سعاد مكرم - الاستشراق جنسياً من الشرق الأوسط إلى أفريقيا السوداء

* إذا استعرضنا الكم الهائل من الكتابة التي تركز على الممارسات الجنسية للشعوب الأخرى، فسوف يظهر لنا أن لهذا النمط جذوره في الهجمات القروسطية على الإسلام، كذلك في أدب الرحلات الاستشراقية والمقالات العلمية المزيفة وقصص الحب والروايات الإيروتيكية

* يبحث كتاب «الاستشراق جنسيا» في اقتران الشرق في المخيال الغربي بخرائط جغرافية تلعب فيها الجنسانية دوراً كبيراً، خاصة المخيلة الأوربية منذ مناظرات العصور الوسطى المعاكسة للإسلام، مروراً بروايات القرن السابع عشر والثامن عشر، وتقارير الرحلات الاستشراقية والكتب والمقالات العلمية. لكن المؤلف «إرفن جميل شِك» يرى بأن تصورات الذات ليست حقائق بسيطة تعكس واقعاً معيناً، بل هي بناءات استطرادية تعمل فيها الآراء والمعايير والافتراضات المجتمعية، كما لو أنها كائنات حية، أي تحويل الفضاء الحيادي إلى مكان ذي معنى اجتماعياً، وهي الوسائل التي بواسطتها تصبح الأمكنة مؤنسنة، وتكتسب معاني تتخطى صفتها الفيزيائية. والجنسانية، وهي تأكيد الناحية الجنسية أكثر من غيرها، إحدى الأدوات الكثيرة المستخدمة في تشريب الأمكنة بالمعاني، وأهميتها تكمن في أنها أداة غير مقصودة في بناء وعينا للعالم. في الكتاب محاولة لفهم كيف لعبت الجنسنة (اسباغ صفات جنسية حقيقية على شيء أو كائن حي، أو إضفاء طابع جنسي على موضوع أو علاقة ..الخ) دوراً مركزياً في تشكيل وجهة النظر الغربية حول الشعوب الشرقية والأمكنة الأخرى،التي تفسر بوصفها تعبيراً كنائياً ذكورياً عن دافع الغرب إلى امتلاك العالم. إن التركيز على الجنوسة، هو المرجح لأنه يلقي بعض الضوء على الطريقة التي جند بها محورا الذكر والأنثى في جميع مراحل قيام أوربة باستكشاف بقية العالم واستعماره.

إن استخدام نموذج علاقة السلطة بين الرجال والنساء لتشكيل علاقة الأوربيين والشعوب المستعمَرة، وإبرازها من حيث أن اختلاف الرجل عن المرأة، قدم ذخيرة من الصور والموضوعات التي أمكن بواسطتها استيعاب الاختلاف الأوربي وغير الأوربي استيعاباً سياسياً، وعبئت الجنوسة والجنسانية بطرق مختلفة في الخطاب الاستعماري لبناء الفضاءات التخيليية التي تشغلها الشعوب غير الغربية والمجازات والقصص التي تنظم وجودها في الأذهان الغربية، ولم يعد المكان موقعاً حيادياً جامداً، تتكشف فيه العلاقات الاجتماعية، بل أنه يشكل هذه العلاقات، ويُشَكَّل بدوره منها، فالأمكنة تمتلك دلالات تتخطى خصائصها الجغرافية، وتتوسط علاقاتنا بمحيطنا. يتم احتواء هذه التصورات وترسيخها من خلال السردية، الوسيلة التي بها، ومن خلالها تحكي الجماعات الاجتماعية لنفسها ولبعضها القصص والأساطير التي تمنح وجودها الاتساق والمعنى، فقد اكتسب مجاز «الجنسانية الشرقية» مكانة هامة في الإنتاج الفني البصري واللفظي الذي بدأ في القرن السابع عشر، حاشداً ترسانة كاملة من الحيل المشكلة في قالب قصصي كالحريم والحمام العمومي وسوق الرقيق والمحظيات والمخصيين وتعدد الزوجات والجنسانية المثلية وغيرها. إن ممارسة بناء الذات هي أيضاً ممارسة اعادة بناء الفضاء بطريقة تكون ذات معنى وممكنة الفهم اجتماعياً. ويناقش المؤلف السرديات المكانية التي تحققت بوساطتها في أوربة الحديثة، ويؤكد الدور الأساسي الذي تؤديه الامبريالية في تكوينها. السردية جزء من وجود البشر الاجتماعي، إذ يولد الأفراد في خطاب جمعي يشمل المحظورات والأوامر والأدوار وأحكام القيمة والمثل والحكايات الخرافية..الخ التي يجري امتصاصها عبر الوالدين والمدرسة ووسائل الإعلام والمؤسسات الاجتماعية الأخرى.هذه الأنماط والبنى لا تقرر سلوك الأفراد فحسب، بل تخلق هوياتهم أيضاً.

وإذا كانت الهوية، هي بناؤها الخاص، فالسردية هي الوسط الذي يتحقق من خلاله هذا البناء، بناء لا ينفصل عن بناء الغيرية، ولا معنى لها إلا بالتجاور معها. لذا القصص التي نحكيها لأنفسنا وللآخرين عمن نكون، هي أيضاً قصص عمن لا نكون. كذلك الصلات بين الهوية والغيرية والمكان، أصبحت أكثر بروزاً عندما توسع العالم المعروف إلى عالم أكثر اتساعاً وتعقيداً، وأصبح وعي أوروبا كوكبياً. فأطلق الأوربيون على نحو متزايد العنان للغرائبي ليعيدوا تعريف قيمهم الخاصة وليعيدوا طمأنة أنفسهم إلى موقعهم الخاص. فالجزم بأن الآسيويين غامضون أو أن الأفارقة كسالى، والشرقيين داعرون، والأمريكيين الأصليين قساة، هو إنتاج خرائط، أنتجت ضمن سياق اجتماعي استطرادي، لغرض ما، تجاري أو عسكري أو سياحي. وإذا أمعنا النظر في دور السردية في بناء الإمبراطورية الأوربية، نلاحظ أن روايات المغامرات في ذاك العصر أنتجت بقية العالم من أجل القراء، إضافة إلى تصور أوربة المميز لذاتها عن الآخرين، وأشركت القراء في المشاريع التوسعية.

إن ربط المكان بذاكرة جمعية تضفي عليه معاني تتجاوز الحقائق المادية الجغرافية، لأن الأمكنة تأخذ معاني وفقاً للأحداث التي تقع فيها، فتصبح مشربة بذكريات وآمال وقيم ومخاوف إنسانية، بصرف النظر ما إذا كان الحدث وقع أم لا، لأن فرضه وترسيخه يتمان عن طريق بنية اجتماعية من خلال إجماع ثقافي، أو من خلال الهيمنة. كذلك ليست الأحداث التي وقعت فعلاً في موقع مفترض، هي التي تفرشه بطبقات المعنى، بل تفعل ذلك أيضاً، في أغلب الأحيان، معرفة الخصائص المميزة لذاك المكان التي قد لا يكون لها أي أساس على الإطلاق في الواقع التجريبي. لذلك لا غرابة في اختلاق مساحات معينة من خرائط مجهولة تسكنها وحوش خرافية، وبالتالي أخفق المستكشفون في العثور على الأمازونيات المسترجلات أو عديمي الفم أو ذوي الرؤوس الكلبية أو المشوهين أو ذوي الأقدام الوركية. لكنهم بدلاً من تقويض إيمانهم بوجودهم، أعيد وضعهم خارج حدود الجغرافية المتقلصة للأرض المجهولة في الفضاء العقلي الأوربي المحجوز للأغراب حيث ينفى إليه المخيفون والمنفرون والفاحشون وذوو الأشكال المضحكة. فضاء، يمكن أن نعده هامشاً للعالم يسرح فيه الغريب الخارج عن المألوف جداً، شكلت بناءات خرافية، لفضاءات الآخرين، وامتدت إلى الشرق، فتراكمت هناك كتلة من المعرفة المتعلقة بالجنسانية الشرقية.

وبفعل التأثيرات التي تحدثها الحمامات التركية وأسواق الرقيق والحريم وما شابه في الوعي الغربي، ظهرت أمراض اشتهاء المكان. فالمركيز دو ساد في «مدرسة الفسق» يصف غرفة خلفية حيث تجري المطارحات الجنسية الشاذة باحتوائها على أسرة من الطراز التركي العجيب مظللة بالدمسق ثلاثي الألوان. وفي «التربية العاطفية» لفلوبير، صاحبة ماخور تدعى بـ«التركية». وموباسان يكتب مسرحية يسميها «في بتلة الورد، البيت التركي» تجري فصولها في ماخور يصور موضوع الحريم حيث كل البغايا يرتدين الزي التركي. فجنسنة البلد الأجنبي وإضفاء الصفة الغرائبية على الجنس، يفضي إلى الجنسانية كمحور يمكن على امتدادها بناء الهوية والغيرية.

إن المكان ليس مجرد إطار حيادي، عندما ننظر إلى قصر في الريف الفرنسي، وقبله كنا قد قرأنا قصة بولين ريفاج (قصة أو)، فسوف يصبح القصر مكاناً تسجن فيه النساء في زنزانات، ويجلدن بالسياط، ويدربن ليكن عبدات جنس. على النحو ذاته يعاد بناء الشرق، بواسطة إيروتيكا الشذوذ، من خلال أنماط مقولبة; فالإفريقي ذو نشاط جنسي مفرط، وفتاة الحريم داعرة، والمحظية الشرقية تعد بمتع لا تعد ولا تحصى، حتى أنهم في القرن السابع عشر والثامن عشر، كانوا يوجهون نصائح للكتاب، لضمان مصداقية العمل الأدبي وملاءمته للأنماط، كما يلي: الآسيوي جبان والإفريقي غدار والأوربي حكيم والأمريكي غبي; ولا يجوز انتهاك هذه القواعد وجعل: الآسيوي محارباً والإفريقي مخلصاً والفارسي عديم التقوى واليوناني صادقاً والألماني مرهفاً والاسباني متواضعاً والفرنسي غير متمدن.

وإذا استعرضنا الكم الهائل من الكتابة التي تركز على الممارسات الجنسية للشعوب الأخرى، فسوف يظهر لنا أن لهذا النمط جذوره في الهجمات القروسطية على الإسلام، كذلك في أدب الرحلات الاستشراقية والمقالات العلمية المزيفة وقصص الحب والروايات الإيروتيكية، على مساحة تمتد من الشرق الأوسط إلى إفريقية السوداء. ويصدم المرء بتكرار الموتيفات والأنماط إلى حد الغثيان، بالإضافة إلى التوكيدات المتناقضة المقوضة لمصداقية الأدب. ونطلع فيها على حالات تصور فيها النساء الأجنبيات على نحو متبدل بوصفهن مغريات ومنفرات، أو مهددات جنسياً; والرجال الأجانب بوصفهم متأنثين مخنثين أو مغتصبين خطيرين، والبلاد الأجنبية بوصفها ملاذات جنسية. ولقد ساهمت الترجمات والترجمات الزائفة للأعمال الشرقية كـ«ألف ليلة وليلة» التي أصابها التزوير أكثر من غيرها، إلى تفسيرات حرفية غير مسوغة، كانت مصدراً هاماً للأنماط المقولبة للمرأة الشرقية، والاهتمام الدقيق بممارساتها المتعلقة مثلاً بالاستعداد لليلة الزفاف، والتصورات المبالغ بها للرغبات الجنسية لنساء الحريم المحرومات ووصفن بأنهن ماكرات ومخادعات. يسعى المؤلف للبرهنة على حقيقة بسيطة وهي أن الأنماط المقولبة ليس ثابتة، وتدين بوجودها على نحو ثابت لشروط اجتماعية محددة، لذلك هي عرضة للتغيير. وأيضاً، الاعتراف بمتغيرية الحقائق المكانية، وهي الطريق الأضمن لتقويض ممارسات الهيمنة التي تدعمها. يسير المؤلف على خطا ادوارد سعيد في كتابه «الاستشراق» ويعارضه ويضيف إليه، في جهد مرموق لا يخفي تبحره وإنجازه الرفيع، بل ونشاطر المؤلف رأيه في أن كتابة التاريخ هي التأريخ للتغيير، والتأريخ للتغيير هو إظهار أن الواقع لم يكن دوماً، ومن ثمَّ لم يكن بحاجة لأن يكون، كما هو اليوم، ولا داعي للمستقبل لأن يكون مثل الحاضر. الكتاب: الاستشراق جنسيا تأليف: إرفين جميل شك ترجمة: عدنان حسن مراجعة: زياد منى قدمس للنشر والتوزيع بيروت 2003
 
أعلى