أبي عبد الله بن عسكر، أبي بكر بن خميس - مطلع الأنوار ونزهة البصائر والأبصار



11- محمد بن غالب الرصافي
أبو عبد الله فحل الشعراء ورئيس الأدباء أصله من بلنسية واستوطن مالقة واتخذها دار إقامة إلى أن توفي بها رحمه الله يوم الثلاثاء التاسع عشر لشهر رمضان المعظم سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة.
وكان رحمه الله ساكنا وقورا ذا سمت وعقل وكان رفاء يعمل بيده ويقصده رؤساء الكتاب والشعراء يأخذون عنه ويسمعون منه. وحدثني الفقيه أبو عمرو بن سالم رحمه الله ومن خطه نقلت قال حدثني الوزير الحسيب أبو الحسين شاكر ابن الفقيه الأديب أبي عبد الله بن الفخار المالقي رحمه الله قال: ما رأيت في عمري رجلا أحسن سمتا وأطول صمتا من أبي عبد الله الرصافي
وحدثني صاحبنا الفقيه أبو عبد الله بن عمار الكاتب بمحضر الأديب أبي علي بن كسرى قال كان الفقيه أبو عبد الله الرصافي من أعقل الناس وكان رفاء فما سمع له أحد من جيرانه كلمة في أحد وكان بإزائه أبو جعفر البلنسي وكان رحمه الله متوقد الخاطر فربما تكلم مع أحد التجار منه هفوة فيقول له: شتان بينك وبين أبي عبد الله في العقل والصمت وربما طالبه بأشياء ليجاوبه عليها فما يزيد على الضحك فلما كان في أحد الأيام جاء ليفتح دكانه فتعمد أن ألقى الغلق من يده فوقعت على رأس أبي عبد الله وهو مقبل على شغله فسال دمه فما زاد على أن قام ومسح الدم ثم ربط رأسه وعاد إلى شغله فلما رأى ذلك منه أبو جعفر المذكور ترامى عليه وجعل يقبل يديه ويقول ولله ما سمعت برجل أصبر ولا أعقل منك والله لقد تعمدت ذلك وهو يضحك ويقول بارك الله فيك وغفر لك.
قال أبو عمرو رحمه الله: لقيت الفقيه أبا عبد الله الرصافي رحمه الله غير مرة وكان صاحبا لأبي وكان له موضع يخرج إليه في فصل العصير فكنت أجتاز عليه في أكثر الأيام مع أبي رضي الله عنه فألثم يده فربما قبل رأسي ودعا لي. وكان أبي يسأله الدعاء فيخجل ويقول: أنا والله أحقر من ذلك وكان من أعقل الناس وأحسنهم خلقا وخلقا وكان رحمه الله أديبا بليغا متصرفا وشعره مجموع بأيدي الناس حدثني به الفقيه الأديب أبو عمرو عن الأديب أبي علي بن كسرى سماعا من لفظه وقراءة عليه عن أبي عبدا لله بن الرصافي وعن الأستاذ أبي عبد الله بن الحجاري عن أبي عبد الله بن الرصافي وأقيد منه إن شاء الله جملة يتذكر بها إن شاء الله من ذلك قصيدته المشهورة في الخليفة عبد المؤمن بن علي أنشده إياه بجبل الفتح عند إجازته إلى الأندلس وهي مما سمعه أبو علي بن كسرى من لفظه رحمه الله تعالى وهي:

لو جئت نار الهدى من جانب الطور ... قبست ما شئت من علم ومن نور
من كل زهراء لم ترفع ذؤابتها ... ليلا لسار ولم تشبب لمقرور
فضية القدح من نور النبوة أو ... نور الكرامة تجلو ظلمة الزور
ما زال يقضمها التقوى بموقدها ... صوام هاجرة قوام ديجور
حتى أضاءت من الإيمان عن قبس ... قد كان تحت رماد الكفر مكفور
نور طوى الله زند الكون منه على ... سقط إلى زمن المهدي مذخور
وآية كإياة الشمس بين يدي ... غزو على الملك القيسي منذور
يا دار دار أمير المؤمنين بسف ... ح الطود طود العلى بوركت في الدور
ذات العمادين من عز ومملكة ... على الأساسين من قدس وتطهير
ما كان بانيك بالواني الكرامة عن ... قصر على مجمع البحرين مقصور
مواطئ من نبي طال ما وصلت ... فيها الخطى بين تسبيح وتكبير
حيث استقلت به نعلاه بوركتا ... فطيبت كل موطوء ومعبور
وحيث قامت قناة الدين ترفل في ... لواء نصر على البرين منشور
في كف منشمر البردين ذي ورع ... على التقى وصفاء النفس مفطور
يلقاك في حال غيب من سريرته ... بعالم القدس مشهود ومحضور
تسنم الفلك من شط المجاز وقد ... نودين يا خير أفلاك العلى سيري
فسرن يحملن أمر الله من ملك ... بالله منتصر في الله منصور
تومي له بسجود كل تحركة ... منها ويوليه حمدا كل تصدير
لما تسابقن في بحر الزقاق به ... تركن شطيه في شك وتحيير
أهز من موجه أثناء مسرور ... أم خاض من لجه أحشاء مذعور
كأنه سالكٌ منه على وشل ... في الأرض من مهج الأسياف مقطور
من السيوف التي دانت لسطوته ... وقد رمى نار هيجانا بتسعير
ذو المنشآت الجواري في أجرتها ... شكل الغدائر في سدل وتضفير
أهدى المياه وأنفاس الرياح لها ... ما في سجاياه من لين وتعطير
من كل عذراء حبلى في تر ائبها ... ردعان من عنبر ورد وكافور
تخالها بين أيد من مجاذفها ... يغرقن في مثل ماء الورد من جور
وربما خاضت التيار طائرة ... بمثل أجنحة الفتح الكواسير
كأنها عبرت تختال عائمة ... في زاخر من ندى يمناه معصور
حتى رمت جبل الفتحين من كثب ... بساطع من سناه غير مبهور
لله ما جبل الفتحين من جبل ... معظم القدر في الأجبال مذكور
من شامخ الأنف في سحنائه طلس ... له من الغيم جيب غير مزرور
معبرا من ذراه عن ذرى ملك ... مستمطر الكف والأكناف ممطور
تمسي النجوم على إكليل مفرقه ... في الجو حائمة مثل الدنانير
وربما مسحته من ذوائبها ... بكل فضل على فوديه مجرور
وأدرد من ثناياه بما أخذت ... منه معاجم أعواد الدهارير
محنك حلب الأيام أشطرها ... وساقها سوق حادي العير للعير
مقيد الخطو جوال الخواطر في ... عجيب أمريه من ماض ومنظور
قد واصل الصمت والإطراق مفتكرا ... بادي السكينة مغفر الأسارير
كأنه مكبد مما تعبده ... خوف الوعيدين من دك وتسيير
أخلق به وجبال الأرض راجفة ... أن تطمئن غدا من كل محذور
كفاه فضلا أن انتابت مواطئه ... نعلا مليك كريم السعي مشكور
مستنشقا بهما ريح الشفاعة من ... ثرى إمام بأقصى الغرب مقبور
ما انفك آمل أمر منه بين يدي ... يوم القيامة محتوم ومقدور
حتى تصدى من الدنيا على زمن ... يستنجز الوعد قبل النفخ في الصور
مستقبل الجانب الغربي مرتقبا ... كأنه باهت في جو أسمير
لبارق من حسام سله قدر ... بالغرب من أفق البيض المشاهير
إذا تألق قيسيا أهاب به ... إلى شفا من مضاع الدين موتور

ومنها:

ملك أتى عظما فوق الزمان فما ... يمر منه بشيء غير محقور
ما عن في الدين والدنيا له أرب ... إلا تأتى له من غير تعذير
ولا رمى من أمانيه إلى غرض ... إلا هدى سهمه نجح المقادير
حتى كأن له في كل آونة ... سلطان رق على الدنيا وتسخير
مميز الجيش ملتفا مواكبه ... من كل مثلول عرش الملك مقهور
من الألى خضعوا قهرا له وعنوا ... لآمرة بين منهي ومأمور
من بعد ما عاندوا دهرا فما تركوا ... إذا أمكن العفو ميسورا لمعسور
بقية الحرب فاتوها وما بهم ... في الطعن والضرب سيماء لتقصير

ومنها

لا ينكر القوم مما في أكفهم ... بيض مفاليل أو سمر مكاسير
إذا صدعت بأمر الله مجتهدا ... ضربت وحدك أعناق الجماهير
لا يذهلن لتقليل أخو سبب ... من الأمور ولا يركن لتكثير
فالبحر قد عاد من ضرب العصا يبسا ... والأرض قد غرقت من فور تنور
وإنما هو سيف الله قلده ... أقوى الهداة يدا في دفع محذور
فإن يكن بيد المهدي قائمه ... فموضع الحد منه جد مشهور
والشمس إن ذكرت موسى فما نسيت ... فتاه يوشع قماع الجبابير

وله رحمه الله يمدح أبا سعيد السيد:

من عاند الحق لم يعضده برهان ... وللهدى حجة تعلو وسلطان
ما يظهر الله من آياته فعلى ... أتم حال وصنع الله إتقان
من لم ير الشمس لم يحصل لناظره ... بين النهار وبين الليل فرقان
الحمد لله حمد العارفين به ... قد نور القلب إسلام وإيمان
عقل وثابت حسن يقضيان معا ... للأمر أن سراج الأمر عثمان
السيد المتعالى كنه سؤدده ... عما تأول ألباب وأذهان
من زار حضرته العليا رأى عجبا ... الملك في الأرض والإيوان كيوان
كنا إلى الملا الأعلين ننسبه ... لو ناسب الملأ العلوي إنسان
كأنما يتعاطى فصل منطقه ... عند التكلم لقمان وسحبان
يغضي عن الذنب عفوا وهو مقتدر ... ويترك البطش حلما وهو غضبان
ففطنة من وراء الغيب صادقة ... منها على فضلها في الحكم عنوان
مزية ما أراها قبله حصلت ... لواحد من ملوك الأرض مذ كانوا
أستغفر الله إلا قصة سلفت ... قد كان قيمها يوما سليمان

ومنها:

سار من النقع في ظلماء فاحمة ... والشهب في أفق المران خرصان
ومغتد ومن الخطي في يده ... عصا تلقف منها الجيش ثعبان

ومنها:

غرناطة شغفت حبا ومنك لها ... بالحل وصل وبالترحال هجران
مولاي ماذا عليها مذ حللت بها ... في أن يغاربها ناس وبلدان
إذا تذكرت أوطانا سكنت بها ... فلا يكن منك للأضلاع نسيان

وهي طويلة ومن شعره رحمه الله:
خليلي ما للبيد قد عبقت نشرا ... وما لرؤوس الركب قد رجحت سكرا
هل المسك مفتوقا بمدرجة الصبا ... أم القوم أجروا من بلنسية ذكر
أكل مكان راح في الأرض مسقطا ... لرأس الفتى يهواه ما عاش مضطرا
ولا مثل مدحو من المسك تربة ... تملي الصبا فيه حقيبتها عطرا
نبات كأن الخز يحمل نوره ... تخال لحينا في أعاليه أو تبرا
وماء كترصيع المجرة جللت ... نواحيه الأزهار واشتبكت زهرا
أنيق كريان الحياة التي خلت ... طليق كريعان الشباب الذي مرا
وقالوا: هل الفردوس ما قد علمته ... فقلت: وها الفردوس في الجنة الأخرى
بلنسية تلك الزبرجدة التي ... تسيل عليها كل لؤلؤة نهرا
كأن عروسا أبدع الله حسنها ... فصير من شرخ الشباب لها عمرا
يؤبد فيها شعشعانية الضحى ... مضاحكة الشمس المنيرة والبحرا
تزاحم أنفاس الرياح بزهرها ... رجوما فلا شيطان يقربها ذعرا

وكتب إليه أبو بكر الكتندي رحمه الله تعالى

أعندكم يا ساكن الود أنكم ... بمرأى على بعد المسافات من حمص
أتقضي الليالي أن تلم بمنزل ... ألفناه ما بين الأراكة والدعص
وإني حريص أن يعود بما مضى ... زمان وما حرص المقادير من حرصي

فجاوبه رحمه الله

سلام أبا بكر عليك ورحمة ... تحية صدق من أخ لك مختص
لعمري وما أدري بصدع زجاجة ... عليك فقد تدني الليالي لما تقصي
لقد بان عني يوم ودعت صاحبا ... بريء أساليب الوداد من النقص
أقول لنفسي حين طارت بك النوى ... أخوك فريشي من جناحك أو قصي
فباتت على ظهر النزوع إليكم ... تطير بما في الوكر أجنحة الحرص
إلى كم أبا بكر نحوم بأنفس ... ظماء إلى عهد الأجيرع أو حمص
كأن لم تزر تلك الربا وكأنها ... عرائس تزهى بالمواشيط لا القص
ولا رنقت تلك الأراكة فوقنا ... فلوت إزار الظل في كفل الدعص
وكانت لنا فيما هناك مآرب ... تطيع الهوى العذري فينا ولا تعصي
ليالينا بالري والعيش صالح ... وظلك عنها غير منتقل الشخص
وما ذكرها لولا شفا من علالةٍ ... تتبعها نفسي تتبع مستقص
وددت أبا بكرٍ لو أني عالم ... وللكون زند ليس يقدح بالحرص
هل الغيب يوماً فارج لي بابه ... فأنظر منه كيف أنسك في حمص
بأزرق سلال الحسام وقد بدا ... يداعب في كأس تحرك للرقص
وما معصم ريان دار سواره ... على مثل ماء الدر في بشرٍ رخص
بأبهج منه في العيون إذا بدا ... ولاسيما والشمس جانحة القرص
خليج كخليط الفجر ينجر فوقه ... ذيول عشياتٍ مزخرفة القمص

وله يصف الدولاب: [مخلع البسيط]

وذي حنين يكاد شجواً ... يختلس الأنفس اختلاسا
إذا غدا للرياض جاراً ... قال له المحل: لا مساسا
يبتسم الزهر حين يبكي ... بأدمع ما رأين باسا
من كل جفنٍ يسل سيفاً ... صار له غمده رياسا

وله رحمه الله يصف جدول ماء عليه سرحة: [كامل]

ومهدي الشطين تحسب أنه ... متسيل من درةٍ لصفاته
فاءت عليه مع الهجيرة سرحة ... صدئت لصفحتها صفيحة مائة
فتراه أزرق غلالة سمرة كالدارع استلقى لظل لوائه

وله رحمه الله في صبي يظهر البكاء تباكياً: [طويل]

عذيري من جذلان يبدي كآبة ... وأضلعه مما يحاوله صفر
أميلد مياس إذا قاده الصبا ... إلى ملح الإذلال أيده السحر
يبل مآقي زهرتيه بريقه ... ويحكي البكا عمداً كما ابتسم الزهر
أيوهم أن الدمع بل جفونه ... وهل عصرت يوماً من النرجس الخمر

وله رحمه الله في تفاحة: [مخلع البسيط]

تفاحة أهديت إليه ... حمراء في لون وجنتيه
هم بتقبيلها فزارت ... فاه على رغم مقلتيه
بالله يا زهر محجرية ... دعني أسل آس عارضية
لم باكرت أقحوان فيه ... بقرع باب المنى عليه
لعله قد أعار يوماً ... نكهتها طيب مرشفية
فباكرته على حياء ... تصرف أنفاسه إليه

وله في حائك وسيم: [بسيط]
قالوا وقد أكثروا في حبه عذلي ... لو لم تهم بمذال القدر مبتذل
فقلت: لو أن أمري في الصبابة لي ... لاخترت ذاك, ولكن ليس ذلك لي
في كل قلبٍ غريزات مدلله ... للحسن, والحسن ملك حيث حل ولي
علقته حببي الثغر عاطره ... دري لون المحيا أكل المقل
إذا تأملته أعطاك ملتفتاً ... ما شئت من لحظات الشاذن الغزل
هيهات أبغي سواه في الهوى بدلاً ... أجدي الليالي, وهل في الحب من بدل
إذا يعاب عليه شغل راحته ... من يحسن الفرق بين الحل والعطل
غزيل لم تزل في الغزل جائلة ... بنانه جولان الفكر بالغزل
جذلان تلعب بالمحواك أنملة=على السدى لعب الأيام بالأمل
ما إن يني تعب الأطراف مشتغلاً ... أفديه من تعب الأطراف مشتغل
جذباً بكفيه أو فحصاً بأنمله ... تخبط الظبي في أشراك مختبل

وله رحمه الله في فتى صفار: [طويل]

تعلم صفاراً فقلت استعارها ... غداة رناً من صفرة العاشق الصب
يعود النحاس الأحمر اللون عسجداً ... بكفيه عند السبك والمد والضرب
فحمرته مشتقة من حيائه ... وصفرته مما يخاف من العتب

وله رحمه الله في مثله: [وافر]

ولم أر مثل صفارٍ تصدى ... كما صدئ الصقيل من السيوف
غدا يعطو بأنملتي حديدٍ ... عيون القطر كالذهب الشريف
إذا ما النار مجتها إليه ... كمثل الخمر رائعة الحفوف
تلألأ نورها فخبا سناها ... كما ظهر القوى على الضعيف
وإلا ما لها تزداد سوداً ... كأن شموسها قطع الكسوف

وله رحمه الله في فتى نجار: [طويل]

يقولون لي يوماً وقد عن حائراً ... كما عن ظبي السرب يتبع السربا
تعلم نجاراً فقلت لعله ... تعلمها من نجر مقلته القلبا
شقاوة أعوادٍ تولى عذابها ... فآونة قطعاً وآونة ضربا
غدت خشباًِ يجني ثمار ذنوبها ... بما استرقت من لين معطفها قضبا

وله رحمه الله تعالى: [كامل]

نشوان ما فوق الكثيب مهفهفٌ ... تثنيه في روض الشباب رياحه
ليل كلمته لو أن ظلامه ... ينشق عن ديجوره إصباحه
هبني أقول لهم جنى متعمداً ... (قتلي) فأين دمي وأين سلاحه

وله من قطعة يصف خطاً في كاغدٍ مقطوع بمقص: [طويل]

بعيشك هل أبصرت من قبل أحرفاً ... كتبن بماء الحسن في طرر الزهر
سحاءة قرطاسٍ تثنها كما ترى ... ملاعبة المقراض سطراً على سطر
أليس عجيباً أن يعوض كاتب ... بكافوره القرطاس عن مسكه الحبر

وله من قصيدة يصف بها إجازة الخليفة البحر: [بسيط]

خفضتم للمعالي نحو أندلس ... أعنة الماء بين الفلك والفرس
وأخجل البحر إن لم يحل مشربه ... وإن غدا عنبري اللون والنفس

وله يصف نهراً قل ماؤه: [كامل]

فتوالت الأمحال تنقصه ... حتى غدا كذؤابة النجم

وله في معذر: [كامل]

أقوى محل من شبابك آهل ... فأمقت أندب منه رسماًِ عافيا
مثل العذار هناك نؤي دائر ... واسودت الخيلان فيه أثافيا

وحدثني الفقيه الأديب أبو عمرو, قال: حدثنا الفقيه الكاتب أبو علي بن كسرى, قال: كنت كثيراً ما أقعد عند الفقيه الأستاذ أبي عبد الله الرصافي رحمه الله على جهة التبرك بأخباره والاقتباس من أنواره, وأنا إذا ذاك في حال الشبيبة, فسنح خاطري بأبيات شعر, فكتبتها في لوح وعرضتها عليه ولم أذكر له قائلها. فعرف الأمر وأخذ القلم من يدي وأزال ثوباً كان في يده, وكتب على البديهة: [مجزوء الخفيف]

اجعل العلم أولا ... واجعل الشعر آخرا
فإذا ما فعلت ذا ... كنت لا شك شاعرا

قال: فوقعت كلمته في أذني فلازمت القراءة فانتفعت, والحمدلله.

وجدت بخط الفقيه الأديب أبي عمرو بن عمرو بن سالم رحمه الله, قال: وجدت بخط شيخنا أبي عمرو بن عبد: ربه, قال أنشدني بعض الأصحاب لأبي عبد الله الرصافي رحمه الله في فتى رفاء من أهل تلمسان يعرف بابن موارة مما ارتجله فيه: [خفيف]

وبنفسي من لا أسمية إلا ... بعض إلمامةٍ (وبعض) إشاره
هو والظبي في الجمال سواء ... ما استفاد الغزال منه استعاره
أغيد يمسك الحرير بفيه ... مثل ما يمسك الغزال العراره
ما بقلبي حوته (منه) ضلوعي ... كالرداء انطوى وفيه شراره
داره القلب وهو يحتل أخرى ... قدس الله حيث ما حل داره

وله رحمه الله في قلم نظماً ونثراً من مقامه: [متقارب]

قصير الأنابيب لكنه ... يطول مضاء كطول الرماح
إذا عب للنفس في دامسٍ ... ودب من الطرس فوق الصفاح
تجلت له مشكلات الأمور ... ولان له الصعب الجماح

فلولاه لغدات أغصان الاكتساب ذواية, وبيوت الأموال خاوية, وأسرعت إليه البؤس, وأصبحت كفؤاد أم موسى, فهو لا محالة متجرها الأربح, وميزانها الأرجح. به تدر ألبانها, وتثمر أفنانها, ويستمر أفضالها وإحسانها. هو رأس مالها, وقطب عمالها وأعمالها, وصاحب القلم قد حوى المملكة (بأسرها) , وتحكم في طيها ونشرها. (وهو) قطب مدارها, وجهينة أخبارها وسر اختيارها واختبارها, ومظهر مجدها وفخارها. يعقد الرايات لكل والٍ, ويمنحهم من المبرة كل صافية المنهل ضافية السربال, يطفئ جمرة الحرب العوان, ويكابد العدو بلا صارمٍ ولا سنان. يفل المفاصل, ويتخلل الأباطح والمعاقل, ويقمح الحواسد والعواذل. وشعره رحمه الله كثيرة مدون, وسأذكر منه قطعة في باب موسى, وفي مراثي ابن أبي العباس ومنهم:



***



12- محمد بن عبد الرحمن بن عبد العزيز ابن أبي العافية الأزدي
المعروف بالكتندي, يكنى أبا بكر, من أهل غرناطة. وسكن مالقة مدة. وكان كاتباً لبعض ولاتها, وتردد عليها. وكان صاحباًِ لأبي عبد الله الرصافي, ولأبي علي ابن كسرى وبينهم بمالقة مقامات أدبية ومجالس شعرية وارتجالات نبيهة.
وكان أبو بكر هذا من أهل الأدب البارع والنظم الفائق. وذكرته وإن لم يكن من أهل مالقة لسكناه بها, وما بينه وبين أدبائها فمن شعره رحمه الله ما حدثني به الفقيه أبو القاسم بن عبد الواحد رحمه الله, وذلك في قوله يصف صفيحة نحاس عليها أسود نحاس أربعة: [مخلع البسيط]

انظر إلى الماء وانصبابه ... يجري من أفواه أسد غابه
أزرق ينساب ذا حباب ... كأنه الأيم في انسيابه
فاعجب لمرأى يروع, لكن ... قد زاد أنساً محلنا به
من كل ليثٍ إزاء ليثٍ ... يمج رقطاء من لعابه
أمنك من أنف ذي وفيها ... آمن من ظفر ذا ونابه

وقوله: [كامل]

ومهفهفتٍ هز الحسام وربما ... فلت لواحظه مضارب حده
حين فبالغ في تحيته وقد ... أبدى الحياء تورداً في خده
فسألت ما هذا, فقال مجاوباً: ... أنسيت نيساناً ويانع ورده
لا تنكروه فمن دم أهريقه ... بلحاظ من ساورت منه بوده
الورد خدي, والمهند ناظري ... ودم المحب هدية من عنده

وقوله رحمه الله, قال شيخنا أبو القاسم: وهو مما ارتجل فيه: [بسيط]

يا نخبة الظرف بل يا نخبة الأدب ... (هل) للهوى غير ذاك الحسن من سبب
البدر أطلعت من قد على غصنٍ ... متى ظفرت بأفلاكٍ من القضب

وقوله رحمه الله في النارنج: [سريع]

انظر إلى النارنج مستغرباً ... فما على إغرابه (من) مزيد
ألفت الضدين أشجارها ... وذاك من أغرب ما في الوجود

وقوله رحمه الله: [وافر]

لأمر ما بكيت وهاج شوقي ... وقد سجعت على الأيك الحمام
لأن بياضها كبياض شيبي ... فمعنى شذوها: قرب الحمام

ومن شعره ما حدثني الأديب أبو عمرو بن سالم عن الأديب أبي علي بن كسرى عنه, وهو قوله الله تعالى: [مخلع البسيط]

يا سرحة الحي يا مطول ... شرح الذي بيننا يطول
عندي مقال فهل مقام ... تصغين فيه لما أقول
ولي ديون عليك حلت ... لو أنه ينفع الحلول
ماضٍ من العيش, كان فيه ... ملبسنا ظلك الظليل
زال وماذا عليه, ماذا ... يا سرح لو لم يكن يزول

وقوله رحمه الله في الزهد: [بسيط]

أنت الغني وإن الفقر برح بي ... فأغنني بالغنى المغني عن الوصب
إن تدركني برحمى لم أخف دركاً ... وإن تكلني إلى نفسي فيا نشبي

وحدثني الأديب أبو علي بن كسرى, قال: دخلت يوماً بستان الوزير أبي عمران بن مرزوق, فوجدت أبا بكر الكتندي, وفي يده إناء قد ماء, وهو يستقي به أصل بهار قد ظهرت فيه نوارة في غير أوانها, فعجبت من كلفه بها فقلت: هل حضرك شيء فيها؟ فأطرق ساعة ثم أنشدني رحمه الله: [مخلع البسيط]

وحقكم إنه بهار ... يوجب أن تصبح العقار
عزه تشرين. أي يوم ... إليه من حسنه يشار
بعد احتجابٍ وطولٍ عهدٍ ... أبدى فماً, خده البهار
في روضةٍ سال كل شربٍ ... منها كما تنتضى الشفار
سقيت وسمية هموعاً ... يا روضة حثها ابتكار

قال الأديب أبو علي: ثم اتفق أن دخلت البستان المذكور في أول البهار فكتبت إلى أبي بكر الكتندي رحمه الله: [مخلع البسيط]

يا مولعاً بالبهار زرنا ... فروضنا زاره البهار
وانشط إلى قهوة أرتنا ... شمس نهارٍ ولا نهار
في روضةٍ إن حللت فيها ... حل بها الأنس والوقار
باكر أبا بكرٍ المفدى ... كأساً وزهراً له ابتكار
راق سناه العيون لما ... واسط مبيضه اصفرار
كأنه كأسنا المدار ... فذا زجاج, وذا عقار
يبسم ثغر الرياض منه ... عن دررٍ, حشوها نضار

قال أبو علي: فلم ألبث إلا يسيراً حتى سمعنا صوته وهو يقول: ها أنا بالباب عبد قن=أتى به طيفك الهني قال أبو علي بن كسرى: كنت قي أحد الأيام (قد) فارقت الأديب أبا بكر الكتندي على أن أجتمع معه عشي ذلك اليوم في البستان المذكور. ثم اتفق أن خرجت مع جملة أصحاب, وتركت أباكر المذكور. فأعلم بجمعنا فكتب إلي: [مخلع البسيط]

يا مولماً قد ألام (عنا) ... لم يثن قوماً إلى مزاره
جدت له دمعي بمزنٍ ... وضن بالرشف من قراره
جنته أزلفت لغيري ... وبرزت لي جحيم ناره

وقال أبو علي: فلما قرأت البطاقة خجلت, وخجل من كان معي من الفتيان, فكتب إليه: [مخلع البسيط]

يا لائماً قد ألام لما ... أجريت فعلي على اختياره
فرق ما بيننا اجتماع ... أشفقت منه على وقاره
لما اضطرنا له, ولكن ... لا عذر للمرء في اضطراره

وحدثني الأديب أبو عمرو قال: أنشدنا أبو الحسن الوقشي, قال: أنشدنا أبو بكر الكتندي, وأمر أن تكتب على قبره رحمه الله: [مديد]

حي قبراً بالبقيع حوى ... ذا اغترابٍ حط أزحله
جد في تسياره وجرى ... طلقاً ما شاء أطوله
فهو قد ألقى عصاه ولم ... يدخر إلا توكله

وله رحمه الله عليه: [بسيط]

إلى أبي القاسم المختار من مضرٍ ... حنت (له) الجدع قلبي, فار بالكرم
أنام ملء جفوني لا يمثل لي ... في نومه ٍفكأنه العين لم تنم
فالنفس في يأسها منكم مولهة ... ليست من الأمل الأسنى على أمم
كم رمتها يا رسول الله مرتبة ... لو كنت آمل أن ألفاك في الحلم

وشعره رحمه الله كثير.


***


23- محمد المعروف بربيب الحشا
أظنه من الجزيرة, وسكن مالقة, وأقام بها. وكان أديباً شاعراً. وجدت بخط الأديب أبي عمرو رحمه الله مجالسته له وإنشاده إياه في منزله بمالقة في سنة سبع وثمانين وخمسمائة. فمن شعره رحمه الله وقد أهدي بطيخة, فقال: [كامل]
وسليلة القثاء أكسبها (البها) ... لونين, كل عند منظره حسن
وحكى بها للنحل صنعتها التي ... خصت به سراً فأبرزها علن
للشهد ما انطبقت عليه, وما اكتست ... قير بلا نارٍ يذوب على البدن
صفراء في لوني, فديتك, بينت ... ما يشتكيه المرء من نكد الزمن
للجمر منظرها, ومطعمها إلى ... ذوق الوصال استمر على أمن

ومن شعره رحمه الله في خزانة كتب: [كامل]

ووعاء عودٍ للعلوم صيانة ... حلمت ذخائرها قوائم أربع
محفوظة الأشكال مما قد حوت ... فالعلم يحفظ ما حواه ويمنع
خشب كلون التبر يشرق فوقها ... حلي حكى لون اللجين ويسطع
باهت على كل الخزائن إن ما ... تجريه يبقى إذ يصان فينفع
ويعيده مر الليالي, فالذي ... تحويه منتزه يفيد ويمتع
ويزيد بالإنفاق منا فكره ... فمتى يباع في كل حين ٍيشفع
خفت وطير بشخصها لما حوت ... سراً تطير به الجبال وتسرع
والعلم ينشر ما انطوى في جوفها ... فيكاد يسمع ما يقول ويسمع
فكأنها جسم يحرك شخصه ... روح يموت, وحين تفتح يرجع

وله رحمه الله من يتغزل: [كامل]

ولعوبة القرطين إلا أنها ... بين الرماح السمر نابية المحل
ضربت قباب العز وسط مفازةٍ ... ينسى بها الليل النجوم إذا ارتحل
لا يقطع الفرس العتيق بها الصدى ... إلا استجاب له الهزبر إذا صهل
كم ظبيةٍ ترعى الأراكة بالحمى ... وتراع من رشأٍ يرود وما استقل
يبدو فتى حول الكناس مخافة ... من ضيغم ٍيسعى بمنصله بطل
تترقرق الآجال فوق حسامه ... كترقرقي بين الصبابة والعذل
أسكنتها طي الضلوع وربما ... ريعت بنار الشوق من ذاك الطلل
حتى إذا ضرب الفراق بسهمه ... وغدت تهادى تحت أرحلنا الإبل

جاذبتها طرف الحديث وربما ... شاطرتها لحظي لأنظر في الكحل
فترفعت تيهاً ومالت مثل ما ... مال القضيب من الصبا ثم اعتدل
وتضرجت خجلاً, وقالت هل درت ... (عيناك) أي دمٍ بلحظهما أطل
أدميت خداً طال ما رفعت له ... أرواح أهل الحب فوق ذرى الأسل
فأجبتها ذلاً كما حكم الهوى ... لأحل من وجناتها غير الوجل
لم تدم عيني الخد منك وإنما ... سقيت ورود الحسن من ماء الخجل
فمضت وهودجها على جمل النوى=كالشمس حلت فوق جمجمة الحمل حدثني بهذه المقطوعات الأديب أبو عمرو رحمه الله, (قال) : أنشدنيها بلفظه قائلها المذكور رحمه الله. وشعره كثير.



***


36- محمد بن أحمد بن عيسى بن جدار
المشهور بالحميري, يكنى أبا عبد الله. كان رحمه الله من أهل الأدب. ومن شعره رحمة الله عليه: [خفيف]

لي حبيب يفاخر الشمس حسناً ... وهو والله في المحاسن فائق
قد دعوه موفقاً على وفق ... وحبيب النفوس كل موافق
فاتن في الجمال يختال ظرفاً ... فيروق العيون والظرف رائق
زهري الطباع يهوى ويهوى ... فهو معشوق كل نفسٍ وعاشق
إن يخاطبك في رموز هواه ... تبصر البدر بالعجائب ناطق
إن أفارقه باضطرارٍ وقهر ... لست بالحب والذمام مفارق
كل من عاقني عن الحب فيه ... فهو للحق والحقائق عائق
قد سكرنا بحبه وطربنا ... فهجرنا الطلا وتلك الأبارق
برح الصب بالعلائق شجواً ... يا لها في فؤاده من علائق
هكذا وجدته مذكوراً. وشعره في بعض تقييدات أبي عمرو بن سالم رحمه الله. قلت: ولا أعرفه (بغير ذلك)


***




38- محمد بن الولي
يكنى أبا عبد الله. كان رحمه لله من الطلبة النبهاء, أديبا ًشاعراً لبقاً. وكان
حديث السن, أنشدني شيخنا الفقيه الأديب إسحاق القرطبي أكرمه الله, للفقيه المذكور في صبي حسنٍ الصور, أجرى فرساً بساحل مالقة, فقال يصفه: [طويل]

رأيت غزالاً فوق طرفٍ كأنه ... هلال بدا تحت الدجنة يشرق
فقلت له لما انثنى عطف شارةٍ ... ومر كبرقٍ لاح بل هو أسبق
عبيدك يا نجل السيادة هالك ... ببحر الهوى إن لم تغثه سيغرق
فأنت الذي حزت المكارم والعُلى ... وأنت الذي قلبي إليه موثق
أخبرني به شيخنا أبو إسحاق المذكور, وغير واحد. قلت: ولا أعرفه بغير ذلك




***



48- محمد بن حسن بن إبراهيم الأنصاري
يعرف بالبنالي. من جلة طلبة مالقة. كان كاتباً بليغاً وشاعراً مطبوعاً. وله كتاب سماه بطلوع الزهرة السنية في سقوط زهرة الثنية, أثبت فيه أشعار الطلبة بمالقة, وحلاهم فيه. وقد ذكرت له منه في مواضع من هذا الكتاب. فمما أثبت فيه من قوله: [مخلع البسيط]

وشادنٍ رائق المحيا ... تاه به الحسن والشباب
إحدى ثناياه قيل عنها ... (قد) اعترى بعضها ذهاب
أنجز وعد الفراق منها ... فمن حجى فعله يهاب
فكأنه رجيم بشهب ... إذا شرر فيه والتهاب
قد ظل يبغي استراق سمعٍ ... فانقض منها له شهاب

وله في المعنى: [رجر]

وبارع الحسن زرى في النظر ... ببهجة الشمس وحسن القمر
قالوا وقد ماس بغصن ناعم ... أسقط بعض ما به من زهر
كم أسقطت إحدى الثنايا مبسماً ... له كمثل الخاتم المجوهر
فانطرحت عن عددٍ جملتها ... من قبل في حساب تلك الطرر
أما رأوا بحر الجمال يرتمي ... والبحر قد يطرح بعض الدرر

وله في المعنى: [مخلع البسيط]

وبارع الوصف ذي جمالٍ ... لكل قلب به احتفاء
فقلت قول امرئ خبيرٍ ... له بتحقيق ذا اكتفاء
وما الثنايا سوى حبابٍ ... جرى على بعضها انطفاء

وله في المعنى: [وافر]

وريم كم رمى قلبي نبالاً ... بسحر جفونه أبداً تراش

إن (ابدى) السن منه حصاه قلنا ... سنا المصباح أطفأه فراش

ومن شعره, وكتب به إلى الفقيه الأوحد أبي جعفر بن خديجة: [متقارب]

لأنجم أفقك نستمطر ... وأسهم ذهنك نستنصر
فأرض الطروس إذا جدبت ... بسحر بلاغتكم تمطر
فتنبت في الحين روضاً له ... جنى زهرٍ أنواره تزهر
نجوم من الأفق منقولة ... بأرضٍ سماء بها تبهر
حدائق صور فيها الجمال ... حداقاً من الأنس لا تسهر
فيا حسنها لم تزل دائماً ... عيون المعاني بها تبصر
فتلك قدود, وتلك خدود ... فمنظرها طاب, والمخبر
ومهما وردنا على غربها ... فليس لنا بعده مصدر
أنضحي على فرط برح الظما ... وفضل أبي جعفرٍ يسفر
ويا ابن خديجة إن أخرجت ... معانٍ تتم وتستظهر
فعذب حلاه, وخصب علاه ... لنا روضة, ولنا كوثر


***



62- صفوان بن إدريس
يكنى أبا البحر. أصله من مدينة مرسية. واجتاز على مالقة, وأقام بها مدة, وأخذ عنه بها من شعره كثير. ثم انتقل إلى مراكش فأقام بهامدة. وهذا المذكور من فحول شعراء الأندلس, وأدبائها شاعر مفلق وكاتب بارع, تضرب ببراعة كتبه الأمثال. وله رسائل عجيبة ومقامات غريبة, وأشعار رائقة. نقلت من خط أبي عمرو بن سالم قال: أنشدني أبو البحر صفوان لنفسه بمالقة عند توجهه إلى الحضرة من شعره: [كامل]

يا حسنة والحسن بعض صفاته ... والسحر مقصور على حركاته
بدر لو أن البدر قيل له اقترح ... أملاً, لقال: أكون من هالاته
عبث بقلب محبه لحظاته ... يا رب لا تعتب على لحظاته
ركب المآثم في انتهاب نفوسنا ... فالله يجعلني من حسناته
يعطي ارتياح الحسن غصناً أملدا ... حمل الصباح فكان من زهراته
والخال ينقط في صحيفته خده ... ما خط حبر الصدغ من نوناته
وإذا هلال الأفق قابل خده ... أبصرته كالشكل في مرآته
ما زلت أخطب للزمان وصاله ... حتى دنا, والبعد من عاداته
فغفرت ذنب الدهر فيه لليلةٍ ... سترت على ما كان من زلاته
غفل الزمان فنلت منها بدره ... يا ليته لو دام في غفلاته
ضاجعته والليل يذكي تحته ... نارين من نفسي ومن وجناته
بتنا نشعشع والعفاف نديمنا ... خمرين من غزلي ومن كلماته
وضممته ضم البخيل لماله ... أحنوا عليه من جميع جهاته
أوثقته في ساعدي لأنه ... ظبي خشيت عليه من فلتاته
والقلب يدعو أن يصير ساعداً ... ليفوز بالآمال في ضماته
حتى إذا هم الكرى بجفونه ... وامتد في عضدي طوع سنانه
عزم الغرام علي في تقبيله ... فنهضت أبدي الطوع من عزماته
وأبى عفافي أن يقبل ثغره ... والقلب مطوي على جمراته
فاعجب لملتهب الجوانج غلة ... يشكو الظما والماء في لهواته

له يخاطب أبا عبد الله بن مرج الكحل المتقدم الذكر, فقال: [طويل]

سأنفث والمصدور لا شك نافث ... وأسمع إن أصغت إلي الحوادث
وكم وقفت لي بالمعاتب مثلها ... على حين لا شيء على الصبر باعت
فهل سحر هاروتٍ, يقي (لملمةٍ) ... فروعي مميت, والتوهم باحث
خليلي من سكان بابل حدثا ... فإن الخليل للخليل محادث
هل السحر باقٍ مثل ما قد عهدته ... أم اتفقت بعدي أمور حوادث
وما عند هاروتٍ وماروت فنظرا ... أعلمهما في ذلك الغار لابث
وإلا فشعر قد أعارته عينها ... فإن ابن مرج الكحل بالسحر نافث
أما والذي أعطاه في الشعر غاية ... أماني ابن حجر عن مداها روائث
وقال أليس الحسن ذلك طبعة ... وأنك فيه من محل لماكث
لقد راع سربي أن عناني بقوله ... تغير لي فيمن تغير حارث
فمن بعد هذا القول لست بجانح ... إلى مكسبٍ إذا مكسبي هو حارث

ومنها:

ووجهتها غراء عل قرينه ... يصيخ, وبي فك القديم الكثاكث
كأن بياض الطرس سامٍ كرامة ... وأسوده حامٍ, فمن هو يافث

ومنها:

وفي حرم الإخلاص ودك عندنا ... وقد منعت عنا هناك الروافث
وسوق ودادي نفقت كاسد الوفا ... وقد كسدت فيها المساعي الرثائث
متى رمت بي نصراً تجبك ثلاثة ... لساني وودي والسريجي ثالث




وكتب إليه ابن مرج الكحل بقصيدة أولها: [طويل]

أعادتك من ذكر الأحبة أشجان ... فقلبك خفاق ودمعك هتان
تحن على شحط المزار إليهم ... ومن دون لقياهم قفار وبلدان
خليلي ما في الأرض صفو مودةٍ ... إذا لم يكن يصفي المودة صفوان
رماني بزورٍ وهو بالحق عالم ... وكل كلام الشر زور وبهتان
نطقت فأفحمت العراق بلاغة ... وأخرست ما تحوي السراة خراسان
ولو سمعت سمعا عكاظ بلاغتي ... لما جرر الأذيال في الدهر سحبان
ولو كنت في جيل الأوائل لم يكن ... ليذكر بالإحسان في الشعر حسان

فجاوبه الفقيه أبو بحر صفوان بقصيدة منها: [طويل]

سل البان عنهم كيف بعدهم البان ... أشاقوه إذا ساروا, وراعوه إذ بانوا
ألم يتعاط دون بانٍ قضيبه ... فتلك القدود الهيف في العين إخوان
فما بالها لم تدن شوقاً إليهم ... ولم تنقدح فيها من الوجد نيران

ومنها:

إليه فلا انجرت ذيول ظلالها ... ولا أشبت منها المعاطف أغصان
فإن حكموا أن القدود ذوابل ... فشاهدهم أن النواظر خرصان
وإن أجمعوا أن الخدود أزاهر ... فحجتهم أن المعاطف أفنان
خليلي عوجا وانظرا وتبينا ... ولا تكسلا, لن يبلغ المجد كسلان
أهدي الذي تهدي الرياح سلامهم ... فإني أرى للريح عرفاً له شان
لعلهم قد أودعوها شذاهم ليرتاع ... مشتاق ويهتز هيمان
وإلا فقولا أنتما قول منصفٍ ... أطبع نسيم الريح روح وريحان
أقول لقلبي حين أشعر غدرهم ... ثكلت, أترضى أن تخون كما خانوا
ولا غرو أني كنت للعهد حافظاً ... وكلهم عند الشدائد خوان
فعن حكمةٍ ما يخزن النار مالك ... ويخزن دار الخلد والفوز رضوان
ولا كابن مرج الكحل علق مضنةٍ ... تشد عليها للشدائد أيمان
وما راعني من وده, غير أنه ... يغيره قوم كدهري ألوان
أقول لما أصاخ لقولهم: ... أمن نفحات الريح يهتز ثهلان

ومنها:

لعمري وما عمري بحلفة فاجرٍ ... ولكنها بر وصدق وأيمان
لقد علمتني كيف تصفو مودتي ... "أعادتك من ذكر الأحبة أشجان"
صدقت, إذا لم يصف صفوان وده ... فليس بصافي الود في الناس إنسان
هل النون في صفوان إلا مزيدة ... من الصفو والإخلاص يستبن صفوان
شهدت يقيناً أن فكرت آية ... يؤيدها من معجزاتك برهان
فلا تجعلني من بني الدهر إنهم ... لنعلي على أني تسامحت عبدان
ولا كل من يدعى فتى هو مالك ... ولا كل من فوق البسيطة سعدان
ألست الذي ارتج العراق لذكره ... كما ارتج إذ لآقت جيادي صنعان
وكم كلفت مصر بنشر مآثري ... وقامت على ساقٍ لذكري بغدان
لي الكلم العذب الذي (لو) بذلته ... لطالبه ما استعمل الماء صديان
من الكلم الرطب الذي لو أبحته ... لزيف: عقيان وبهرج مرجان
كلام إذا أرسلته قال بعضهم ... لبعضٍ: أعني الآن عمري لقمان

ومنها:

وإني لماضي المضربين وحاملي ... جبان ولكن في (المجامع) سحبان
جردت حساماً في يد الدهر لو درى ... لساد به, لكنما الجهل حرمان
ولو أن إنساني يسر مودتي ... لما انطبقت من فوقه لي أجفان



وكتب رحمه الله عن أحد الناس يستعطف أحد أهل الدنيا: أما بعد, أدام الله مدة الشيخ أبي فلان, وأبقاه عماداً وجنة ونصرة, وعاطفاً على من استجار به من ساعة العسرة. ولا زال منتصراً للمظلوم, دافعاً في صدر الظلوم, راعياً حق الأدب الذي أضاعه الزمان وأهمله, منتهضاً منه ما قعد به الدهر فأخمله, فإنما يرجى للعظيمة العظيم, ويدخر للشدائد من حقه التوقير والتعظيم, وإلى الله يلجأ اللهفان, وبسفينة نوح يستجير من كنفه الطوفان. وأنا بالله ثم بك من زمانٍ عطل أدبي, وأردت أن أقول به فأقعد بي. وكلما أشرت إلى أن أبرأ, نهب, وإن جنحت إلى أن أخمد, ألهب, وأنشد وقد جاء بالتعنيف وذهب:

الضب والنون قد يرجى اتفاقهما ... وليس يرجى التقاء اللب والذهب

فبقيت لا أدري هل انطباعي قصر من طباعي, أم براعتي أخملت يراعتي, أم فصاحتي عمرت, بالخمول ساحتي, أم سحر أدبي إلى الهوان أدى بي, أم إطنابي قصر أطنابي. كما لا شك أن إشعاري جعلت اتصال أشعاري, ورسائلي قطعت وسائلي, وشوارد أمثالي أبت أن يسود أمثالي. فهلا بناتي عناني, ولم تكن مذهباتي مذهباتي, وخطابي. أستغفر الله لا أشكو ولا أدع, رغم أنف الأشم وشموخ الأجداع. فأقسم بمآثرك التي خلدتها حجولاً للزمان وغرراً, ونسقتها في جيد الوجود درراً, ثميناً في غير إغلاق, لولا أن الله تعالى يقول: (ولا تقتلوا أولادكم من إملاق) , لوأدت بنات فكري بغير ذنب, ونفضت يدي من الأدب عن الصاحب بالجنب, وبرئت من الأدب وأربابه, وأتيت الزمان من بابه. ولكن بقي أعزك الله في الفضيلة فضلك, وهذا الهدف سيقرطسه إن شاء الله نصلك. وها أنا قد وقفت بين يدي علاك أخاصم دهري, وأباحثه لأية علةٍ فتق كمائم الخمول عن زهري, أم كان أراد أن لا يجمع بي الحسنيين, ولا يطابق في المنظر والمخبر بين المغنين. فعلى (هذا) من يحسن في جميع الجهات ويجعل, من ذا الذي يعطى الكمال فيكمل. وإن كان إنما حط درجتي ظلماً وهضماً, وعبث بجاهي فشرط نظماً فكفى بك حكماً من أهله, يضرب على يديه جهله ونشله. يا أبا سليمان, اخبر الزمان, واحكم في قضاياه حكم سليمان, واقض بيني وبين زماني بالواجب الأحق, وإنما نحن خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق, ومثلك نهض بمن ألقى إليه يد الاستسلام, نهضة عمر بن الخطاب رضي الله عنه لشهرة الإسلام. وإليكها تختال كما تفعل كل ذات ذيل, وتستجير بك من زمان ضل في اهتضامها ضلال هذيل ولا غرو أن تجيرها, فالفضيلة خامسة طبائعك, وإسعاف مؤملك عنوان صنائعك. وكم لها من أخية, تصغيرها على حد التكثير كما قالوا بريق ودويهية, والمشار بهما إلى الأمر. والله تعالى يخلد ذكر مجدك في بطون الأوراق, يتهاداه العراق من الشام والشام من العراق, والسلام كما اعتمره الزمان بالأشواق, وطير الثناء يروح ومجدك سخي بالعشي والإشراق, والسلام. وكتبه رحمه الله كثير مشهور.



***

76- عبد الله بن رضوان المداتي
من أهل مالقة, وكان له ابتداع آلات. وكان مشتغلاً بصنعة الحساب والفرائض ماهراً فيها, عارفاً بفنونها وأنواعها. وكان له ميل إلى الأدب. نقلت من خط أبي عمرو (بن سالم) قال: أنشدني هذه الأبيات الحاج أبو محمد عبد الله بن رضوان المداتي لأبي عمرو بن عامر من وادي آش هذه الأبيات: [كامل]

ومهفهفٍ وجناته جناته ... وحماته من قاطفٍٍ لحظاته
خطت لنا ألفاً مراقب لحظه ... فوددت أن سواعدي لاماته
ثم انبرى يتلو على أستاذه ... فكأن مزماراً حكت لهواته

وأنشدني: [كامل]

ومهفهف ٍقلق الوشاح يروعه ... جرس السوار, ويشتكي من ضيقه
وسنان خط المسك فوق عذاره ... لاما عرفت النون في تعريقه
ما باله في خده من ورده ... لهب وقلبي لاعج بحريقه
أضحى عذاب الصب في هجرانه ... لكن شفاء الصب في تعنيقه



***


77- عبد الله بن حسن البرجي
يكنى أبا محمد, كان رحمه الله من أدباء مالقة ونبهائها معدوداً في أذكيائها وشعرائها. (وكانت) بينه وبين أبي عمرو (بن سالم) مكاتبات كثيرة.

فمن شعره رحمه الله: [كامل]

تاه الجنان بآسه وبورده ... ومعذبي أربى عليه بخده
فاستنشقن نسيمه من عرفه ... واهصر قضيب ثماره من قده
لكن نكهة ريقةٍ من ثغره ... أندى وأعطر نفحة من رنده
من أين للأغصان عطفة لينه ... إن جاء يرفل معجباً في برده
أو لاح ما حملت من صيقلٍ ... كلفت أنامله بمرهف هنده
سيفيه فاحذر خيفة إن سل ذا ... من لحظه أو سل ذا من غمده
من أي سيفٍ شاء يبطش كفه ... وسيوفه ولحاظه من جنده
لم يستقلا باله, ما منهما ... إلا وفيه سرائر من عنده
وكأن بارع قدره من قده ... وكأن لمحة ظرفه من خده
أشقى وأنعم في هواه فأجتني ... ضدين من نعمى رضاه وضده
فتنعمي وتلذذي من قربه ... وتعذبي وتشوقي من بعده
هل يا محمد لي لوصلك منهل ... يروي ظماً للعاشقين بورده
أودى بعبد الله لحظك, والهوى ... نار تشب على حشاشة كبده
فارحم تضرعه إليك وذله ... واستبق بعض دمائه من وجده

قال أبو عمرو بن سالم: حضرنا موطناً فيه صاحبنا أبو محمد البرجي وأبو العباس أحمد بن راشد اللخمي, فجاء فتى من أهل الظرف وسألهم قطعة في فتى اسمه رضوان, فقال أبو محمد -يعني البرجي- ارتجالا: [طويل]

يناديك يا رضوان عبد متيم ... يحن لمرآك الأنيق فؤاده
غريب رماه البين في أرض ريةٍ ... وقد بعدت أوطانه وبلاده
وها هو قد زمت ركائب بينه ... فآن لعمري, نأبه, وبعاده
فمنوا بتوديع المسافر واسمحوا ... بقبلة (كف) منكم فهو زاده
وثنوا بأخرى إن أرتم حياته ... بريق الثنايا كي يتم مراده
ولا تسمعوا من قول واشٍ مخببٍ ... يطير شرار النار نحوي زناده


***


91- عبد الرحمن بن عبد الله بن أحمد بن الحسن بن أبي الحسن الخثعمي ثم السهيلي
هو الإمام العالم. (كان) رحمه الله من جلة العلماء وعليتهم عارفاً متفنناً ضابطاً حافظاً للغات والآداب. وله تواليف ككتاب الأعلام بما وقع القرآن من الأسماء الأعلام, وكتاب الروض الأنف, وكتاب نتائج الفكر, وغير ذلك. وصفه الفقيه أبو العباس أصبغ في كتابه. فقال فيه: هضبة علوم سنية, وكان في الشعر واضحة جلية, من رجل تلقت القريض يمينه, وانتظم له من جوهره ثمينه. عفا على ابن الدمينة في التشبيب, واستوفى في أغراض مدحه جميع ما أبتدع فيه حبيب. إن مد فيه الرشا, فما شئت من إبداع وإنشا, وإن قصد أو عجز, بذ من سبق قلبه وأعجز. ولا تبارى في ميدانه خيله, ولا يساجل وشله ولا سيلة. قلد أجياد الدولة المهدية والخلافة القيسية منه قلائد, فضحت الحلي عن أتراب الخرائد, ونمنم فوشى برودها, وروض منها تهائمها ونجودها. وكان في شعرائها من سوابق ميدانها. وممن أحرز قصب رهانها, حسن توليدٍ واختراع, وتنكيتٍ وتجويدٍ وإبداع. ثم امتد به أجله, وأنسأه في شأو الحياة مهله, حتى تطلع في سماء مجلس أمير المؤمنين بدراً, وتبوأ منه بعلمه البارع محلة ووكراً, فخلع على أهله من منمنم أمداحه خلعاً, وابتدع من مليح قريضه بدعاً, أصارت إليه منهم قلوباً, وأنالت من أكفهم مأمولاً ومطلوباً. فمن قوله الذي لا حسن إلا وهو مخلوع عليه, ولا عنان يريع إلا وملاكه بين يديه, قوله في السيد الأعلى أبي سعيد ابن أمير المؤمنين: [بسيطٍٍ]
الدين يشرق والأيام تبتسم ... والدهر معتذر, والخطب محتشم
ودولة الحق والتوحيد قد وضحت ... لها بشائر زاحت عندها الغمم

ومنها في المدح:

السعد يقدمها والنصر يخدمها ... ما حاز مقدمه إلا همت نعم

ومنها:

ولا تيم أرضاً حشمت وغرت ... إلا همى فوقها من سيفه نقم
سيف نضاه أمير المؤمنين, متى ... يرم العدى بحسام مثله هضموا
وكوكب في سماء المجد أطلعه ... تنجاب عن أفقها من نوره الظلم
وهو الغمام الذي يغشى البلاد ولم ... ترحل إليه فتهمي نزلها الديم

ومنها:

يدنيه من كل ذي أرضٍ تواضعه ... وفوق هامه كيوان له قدم
لو كان منقسماً رأفةٍ ملك ... بين الرعية أضحى وهو منقسم

ومنهم:

هذا ابنه, وهو بعض منه خص به ... هذي الجزيرة كي تحمى به الحرم
ما إن رأوا قبله من كعبةٍ قصدت ... حجاجها, ولهم من ظلها حرم
كأن سيب نداه ملء زمزمها ... وكفه الركن إذ يغشى ويستلم
لو كان ينفع ذا ود مساهمه ... ظلت عليه بقاع الأرض تستهم

وهي طويلة. ومن شعره في المدح: [بسيط]

العود أحمد من بدءٍ حلا فعد ... إلى المدائح في قرب وفي بعد
عد لامتداح أميرٍ ما يكافئه ... في الفضل بعد أبيه الخير من أحد
أبي سعيد حليف السعد لم تره ... إلا رأيت لديه السعد في صعد
والدهر حين رأى أنوار دولته ... أغضى وأدبر يشكو عامد الرمد
سيف نضته يد الميمون طائره ... سهامه الشوك زجر اليث للنفد
تضعضعت عصب الإشراك نافرة ... "ولا قرار على زأرٍ من الأسد"

وهي طويلة. وله رحمه الله وقد قال لشخص في الصباح, كيف أمسيت: [طويل]

لئن قلت صبحاً: كيف أمسيت مخطئاً ... فما أنا في ذاك الخطا بملوم
طلعت وأفقي مظلم لفراقكم ... فخلتك بدراً والمساء همومي

ومن شعره: [كامل]

خلف السلام على الذين أحبهم ... وسقى منازلهم بكل سكوب
أبت الفراق قلوبنا وقلوبهم ... يا ليت أبدانا لنا كقلوب

ومن شعره: [طويل]

أسائل عن جيرانه من لقيته ... وأعرض عن ذكراه, والحال تنطق
وما بي إلى جيرانه من صبابةٍ ... ولكن قلبي عن صبوحٍ يرقرق

ومن شعره: [وافر]

وذي نفسيٍ أنم من الخزامى ... وثغرٍ مثل ما عبقت مدام
شكوت له الهوى وبكيت شوقاً ... فأعقب عبرتي منه ابتسام
فقلت: أضاحك مني وهذي ... دموعي عن لظى كبدي سجام
فقال: الروض تضحك كل حينٍ ... أزاهره, وإن دمع الغمام

وله وقد أهدي له مسك: [سريع]


أهدى له شهباً بأنفاسه ... من عذب القلب بوسواسه
يا مرسل المسك لنا نفحة ... وكل مسك دون أنفاسه
كل نعيم دون ذاك اللمى ... وكل بوسٍ دون إيناسه

ومن شعره: [كامل]

أشبهن من بقر الفلاة صواراً ... لخطى, وحسن مقلدٍ, ونفارا
فلحقن بالعجماء حسن تشبهٍ ... كيما تكون جراحهن جهارا

ومن شعره: [بسيط]

أبدى الهوى وتجافى عن زيارتنا ... وظل يكثر من عذرٍ ومن علل
لا تدعي حب من أتلفت مهجته ... بالصد منك وبالإعراض والبخل
تقول: لا حيلة في الوصل أعرفها ... لو صح منك الهوى أرشدت للحيل

ومن شعره:

أرى البر لا ينفعك براً بأهله ... وذا البحر لا يألو عقوقاً لراكب
وما ذاك إلا أن هذا مناقض ... وهذا يراعي وصله في المناسب

ومن شعره:

إذا قلت يوماً سلام عليك ... ففيها شفاء وفيها سقام
حياة إذا قلتها مقبلاً ... وإن قلتها معرضاً فالحمام
فأعجب من ضد حاليهما ... وهذا سلام وهذا سلام

وله في مجبنة: [كامل]

شغف الفؤاد نواعم أبكار ... بردت فؤاد الصب وهي حرار

وله في محمل كتب: [خفيف]

حامل للعلوم غير فقيهٍ ... ليس يرجو ضرا ولا يتقيه
يحمل العلم فاتحاً قدميه ... فإذا انضمتا فلا علم فيه

وله في قول"لا": [سريع]

قد أجمع الناس على بغض"لا" ... ولست أنسى أبداً حب "لا"
لأنني قلت له: سيدي ... تحب غيري أبداً, قال: "لا"

ومن شعره: [كامل]
لما أجاب"بلا" طعمت في وصله ... إذ حرف"لا" حرفان معتنقان
وكذا"نعم" بنعيم وصلٍ آذنت ... فنعم, ولا في الحب متفقان

ومن شعره: [كامل]

قاسوا الحبيب إلى الحبيب الأول ... بحنين مغترب لأول منزل
هيهات ما حب التليد كطارفٍ ... أين القديم من الجديد المقبل
نور الأقاح الغض أحسن منظراً ... وأرق عزفاً من أقاح ذبل
وليانع الثمرات حظ في المنى ... ليست ليابسهن عند المأكل
فدع القياس على مثالٍ في الهوى ... وانظر إلى عطف الرؤوم المطفل
إن قلت يعدل عندها حب الطلا ... حب المربب قلبه لم تعدل
ولعلمهم أن الجديد محبب ... قالوا: اغترب كيما تجد أو ارحل



ومن شعره فيمن ركب البحر: [كامل]

ركبوا السفين فقلت بعدهم ... والعين تذرف دمعها سكبا
لو أنني كنت امرءاً ملكاً ... لأخذت كل سفينةٍ غصباً

وشعره رحمه الله كثير, وأدبه وعلمه مشهور. وكان عالي الرواية. روى عن أبي بكر بن العربي, وابن بونة, وحفيد مكي, وشريح, وغيرهم. كان حافظاً لأنساب العرب, وسير النبي صلى الله عليه وسلم. وكان مولده عام سبعة أو ثمانية وخمسمائة. وكف بصره (وهو) من نحو سبعة عشر عاماً. وتوفي بمراكش في ليلة الخميس الخامس والعشرين من شعبان عام أحد وثمانين وخمسمائة.



***






* الكتاب: مطلع الأنوار ونزهة البصائر والأبصار
تأليف: أبي عبد الله بن عسكر، أبي بكر بن خميس
تقديم وتخريج وتعليق: الدكتور عبد الله المرابط الترغي



17342927_1720892377926759_8979359233052623812_n.jpg
 
أعلى