أي نشوه..!
أنا أنثى فاغتفر للقلب زهوه،
كلما دغدغه همسك!
في عينيك عمق..
أنتِ حلوة.. انتِ حلوة»!

والفتاة - وخاصة المراهقة - تتوق شوقاً لمثل هذا الكلام «أنت حلوة.. أنت جميلة جداً» والذئاب البشرية يدركون هذا ويضحكون به على البريئات، لأن الفتاة تود التأكد من أنها جميلة ويعجبها أيما اعجاب من يردد على مسامعها هذا الكلام ولو كان أتفه التافهين، وقد تنجرف إلى مخاطر هائلة، ودور الوالدين هنا - وخاصة الأم - ضروري لتوعية الفتاة بحيث لا تقع فريسة لذئاب البشر..

فإذا كانت الشاعرة قد أصابها من هذا الكلام المعسول «في عينيك عمق انت حلوة» نشوة أي نشوة، وهي ناضج في الأربعين فما بالك بالمراهقات؟
ولكن الشاعرات - كما الشعراء - يقولون مالا يفعلون..



(يتبع)..
 
المرأة تتغزل بالرجل
(2-3)
عبدالله الجعيثن
في أعماق كل امرأة عاطفة هائلة، والحب هو الصاروخ الذي يحلق بتلك العاطفة في الفضاء.. تقول حفصة بنت الحاج في زوجها الذي شغفها حباً:
«أغار عليك من عيني ومني
ومنك ومن زمانك والمكان
ولو أني خبأتك في عيوني
إلى يوم القيامة ماكفاني»!
إلى هذه الدرجة! صحيح ان الحب والغيرة يولدان معاً في ليلة ربيعية قمراء.. ولكن الحب مسالم والغيرة متوحشة فقد تقتله.
ومس الحب بجناحه المسحور «علية بنت الخليفة المهدي وأخت هارون الرشيد» فجعلها تغرد بشعر الغزل غير عابئة، حتى أفرد لها صاحب (الأغاني) ترجمة كاملة ج 10 ص 199 ومن شعرها كما ورد في كتاب (الأمالي) ص 224:
لم ينسنيك سرور لا ولا حزن
وكيف ينسى لعمري وجهك الحسن؟
وما خلا منك قلب لي ولا بدن
كلي بكلك مشغول ومرتهن»!
وتختصر «علية» قصة الحب الطويلة في بيت واحد:
«الحب أول ما يكون لحاجة
فإذا تحكم صار شغلاً شاغلاً»
أي ان الحب «ميِّه من تحت تبن» على رأي المصريين..
وتختصر الناس والحب في بيت من الشعر:
«ما أقبح الناس في عيني وأسمجهم
إذا نظرت فلم أجدك في الناس»!
وشخصية المرأة المحبة المحبوبة عطر في زهرة أصابها طل وندى ففاحت روائحها الزكية وتفتحت أكمامها الملونة الجميلة تعب من الندى والنسيم وتفيض بالشذى والعطر على السامعين في شعر يذوب رقة وعاطفة.. سعاد الصباح:
«مولاي ان جاءك هذا الخطاب
أوراقه من شوق روحي لباب
حروفه من ذوب قلبي المذاب
وعطره من كأس حبي رضاب
فلا تكن من لهفتي في ارتياب
ولا تظن القلب أغفى وتاب
مولاي! أنا في انتظار الجواب»!
فدوى طوقان:
نادني من آخر الدنيا ألبِّي
كل درب لك يفضي.. فهو دربي
يا حبيبي انت تحيا لتنادي
يا حبيبي أنا أحيا لألبِّي
صوت حبي.. أنت حبي
انت دنيا ملء قلبي
كلما ناديتني جئت إليك
بكنوزي كلها ملك يديك
بينابيعي، بأثماري، بخصبي
يا حبيبي!»
كلما صوتك ناداني إلى
موعد يحضنه صدر الأمان
عانقت روحي رؤى أمسية
كم تساقى الحب فيها والحنان
عاشقان
نسيا الدنيا عليها والزمان
ليلة فيها حصرنا العمر.. ليلة
أخذت ألوانها من ألف ليلة
من أساطير جواريها الحسان
** نازك الملائكة:
«تعال لنحلم انَّ المساء الجميل دنا
ولين الدجى وخدود النجوم تنادي بنا
تعال نعيد الرؤى ونعد خيوط السنا
ونُشِهد منحدرات الجبال على حبنا»
 
أعلى