ناظم عودة - الموقف من الجنس في الثقافة العربية

يقترن الجنس في الثقافة العربية بـ ( الأخلاق)، و( المحظورات)، و( الإنجاب)، بصورة أساسية، وثمة تفريعات ثانوية لا تبتعد كثيراً عن هذه الأصول. ونظراً لحساسية هذه المسائل من الوجهة الاجتماعية، فإنّ موضوعة ( الجنس) تصطف مع موضوعات جوهرية في الحضارة العربية الإسلامية في مقام واحد. وفي كلّ محاولة لتحديث المجتمع العربي وثقافته، كانت هذه الموضوعة، حاضرة بقوة، ولا يمكن تجاوز الآثار المترتبة عليها مطلقاً. ومن ناحية ثانية، تكشف موضوعة الجنس عن انشطار مخيف في التفكير الاجتماعي العربي، فما يعدّ مقياساً لـ ( الأخلاق النبيلة) على مستوى التصوّر، فإنه ليس كذلك على مستوى الواقع. وقد انتقلت هذه الطهرانية الزائفة، إلى صلب الثقافة والآداب والفنون العربية، إذْ عكفت كثير من الأعمال الثقافية، على طرح رأي زائف ليتطابق مع الرؤية الاجتماعية للجنس، التي هي زائفة هي الأخرى، لأنّ الممارسة الواقعية في واد، والرؤية الاجتماعية في واد آخر. وإذا كانت الثقافة تتبنى موقفاً نقدياً عادةً، يزوغ من كلّ رقابة اجتماعية، أو سياسية، أو دينية، فلا يمكن تسويغ تحوّل هذه الثقافة إلى خطاب مساير للتصورات الاجتماعية، لأنّ هذه التصورات خادعة، تبذل جهداً واسعاً، لتراكِمَ نمطاً من التفكير، أو الاعتقاد، أو الفعل. والقارئ للنماذج الثقافية العالية الأداء، السابقة لزمانها، سوف يعثر على نماذج لا تتفق رؤيتها مع الرؤية الاجتماعية ضرورةً، إنما ثمة نقد جذري لا يقف عند حدّ مطلقاً. ومن المدهش حقاً بالنسبة لثقافتنا، هو أنّ هذه الثقافات تجرؤ حتى على نقد نظامها الثقافي نفسه، ولا تتورع أمام نقد النماذج المقدسة في ثقافاتها، هكذا فعل سبينوزا في نقد التصورات الأسطورية في تفاسير الكتاب المقدس، وهكذا فعل فرويد في نقد التشكل التاريخي العبراني لشخصية النبي موسى ( ع).
لا يعني النقد الجذري عادة، أنّ العقل الذي يخاطبه مجبر على الرضوخ لمقدماته، وفرضياته، بيد أنّ ذلك يُشْعِر طائفة واسعة من المتلقين بحيوية الثقافة التي ينتسبون إليها. وهذه ليست دعوة إلى المساس بمقدسات الثقافة الإسلامية، إنما دعوة إلى نقد بعض التشكلات الكاذبة في ثقافتنا، وهذا النقد ليس من المجلوبات الثقافية الغربية، فقد استمع النبي محمد (ص) إلى شيء من هذا النقد في حياته، كما يروى في كتب السيرة النبوية. وعلى الرغم من أنّ النقد الذي استمع إليه النبي، كان يصدر من قلب لم يتغلغل الإيمان فيه كما يجب، إلا أنه كان يشير إلى حيوية نزعة الشك في تاريخ الثقافة العربية. وإذا توسعنا قليلاً، فسوف يشمل هذا تاريخ التفكير الإلحادي في الفكر الإسلامي، الذي شكّل ظاهرة ثقافية واسعة، كان لها تأثير كبير في نضج النزعة النقدية في داخل الحضارة العربية الإسلامية. وعلينا أن لا ننسى النزعة النقدية لدى المعتزلة، وأبي حيان التوحيدي، والشاعر ابن الحجاج، ومقامات بديع الزمان.
ولا يمكن لثقافة، تتطلع إلى بناء ذاتها، أنْ تهمل تفكيك خطاب الجنس، وتاريخه، وممارساته، وواقعه، وما يرافقه من ثقافة خاصة، وارتباطه بالأخلاق، وتجديد النسل، وبعض المشاكل الاجتماعية، علاوة على تفكيك البنى الوهمية للجنس في الأعمال التخييلية، من شعر، وقصة، ورواية، ومسرحية، وفنون أخرى. لقد كان العلماء العرب المسلمون، لا يترددون من الحديث عن الجنس، من ناحية كونه واقعاً فسيولوجياً، يشغل موقعاً في بنية الجسد الآدمي، أو من ناحية كونه موضوعة للتخييل، أو موضوعة مبهجة للنفس، لأنها تلبّي حاجة من حاجات الجسد. وعلى هذ الأساس، أقدم عالم بوزن جلال الدين السيوطي على الحديث عن فوائد النكاح، في كتابه ( الوشاح في فوائد النكاح)، وفي مقاماته ( رشف الزلال من السحر الحلال). يوفّر الكتاب الأول، مادة علمية غزيرة، لمن يقدم على الدراسة والتحليل والتاريخ، أما الكتاب الثاني، فهو صناعة أدبية متخيلة لعشرين مقامة، مكتوبة على لسان عشرين عالماً، من ذوي الاختصاصات المختلفة، يروون ما جرى لهم في ليلة زفافهم، ويحرص هؤلاء العلماء على رواية ما حدث بمصطلحاتهم التي يشتغلون بها، وهذا هو موضع الطرافة. والحقّ، أنّ جلال الدين السيوطي الذي عاش في القرنين التاسع والعاشر الهجريين ( توفي في 911هـ)، وعُرِفَ عنه ـ كما يقول هو ـ التبحر في علوم التفسير، والحديث، والمعاني، والبيان، والبديع، وأصول الفقه، والجدل، والتصريف، والإنشاء، والترسل، والقراءات، والطب، يعدّ نموذجاً لعالم الدين المتنوّر الذي لا يتزمت في الحديث عن المحظور وغير المحظور. وللسيوطي مؤلفات تربو على الثمانية، كما جاء في كشف الظنون لحاجي خليفة، وفي ذيل كشف الظنون للبغدادي. ويكشف هذا عن ثراء كبير، إذا ما أخذنا بنظر الاعتبار، أنّ هذا الرقم يقتصر على مؤلف واحد.
لقد أدرك علماء الإسلام، أنّ الجنس واحد من الموضوعات الحسّاسة في داخل المجتمع العربي، وكذلك في بنية الثقافة والتفكير، لما يترتّب عليه من صراع بين الخير والشر، والروح والجسد، والغريزة والعقل. و أدركوا أيضاً، أنّ هذه الموضوعة تشكل معضلة دائمة في العلاقة بين الذكورة والأنوثة. ومن هنا، حاول هؤلاء بناء نظرية إسلامية في الجنس، تستوحي أحكام الدين الإسلامي في ذلك، متطرقين إلى منزلة المرأة في الحياة الجنسية، والحياة الاجتماعية. وقد كشفت مباحثهم عن وعي كبير، تمخض عن مادة علمية أساسية، فضلاً عن بعض الأفكار غير المسبوقة في الإشارة إلى ماهية الجنس، ووظيفته. وبخلاف هذا التأصيل المعرفي في الموروث الثقافي، فإنّ الجنس تحوّل في خطاب الثقافة المعاصرة إلى مادة للإثارة تارة، وإلى موضوعة من موضوعات العلاقة الثقافية المتأزمة بين الشرق والغرب، وربما إلى بقية من بقايا الكولونيالية.


http://risalathob.com/threads/4210/
.




صورة مفقودة
 
أعلى