ياسين سليماني - روايات +18

هذا لون من ألوان الحديث يصادف عند المثقفين كثيرا من الاختلاف، بين يمين محافظ يرى في الأدب منبعا لقيم الجمال والرقي والإعلاء من أساليب الحوار العالية التي لا تنزل إلى اليومي ولا تبتذل ولا تسقط. وبين يسار يرى في هذا الأدب نبضا للشارع وهواجس الإنسان في البيت والسوق، في لحظات القوة والضعف. في المقاهي وغرف النوم. وبين حرّاس العقائد والنوايا والأنبياء الجدد، وبين السوقة والشوارعيين تباين واختلاف.
كثيرا ما ناقشتُ مع بعض الأصدقاء من المثقفين، قيمة الكلمة، وكيف يتوجب على الكاتب ألا ينحط بكتاباته إلى مستوى السوق وكان الكثير منهم يعتبر هذا تعاليا عن الناس وإدارة للظهر لهم. وفي أحسن الأحوال كان البعض منهم يرى في هذا قمة اليمينية، ومع أنني لست محافظا، كما أنني لا أدعي أنني يساري، ولكنّ الذوق العام في الأعمال الإبداعية لا يجب أن يُغفل من الكاتب. مع الحرية الكاملة للكاتب. أمّا الذين يتحدثون عن الواقعية، وبأنّ الكاتب مرآة عاكسة لمجتمعه. فإنّ أبسط ما يرد على هذا الطرح، أنّ الكاتب ليس إسفنجة تمتص كل ما في المجتمع لتعيد تقيؤه كما هو، ولكن عمله الفني يمرّ على مختبر الذوق والقيمة الفنية والجمالية. بل إنّ أرباب الواقعية، والروائيين الكبار، شرقا وغربا، خذ دوستوفسكي، أو تولستوي، أو بوشكين، أو خذ وليم فولكنر، أو حنا مينة، أو نجيب محفوظ. أيّ عبارات خارجة وجدناها عندهم؟
ومع ذلك فكثيرة هي الروايات العربية المعاصرة التي تستخدم الألفاظ من هذا النوع. الرواية التي أثارت موجة كبيرة من النقد، كانت الخبز الحافي. وهي محفورة في أذهان الكثيرين، لا للإمكانيات السردية التي يتمتع بها النص، ولا التقنيات الحداثية التي يمكن أن يستخدمها الروائي فيها ولكن لما يعتبره الكثير من الناس جرأة، هيفاء بيطار في "امرأة من طابقين"، حتى بعض البلدان التي كانت تنشر أدبا على استحياء، يبدو أنها سايرت الموجة فظهر لنا العُماني حسين العبري في "الأحمر والأصفر" بألفاظ كثيرة تطرح تساؤلات عدة عن الضرورة الجمالية لمثل هذه الألفاظ. وفي الجزائر: واسيني الأعرج في بعض كتاباته، وبوجدرة، في الكثير منها، وإذا كان الأمر عند واسيني يمكن فهمه لاعتبارات السياق ذاته. فإنّ بوجدرة يكفي أن تُعمل القلم الأحمر في الكثير من أسطر رواياته فلا يتغير شيء.
ليس أسوء من أدب، يحاول صدمك بالكلمة الخارجة، بدلا من الفكرة الصادمة. من الممكن أن نعبّر عن اللحظة الواحدة بآلاف الطرق. وليس واجبا أو إلزاما أن نسقط في فخ التعبير السمج. فلنفرض أنّ مسرحيا أراد أن يصور مشهد عراك بين مخمورين في حانة بسبب عاهرة. أيّ ألفاظ سيستخدمها الواحد منهم؟ لا شكّ أنّ الذهن الآن سيستجمع ببساطة مذهلة طائفة من المفردات القبيحة. ولا شكّ أنها جرأة كبيرة من مسرحي أن يفعل هذا في عرضه. لكن الذي لا أشك فيه أنّ القاعة ستفرغ إلاّ من آحاد.
إنّنا لا يمكن أن نكون حراسا للنوايا. إنني أعلن هنا عن موقف وسطي. استخدام مثل هذه الألفاظ عندما يكون لها مبرر حقيقي، يحتاجه السياق، وتوليفة العمل في حد ذاته، وليس مجرد بهارات تضيف طَعما وتكون طُعما لاستخراج دولارات القارئ. وإذا كنّا نناقش هذا في القصة والرواية، التي يذهب المتلقي إليها، فإننا لا يمكن أن نسوغها بأي شكل، في الدراما التلفزيونية أو المسرح، أو السينما. وما يظهر في السنوات الأخيرة من تزايد في الأعمال التي يكثر فيها هذا النوع، إلى درجة الابتذال والتتفيه، فإنّ الخاسر الكبير ليس إلاّ أصحاب العمل. إذ يتزايد انتقادهم من قبل أوساط مختلفة، ليس أولها النقاد، كما ليس آخرها إنسان الشارع البسيط مع بعض التحذيرات من قبل المهتمين بعلمي النفس والاجتماع، من التأثير الكبير لمثل هذه الأعمال على المراهقين والشباب إلى درجة الدعوة إلى إشراف أسري يساوق هذه المشاهدة درءا لأيّ مفاسد !!!
 
أعلى