البرقوقي - الجلال والجمال

الفصل السابع
الكلام على الجليل

كل ما من شأنه أن يهيج في النفس وجدانات الألم والخوف، أو بعبارة أخرى كل ما كان رهيباً بصورة ما، أو كان له ارتباط بأشياء رهيبة، أو كان يؤثر في النفس مثل تأثير الرعب، فهذا مصدر من مصادر الجليل، أعنى أنه محدث في النفس أشد الوجدانات وأقواها، أقول أشد الوجدانات وأقواها لأني أوقن إن وجدانات الألم أشد وأقوى من التي يكون منشؤها اللذة. لاشك أن الآلام أشد تأثيراً على الجسم والنفس من أمتع الملاذ وأنعم المسار. وما أحسب إني واجد ذاك الرجل الذي يرضى أن يختم عمراً يمد له في نعم متواترة، وحياة تطال له في آلاء متصلة بيوم من الموت الزؤام، والحمام الأحمر. ولا يدع فبقدر زيادة الألم على اللذة في مبلغ التأثير تكون زيادة صورة الموت على وددان الألم في مقدار الإزعاج والأذى. وقل في آلام الحياة البدنية والنفسية ما يؤثر عليه الموت. ألا ترى أن الذي يزيد الألم ألماً علمنا أنه يريد الأجل ورسول ملك الموت. والخطر أو الألم إذا رفرف أحدهما فوق رؤوسكم كان غير ملئ بإفادتنا أدنى لذة. على أنهما قد يفيدان اللذة إذا أقاما منا على مسافات معلومات وبأشكال خاصة. وسآتي ببيان ذلك فيما بعد.

الفصل الثامن

الكلام على الوجدانات الخاصة بالاجتماع

الفريق الثاني من وجدانات البشر هو ذلك المتعلق بالاجتماع، والاجتماع نوعان: الأول هو اجتماع الذكران والإناث للتناسل. والثاني - وذلك أعم - هو اجتماعنا بالناس وغيرهم من أصناف الحيوان، والذي هو كائن بوجه ما بيننا وبين عالم الجماد. فالوجدانات الخاصة بالمحافظة على النفس محورها الألم والخطر. وألصق اللذات بهذا الغرض هي لذة حادة حارة توارة مجنونة عاتية وهي بلا شك أعلى الملاذ الحسية. ومع ذلك فإن انقطاع هذه اللذة العظيمة لا يبلغ أن يكون قلقاً أو كدراً. وما أحسب أنه محدث أقل تأثير إلا في بعض أحوال خاصة. والناس إذا أخذوا في وصف ما يجدون من الآلام والأخطار لا تراهم يصفون أولاً ما كانوا فيه من صحة وأمن ثم يندبون ضياع هذه النعمة. ولكن كل أمره يدور حول ما هم فيه من واقع الألم والروع. ولكن الأمر خلاف ذلك في صلة الذكر بالأنثى فإنك إن أصغيت إلى شكوى العاشق المهجور ألفيته يقيض في ذكر ما كان يجده أو يرجوه من ملاذ الوصال وفي محاسن معشوقه. ففقدان النعيم هو أكبر ما يشغل باله ويبعث مقاله. وليس يشذ عن هذه القاعدة أشد حالات الهيام وأقصى غايات الوله تلك التي تذهب بعقل ربها وتفضي به إلى المس والخبال وإلى الجنون. فإن المرء إذا استحوذ على روحه فكرة ما. وتسلطت عليه حالة بعينها فإنها تتملكه وتجتازه حتى تحول بينه وبين كل ما عداها، وتهدم من أسوار العقل وحواجزه كل ما يحاول أن يحتويها ويحسبها، وانهدام أحد أسوار العقل هو الجنون. ولا يشترط في ذلك أن تكون الفكرة أو الحالة النفسية هي الحب. بل أي فكرة أو حالة أخرى مليئة أن تسبب هذه النتيجة كما يرى من كثيرة أسباب الجنون وشتى علله. وهذا القول يثبت إن وجد أن الحب خليق أن يحدث نتائج خارقة للعادة لا أن هذه النتائج الخارقة لها أدنى صلة بالألم الإيجابي.

الفصل التاسع

سبب الفرق بين الوجدانات الخاصة يخلة المحافظة

على النفس والوجدانات المرتبطة باجتماع الذكر والأنثى:

لما كان أداء فرائضنا على اختلاف أنواعها متوقفاً على الحياة. وكان أداء هذه الفرائض بجد وجدوا حسان وإتقان متوقفاً على الصحة فلا غرو إن كنا نتأثر أشد التأثر بكل ما يتهدد سلامة هذه أو تلك ولما كانت مطامع الإنسان وآماله لا تنتهي عند إحراز الحياة والصحة أصبح وجدان هاتين النعمتين غير مشفوع بلذة محسة لئلا تقنع بهذه اللذة فنكسل وتفتر همتنا ونجنح إلى القعود والتواني. بل إن الله سبحانه وتعالى جعل التناسل غرضاً عظيماً سامياً فحدا إليه البشر بأقوى البواعث فأصبح لذلك مقروناً بأكبر اللذات وأحد الشهوات. ومن جهة أخرى لما كان هذا الأمر (التناسل) لم يرد منه أن يكون شغلنا الشاغل المستنفد جميع قوانا وأوقاتنا فمن الحكمة أن لا يكون فقد اللذة المقرونة به مشفوعاً بشديد الألم. والفرق بين البشر والحيوان في هذا الصدد جدير بالنظر. فالناس مستعدون في جميع الأوقات على السواء لمباشرة لذات العشق لأن عقلهم في ذلك دليلهم من حيث وقت قضاء هذه اللذات والصورة التي يقضونها عليها. فلو أن عدم هذه الملاذ كان مشفوعاً بشديد الألم إذن لوجد العقل صعوبة كبيرة في أداء وظيفته. أما البهائم تلك التي تتبع في هذا الشأن قوانين قلما يكون لقوة اختيارها دخل فيها - هذه البهائم لها أوقات مضروبة. ولا يبعد أن عدم قضاء الشهوة في هذه الأوقات يكون مؤلماً جداً إذ كان مانعاً لأمر لابد منه وليس يتم في غير هذا الأوان.

الفصل العاشر

الكلام على الجمال

إن الوجدان المرتبط بأمر التناسل من حيث كونه تناسلاً لا غير إنما هو الغلمة أو الشبق. وهذا واضح في شأن البهائم التي ترى الوجدانات فيها أبسط كياناً منها في الآدميين وأقل اختلاطاً. والتي تراها أقصد طريقاً منا إلى أغراضها وأقرب سبيلاً. فهي لا تراعي في أمر تزاوجها إلا مسالة التذكير والتأنيث على أنا لا ننكر انحياز كل فرد إلى قبيلة وجنسه مؤثراًَ ذلك على سائر الأجناس والقبائل. ولكن هذا الايثار لا يرجع فيما أحسب إلى جمال يراه الحيوان خاصاً بفصيلته ونوعه كما زعم الكاتب أديسون بل إلى قانون طبيعي تخضع له البهائم. وهذا ظاهر مما هو مشاهد فيها من قلة اختيارها وتمييزها بين أفراد قبيلتها التي قصرتها عليها حدود الجنسية. أما الإنسان ذلك الذي ركب في غريزته الاستعداد لتنوع العلاقات وتعدد الصلات فقد أبى إلا أن يضيف إلى شبق البهائم رغبة في بعض الصفات الاجتماعية التي من شأنها أن تشحذ الشهوة المشترك فيها مع الحيوان. ولما كان ليس كالحيوان يغشي أية أنثى صادف وجب أن يكون هناك شيء يدعوه إلى التخير والانتخاب، وأن يكون هذا الشيء صفة محسة إذ ليس غير هذه له مثل كفايتها وسرعتها وقوتها في إحداث باعث التخير. هذه الصفة المحسة هي جمال الأنثى. فالذكران مسوقون إلى الإناث بوجه عام لمجرد كونهن إناثاً وبقوة قانون الطبيعة المشترك. ولكنهم بوجه خاص متعلقون بالأفراد بتأثير الجمال الشخصي. وإني اسمي الجمال صفة اجتماعية وذلك لأن من كان من النساء والرجال بل من الحيوان (وكثيرهن) يلذنا ويفرحنا بمنظره فذلك لاشك يبعث في قلوبنا الحنان والحب لشخصه. حتى ترانا نهوى قربه ونرتاح إلى الاتصال به إلا أن يكون تمت مانع. وإني بعد لا أدري ما الحكمة في حدوث ذلك بين الإنسان وجميل الحيوان ولا ما القصد والغاية. لأني لا أرى لاتصال المرء بالحيوان المليح الأنيق الوشي والحلة من العلة مالا أراه لاتصاله بخلاف ذلك من الحيوانات غير ذات الحسن والبهجة. على أنه ربما كان لله في ذلك حكمة وشأن وغاية تقصر دونها إفهامنا إذ كان تدبيره سبحانه وتعالى غير تدبيرنا وأسلوبه خلاف أسلوبنا.

الفصل الحادي عشر

الكلام على الاجتماع والعزلة

أما الفريق الآخر من الوجدانات الاجتماعية فهو ذاك الحاث على الاجتماع بوجه عام. وإني أقول في هذا الصدد إن الاجتماع من حيث هو مجرد اجتماع خال من المميزات الخاصة ليس فيه لذة إيجابية وبيد أن العزلة التامة المطلقة أعني الانقطاع الكامل الدائم عن سائر المجتمع هو من أشد وأقسى الآلام الإيجابية. هذا وإن في أنس المجالس وحلاوة الأحاديث، ومحاسن التآلف والتواد ما يملأ النفس لذة ونعيماً. ومن وجهة أخرى فإن ما يتخلل مناعم التعاشر من فترات العزلة لا يخلو من مسيرة خاصة. وهذا دليل على أنا خلقنا للحلوة والتأمل وكذلك للعمل والسعي. إذ كل لكل من العزلة والاجتماع لديه. وكانت حياة العزلة المطلقة تنافي أغراض الوجود بدليل أن الموت نفسه أقل بشاعة من ذلك وأخف روعة.

الفصل الثاني عشر

الكلام على العطف والتقليد والطمع

الوجدانات الاجتماعية من وجهة هذا التقسيم ذات اختلاط. وتمازج تتشعب شعباً متنوعة وتخرج أشكالاً مختلفة تطابق شتى الأغراض التي لتحقيقها وجدت، وضروب الغايات التي ما خلقت هذه الوجدانات إلا لتخدمها في سلسلة الاجتماع الكبرى. والحلقات الثلاث الرئيسية في هذه السلسلة هي العطف والتقليد والطمع.

الفصل الثالث عشر

العطف

إنما بفضل الأول من هذه الوجدانات أعني العطف يمكننا الاتصال بنفوس الغير والافضاء إلى مواضع همومهم وشؤونهم. حتى نشعر بشعورهم فلا يكون موقفنا منهم موقف المتفرج لا يعنيه ما يكايدون ولا يجفل بما يأخذون ويدعون. أجل إنما ينبغي عليك أن تعد هذا الوجدان - العطف - كنوع من البدل والعوض به يستطيع المرء أن يضع نفسه موضع الغير فيرى برأيه ويحس بقلبه في كثير من المواطن. فهذا الوجدان ذو وجهين. فتارة يكون من قبيل تلك الوجدانات الخاصة بالمحافظة على النفس فمحوره الألم ولذلك يعد مصدراً من مصادر الجليل. هذا من جهة وتارة تكون اللذة محور هذا الوجدان فينطبق عليه كل ما قيل في الوجدانات الاجتماعية سواء كانت خاصة بالمجتمع على وجه عام أو ببعض أشكالها وهيئاتها. وإنه بهذه الوسيلة - أي بفضل وجدان العطف - يستطيع الشاعر والمصور والموسيقار بقوة القصيد والنقش والأنغام أن ينقلوا وجداناتهم من صدورهم إلى صدرو الناس، وان ينفضوا لذة ومسرة على الشقاء والبؤس بل على الموت ذاته. وذلك أن هذه المصائب آلم الأشياء في الحقيقة ولكنها في الفنون الجميلة مصدر لذة عظيمة. وقد كانت هذه القضية موضع كثير من الجدل والمناقشة. فقالوا إن سبب تلك اللذة هو اعتقادنا أن هذه القصة المحزنة ما هي إلا حديث خرافة، ثم سرورنا بالنجاة مما تصفه هذه الفنون من الآفات والبلايا. والذي أراه أن من الخطأ في مثل هذه المباحث أن يسند سبب الإحساسات تلك التي إنما منشأها بنية الجسد أو تركيب النفس وكيانها الخاص إلى النتائج المنطقية التي هي نمرة في البحث في شأن الأشياء المثيرة لتلك الإحساسات المذكورة. إذ الحقيقة أن تأثير القوة الاستدلالية في تهييج الوجدانات هو أقل بكثير مما يحسب العالم.

الفصل الرابع عشر

الكلام على تأثير وجدان العطف على المنكوبين في نفس صاحب

الوجدان

قبل البحث في موضوع تأثير المأساة على نفوس البشر يلزمنا أن ننظر كيف نتأثر بالمصائب الحقيقية التي تصيب الغير من بني جنسنا. ولا يسعني في هذا الصدد إلا القول بأن المرء يجد ولاشك شيئاً من السرور ليس بالقليل لما يصيب غيره من فجائع الدهر. فإن مصيبة الغير إذا لم تكن من البشاعة بحيث تنفرنا من المصاب فلا نستطيع الدنو منه بل كانت بحيث تغرينا بالاقتراب من صاحب البلوى. ومصاحبته والعطف عليه، إذن فلا بد من أن يكون لنا في ذلك نوع ما من المسرة وإلا فما كنا نستطيع إقبالاً على صاحب البلية. الست ترانا نجد في قراءة حقائق تواريخ أمثال هذه الفجائع من اللذة مثل ما نجد في قراءة الخرافات من ذلك إشعاراً وقصصاً. وما كان قارئ الحوادث السارة من أنباء الفتوحات وعز الدول وأبهة الملوك ليجد من اللذة عشر معشار ما يجد قارئ الفاجعات والفوادح من خراب الممالك وذل الملوك وبؤس أرباب الرفه والنعيم وحرق العشاق والمغرمين ومصارع الفرسان والأبطال وما إلى ذلك من جليل الخطوب وكارثات المحن. ومما يزيد استمتاعنا بقراءة أمثال هذه البلايا أن يكون المصاب الناشب في مخالب الفاجعة إنساناً محمود الشيمة ميمون النقيبة. خذ مثلاً على ذلك نبأى كاتو وسيبيو. فكلاهما ماجد كريم فاضل. غير أن مصرع الأول وضياع الأمر الجليل الذي كان يحاول أشد روعة في نفوسنا من ظفر الثاني وتواتر النعم عليه وترافد الخيرات والفواضل. وما ذاك إلا أن الرعب وجدان باعث للسرور ما لم يقاربك جداً. والرحمة وجدان مشفوع بالمسرة إذ كان منبعها الحب والانعطاف. والمرء إذا كان قد أعد بالفطرة لإنجاز أمر من الأمور فإن الوجدان الذي يوقظ همتنا إلى محاولة هذا الأمر لابد أن يكون مصحوباً بنوع ما من السرور أو اللذة مهما كانت ماهية هذا الأمر. ولما قضت إرادة الله أن تربطنا جميعاً آصرة العطف فقد أكد أسباب هذه الآصرة بمزاج مناسب المقدار من اللذة. وأكثر ما يكون مقداره أشد ما تكون الحاجة إليه أعني في مصائب الغير. ولو كان وجدان العطف ألما كله لكنا نتقي جهدنا جميع بواعثه من الأشخاص والأماكن كما يفعل قليلو المروءة ساقطو الهمة من المغرقين في الكسل المتغالين في الفتور والتواني. ولكن الأمر بخلاف ذلك في السواد الأعظم من الناس. فأنا لسنا إلى شيء أسرع منا إلى مكان الحادث الأليم والخطب الجلل. وكذلك ترى مشهد الفجيعة أبداً يولد فينا ضرباً من اللذة سواء كان أمام أعيننا أو كان معروضاً على ناظر الوهم في صفحات الأسفار. على أن هذه اللذة ليست صافية بل ممزوجة بجانب عظيم من الإشفاق والكرب. فاللذة هي الحادي لنا على مواطن المصيبة. والكرب هو داعينا إلى إنقاذ أنفسنا من الألم بإنقاذ ذوي البلية. كل هذا يصدر منا بلا سابق تأمل وتدبر بل بغريزة تزجينا إلى غايتها دون اختيارنا.

الفصل الخامس عشر

الكلام على تأثير المأساة

الذي ذكرناه في الفصل السالف هو الواقع في أمر الأحزان الحقيقية. أما من جهة الأحزان المحكية. فالفرق الوحيد هو الشرور الناشئ من تأثير التقليد والحكاية. فإنه مهما بلغ من أحكام التقليد ودقة الحكاية فليس يخفى علينا أنه تقليد لا حقيقة وهذا محدث لنا شيئاً من اللذة. وفي بعض الأحايين قد توازي اللذة المولدة من تأثير التقليد تلك المستفادة من الشيء نفسه. بيد أني أخطئ من يزعم أن جانباً عظيماً من سرورنا بالمأساة ناشئ من علمنا بأنها خداع وليست بحقيقة وأقول أنه كلما دنت المأساة من الحقيقة وبعدت من الخرافة كانت أشد تأثيراً وأعظم وقعاً. على أنه مهما يكن وقعها وتأثيرها فلن تبلغ في ذلك مرتبة الحقيقة التي تمثلها. وسأضرب لذلك مثلاً فأقول أعمد ذات يوم إلى أكبر المراسح وأفخمها وأعمل على أن تمثل به أجل مأساة وأعظمها. وأندب لذلك صفوة طائفة الممثلين ونخبتها. واستكمل لدار التمثيل زخرفها وزينتها. واستعن على ذلك بأقصى قدرة الفنون الثلاثة الشعر والتصوير والموسيقى ومنتهى سحرها وفتنتها. حتى إذا احتشدت جموع المشاهدين. والتف محافل المفترجين واشرأبت للمشهد المرقوب أجيادهم. وامتدت للمنظر المنتظر أبصارهم. فأذع بين جمهورهم أن مجرماً كبيراً سياسياً يساق إلى المشنقة في الميدان المجاور. ثم انظر ماذا يكون. لاشك أنك ستبصر بيت التمثيل قد أقفرت في الحال عرصاته وصغرت من ذلك الجمع الكثيف ساحاته. وإن جمهور النظار قد هرعوا سراعاً إلى ميدان المشنقة. دليل لعمرك قاطع على ضعف تأثير الفنون التقليدية إزاء سلطان الحقيقة. وقوة الوجدانات الحقيقية. ويخطئ البعض فيقولون إن رؤية المصائب الوقعية مشفوعة بالألم المحض. وخطأهم هذا راجع إلى عدم تمييزهم بين الشيء الذي يأبى أحدنا البتة أن يفعله والشيء الذي لو وقع لتاقت أنفسنا إلى رؤيته. فنحن يسرنا أن نبصر من الأشياء ما نود من صميم الفؤاد إصلاحه وتعويضه فمن باب أولى لا نود أن نفعله بأيدينا. انظر إلى لندن هذه المدينة الفاخرة أفتحسب أن إنساناً قد بلغ من خبثه وشره أن يحب أنه يرى هذا البلد الأمين فخر إنكلترا وأوروبا قد خرب بسبب زلزال أو حريق ولو أنه بموئل من بادرة هذا المصاب ومعتصم. ولكن هب أن هذا المصاب قد حدث بالفعل إذن فأي جموع وجماهير يأتون من مهاب الرياح الأربع لينظروا الآثار الخربة والأنقاض وبينهم من كل لا يعنيه أن يبصر المدينة في رونق بشاشتها وبهجة جمالها. وليس خلاصنا من المصاب - حقيقياً كان أو خيالياً - هو سبب سرورنا. أنا لا أرى ذلك مطلقاً: وأظن أن منشأ هذه الغلطة هو عدم تمييزنا بين الشرط الذي عليه يتوقف فعلنا أو إحساسنا شيئاً ما وبين السبب الداعي إلى هذا الشيء. فإذا قتلني رجل بسيف فإن من الشروط اللازمة لذلك كون كل منا حياً قبل وقوع هذا الحادث. ومع ذلك فإن من السخف أن يقال إن كون كل منا حياً كان السبب في جريمته وموتي. وكذلك فإن خلاص نفسي من كل خطر مهدد هو شرط لازم لاستعدادها للسرور بمصاب الغير حقيقياً أو خيالياً بل للسرور بأي شيء مهما كان سببه ثم من السفسطة أن يقال إن خلاص نفسي من الخطر المهدد هو سبب سروري بمصاب الغير أو خلافه. وما أحسب أن أحداً من الناس يحس في نفسه ذلك بل إنك لتجد الرجل المصاب (ما لم يشتد به ألم أو يرنق فوقه خطر) ليتوجع لمصاب الغير. وإن أشد الناس تأثراً بمصاب غيره من رققت كبده المصيبة وألات عريكته البلية. بل ربما رحمنا غيرنا من بلاء نود من صميم قلوبنا لو أنه كان من مصابنا بدلاً.

ـ مجلة البيان
31 - 7 - 1914
 
أعلى