جهاد فاضل - صفحة خالدة في كتاب الغزل العربي القديم

إذا قرأ أحدنا اليوم أخبار العذريين العرب القدماء، ومنهم مجنون ليلى وجميل بثينة وقيس بن ذريح وعروة وعفراء، خُيّل إليه انه يقرأ قصصاً شبيهة بقصص الخيال العلمي من حيث غرابتها ولا واقعيتها، فليس بإمكانه ان يصدّق وجود عاشق يأبى الوصول، أو يصرف عنه عن عمد ويؤثر عليه مجرد الظمأ إليه وعدم اشباع النفس إلا بالنظر إلى المحبوب ومحادثته والتغزل به لا أكثر، ولكن وجود قبيلة عربية قديمة اسمها عذرة، إحدى قبائل قضاعة الكثيرة، التي كانت تنتشر في شمال الحجاز هو حقيقة تاريخية.
من قبيلة عذرة التي اعطت العذريين اسمها خرج كبار العذريين القدماء، الذين ما زالوا الى اليوم يبثون العفة والحيوية في المشاعر، لا في الأدب العربي وحده، بل في آداب أجنبية كثيرة، منها الأدب الفرنسي الذي تأثر أحد شعرائه الكبار في القرن العشرين لوي أراغون بحكاية مجنون ليلى، فنسج على غرارها ديواناً سماه «مجنون إلسا».

◗ ليس على الموضة
الباحث التونسي الدكتور أحمد الطويلي يعيد، في كتاب له صدر حديثاً في تونس، فتح ملف العذريين العرب، فيجمع أخبارهم المبثوثة في مصادرها القديمة، وفيها الكثير مما يُستغرب أو لا يُصدّق، نظراً لغرابة هذا النوع من العشق الروحي عن صور العشق المغرقة في ماديتها وحسيتها، والسائدة في وقتنا الراهن، فالحب العذري ليس «على الموضة» اليوم، ولكنه حلم حققته قبيلة عربية صعدت بالقلب البشري الى ذروة من ذرا اشتياقاته غير المألوفة، ووهبته اسمها الذي ما زال يتردد الى اليوم.
ولرسم صورة دقيقة عن هذا الحب يحسن استعادة ما رسمه أصحابه أنفسهم، فهم أدرى بشعابه، وأول هؤلاء الراسمين رجل مجهول الاسم من عذرة، سئل: ممن أنت؟ قال: من قوم إذا عشقوا ماتوا، وقال رجل لعروة بن حزام العذري: يا هذا بالله أصحيح ما يقال عنكم: انكم أرق الناس قلوباً؟ قال: نعم والله لقد تركت ثلاثين شاباً قد خامرهم الموت، ما لهم داء إلا الحب. وسُئلت امرأة عذرية بها هوى يُدنيها من الموت: ما بال العشق يقتلكم معاشر عذرة من بين أحياء العرب؟ فقالت: فينا تعفف، والعفاف يورثنا رقة القلوب، والعشق يفني آجالنا، وقيل لأعرابي من عذرة: ما كنت صانعاً لو ظفرت بمن تهوى؟ قال: كنت أضع عيني من وجهها وقلبي من حديثها، واستر منها ما لا حبه الله، وقيل لبثينة: هذا جميل يتعذب في حبك، فهل عندك شيء تنفسين به وجده؟ فقالت: ما عندي أكثر من البكاء إلى ان ألقاه في الدار الآخرة أو أزوره وهو ميت تحت الثرى.

◗ فطرة الشعر
ويبدو ان الشعر فطرة في هؤلاء العذريين، فهم يسكبونه لا في قوالب الخليل بن أحمد وحدها، بل في كل كلمة تخرج من أفواههم، فقد قيل لأحدهم: ما بلغ من حبك لفلانة؟ قال: اني لأذكرها وبيني وبينها عقبة الطائف فأجد من ذكرها رائحة المسك.
وعشق رجل من عذرة امرأة فقيل له: ما بلغ عن عشقك لها؟ قال: كنت أرى القمر على سطح دارها أحسن منه على سطوح الناس.
ولعل من الشعر، أو من السحر، حديث أعرابية في صفة العشق، فقد قالت: جل والله ان يُرى، وخفي عن أبصار الورى، فهو كامن في الصدور كمون النار في الحجر، ان قرعته أورى، وان تركته توارى، وان لم يكن شعبة من جنون، فهو عصارة السحر.
ولا شك ان هذه الأعرابية، قد اكتوت بنار ما تصف، فهي تصدر في «تعريفها» له لا عما هو شائع عنه، بل عما خضعت هي له.
ولكن التعبير عن جمرة لا يكون نثرا فقط، بل يكون شعرا في الأعم الأغلب، وهذا الشعر هو الذي شاع أكثر مما شاع النثر، من ذلك ما يقول جميل بن معمر عن حبيبته ممجداً اياها وناحيا الى تقديسها:
هي البدرُ حسناً والنساء كواكب
وشتان ما بين الكواكب والبدر
لقد فضلت لبنى على الناس مثلما
على ألف شهر فُضّلت ليلة القدر

◗ حب الإنسانية
والحب العذري يجعل المحب يحب كل الناس قاطبة، يقول جميل عنهن:
لكل حديث بينهن بشاشة
وكلُّ قتيل عندهن شهيدُ
بل ان هذا الحب يشمل جميع الكائنات والحيوانات خاصة منها الغزال، الذي رأى فيه قيس أخا لليلى: فمجنون بني عامر يحول هواه للغزال الشبيه بحبيبته:
أقول لظبي مرّ بي وهو راتع
أأنت أخو ليلى؟ فقال: يُقالُ
أيا شبه ليلى ان ليلى مريضة
وانت صحيح ان ذا لمحالُ
والحب العذري هو حب مقدر لا خلاص منه ولا مناص.
يقول قيس عن ليلى
أتاني هواها قبل ان أعرف الهوى
فصادف قلبا فارغا فتمكنا
ويقول جميل مقسماً بالله معبراً عن نقاوة حبه:
لا والذي تسجد الجباهُ له
مالي بما دون ثوبها خبرُ
ولا بفيها، ولا هممتُ به
ما كان إلا الحديثُ والنظرُ
ويؤكد جميل مثل هذه المعاني في أبيات أخرى منها:
وإني لأرضى من بثينة بالذي
لو ابصره الواشي لقرت بلابله
بلا، وبألا أستطيع، وبالمنى
وبالوعد حتى يسأم الوعد امله
وبالنظرة العجلى وبالحول تنقضي
أواخره، لا نلتقي وأوائله

◗ أوجه القصور
ولكن الكتاب لم يسع الى تفسير ظاهرة الحب العذري، وبالتالي الى تأصيلها، وحتى الى البحث عن تاريخيتها وواقعيتها، فبقيت هذه المسائل معلقة وبحاجة الى معالجة معمقة من نوع ما فعله صادق جلال العظم وشوقي ضيف والطاهر لبيب في ما كتبوا عن الحب العذري.
وفي اعتقادنا ان بني عذرة قبيلة عربية وُجدت فعلاً كما يجزم المؤرخون واعطت شعراء عبروا عن جمال نسائها وعما اختلجت به قلوبهم من حب طاهر تجاههن، ولكن ذلك لا يكفي للاحاطة بمجمل الظاهرة، وبأسبابها البعيدة والعوامل التي ساعدت في تكونها، فلا بد من قراءة نقدية حديثة لتراثها ولشعرائها، لمعرفة الصحيح في هذا التراث وغير الصحيح، كما للتأكد من «تاريخه» بعض شعراء عذرة ومنهم المجنون نفسه، وذلك في الحدود المتاحة والممكنة، لأن من الباحثين ومنهم طه حسين من يجزم بان «المجنون» بالذات نوع من التأليف القصصي الجماعي أكثر من شخصية واقعية، ولا بد من استدعاء علم النفس الحديث لقول رأيه فيها.
وليس في الكتاب بحث حول بيئة «عذرة» والثقافة التي كانت سائدة فيها زمن هؤلاء العذريين، والتي ساهمت في نشوء ظاهرتهم ولكن يمكن النظر الى الاسلام على انه كان في طليعة الأسباب التي هيأت لظهور غزل شعراء هذه القبيلة، فقد صان الإسلام المرأة وبعث في نفوس العرب مثالية خلقية جعلت أفئدتهم تُصغي الى تعاليمه، فإذا بهذه النفوس قد صفت وصفا معها الحب وتخلص من شوائبه المادية القديمة، وهناك أسباب كثيرة أخرى بالطبع أشار اليها الباحثون في ما كتبوا عن هذه العذرية التي كانت من أجمل ما كتبه شعراء الغزل العربي القديم.
 
أعلى