هانيليس كولوسكا - ابن الجوزي ونظرته المتقادمة لقضية الجنس.. ت: حسين الموزاني

"عن ابن عباس قال: سألت امرأة رسول الله صلى الله عليه وسلّم: ما حق الرجل على المرأة؟ قال: «لا تمنعه نفسها، وإن كانت على رأس قتب»، قالت: وما حق الرجل على امرأته؟ قال: «لا تصوم يوماً تطوعاً إلا بإذنه، فإن فعلت أثمت ولم يتقبل منها»، قالت: وما حق الرجل على امرأته؟ قال: «لا تخرج من بيتها إلا بإذنه، فإن فعلت لعنتها ملائكة الرحمة، وملائكة الغضب حتى تتوب وترجع»، قالت: لا جرم، والله لا يملك على أمري رجل أبداً". (ابن الجوزي، كتاب أحكام النساء، باب 64).

قبل نحو ثمانمائة عام ألّف أحد أشهر الفقهاء السنّة في ذلك الزمن وهو أبو الفرج عبد الرحمن بن عليّ القرشي، المعروف بابن الجوزي، كتاباً ببغداد حول أحكام النساء. وقد راعه آنذاك حجم الجهل بالواجبات الدينية والتعاليم الإسلامية الصحيحة في أوساط معاصريه، والنساء منهم بصورة خاصة، فوضع هذا الكتاب مرشداً للمرأة المسلمة. وقد جمع ابن الجوزي في كتابه جميع التعاليم الدينية والقضائية التي رأها مهمة للنساء في عصره من وجهة نظره. فتحدث عن الصلاة والحجّ والصوم والصدقة والحيض ودخول المساجد، وكذلك عن العلاقة الزوجية ومعاملة الوالدين والأطفال وتحريم الإسقاط.

وتناول أيضاً قضايا تتعلق بختان الإناث وضرب الزوجة ومنعها من ترك فراش الزوجية وأسلوب الممارسة الجنسية. وقد وضع ابن الجوزي 500 كتاب إلى جانب هذا المؤّلف. وجعلته معرفته الواسعة في شؤون القرآن والحديث والفقه والتاريخ والأدب والطبّ والوعظ الدينيّ عالماً شاملاً فذّاً في زمانه. وجلبت له موهبته باعتباره خطيباً بليغاً جموعاً غفيرة من المستعمين أثناء مواعظه وأحاديثه ودروسه. ومازال يمارس تأثيره الساحر إلى يوما هذا، بل ازداد هذا السحر قوّةً، فأعيد طبع الكثير من أعماله في العالم العربيّ، محققةً ومشفوعةً بالملاحظات النقدية؛ ونشر كذلك عدد من السير حول شخصيته. ولا يشير هذا التطوّر إلى الأهمية التي يتمتع بها ابن الجوزي إلى اليوم، بل يشير أيضاً إلى اتجاه جعل أعمال الكتّاب القدماء قابلةً للتعامل مع معضلات الواقع الراهن.

ترسيخ الهوية الإسلامية

ولعلّ المطالبه بتشكيل هوية إسلامية ودعمها وتعزيزها، لتمثّل بديلاً لنمط الحياة الذي يغلب عليه الطابع الغربي إلى حدّما، سبباً جوهرياً في إعادة نشر كتاب "أحكام النساء" لابن الجوزي في طبعات جديدة، إلى جانب مؤلفاته الأخرى. ومن المحتمل أنّ عليّ المحمديَ هو الذي تسبب في هذا الاهتمام الواسع بعد أن حقق الكتاب عام 1981. ومنذ صدوره للمرّة الأولى في حرف مطبوع شهد الكتاب طبعات عديدة أخرى خالية من التعليقات. ولم يُشر إلى عدد النسخ المبطوعة وتوزيها، بيد أنّ الكتاب طبع ومازال يطبع في لبنان والمغرب على الأقلّ، ويمكن الحصول عليه من المكتبات في مختلف بلدان العالم العربي. ولا يجوز التقليل من أهمية نشر الكتاب في شبكة الإنترنت، حيث يمكن شراؤه أو تخزينه في جهاز الكمبيوتر مجاناً. ووفقاً لمصادر موقع "المشكاة" الذي عرض الكتاب للسحب الإلكتروني عام 2006، فإن أكثر من 11300 شخص اطلعوا عليه منذ ذلك الوقت.

وقد نشرت مكتبة النيل والفرات البيروتية إعلاناً في موقعها يروّج للكتاب، التزاماً بهذا الاتجاه، جاء فيه: "يعتبر هذا الكتاب أحكام النساء من نوادر الكتب الإسلامية، حيث يعد موسوعة فقهية فيما يتعلق بالمرأة في مجال العبادات وغيرها، وله أصالة خاصة تنبع من روح المؤلف، حيث إن ابن الجوزي من كبار الأعلام المشهورين في المذهب الحنبلي، وأحد أعمدته السامقة في القرن السادس الهجري، وقد تميز بغزارة إنتاجه، وتنوع مؤلفاته، ودقة عباراته وتحليلاته، فجاء الكتاب غزيراً في مادته، متنوعاً في أبوابه، معالجاً لقضية تعد من أهم قضايا المجتمع الإسلامي قيدماً وحديثاً، ألا وهي قضية المرأة وذلك من جميع جوانبها، فتحدث عن عورة المرأى، وتحريم إسقاط الحمل، ومقدار الدية الواجبة في ذلك، وتحريم هجران فراش الزوج، وتحريم ثقب الأذن...

كما وتعرض لمواضيع دقيقة خاصة بالعلاقة الجنسية بين الزوجين، وذلك على ضوء سيرة الرسول صلي الله عليه وسلم وحياته الشريفة مع زوجاته، وتتأكد أهمية هذا الكتاب في أنه يغني المرأة عن مشقة السؤال، ويوفر عليها وقتها الذي كان من الممكن أن يضيع في البحث عن مسألة ما، بين عشرات الكتب الفقهية، وأبوابها الكثيرة. فوفر هذا الكتاب وقتها وجهدها، كما أنّه يفيد الباحثين والمهتمين بشؤون المرأة للإطلاع على هذه الأحكام".

مصدر التخلّف

ويقف تقييم مديرة معهد الدراسات العربية والشرق أوسطية في جامعة ليدز زاهية صالحي على النقيض التام من التقريظ والعرض الإيجابي اللذين حظي بهما الكتاب. فوصفت هذه الطبعة في إحدى محاضراتها باعتبارها جزءاً من الحملة الإعلامية، التي هي بدورها جزء من خطاب العالم الإسلامي، بالقول إنّ "حماة الإسلام الذين يدعون أنهم قلقون على مستقبل الإسلام يشعرون بواجبهم في حماية المجتمع الإسلامي من مخاطر التحوّل والتوجه نحو الغرب؛ لذا فإنهم يوظفون أموالهم بشكل شامل في الإصدارات المتعلقة بالمرأة فيحمون المرأة عبر حماية العقيدة الإسلامية.

[...] وعبر قراءة سريعة لعناوين بعض الأبواب يمكن تكوين صورة عن طبيعة الكتاب، ومنها: الباب السادس والعشرون "في تحذير النساء من الخروج"، والباب السابع والعشرون: "في فضل البيت للمرأة" والباب الحادي والثلاثون: "في بيان أن أجود ما في المرأة أن لا ترى الرجال"، والباب السابع والستون: "في جواز ضرب الرجل زوجته". بيد أنّ الباب الذي يبعث المزيد من الدهشة هو الذي جاء بعنوان: "في ذكر الختان للنساء". وفي هذا الباب يصفّ ابن الجوزي بإسهاب عملية تشويه الجسد المفروضة على النساء، عبر الختان الذي لا علاقة له قطّ بالإسلام ولم يكن معروفاً تماماً لدى العرب في القرن السابع الميلادي".
ولا يقف هنا تقريظُ الكتاب ومؤلفه ورفضهما فحسب، إنما هناك فروق عميقة في التعامل مع الماضي والتراث تقفُ في مواجهة بعضها البعض. ولا يحظى هذا التعامل مع الميراث الثقافي والعقلي والديني بصورة خاصة الذي بات ربما غريباً، بل وكيفية التعامل معه، باهتمام الباحثين وحدهم، بل يشمل جميع الأفراد أيضاً. ويواجه المسلمون بالذات بالنظرة المتشككة وهمّ في معرض بحثهم عن جذورهم وهويتهم و تطرقهم لذخيرتهم العملية الدينية. وينظر المرء في أوروبا إلى تفضيل ما هو دينيّ وإلى نمط الحياة التقليدية باعتباره دائماً تعبيراً عن الرجعية ورفض الحداثة. ويُعرض النهج الخاص بالجتمع الأوروبي الغربي القائم على العلمانية الراسخة غالباً بصفته النهج الصحيح الوحيد المتاح، لاسيما فيما يتعلق بالنقاشات الدائرة حول أنماط الحياة الإسلامية.

بيد أنّ هناك تصورات كثيرة متباينة بين المسلمين أنفسهم أيضاً عن المرأة وحجم الدور الذي يمكن أن يمارسه التراث والدين في الحياة. وفي كلّ مكان يهب دعاة حقوق المرأة، من الرجال والنساء، فيتصدرون منصّة التفسير للدفاع عن حق تقرير مصير المرأة المسلمة واختيار أسلوب حياتها. ويحذر البعض من اتّباع الغرب والتركيز على الجنس، بينما يحذر البعض الآخر من الاضطهاد والوصاية الأبوية.

فيرى هؤلاء في التراث الإسلامي، وبالأخص القرآن والسنّة النبوية أساساً لا يخضع للتساؤل، بينما يرى أولئك في هذه القدسية المتأخرة العلّةَ التي يعاني منها الإسلام اليوم. لكنّ السؤال الذي يجب أن يطرحه الجميع يتعلّق بالتعامل مع التقاليد الدينية وموقعها من الإيمان والحياة. فبأي أهمية تتحلى استطرادات ابن الجوزي اليوم وأين يكمن الحقّ في تجاوزها ورفضها رفضاً قاطعاً وإيداعها الماضي؟ وأي نمط من أنماط التعامل يجب اختياره للتصدي لهذا الميراث المعقد لتاريخ الدين الإسلامي؟ ويبدو أنّ هناك سهولة وتعميماً في التخليّ عن هذه الأفكار بصفتها بالية، وجعل الكاتب معادياً للنساء؛ لاسيما بالنظر إلى أولئك الذين ما فتئوا يسبغون على الكتاب حضوراً آنياً متزايداً فيسترشدون به. وكذلك لابد من وضع الاعتقاد القائل بأنّ هذا الكتاب القادم من القرن الثاني عشر يقدم إجوبة لقضايا القرن الواحدة والعشرين موضع التساؤل النقدي.

هل هو ساري المفعول حتى اليوم؟

بعدما صدر كتاب ابن الجوزي مترجماً إلى الألمانية في العام الماضي كتب عليّ مته مراجعة عنه في الموقع الإلكتروني لجميعة "مليّ غوروش" الإسلامية [التركية.م]، فقال لابد من مراعاة ثلاثة جوانب لتقييم الكتاب وهي: "غرض الكاتب ومدى الالتزام بأقواله وتبويبها في إطار الفقه الإسلامي". وأضاف في مكان آخر: "فلا يجوز فقط اعتبار المسائل الفقهية صحيحة نظراً للظرف الزمن الذي نشأت فيه، باعتبار أنّ الكتاب ألفه عالم مسلم من القرون الوسطى، ولذا فإنه سيكون ساري المفعول على الحاضر أيضاً وبلا قيود. بل إنّ قول الفقيه لا يكتسب مصداقية ويكون ساري المفعول لأنه يستند إلى الآيات والحديث؛ وذلك لأنّ (أصول الفقه) التي تطوّرت من أجل إيجاد صيغ جديدة لظروف جديدة يتم التغاضي عنها هنا. مع أنّ هذه الصيغ بالذات، ومن ضمنها الاجتهاد، لا بد منها لجعل الحياة ممكنة وفقأً لمشيئة الله.

ومثلما يستحيل فهم الأحكام الإسلامية بعيداً عن الظروف الحياتية لأوّل متلق للقرآن وصياغاته اللغوية، يكون من العقيم أيضاً ترجمته وتطبيقه في عصرنا الراهن دون مراعاة الطرق المستحدثة في الفقه الإسلامي". ثمّ يطالب عليّ مته، مقتبساً نصاً من ناشرة الترجمة الألمانية، بأن طريقة التعامل النقدي مع الكتاب، لا تتحقق " مجرد عبر الإسقاط الجنسي على النصّ"، لأن هذا الإسقاط سيواجه بالرفض العام لما يسمى بأصحاب التقليد.

فهولاء يقيمون أعمال الفقهاء، اعتماداً على مرجعية هذا الفقية أو ذاك، أكثر من الاستناد إلى طريقة تعامله و أهمية أحكامه في وقتنا الراهن". وحسب هذه الحجة التي يوردها عليّ مته فإن النقد غير المتبصّر للكاتب والكتاب والتلقي غير النقدي لمحتواه لا ينفعان ولا يقدمان شيئاً. بل من المهم أخد مسألتين في نظر الاعتبار وهما: الوعي بالظروف التاريخية التي نشأ فيها العمل والحذر من التفسير الذي يعتمد على تصورات تصبح قياساً للحكم على العمل التاريخي. وإلا فإنّ خطراً سينشأ ويؤدي إلى تصلّب في الجبهات وأنموذج للنقاش التفنيديّ يحلان بديلاً عن النقاشات الجديّة.

وكانت الكاتبة الصحفية هلال زتسغين أكثر تشدداً من ذلك في مراجعها للكتاب وكاتبه، على العكس من عليّ مته الذي كان معنياً مباشرة وبشكل حثيث بمحتوى الكتاب بصفته مسلماً. فتعرضت لمحاولة ابن الجوزي في حجب النساء عن الظهور العلني ووضعن تحت أمرة الرجال، مع أنّه استند في ذلك إلى أحاديث تناقض بعضها حسب قناعته: "إذا استأذنت أحدكم امرأته إلى المسجد، فلا يمنعها" و: "ولاتمنعوا نساءكم المساجد، وبيوتهن خير لهن". فنحن لا نعلم من خلال هذين الحديثين فيما إذا كان النبيّ محمدّ قد نطقّ بهما حرفياً؛ لكننا إذا ما قرأناهما باعتبارهما وثيقتين تتحدثان عن زمنهما – أي عن زمن نقلهما للمرّة الأولى، وربما في فجر الإسلام، فأننا نرى صراعاً بين قناعتين متناقضتين: بين الحاجة للسيطرة على الحضور الأنثويّ والتركيز الجنسي من ناحية والوعي بالمساواة الروحية للمرأة.

ومن الصعب تجاهل أنّ القرآن خاطب النساء بالمساواة باعتبارهن مؤمنات. "فيا له من عيب! فالمرء يسمع ابن الجوزي يصرّ على أسنانه، لأن النساء لم يمنعن هكذا ببساطة من الدخول إلى المسجد". وتخلص هلال زتسغين إلى القول: "ولعلّ دار زوركامب (التي نشرت الكتاب) تفضل ترجمة نصوص كهذه وطباعتها. إلا أنّ دراسي العربية سيقرأون هذا النص – إذا كان لديهم الاهتمام – بالأصل أو باللغة الإنجليزية، كما أنّه لا يدفعنا إلى الأمام نحن المؤمنين العاديين، فدوعنا أن نطرح هذا الكتاب المقزز جانباً..."
لكن ليس من السهل إلقاء الكتاب جانباً، إذ أنّ انتشارة والتعبئة له وصلا مرحلة متقدمة، فهو يعدّ أنموذجاً مثالياً لنوع من التعامل المعيّن مع النصوص الإسلامية الفقهية. ولا بد من قطع الطريق على "حماة الإسلام" الذين يرون في النصّ مرجعاً موثوقاً قابلاً للعصرنة دون أيّ مشكلة. فضلاً عن أنّ هذه مهمة لا يستهان بها تتصدى إلى نزعة الخوف من الإسلام التي أخذت تفرض نفسها بقوّة وعلى نحو متواصل، وتستند بشكل خاص إلى قضية اضطهاد المرأة، وترى الإسلام ثابتاً في القرون الوسطى المظلمة وغير قابل للتطوّر.

الأسباب التاريخية

ألّف ابن الجوزي الكتاب ببغداد التي كانت تشهد مرحلة من الاضرابات السياسية والتطرّف الديني والكوارث الطبيعية؛ حيث انتشر بين أوساط السكّان، وعلى نحو واسع في ذلك العصر، أصحاب المعجزات ووعّاظ الشعب والمتصوفون من جانب والتقليديون والأصوليون من جانب آخر. ويبدو أن التطلع إلى أنظمة مستقرة وحياة متسامية شكّل لحظةً حاسمةً في قوّة الجذب هذه التي استحوذت على نفوس الرجال والنساء على السواء. وعلى الرغم من أنّ حجم مشاركة النساء في الحياة العامة داخل المجتمع العبّاسي آنذاك، لم يكن واسعاً مثلما كان عليه في بدايات الإسلام، لكننا إذا ما تابعنا استطرادات ابن الجوزي نرى بأنّ النساء كنّ يغادرن بيوتهم في مناسبات مختلفة، لغرض التبضّع أو الاشتراك في اللقاءات الصوفية أو زيارة المساجد والحمامات وما إلى ذلك.

وعلى الرغم من أنّ النساء كنّ محرومات من الانخراط النشيط في سلك التعليم، لكن كان هناك الكثير من النساء المتعلمات سواء عن طريق التعليم داخل الأسرة أو عن طريق المشاركة غير الرسمية في دروس العلماء. وبغض النظر عن ذلك بدا كما لو أنّ المعرفة بالإسلام وتعاليمة كانت ضعيفة للغاية لدى أغلبية النساء في بغداد، وكان يغلب على تدينهنّ الكثير من العناصر غير الإسلامية مثل قراءة الطالع.

وكان ابن الجوزي في هذه الحقبة أحد دعاة العودة إلى معايير الحياة الإسلامية التي تستند بشدة إلى التقليد، متجاوزاً في ذلك الأشكال المتطرفة. لذا فإن كتابة الذي وضعه للنساء كان يقرأ أيضاً بوصفه محاولة لعرض أنموذج مثالي بديل لحياة تنطوي على معنى ومغزى بالنسبة للنساء، وتسترشد بسنّة النبيّ وآراء العلماء. وكانت القناعة المنتشرة آنذاك وهي أنّ الحياة الاجتماعية المشتركة لن تتحق إلا عبر تفّوق الرجل على المرأة قد غلبت على أفكار ابن الجوزي، لأنّ المرأة تحتاج إلى الرجل ليقودها من ناحية ولأنّ الرجال يخضعون للسلطة الجنسية للنساء من ناحية ثانية.

فكتاب أحكام النساء لابن الجوزي لم يكن مجرد وثيقة لاحتقار المرأة، بل كان يعبّر عن قناعة تكونت تاريخياً حول علاقة جنسية محددة، تعتبرها الكثير من المسلمات اليوم – مثل هلال زيستغن التي أوردنا نصّها من قبل - غير مطابقة للتصورات الإسلامية المبكرة والمعاصرة معاً. فهو يقدم مادة غزيرة قد توحي باضطهاد النساء، فضلاً عن التعابير اللاذعة الموجهة لهن. فالمرواغة والمداهنة الشرعية في التعرض لقضايا مثيرة للخلاف مثل ختان النساء أو ظهورهن في العلن، وكذلك الهجمات على الأعداء المزعومين لحياة الإيمان الأصولية، من أمثال المتصوفة، تسفر بوضوح عن غرض النساء اللواتي نصبن أنفسهن مفتيات في قضايا الضمير والسلوك.

ثمّ إنّ هناك العديد من سير النساء والنوادر الطريفة عن نساء مثقفات وقويات الشخصية ومتهكمات تحدث عنهن بإسهاب في الباب الأخير من الكتاب، مما يتيح لنا أن نكتشف صورة متميزة للنساء. وهو ليس خلاصة وافية مثلما توحي النساء المسلمات اللواتي طعنَّ بالكتاب عن طريق المغالطة، بل إنّ الأمر يتعلق بنصّ كثيراً ما يتخذ شكل الموعظة المغرقة في العاطفة. وهو يسعى، في هذا المنحى وانسجاماً مع التقاليد، إلى البحث عن التعامل مع هذه التقاليد بصورة ذاتية فينظمها وفقاً لذلك.

ويغفل ابن الجوزي الكثير من القضايا مركزاً بصورة مكثّفة على المسائل القريبة من نفسه، ومشدداً، وبشكل تام تقريباً، على الوجبات أكثر من تشديده على حقوق النساء؛ ويتضح من ذلك قبل كلّ شيء بأنّ الكتاب مرتبط جذرياً بسياقة التاريخيّ. ومع ذلك لابد من أن ندرك بأنّ هناك طائفة من الأبواب يمكن فهمها على أنها غير مرتبطة بزمن محدد، ومنها قواعد الوضوء وأداء الصلاة والحجّ، والتي لم تشهد تغيراً إلى يومنا هذا.
وبالتأكيد أنّ ظروف الحياة ومظاهر المجتمع في بغداد القرن الثاني عشر لا يمكن مقارنتها بظروف القاهرة أو تونس أو برلين- كرويتسبيرغ في القرن الحادي والعشرين. وعلى الرغم من ذلك فإن هناك الكثير من المسلمين يعتبرون التطورات في بيئتهم الاجتماعية غير صحيحة، ويعيشون مثل ابن الجوزي حسب القواعد الإسلامية، أو يدعون لها، مثلما تستنبط من القرآن والسنّة. وكذلك الحال مع كتاب "المسلمة المثالية" الصادر باللغة العربية والإنجليزية والإسبانية والذي ألفه محمّد عليّ الهاشمي الذي يعتبر مثلاً على كيفية استخلاص مشروع حياة خاص بالنساء في زمننا الراهن اعتماداً على هذين المصدرين.

ويحيل الهاشمي فعلاً إلى ابن الجوزي ويورد مقاطع كاملة من أبوابه، مستهدفاً في كتابه عدا عن ذلك أغراضاً أخرى. وبهذا المعنى لا يمكن القطع فيما إذا كانت النساء يتبعن تصورات ابن الجوزي بصورة تامة أو يقبلن بمشروع الهاشمي كاملاً، إذ أنّ الأصوات التي تحطّ من ذلك يسمعها المرء في أوروبا قبل كلّ شيء بشكل أشد سهولة من أصوات الموافقة والقبول.

ولا مناص من التعامل النقدي العميق مع المراجع التاريخية التي تعتبر مصدراً للأفكار في الوقت الحاضر، ولا يجوز اعتبارها منذ البداية أمّا مقدسة أو غير مهمّة. فقط حينئذ يمكن تنشيط العمليات الفكرية وخلق المحفزات التي من شأنها أن تفحص بعض المشاريع الحياتية الموروثة ومدى أهميتها للعالم المعاصر، والتأكد من صحّة الهويات التي تنسب إلى المسلمين.
هانيليس كولوسكا
باحثةً في معهد للغات السامية والأدب العربي التابع لجامعة برلين الحرّة. وقد ترجمت كتاب ابن الجوزي "كتاب أحكام النساء" إلى اللغة الألمانية عام .



- معهد غوته ومجلة فكر وفن

.

صورة مفقودة
 
أعلى