محمد الصادق الحاج - سُـــــرَّة

على الضَّحَكات الحديدِ،
هبَّ العنادُ يمشي،
ضافراً
من الوُجُوهِ
متاهتَهَ المشوبةَ
بالآلهةِ المنتحرين يأساً
بثُكَالِ عائلاتهم.
هَبَّ يسحبُ خَلْفَه كلَّ ما أسرفَ كاتبُهُ الخفيفُ في سَرْدِهِ عنه.


1
في اختباراتٍ يسيرةٍ للجُنُون،
كان هذا رحيلاً مطهُوَّاً بحذقِ البناتِ،
ومفتولاً،
كذهبٍ وحيدٍ وحزينٍ،
يتبخَّرُ في أشواقي،
ويختتمُ السَّعَادَاتِ،
بضربةِ مِنْجَلٍ على سَاقِ المَلِكَة.
كُنَّا هناك.
في مراحيضَ ضوئيَّةٍ.
نبدِّدُ الحماسَ،
نُغْدِقُ الْحُزْنَ،
والهتافَ الأخرقَ،
على سيِّداتٍ يَعْبُرْنَ دونما اْهتمامٍ أمامَنا.
يَعْبُرْنَنَا.
يعبُرْنَ عطفَنا الإسْفِنْجِيَّ على مؤخِّراتٍ من زجاجٍ،
تزحفُ لاهثةً،
خلفَ كُوتْشِينةِ الرُّوحِ المَدَنِيَّةِ التَّالفة؛
خلفَ الرّوثِ المعدنيّ الجَافِّ،
لطبولِ الأسواقِ،
المنثورةِ في الفضاءاتِ الصغيرةِ للنفْسِ،
فَزَّاعَاتٍ عاطلةً،
تَبِيْضُ
تحتَها
الحَلاَزِينُ السماويَّةُ
آباراً خفيفةً،
متأثِّرةً بسوءِ التَّخزينِ والتغذية؛
وعليها يضعُ الغرابُ منظارَهُ الشمسيَّ،
وحنينَه الزَّاجل.
كُنَّا بَحَّارةً مقهورينَ،
يُضْرِمُهُمُ السُّعَارُ لاْمْرَأَةٍ في جسدِ أوَّلِ مرفأ،
فيَنْزَعون قبعاتٍ أسطورياتٍ،
ينْزَعون الدبابيسَ من مَاءٍ على أكتافهم،
وينْزَعون الـ،
ينْزَعون،
ينْزَعـ،
ينْآهآه.
بَصْقَةٌ عنيفةٌ كيف أكتبها.
ونداؤُكَ جارحٌ جسدي.
جارحٌ حَدَّ يُدْمِينِي.
حَدَّ لا أحدَ سِوَايَ في الغبار.
وشُهَابٌ في الرُّوح.
يَلْثَغُ بكلامِ الطفولةِ الهَيِّن.
شهابٌ يصحو،
مدغدغاً بسأمٍ عيونَه،
ويغادرُ فراشَ الأبديةِ البارد.
يا عنادي.
شهابٌ في الرُّوح.
لا يَرْأَفُ بالشَّجَرِ النائمِ في دمي.
يركله بطيشٍ.
فأنهضُ من غيبوبةِ العالَمِ،
منحدراً،
كيأسٍ،
إلى قاعِ كارثةٍ صبيَّةٍ،
يَجْرَحُ لبنُها الصّلبُ صدري،
فأفيضُ بالرَّمادِ
والصَّرخةِ السرّيةِ
والتعب.
أنا يا عنادي وحيد.
وأنا رُعَافُ الغيبوبةِ المتقطِّعُ،
الرَّاكضُ
يَخْطُو
مسروراً
على عشبِ النسيانِ الطيِّب.
أنا جدرانُ البحرِ الأنيقة،
الضائعةُ بعطرٍ ذهبيٍّ مزروعٍ في خواصرِها.
أنا حكايتي عَنِّي.
عنك أيُّها العناد.
عن الأبواب.
عن البئرِ الطليقةِ في المدنِ إعصاراً من رِغَاب.
عن سترات ضُبَّاطِ الحربِ الأهليَّةِ،
في الصفحة “43” من كِتَابِ العالَم.
وعن بَيْضَتِنَا الصغيرةِ هذه،
تنمو،
كَعَيْنِ الكوْنِ الإسلاميَّةِ،
تحتَ رُكْنِ الجامع الكبير بالسوق العربي بالخرطوم.
أرأيتَ كيف لسانُ المفارقةِ المشقوقِ يَلدغُ،
دونَ أن يشعُرَ بالأرضِ المسمومةِ،
التي انكشفَت،
حتى سيِّدُ الظُّلُماتِ الخاطئة؟.
لاااااه؛
لكنِّي مَلَلْتُ هذا.
ومَلَلْتُ هذا.
ماااآه؛
مَا مِنْ؛
ما مِنْ أنا.
ما مِنْ سِوَاي.
مِنْ جَسَد.

2
يا عِنَاد.
هَاكَ اسْهَرْ على أشجاريَ المحمومات.
اسْهَرْ على جِرَاحِ الفزَعِ المُحاربِ،
واْمسحْ بكفِّكَ المباركةِ على شَعري.
عَلِّمني أيها العنادُ يُتْمَ الأحذية،
أيضاً؛
أُمُومَةَ الجُثَّة.
هَاكَ مُسَّنِي برشاقةِ التَّعْويلِ على ظِلِّك.
بِلَيْلٍ صغيرٍ،
مُنْزَوٍ في وجهِكَ،
طَمْئِنْ أُسْرَتَكَ السُّوقِيَّةَ على أغذيتِها وأيَّامِها،
مُدَّها بِذخيرةِ ميراثِ الحنانِ والإغْضَاءاتِ المهذَّبة.
وعليكَ،
حين تَتَّسخُ خوذتُكَ بالإشراقاتِ الحمقاءِ،
وترتخي منها أعرافُ الدُّيوكِ،
أنْ تفرح.
هَاكَ تَحَاشَ الانزلاقاتِ المريضةَ في غرامِ النَّفْسِ التي تُعَلِّمُ العصيان.

3
العناد العناد.
بطشَ أحلامي بعرباتِها المتوحِّشة،
يا غَدَ الحواسِّ الطِّفْل.
كَمْ كراهيةً داخلَ حقيبتِك.
كَمْ حيواناً صَنَعْتَ لِلحَصَاةِ الحبيبةِ في تلالِ السُّرْعة؛
السُّرْعةِ العاليةِ،
ذاتِ الشَّعْرِ الأشقرِ،
وغصونِ التَّتْويجِ القيصريَّة.
السُّرْعةِ الممهورةِ رعباً بتوقيعات المباني والسَّاعات.
كَمْ،
يا عنادُ،
سَبَبَاً أعْجَمِيَّاً أَرَقْتَ،
لِتَرْأَفَ بك آهةُ الجُثَّة.
أنْتَ كَثِيبٌ وأقدامُك تلفزيونات مَطِيرة.
كأنَّكَ كأسٌ،
ولَكَ نملٌ حَيٌّ،
منحوتٌ على ساعدِكَ،
يَهْجُو بصيرةَ المراوحِ وبصرَ الأبواب.
كأنَّه ذَهَبٌ.
مجنون.
بمقصلةٍ وحيدةٍ،
منصوبةٍ في الصحراءِ الأُولَى،
يَسَارَ مَوْتِك،
تلهو سَرَاطينُكَ الفضائيَّةُ،
والنُّمورُ،
هذه المَطْلِيَّةُ بالعَدْلِ،
المعطونةُ في عافيةِ الخرابِ
وعُلَبِ الحلوى المغلَّفة.
قُدْ إذَن غَزْوَتَكَ الكونيَّةَ،
ضِدَّ النَّخَّاسينَ المبارَكينَ،
ضِدَّ الخاطباتِ المعدنيَّاتِ،
ذَوَاتِ الثَّدْيِ الواحدِ،
والدَّمِ الكفيف.
مَطَايَاكَ سَرَاطِين،
دُرُوعُكَ مُحارٌ،
سهامُكَ ريشٌ،
وسيوفُكَ وَرَقُ المجلاتِ المصوَّرة.
للأقفاصِ النباتيَّةِ الحَيَّةِ
أنْ تَمُدَّ جُذُوعَهَا مِن داخل جسدِك.
ليس لها النُّمورُ الزرقاءُ،
تَسْكُبُها الماسُورَة المكسورةُ الفصيحةُ في قلبِك.
عنادي عنادي،
دَعْ حسابَ الخساراتِ للغيرِ
ولا تَعُدْ.
وطيدٌ في الغَزْوِ مسكَنُك،
والنهارُ اللسانُ،
المتخبِّطُ من صُورَتِكَ المُبَرْوَزَةِ بالكواكبِ والخَجَل؛
يُطْلِقُ ماشيةَ الحلمِ المجنَّحةَ على مزارعِ الكولاك الفضائيِّينَ،
يُسَرِّحُ كتائبَ المِثْلِيِّينَ الجبابرةِ،
قُرْبَ سَديمٍ نحاسيٍّ،
مُسَوَّرٍ بالشَّوْكِ،
والعُطَاسِ اليابسِ،
محروسٍ بحكمةِ البحرِ،
إذْ يجلسُ ناعساً أمامَ البوَّابةِ،
وقُبُّعتُهُ الشاسعةُ،
المصنوعةُ من سَعَفٍ جِنْسِيٍّ،
تهمسُ للكنوزِ،
في دفاترِ التلاميذِ،
بهَوْلٍ ناعمٍ،
وتُوْمِئُ نحوَ البَوَّابِ
الغَافِي تحتَها
بإشاراتٍ فاحشة.
صُورَتُكَ معلَّقةٌ على قماشِ الخيمةِ،
جَنْبَ الأفكارِ والخرائط،
أمَّا ستْرَتُكَ العسكريَّةُ المُتَّسِخَةُ،
فَشَأْنُهَا الذي لا يُذْكَر.
ضُبَّاطكَ الجغرافيُّونَ،
بعثتَهم ليَجْلُبُوا تُرْمُسِ الأبديَّةِ،
مِنْ مِصْرَ الـ14،
أَحْضَرُوا لك هذه المَرَايِلَ الجديدةَ؛
هذه السُفُنَ الفَضَائيَّةَ المعطَّلةَ،
هذه الفواكِهَ الهرميَّةَ الهيأةِ،
الْبِرَائِحَةِ البارودِ،
شَهِيَّةٌ،
تكمنُ فيها بذورٌ ناطقة.
الضَّابطُ الذي بمعلوماتٍ تاريخيَّةٍ دقيقةٍ،
عادَ بِرِيشةِ حصانٍ في شَعْرِهِ؛
بزهرةِ لوتسٍ
تَمُدُّ أقلامَهَا من تحت سروالِهِ الأبيضِ القصيرِ،
بهذيانٍ متخشِّبٍ في فمِهِ،
بعينين مذعورتينِ،
تَبِيْضَانِ الأثداءَ المعدنيَّةَ،
والأكوابَ المجنَّحةَ،
والتَّقاليدَ الفرعونيَّةَ الرَّاسخةَ في تبادلِ الأَسْرَى والأسلابِ،
مع مندوبي الضَّوْءِ والموسيقَى وسائرِ الأجناسِ الفضائيَّةِ الأُخرى.
الضَّابطُ المؤمِنُ الوحيدُ في كتيبتِكَ الضَّالةِ،
جاءَ مسروراً،
بِخِفَّةٍ،
رَفَعَ إليكَ التَّمَامَ الدُّخَانِيَّ،
وخَفَّ راكضاً إلى طفلتِهِ الصغيرة:
“جُعْتِ”.
نَظَرَتْ إليه بعينينِ فارغتينِ،
فَكَّ أزرارَ سَتْرَتِهِ العليا،
وألقمها ثديَهُ المحتقن.
الآخرونَ،
بالمرح الصقيل بِصَنْفَرَةِ الخشبِ،
تحدَّثوا عن كهنةٍ زُرْقِ الأجسادِ،
ذوي ذيولٍ،
وأجنحةٍ صغيرةٍ،
على جوانبِ راحاتِهِم.

4
فَاْسْمَعْ يا عناديَ السِّيَرَ كُلَّها،
واحْذَرْ أن تسقطَ في فخاخِ الرِّواية.
لا تَـحْكِ لمن لا يصونون الحكاية.
الحكايةُ دائماً يا عنادي أنت.
فَهَاكَ رَمِّـمْ.
رَمَّـم مناطيدَ الحنينِ،
حريصاً على الحبالِ والندم؛
الندمِ الذي يذهبُ بِكُمَا،
في العُلُوِّ
المُتَأوِّهِ
من دَقَّاتِ المعاولِ،
عابراً الجِبالَ والمنتزهاتِ والعَرَاقَة.
أدواتُ نِجَارتِكَ مصنوعةٌ من نكهةٍ مجهولة.
ظَنَنْتُهَا نكهة الإقامةِ المُرَّةِ،
وهي ليست كذلك.
ظَنَنْتُها نكهة الجَذَلِ الأخرقِ،
باقتدارِكَ على أن تكون أنْتَ؛
لا سِوَاكَ،
وهي ليست كذلك.
ظَنَنْتُها نكهة الحربِ البرزخيَّةِ،
المخلَّدةِ في أحشاءِ كُلِّ بِئْرٍ ماشِيَةٍ،
وهي ليست كذلك.
وهي ليست أيَّاً مِمَّا ظَنَنْت.
عالقاً،
حتى الاحتراقِ،
صديقي،
بِدَوَالِي مشيمةِ الفرديَّةِ الثمينة،
كُنْتَ تَرْسُفُ في بَلاَيَاكَ الورديَّة،
ومكتوفاً بكتَّانِ الدُّموع.
ولكنِّي هنا،
أَسْتَنْجِدُ بمعجزاتِ الدُّموع.
أستنجدُ بفُحُولةِ الجَمَادِ،
والجَمَادُ ما يخذل زوجته إلا مُكْرَها.

5
وأنا بَتُولُ الجَمَاد.
أنا الواصلة.
والشَّجَرُ الذي في الجَسَدِ مُرْعِب.
الحيوانُ الذي في الحَجَر.
الطَّائرُ الذي في الكَبِد.
الفَجْرُ الذي في البئر.
اللَّحْمُ الذي في الموسيقَى.
يا لَلرُّعْب،
يا للرعبِ عنادي.
مَا مِنْ جَسَدٍ يَكُونُ حَيَّاً،
إلاَّ يكون بئراً حُرَّةً؛
بئراً ماشيةً،
بئراً طائرةً،
بئراً ساريةً في عاصفةِ النَّهْرِ والأعراس.
فَقُلْ للأقدامِ للأجنحة:
“أيُّها العالَم،
زهرةَ الحياةِ،
ويا قُبْلَةَ الضّوءِ الدَّافئةَ على خَدِّي.
سأكتبُ هَاكَ أُغنيتي البسيطة المجنونة،
زَوْجَةُ سهولتِكْ؛
امتلائكَ،
وتعقيدِكَ السَّامِي”.
ثُمَّ اْصْمُتْ،
حتى تُقَالُ لَكَ:
“غنِّ”.
واْفْرَح
أبداً.
أنت،
يا صِنْوَ الدَّمِ.
ضَجِيعَ الجراثيمِ النبيلة.
صَنَمَ المعابدِ السوداءِ،
الصَّارخِ من شِيَاطِ الرُّوحِ العظيمةِ،
وهي ترقصُ داخِلَهُ،
العَاوِي،
من سُهُولٍ خالدةٍ،
تَمُوْءُ في رهافَتِهِ.
يا لَمِشْيَتِك،
يا لَهَا العَدَمِيَّة.
أنت.

6
عنادي،
أيُّها الجُرحُ الوحيدُ داخلَ عافيةٍ موحشة.
عينايَ شاحبتانِ مِن أرَقِ الخيولِ المتحجِّرِ فيهما.
عينايَ مَجَرَّتانِ مفقودتانِ على ساحلِ الموتِ والجنون.
وأنْتَ كَلِيمُ حُزْنِي وعبوري.
أنت حزني.
يا شارداً في براري بسالتك،
أيُّها الذَّاهِلُ بإتقانٍ
من تحديقِكَ الرَّمْلِيِّ
في ممالك مسروقةٍ
من جيوبِ السواحلِ والأُمنية،
الصحاري الساكنةُ في أقدامِكَ،
تَلُفُّ عمائمَها الزُّرقَ،
تخطو عليك،
مختبِرةً،
بِعِصِيِّها النورانيَّةِ،
مواضعَ الحنينِ في جسدك القاحل.
أنت أيُّها الصَّبِيُّ العابرُ،
يا قرصانَ الهجرةِ والمغامراتِ المرتجلة،
في عيونِكَ الغاباتُ كُلّها،
وشَعْرُكَ يَنُثُّ المرارةَ والجنونَ وأحذيةَ الموتِ البالية،
متى تنام.

7
في مسارحَ بَحْرِيَّةٍ،
مفتونةٍ بالأسى،
وأعوادِ الثقابِ الميتةِ،
والتُّمْبَاك،
أطْرَتِ المتاجرُ المهدَّمةُ على جمال أبوابها،
أخجلَت خوذتي بالمديح.
فَانْتَهِرْها أيُّها العناد:
“كُوني ليسَ غيرَ الشَّجر”.
لأنَّها الشَّجَرَ ما كَانَتْ،
ولا كَانَتْكَ،
لغايةِ الساعةِ،
إذ أنتظركما لتقتلاني.

8
بِجيتارِهِ الحجريِّ،
أمْسُكَ يتجوَّلُ في الحقول،
عازفاً شجراتٍ صامتةً
لأصابعِ الحياةِ القرمزيَّة؛
أصابعِ الموت،
وقميصُهُ المورَّدُ يلهو مع الضّوءِ الصَّدِيقِ،
باعثاً بغمزاتِهِ الشهوانيَّةِ
إلى أحلامِ موانئ فقيرةٍ
تسيرُ فوقَ الغضب.
فاْرْحَلْ أيُّها الطائر.
أيُّها الجنديُّ الباكي،
يا عَيْنَ ألواحِ البُحَيْرَات على معارجِ أكتافيَ،
رقيبَ الأبابيلِ الدَّائخة،
اجْمَعْ شمسَكَ المهشَّمةَ من إنائي،
واْرحل.
شمسُك لم تعد تضيءُ سوى خرابها،
وشمسٌ لا تضيءُ خرابَ العالمِ،
شمسٌ فاسدة.
شمسُك القديمة؛
الضّوءُ المستعادُ من نُبُوَّتِهِ الآخذةِ؛
نُبوَّةِ الفُتُونِ،
إلى نُبوَّةِ الأغلال.
لَـمْلِم
هَـ
ا
كَ
نِ
ي؛
أنا زهرةُ الخرابِ الكُوشِيَّةِ؛
تمثالُ الطبيعةِ الأزليُّ
المنْفَجِرُ جلالاً،
مِن قُبْلَةٍ وحيدةٍ
نَثَرَتْها عليه شفاهُ الظَّلامِ
المتخبِّطةُ في قُرْمُزِ شُحُوبِها.
وفي دمِكَ المهجورِ،
وحيداً،
وقفْتُ وسطَ الغاباتِ اليابساتِ؛
مُلَوِّحَاً بيدِي في عَرَائِكَ الخالدِ،
طارداً طيورَ الشهوةِ،
وبناتِ الحلمِ المجنَّحاتِ،
عن زرعِكَ الطاهر.
خَلَوْتُ بالحياةِ؛
أزرعُها نَسْخاً في ترابِ نفوسي الشَّتَّى،
أسقيها خميرتي،
فتَطْرَحُ
كُلَّ نهارٍ
بنتاً خضراءَ لنا؛
وولداً أزرقَ للطَّيْر.
يتخاصران أمامنا،
تَبِيْضُ البنتُ شمساً،
ويَدْفقُ الولدُ من خصيته شجراً،
تنام الشمسُ،
يَنْدَسُّ الشجرُ فيها،
فَنُغْضِي حياءً.
وحين نصحو،
تلهو أصابعُنا بالحصى،
وعيونُنا مسرورةً تعتني بأولادِ المياهِ،
وهُمْ يمرحون في دمِكَ المهجورِ،
داخلَ غاباتك المتصخِّرات.
كنتُ أضحكُ مِلْءَ يدي،
وكنتَ تغنِّي مع أمسِكَ،
وهو يعزفُ بجيتارِهِ الحجريِّ مِلْءَ العالم.
يا صديقي،
كنتَ تصنَعُ غناءَ الجَماداتِ الساكن.
فماذا يقولُ البحَّارةُ السِّرِّيُّونَ في مَهَابِلِها،
ما غناءُ السَّجِيناتِ المدوَّراتِ في حَشَا وردتنا الغامضة.
نغْسلُكَ أيُّها القرصانُ الجميلُ من حراشفِ الحرقة.
ومن كواكبِ النَّمَشِ الدائخةِ في عَانَتِكَ هذه نغسلك،
نَمْحُوكَ فينا،
نُكْمِلُكَ بأناشيدِ حصادِنا المرتجلة،
نُكَلِّمُ فيك الوِلاَداتِ الحكيمةَ،
والجنسَ بالطقوسِ الباسلة،
نُرْسلُ شعورَنا الزرقاءَ في سُهُولِ ثَدْيَيْكَ الصغيرين،
ونحطِّمُ لَبَنَنَا الكونيَّ على جسدكَ.
فَاْلْعَبْ يا جميل.
سَدِّدْ كُرَاتِ الحنينِ نحو خصورِنا وبَوَّاباتِ سجوننا.
ازْرَعْ كآباتِكَ،
واْرْقُصْ على حقولِنا الطائرةِ التي
هل ترتوي إلا من دفق دَلْوِكَ الحيِّ.
تَدَفَّقْ، تَدَفَّقْ،
دَعْ رؤوسَ السفائنِ،
فجراً،
تطيحُ بالحُرَّاسِ الشِّدَاد على أبوابِ مدنِ الرُّوحِ.
وادْخُلْ؛
دُخُولَكَ وحدك،
يا نهرياً.

9
أزِقَّة الفَجْرِ عَطِنة.
يُطِلُّ من جدرانها الفُطْرُ الذَّكِيُّ،
متوَّجاً بالخسارةِ والبِحَار؛
غَاصَّاً بنجماتٍ خجولاتٍ
يَفُحْن من سَتْرَتِهِ السوداء؛
مزهوَّاً بالفرحِ المَجْدُولِ من عنقه وعينيه.
بَسْ ما أجمل الكَنَّاس،
وهو يُطْرِقُ نحو قمامتِهِ النبيلةِ في أسى.
أرواح البناتِ والصبيان.
أحزمة سراويلِ البحر.
خوذات الجُنود القُدامى.
عيون الأسماكِ الصغيرة.
أغطية الأقلامِ الضائعة.
أحزان القُدُورِ عَدِمَتْ ما يُطْهَى عليها.
أعقاب لفائفِ التبغِ ألْقَاهَا موتَى.
أناشيد عُمَّالِ الموانئِ.
عظام الفجر
نافقاً
وَسْطَ صحراءِ الأجسادِ الوفيرة.
تهشُّ المكنسةُ الفضائيَّةُ الجَميعَ،
بِرِفْقِ يَدَيْه النحيلتين.
يا لمجد الكَنَّاس.

10
وكُنْتَ،
يا عنادُ،
مشتولاً تحت أحداقِها؛
مسطولاً بأُسْرَةٍ صغيرةٍ من الحَنَاناتِ
قَبَعَت تحت قطرَانِ عنايتك،
وكان أَسْرَاكَ يتهامسون بأمل.
يداكَ عنادي ملطَّختانِ بأرواحِ المباني والآلهة.
يداكَ محجوبتان عني بأشِعَّةٍ قادرة.
فكيف أعرفك.
وكيف أعرف الكَنَّاس.
أنا شَمَّاسِيُّ المدينةِ الضائعة.
رَبِيبُ الوحدةِ والهجرانِ والحنينِ والغربة.
تُرْضِع عقاربُ الممرَّاتِ الباردةِ عافيتي،
وتُسَجِّيني زنازينُ الحزنِ على حِجْرِها القاسي.
على نحيبِ الأصدقاءِ الوعرِ مشيتُ،
بقسوةِ ليلٍ جريح.
بمرارةٍ وقهرٍ،
ركلتُ الدموعَ الرهيفةَ.
كانت الدموعُ طُرُقَاً،
الماءُ زوجةً،
العاصفةُ وردتَنَا السوداء،
وكان الجنونُ حرامَنَا.
مشيتُ.
عن كتفي تتدلَّى شهورٌ لاحقةٌ من مصيرِ بَحَّار،
وأمام صدري ترقص قلادةُ الكارثة.
منذورٌ للدمارِ وَحْدَه.
والجسدُ المدسوسُ فِيَّ ينادي.
يدعو نمورَ الدَّمِ الحارَّةِ لوليمتِهِ المحترقة.
يدعو نساءً مغروساتِ الأقدامِ في وحلِ الشمس.
يدعو شغاف الأجنحةِ
كمنَتْ في صندوقِ الرُّوحِ المفقود.
يدعو،
ءااهِ لا،
لا يدعو أحداً،
يدعو جسداً،
يدعو ألجسد.
فيا ظِلَّي،
أيُّها العناد.
سُقْ كنَّاسَنا الكئيبَ إلى متاهةِ الحلمِ المضيئة.
سُقْهُ،
بلا ساقٍ،
إلى مخاضةِ الدَّمْعِ الخشبيَّة.
إلى خَبَّازي؛
خبَّازِ الأبديَّةِ الأخرقِ،
يَسْكَرُ برغيفٍ من تقوى.
فكنَّاسُنا،
يسوق،
كذا،
بقايا الآخرين إلى مَظَانّ لايختارها سِوَاه،
ثُمَّ تناوَلْ مكنستَك الفضائيةَ يا عنادُ،
وقُدْ مَن تنامُ داخلَ أحداقِها
إلى سُعَارِ الموهوبينَ في سرقةِ أدوارِ الحرقةِ والفشل،
كي ترتويَ،
وترى كيف،
حين يَلدَغُ اليأسُ،
يُضِيءُ الرؤوسَ الجميلةَ،
المغموسةَ في تَلٍّ من لدغاتِ الحُبِّ،
مثل إشارةِ المرورِ الحمراء.
مجرمون.
يتوِّجون جِرَارَ الأمنيةِ بصيحاتٍ معدنيةٍ ساخنة.
يَحْجُلُون على حَوَافِّ آبارِ العنادِ المهرِّج.
متفرِّجون هُمْ على مدارجِ سيرك الأبد،
وباعةٌ جوَّالونَ،
يُغَطُّون قُدُورَ الإنسانيَّةِ الفارغةَ
بأطباقِ الرحيلِ من سَعَفٍ ملوَّن.
فَاْرْفَعْ عَصَاكَ النحاسَ،
على مِعْزَةٍ أزْهََرَتْ في جسدي،
لتسير أمامك،
قارئةً وَسَامَةَ الفضاءِ،
وأشواكَ الحضيضِ النبيل،
متصفِّحةً كرَّاساتٍ مهملةً،
في مخازنِ القبائلِ السماويَّةِ الضائعة.
وتأمَّلْ غسيلَنَا الكونيَّ،
منشوراً على حبالٍ خفيةٍ،
فُتِلَت من ضوءٍ وحرقة.
تحسَّسْ آباطَ ملابسِنا المعلَّقة.
واْضْحَكْ؛
ألضَّحِكَ الحتميَّ على المحُاَرِبِ مثلك.

11
يا لإرْخَاءَةِ الجفنِ في عينيها يا عناد.
يا لَشَفَةٍ مائيّةٍ كُتِبَت تحت خصرها.
ها هي تنفرج لك،
أَدْخِلْ حلمتَك البهيَّةَ،
واحْلِبْ في الشَّفََتَيْنِ لََبَنَكَ الحَيّ.

12
هذا
عِطْرُهَا المعدنيُّ
المنهوبُ من سواحلِ الفجرِ المهجور،
بسلاسلِ اللُّغْزِ يصفِّدُ مدناً قديمةً،
وأخرى مستقبليةً،
يَجُرُّ البهائمَ خلفَه
إلى أسواقٍ موسميَّةٍ متفرِّقةٍ،
تُعْقَدُ،
كُلَّ دورةٍ قَمَرِيَّةٍ،
داخل بِئْرٍ أخرى،
على شرفِ الدمعةِ الكونيَّةِ الخالدة.

13
هذا
إبطُها المُسْكِرُ
الراحلُ في نباتاتِهِ الغريبةِ،
يَطْرَحُ بَيْضَاً مُجَلَّداً بالنورِ،
يطْلِقُهُ،
قذائفَ عُضْوِيَّةً حَيَّةً،
على خيال الطِّينِ،
تسقطُ ناشرةً بذوراً لا تُسمَّى.

14
هذا
عواؤها الصَلَوَاتِيُّ
عند سجودِ الجسدِ على الجسد،
يطوف فوق الزمانِ
نُوْناً إلهيةً،
تردِّدُ سَجْعَ الحياةِ الرهيبِ،
ماحِيَاً كتابَ اللَّحْمِ صفحةً صفحة.
كانت مبتلَّةَ الفخذين بمواءِ الكواكب.

15
وأنا راكضٌ بسرعةِ الجَمالِ،
وهو يلاحقُ الخوذاتِ،
خَلْفَ جَعَارِينِ القلبِ البريئة؛
خلف ساعاتِ الرُّوحِ
المشغولةِ بِرَتْقِ ثقوبِ الأبديَّة؛
خلف طيورِ الكَالسيوم المجروحةِ في دِيْنِهَا؛
خلف كَلاَمَاتِ المرأةِ الوحيدةِ هنا.
الرَّكْضُ قُرْبَ يَدِي،
يُضَفِّرُ لي غدائرَ الفجرِ الطويلة باكياً،
ويُرْسِلُ شَعْرَ الشَّوْقِ،
في دغْلِ المغامرةِ الماسِيّ،
أخضرَ،
جارحاً
مُظْلِماً،
كالقُبْلَة.

16
حين خبَّأتُ مطري بين شفتيها،
تكلَّمَت السُّلالةُ مِن هناك.
نَبَتَ اللُّؤلؤُ من أظافرِها حزيناً،
قالت أَحْحْحْحْ.
أَحْحْحْحْ.
جَسَدُ الكَسَلِ لَزِجٌ.
في عينيه ضُمُورُ أُنْثَى.
ويداه المعروقتان تَغُطَّان في صَحْوٍ أزرق.
كُنَّا نمارسُ الُحبَّ بأعضاء مرئيةٍ،
يطحن فيها الدَّمُ الدمَ.
كنتُ جوربَه القزحيَّ،
وخاتمَه المدهونَ بحُبِّ يَتَأَكْسَدُ
كلّما طَفَحَ بِنْصَرَهُ بالعَرَق.
كنتُ رشاقتَه،
وأجنحةَ الغلامِ،
حين البنتُ تخطر.
ولم يكن سوى الكسل،
مجرَّداً لغاية نفسه المنهارةِ خارج كتلة الوجود.
لم تكن فتوحاته القارِّيَّةُ في الجَمادِ
وأوْجُهِ الناسِ
غير نِصَابِ المعنى
كاملاً
حول مائدةِ العدم،
يفتقده سيَّافُ الأرضِ،
يقوِّسُ أعضاءَ الأطفالِ والموتى
بضحكته الضَّارَّة،
يراه الساحرُ قُبَّةً سماويَّةً
تتلألأُ في أعين المحاربينَ،
وهم يبكونَ سِرَّاً
على أكتافِ مجاوَرَاتهم.
أنا،
يا مستغرقاً في العنادِ الذي،
سلالةٌ رجيمةٌ ومجروحة.


.


most-expensive-paintings12.jpg


اللوحة الثانية التي رسمها الفنان النمساوي غوستاف كليمت لزوجة فرديناند بلوخ ...
 
أعلى