ابن تغري بردي - المنهل الصافي والمستوفى بعد الوافي

المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
والله المستعان
الحمد لله مدبر الدهور، ومدور الأعمار والشهور، مظهر آثار قدمته على صفائح صحائف الأيام، ومبدي أسرار حكمته فيما يجري من حركات الأنام، قلبهم في أطوارها دولاً، وخالف بينهم اعتقادا وقولاً وعملاً، ورفع أقواماً ووضع آخرين، وقصّ علينا في كتابه المبين، أخبار الأوّلين منهم والآخرين، وذكرهم في أجمل كتاب بأفضل خطاب، وجعل قصصهم تبصرة لأولي الأبصار، وتذكرة لأولي الألباب، فسبحان من تنزه عن تأثير الزمان وتقدس من هو كل يوم في شان، أحمده على أن جعلنا خير أمّة وصيرنا من أمّة نبيّ الرحمة، وأشكره على أن أخرنا عن كل الأمم، وتلك لعمري من أجل المنن، وأتمّ النعم، لنشاهد ممن تقدّم آثارهم، ونعاين منازلهم وديارهم، ونسمع كما وقعت وجرت أخبارهم، أعظم بها فضيلة وكرامة جليلة، إذ رأينا منهم ما لم يروه منا، وروينا عنهم ما لم يرووه عنا، وأشهد أن لا إله إلا الله ذو الجلال الذي عرفنا الماضي، والاستقبال لديه بمنزلة الحال، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله سيد الأوّلين والآخرين، المنزل عليه في الكتاب المبين " وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك و جاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين " ، صلى الله عليه صلاة تفوح إلى يوم القيامة أعطار تاريخها، ويجتنى على مدى الأيام ثمار شماريخها، وعلى آله وتابعيه، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد فلما كان من في الأعصار الحالية، والقرون الماضية، وقع لهم وقائع وسير، وحوادث لها أثر، شاع بها التاريخ والسّمر، تخاطب بذلك الأيام من تأخر عصره من الأقوام، بأفواه المحابر وألسن الأقلام، فيطالعها كأنه مجالسهم، ويتأمل ما فيها كأنه مؤانسهم، ليقتدي منهم بجميل الخصال، ونبيل المآثر والنعال، ويتجنب ما صدر منهم من قبيح الخلال، وكنت قد اطلعت على نبذة من سيرهم وأخبارهم، ووقعت في كتب التواريخ على الكثير من آثارهم، فحملني ذلك، على سلوك هذه المسالك، وإثبات شئ من أخبار أمم الممالك، غير مستدعى إلى ذلك من أحد من أعيان الزمان، ولا مطالب به من الأصدقاء والأخوان، ولا مكلف لتأليفه وترصيفه من أمير ولا سلطان، بل اصطفيته لنفسي، وجعلت حديقته مختصة بباسقات غرسي، ليكون في الوحدة لي جليسا، وبين الجلساء مسامراً وانيساً، وسميته: المنهل الصافي والمستوفي بعد الوافي، وابتدأت فيه من أوائل الدولة التركية من المعز أيبك إلى الدولة.
وإذا ذكرت فيه حكاية ماضية، أو واقعة في القرون الحالية، أسندت ذلك إلى ناقله، وربطت جوادها في معاقله، لأخرج عن العهدة في النقل، على ما يقتضيه العقل، ووضعته على الحروف وتواليها، لتقرب ثمرات جناة، من يد جانيها، كما سبقني إلى ذلك جماعة من المتقدمين، وإلى الآن من أرباب الحديث، وطبقات الفقهاء والأعيان، وأكتفي في ذكر الولاد بأسماء الآباء عن الأجداد.
وأستفتح في هذا الكتاب بترجمة المعز أيبك التركمانيّ، ثم أعود إلى ترتيب الحروف على طريقة من تقدّمني وعداني، وبالله المستعان، وعليه التكلان.




صورة مفقودة
 
الصاحب بهاء الدين زهير
581 - 656ه - 1185 - 1258م زهير بن محمد بن علي بن يحيى بن الحسن بن جعفر، العلامة الأديب البارع الكاتب الصاحب بهاء الدين زهير، أبو الفضل، وأبو العلاء الأزدي المهلبي، القوصي الأصل، المكي المولد، المصري الدار والوفاة.
ولد بمكة سنة إحدى وثمانين وخمسمائة، ونشأ بالقاهرة، وحفظ القرآن العزيز.
و سمع من علي بن أبي البنا وغيره. واشتغل وبرع في عدة علوم كالفقه والعربية واللغة.
و أما الأدبيات؛ فكان به يضرب المثل فيها. كان إمام وقته وفريد عصره، لا سيما في البلاغة ورقة الألفاظ. وديوان شعره مشهور.
قال بعض الفضلاء: ما تعاتب الأصحاب ولا تراسل الأحباب بمثل شعر البهاء زهير.
و شعره في غاية الانسجام والعذوبة والفصاحة. وهو السهل الممتنع.
و كان - رحمه الله - فاضلاً، كاتباً، كريماً، نبيلاً، جميل الأوصاف، حسن الأخلاق، طويل الروح، حلو النادرة.
و كان في مبادئ أمره خدم الملك الصالح أيوب، وسافر معه إلى الشرق.
فلما ملك الملك الصالح الديار المصرية رقاه إلى أرفع المراتب، ونفده رسولاً إلى الملك الناصر صاحب حلب يطلب منه أن يسلم إليه عمه الملك الصالح إسماعيل، فقال: كيف أسيره إليه وقد استجار بي، وهو خال أبي ليقتله؛ فرجع إليها زهير إلى الملك الصالح بذلك، فعظم على الصالح وسكت عن حنق.
و لما كان الملك الصالح مريضاً بالمنصورة في حصار الفرنج لها تغير على البهاء زهير وأبعده؛ لأنه كان كثير التخيل والغضب والمعاقبة على الوهم. وكانت السيئة عنده ما تغفر.
و لما مات الملك الصالح اتصل البهاء زهير بخدمة الملك الناصر صاحب الشام. وله فيه غرر مدائح. ثم رجع إلى القاهرة، ولزم داره يبيع كتبه وموجوده حتى انكشف حاله بالكلية.
و كان البهاء زهير - فيما قيل - أسود اللون، قصيراً، شيخاً بذقن مقرطمة صغيرة؛ فكان يسلك مسلك ابن الزبير في وضع الحكايات على نفسه حذقاً منه؛ لئلا يدع للناس عليه كلاماً. من ذلك أنه حكى مرة لجماعة الديوان، قال: جاءت اليوم إلي امرأة ما رأيت عمري أحسن منها، وراودتني على ذلك الفعل. فلما كان ما كان أردت أن أدفع إليها شيئاً من الذهب، فقالت: ما فعلت هذا من حاجة، ولكن أرأيت عمرك أحسن مني، فقلت: لا والله، فقالت: إن زوجي يدعني ويميل إلى واحدة ما رأيت عمري أوحش منها. فلما عذلته ونهيته وما انتهى، أردت مكافأته، وقد فتشت هذه المدينة، فلم أر فيها أوحش منك، ففعلت معك هذا مقابلة لزوجي. فقلت لها: ها أنا هاهنا كلما اجتمع زوجك بتلك تعالي أنت إلى هنا انتهى.
قلت، ومن شعره:
اغصن النقا لولا القوام المهفهف ... لما كان يهواك المعنى المعنف
و يا ظبي لولا أن فيك محاسناً ... حكين الذي أهوى لما كنت توصف
كلفت بغصنٍ وهو غصنٌ ممنطق ... وهمت بظبيٍ وهو ظبيٌ مشنف
و مما دهاني أنني من حيائه ... أقول قليلٌ طرفه وهو مرهف
و ذلك أيضاً مثل بستان خده ... به الورد يسمى مضعفاً وهو مضعف
فيا ظبي هلا كان منك التفاتة؟ ... ويا غصن هلا كان منك تعطف؟
و يا حرم الحسن الذي هو آمن ... ومن حوله ألبابنا تتخطف
عسى عطفه للوصل يا واو صدغه ... وحقك إني أعرف الواو تعطف
أأحبابنا أما غرامي بعدكم ... فقد زاد عما تعرفون وأعرف
أطلتم عقابي في الهوى فتطولوا ... فبي كلفٍ في حمله أتكلف
و والله ما فارقتكم عن ملالة ... وجهدي لكم أني أقول وأحلف.
و له في سيف:
برسم الغزاة وضرب العداة ... بكف همامٍ رفيع الهمم
تراه إذا اهتز في كفه ... كخاطف برقٍ سرى في يم
ذكر الأديب البارع علي بن سعيد المغربي الأندلسي في أول كتاب الغراميات له قال: طرقت البلاد لأكتب من شعر البهاء زهير الحجازي:
فكان مما لعب بخاطري ... لعب الرياح بالغصون
و تمكن منه تمكن العيون ... الدعج من الفؤاد المفتون
شعره الذي أوله:
تعالوا بنا نطوي الحديث الذي جرى ... فلا سمع الواشي بذاك ولا درى
تعالوا بنا حتى نعود إلى الرضى ... وحتى كأن العهد لن يتغيرا
و لا تذكروا الذنب الذي كان بيننا ... على أنه ما كان ذنب فيذكرا
و حملني الشغف بطريقة هذا الرجل على حفظ ما يرد من شعره على أفواه الواردين من الشرق إلى أن جمع الله بيني وبينه بالقاهرة حاضرة الديار المصرية؛ فقل في منهل عذب تمكن منه عطشان.
ثم كانت المؤانسة، فكدت أصعق لما أنشدني قوله، وما وجدت روحي معي البتة:
رويدك قد أفنيت يا بين أدمعي ... وحسبك قد أحرقت يا شوق أضلعي
إلى كم أقاسي بعد فرقةٍ ... وحتى متى يا بين أنت معي معي
" و قالوا علمنا ما جرى منك بعدنا ... فلا تظلموني ما جرى غير أدمعي "
رعى الله ذاك الوجه حيث توجهوا ... وحيته عني الشمس في كل مطلع
و يا رب جدد كلما هبت الصبا ... سلامي على ذاك الحبيب المودع
و قلت له، وقد أعجبني انفعالي لما صدر عنه من هذه المحاسن الغرامية: يا سيدي لا يمضي اعتقادي فيكم مذ مدة طويلة " و أنا بالمغرب الأقصى ضائعاً. والغرض كله التهذيب الموصل إلى ما يتعلق " بأهداب طريقتكم فقد علمتم مهياراً " من عجم الديلم لما شرب ماء دجلة والفرات، وصحب سيده الشريف الرضي نمت أشعاره من خلال " أشعاره؛ فتبسم وقال: لا تنزلت أنت إلى أول طبقة مهيار، ولا ترفعت أنا إلى طبقة الشريف الرضي، لكن كل زمانٍ له رؤساء وأتباع في كل فن. وإن تكونوا صغار قوم؛ فستكونوا كبار قومٍ آخرين. واعلم بأنك نشأت ببلاد ولع شعراؤها بالغوص على المعاني، وزهدوا في علوية الألفاظ، والتلاعب بمحاسن صياغتها المكسوة بأسرار الغرام، وطريقة المغاربة في مثل قول ابن خفاجة:
دعتني أنس أصفحنا نشوة ... فيها تمهد مضجعي وتدمث
خلف على أبهى الأراكة ظلها ... والغصن يصغي والحمام يحدث
و الشمس تجنح للغروب مريضة ... والرعد يرقى والغمامة تنفث
و قول الرصافي:
و غريل لم تزل في الغزل جائله ... بنانه جولان الفكر في الغزل
جدلان تلعب بالمحراك أنمله ... على المدا لعب الأيام بالدول
ما إن بنى تعب الأطراف مشتغلاً ... أفديه من تعب الأطراف مشتغل
جدباً بكفيه أو فحصاً بأخمصه ... تحيط الظبي في أشراك محتبل
لا يشق فيها غبارهم ولا تلحق آثارهم ... وأما مثل قول ابن العلم الواسطي
و حلوا بأفئدة الرجال وغادروا ... بصدورها فكراً هي الأشجان
و استقبلوا الوادي فأطرقت المها ... وتحيرت بغصونها الكثبان
فكأنما اغترفت ضحى بقدودها ... الأغصان أو بعيونها الغزلان
و قول ابن التعاويذي:

إن قلت جرت على ضعفي يقول متى ... كان المحب من المحبوب منتصفا
أو قلت أتلفت روحي قال لا عجب ... من ذاق طعم الهوى يوماً وما تلفا
قد قلتم الغصن ميالٌ ومنعطفٌ ... فكيف مال على ضعفي وما عطفا
فطران لا يلم أهل بلادك؛ فقلت: المحاسن - أعزك الله - المقسمة.
و في المغاربة من تُبْعَثُ من أشعاره أسحار الكلام ويتم عليها أسرار الغرام، مثل الوزير أبي الوليد بن زيدون في قصيدته التي منها:
بنتم وبنا فما ابتلت جوانحنا ... شوقاً إليكم ولا جفت مآقينا
و سرد ابن سعيد القصيدة.
قال ابن سعيد: ثم أمسكت فقال: ما أنشأت أندلسكم مثل هذا الرجل في الطريقة الغرامية، وأظنه كان صادق العشق.قلت: نعم كان يعشق أعلا منه قدراً، وأرق حاشية، وألطف ظرفاً، وهي ولاَّدة بنت المستكفي المرواني علقها بقرطبة حضرة الملك. ثم قص عليه ذكر جماعة من المغرب. وذكر انفصاله من ذلك المجلس. ثم قال: ووصلت إلى ميعاده، فوجدته بخزانة كتبه، فكانت أول خزانة ملكوية رأيتها، لأنها تحتوي على خمسة آلاف سفر ونيف.
و ذكر أنه أمره بحفظ أشعار التلعفري والحاجري وابن الفارض، وأنه قال له يوماً: اجز، يا بان وادي الأجزع، فقال ابن سعيد: سقيت غيث الأدمع. فقال له البهاء زهير: قاربت، ولكن طريقتنا أن نقول: هل ملت من شوق معي، فقال: الحق ما عليه غطاء هذا أولى.
و لازمته بعد ذلك نحو ثلاث سنين، أنشدته في أثنائها قولي:
و أطول شوقي إلى ثغور ... ملا من الشهد والرحيق
عنها أخذت الذي تراه ... يعذب في شعري الرقيق
فارتاح وقال: سلكت جادة الطريق، ما تحتاج إلى دليل.
قلت: توفي صاحب الترجمة في سنة ست وخمسين وستمائة، رحمه الله.
 
أعلى