شيركو بكه س - الكرسي (نص مفتوح. الشعر، القص، النثر، المسرح) - ت: سامي داوود

أنا كاتب هذا النص،
عتيق في المدينة،
مجنون كالريح،
حافٍ
رثٌ
حائرُ.


آتي وأغدو
حيناً أستحيل شعراً ثملاً
وحيناً، في خلوة صوفية،
أمسي قصة حدباء،
أو خطيئة هائمة،
نثر على منازل السهوب
مسرحٌ للحثالةِ*.


وحدتي، عقعق نحيل،
بعنقه المعِط،
في مقهى صغير رطب،
فوق كرسي منهك الوحدةِ،
منطوٍ في خريفه،
يوماً إثر يوم،
يتخبط، يقتعد
يضع يد ألَمه على حنك الذكرى
يدخن الضباب
سيجارة تلو أخرى.


يشرع الكرسي بالحديث،
ويدوِّن دخاني بلسان رماده
على الباب والجدار،
على الأرض،
أو على جسد عابرٍ ما.


كل ما سأقوله، هو
كرسي هرم قصير،
ضامر الكتفين،
محبوب بجبينه العريض
وذراعيه النحيلتين،
شاحب القسمات،
أجردُ،
لكنه، لازال فاطنا، ربما فطِناً
صحته حديد، ومفاصله سليمة..!.
كرسيٌّ حالمًٌ مرتبك،
بعض المنافض ملآى بالرماد،
حزينٌ
كن يصفن،
كأنه غيمة صغيرة معذبة في "سيوان"*.
دكنة تحيط عينيه،
إن أصغيتَ لصدره،
أحسستَ صوت روحه،
يختضُّ في جسده،
أبداً..
كأنما النار تأرجحه.


هو ذا الكرسي الحائر،
منذ سنوات يستوطن المقهى الصغير؛
خياله دخان ورماد
تناسل من أزيز سماورَ أُجَاجٍ،
في سدى نفس منهكة،
في سويداء العمر.


سليل شجرة جوز نقشبندية،
ذات شهرة في "هورامان"*،
جده الكبير
كان حفار خشبٍ
بارع كالمطرِ،
هادىء كعريشة،
يتلمس النسيم وجهها.


يُحكى أنَّ
ذاك الجد النقاش
أهدى من جسده
لعرس سيد "الأردلانين"
وزوجته السيدة "ماه شرف"
رقعة شطرنج بني
غليوناً طويلاً،
ومعها بضعة أمشاط فاخرة لـ "سرداد"،
كحلاً ومروحة ناعمة
لقمره "ماه شرف".


يُحكى أنَّ
حين تموت شجرة الجوز هذه
وتترك حيواتها الأولى،
لا الشجر ولا الورود تبقى،
لا عصا المايسترو
ولا النحات حفار الخشب
ولا صفحة ألوان الفنان
تبقى.
آلها من الجذور
كما هورامان
بوثي
كظموا بكاءهم ...!!


يُحكى أنَّ
إذ تمضي للآخرة
تصير
فوق بطيحة بين معمورتين
عاموداً فقرياً
لجسر كبير؛
غير أنه
هكذا هي لعبة الزمان
والآن جيل في هذا المقهى الصغير
لا يعرفه أحد.


في رأسه
يتبرعم الوجع مسماراً
كعمر اليأس
تهن رموش انقباضاته
لا يبرح الكرسي.
أحياناً يغير مكانه،
من هذه الزاوية إلى تلك الزاوية،
من هذه الجهة إلى الجهة الأخرى.
لكنه، أبداً..
لايروح للشارع
لايمضي للسوق
فقط، يجول بعينيه المكان.
ولعمره المديد،
يسع الجميعَ حضنُه.


حسير البصر في الظل
دبق الجلد
شاحب.
في الشمس
نديٌّ ككأس شاي ذهبي باسم.
تأخذه البهجة
كلما اقتعد الشعر عليه.


في الثلج القارس
لا قفازات لديه
لا جوارب لديه
فراش وحيد
يحفظه من وخزات البرد.


لايتذمر أو يتطلَّب،
لا يغضب أو يثرثر،
فقط أمر واحد
ينغص على قلبه.


ههنا..
لاتعرفنه النساء
ولا يأتينَّ لاحتضانه يوماً؛
لا صديقات لديه بين النساء.


في الليل..
يبقى وحده مع بضعة كراس حوله،
وأريكة عثمانية تعتمر طربوشاً،
وكرسيٍّ فراريّ؟؟؟
من أهالي "سنندج"*
غير شكله.
تتهامس فيما بينها عن
سيرة ماضٍ عميق
من جذور أجدادهم
من أوراق العشق
وأحزان الخریف
من قدِّ أجسادها.


كل ليلة
واحدة تلو الآخرى
تقرأ الجرائد والمجلات التي ترآت عليها،
إنه كرسي أثيل،
مذ صار في المدينة
تعرَّف على آلاف الأشخاص،
كم من معضلة مرت عليه،
ومن فتنة؟.
دكاكينَ وبيوتٍ
أعاصيرِ الزمن
حَمْلٍ ووَضْعٍ
كم كربٍ وطرد وقذف
رأى؟.


في ليلة شتاء لكاثية صامتة
سرد الكرسي بحزن:
لا أتذكر أيامي الغضة
ولا رضاعتي
أما منبتي
فربما سيد عشيرة
أو موجة دفء في نهر جدتي البعيدة
أو في الأصل
تكون حفنة تراب.


في تجويف حجرٍ
أول شخص في تاريخي.


لكن في صبابتي،
ثمت إثنتان من الذكريات، كأضغاث أحلام
ظلَّتا في عمق مرايا خيالي
أبداً في البال.


لمرات عدة في الأسبوع
ريح جِواء شريدة،
بزعيقها وشعرها الأشعث
ريح وضيعة،
إذ تفرُّ من دخان سيجار حطاب
غير جسورة على الظهور قربه،
مع ذلك
تعوَّدتْ في كل مرة أن تمسكني من عنقي
كانت تطويني، بحيث
لا يصطدم رأسي بالأرض،
لم تدعني وشأني
ريح، ستبقى في البال أبداً،
ذعر وجفاء تلك الريح الوضيعة.


لكن فراشة سوداء داكنة
بلقاء..
نامعة
كانت في كل صباح تسبق الندى في قدومها
بخفة تحطُّ على آتفي
دون أن تحس بها براعمي
صباح الخير
صباح الخير
ما أخبار الحقل؟ أخبار البستان؟،
ما أخبار الماء والغابة؟.
كانت تسأل
وتقول في كل مرة:
طالما العصْف نائم
والفأس مفقود
فالحال بخير.


إحدى المرات،
عندما أتت
كانت مضطربة
من إعيائها.
علق جناحها بشراشيبي.
للمرة الأولى التي أسمع فيها أنين فراشة
للمرة الأولى أجد فيها فراشة مهتاجة.
قلت: ماالذي جرى..؟
قالت: في بلاد العجاج
في عراء رملي مغبر
في ذاك البعد
جِمال شرهة
عقال على رؤوسها،
وآلاف العواصف
إلتقتْ.
وضعوا في عنق كل غديرة
عقد على هيئة "بسم الله"
بعدها كانوا يقطعونها.
للأسف، تلك كانت آخر مرة
أرى فيها الفراشة
ولم أعرف ما حصل لها.


لم أجد السعادة في طفولتي،
لا في الماء
لا في الهواء
ولا في الضوء،
كأنني غصن تائه
لا أعلم كيف كبرت،
وعندما أورق رونق يفاعتي
أمام شباك ورقة
يخضِّل الندى شعرها،
تبادلتُ النظرات مع فتاة،
فتاة تفاحة
جارتها فتاة كرز
هيفاء بضة
بنهديها المتكورين
وفي "سوخمة"* الحمراء
وقرطيها الأخضرين المنسدلين
حتى عنقها وفرائصها.
أو فتاة دراق متغنجة
للتو زغبَ حنكها.
أو فتاة مشمش
بكتفها المحروقة في الشمس.
مذّاك أصبحت حيَّاً لبدر العاشقين
زقاق مغلق لقبلة تائهة
ظلٌّ يتبربس ثملاً
خلف قبلة أو اضطجاع.
حينها كنت ذا خصر صلب
ورغبتي متوهجة
في حفيف أوراقي الرطبة،
كأنما القعيث لآلاف السنين
في أوراقي
كنت مرآة لقهقهة نهر أو ساقية
أستدرج أنثايَ لـ "تلان"*
في غضف الليل
كانت أصابعن أيدينا وأقدامنا،
كانت عيوننا تتقد
ونستحيل شموعاً.


كم قمرية، كم يمامة،
صارت هدهداتها ذكرى
معلقة في قلبي؟.
كم كوكباً سياراً
كتبت بحروف الزقزقة
شعراً على أوراقي وبراعمي؟.
في النزهة
كنت أبسط جناحيَّ بهدوء
لدبكة بنات المدينة
حتى يزددن تأرجحاً
ودفئاً.
كنت أعجل اهتزازهنَّ
لتحلق فتنتهنَّ إلى الأعالي.


لاأذكر متى سرد والدي:
كنتَ لازلتَ في قماط الورق،
جرف السيل والدتك
أتيتُ بشجرة تين مرضعة
وأرضعتك
كي تحيا.
قال والدي:
لديك من شجرة التين تلك
أخَّ في الرضاعة
للأسف أحدهما
قتلته طائرة في "جاسنه"*
والآخر توجه نحو "هانه آرمله"
عقد قرانه على فتاة شجرة جوز
إن لم تخذلني الذاكرة
"أحمد مختار" هو الإبن البكر لتلك السيدة.


حكى والدي:
بعد وفات السيدة "عنبر"،
في عزّ اخضرار أوراقي وغَدقي
صدف في الصيف
أن تفيأ "مولوي" تحت ظلي
حزيناً.... حزيناً
ما إن جلس على حجر قرب بابي،
حتى شرع بالكتابة
سقط الدلف على أوراقه
بعدها
ترقرقت عيون أوراقي وجوزي
وأجهشتْ بالبكاء.


نحن الأشجار والغابة
الطبيعة إلهنا الأول
النجار إلهنا الثاني
الأول يهيئنا للثاني
والثاني
من الشجر، يضع في الخشب روح أخرى
والخشب يصير ألف شيء.


قال أبي على لسان جدي:
قد توجد هناك أشجار،
لدى النجار الإله
يستخلص منها عشرين نموذجاً
لكن الروح لا تكون إلا في جزئها الأول
أما البقية منها، محض جماد
حتى إن تحولت إلى أي شيء.


في كل مرة، كان أبي يقول:
عندما قصَّ لي والدي هذا الحديث
كان قد صار عماداً في جامع
زوجته الثانية صارت وَضْمَ جزار،
وعمتي صبورة معلقة في السنة الإبتدائية الأولى
في "تويله"*
وعمي رفا في دكان
وضِعَ عليه ثمار جسده من الجوز،
وخالي شباك غرفة مشرقة
وتلك أختي الصغيرة، قتلها الجدري
والآن أصبحت مرقاقاً ناعماً.
وذاك جارنا الأیمن
حين اقترن بزوجته الرابعة
مات عن ثمانين عاماً،
الآن، صار عارضاً فوق مرحاض
وذاك جارنا الأيسر
كان جناناً
والآن لوحاً يسيج به الرياض
أصدقاء أبي:
أحدهم صار صندوق حُلى، وثياب امرأة فاتنة
والآخر، كان متحاذقا وثرثاراً
الآن، صار عماداً أمام مطحنة.
أحد معارفنا القدامى
كان طويلاً جداً،
محباً للخير
رأيته ذاك اليوم
بين زقاقين في "حلبجة"،
عامودا سراج.


من أحفاد شجرة الجوز
كان لي إبنا عمٍّ، ثملين
صارا الآن صفحتا باب حانة
وسط المدینة
في الأساس، كان بيننا عاشق مجنون
دائماً، كان كلسان الميزان
یتمشى بلا هوادة
رأیته ذاك اليوم في الحدیقة
خشباً في أرجوحة عاشقين متيمين.




ما یصيره مصيرك،

مصيرك، ما یصنعونه منك؟.



أتذكر مرة

نورساً، توجه إليَّ صدفة

ببنطال وشعر أصفر

صحفي شاطىءٌّ

كان ینوي عمل ریبورتاجاً عن حياتيَّ الشجر

یرسله إلى جریدة اسمها "عيون المحيط"

كلما رأى شجرة، سألها:

بعد حياتك هذه، ستبعثين لإلهك النجار،

ماذا تحبين أن تكونينه

قالت إحداها: أرید أن أكون معرض كتب

والأخرى: خزانة لغرفة فتاة

الأخرى: خزانة أوانٍ

الأخرى: طاولة في مرقص

الأخرى: سریر زوجين

وواحدة أخرى: أحب أن أكون زورقاً بجانب شجرة جوز،

لازالت تضمد جراحاً في أصابعها اليمنى.

تدخل على حين غرة : لأنني وهذا خليلان جداً

أحب أن أكون مجذافاً لزورقه.



شجرة بثمانية فروع: أحب أن أكون سلماً، بثماني درجات.

قالت شجرة ملساء: أحب أن أكون محلاجاً.

ثمان أو تسع شجرات، قالت معاً:

نحب جميعاً أن نكون خشبة مسرح.

شجرة دحدوحة: أمنيتي أن یجعلونني

طبلية.

شجر هزیل: أحب أن أكون مسنداً.



الغریب، أنه بعد عدة سنوات،

ذاك الذي كانت أمنيته أن یكون

معرضاً للكتب،

صار خزانة أوان،

والذي أراد أن یكون سریر زوجين

لسوء حظه صار خشب غسل الموتى،

والذي حلمه أن یكون زورقاً

صار محفة في جامع،

والذي أمنيته أن یكون مجذافاً

جعلوه مشنقة.

كنت آخر شخصا في ذاك الصف

حين وصل عندي النورس الصحفي الأجنبي

وجدني بشوشاً مبتسماً

جلبت له بعض جوزي الطازج

مردداً الكثير من الشعر الرومانسي.

حلق عالياً وحط بين غصنين،

سألني عشرات الأسئلة

لازلت أتذكرها

السؤال الأول: ماالذي تتمنى أن تكونه؟.

ج: طاولة في غرفة شاعر.

س: ألدیك حبيبة..؟

ج: أنظر، إنها فتاة رمان ذاك الطرف.

لكن، توت العليق والدها، ووالدتها وأخوتها

سدوا سبيلي،

بسياج شوآهم.

ذات ليلة، كادت أصابعي تلمسها

فجأة ظهر والدها الشوك

وانغرز في قدمي.

س: حسناً. وهي ماالذي تحب أن تكونه؟.

ج: تحب، إن أصبحت طاولة الشاعر، أن تكون هي الكرسي.

س: في أي مكان؟ أیة قریة؟ أیة مدینة؟

ج: في الحقيقة... السليمانية.

س: وإن لم تصبح طاولة لأي شاعر؟

ج: ستكون خيبتي كبيرة، لكن ليس في اليد حيلة.

س: حسناً، ما رأیكم بكراسي البلاستيك.

ج: في الحقيقة، لاأصل أو فصل لها، لا أحد یعلم منبتها،

هي دون روح.

س: الآن، ماالموسيقى التي تسمعها؟ صوت من تحب؟

ج: الأموج وقبقبة الحجل. وبين حين وآخر أصغي للبلابل.

س: تحب شعر من؟

ج: البدر كان یسطر شعره فوق الثلج.

س: أتحب كل شجرات الجوز؟

ج: آلا، أبداً. یوجد بيننا من هم شرهون جدا للظلم.

یریدون أن یستولوا على الهواء والماء

وطيور السماء،

كما ترى، فهم یستولون على أراض آثيرة.

ساقية تلو أخرى

یلتهمون حتى المسيل

ولا یرتوون

یتفاخرون بامتلاك الجوز الوفير

وبينهم من لدیه ثلاث نساء

إنهم الأكثر جبنا

تعاقدوا والحطابون

یرسلونهم لقتل شجرات الجوز الفقيرة

ذَكرة الفأس هم.

أشرار لا یعرفون التسامح

لا یسمعون لأیة شجرة أو نبقة

لا یسمعون أحد.

س: إن كنت قد سمعتَ أوعلمتَ،

ماالذي تریده أشجار الجوز القاسيات أن تكونَ في المستقبل؟

ج: آما سمعت، أغلبها ترید أن تكون باباً وشباكاً

وكرسياً وخزانة ثياب الباشا

وقصر الباشا،

أو دیكور القلاع،

خشباً لعرش السلاطين والملوك

لأسِرتهم وبواخرهم

أثاثاً لغرفة الملكة،

أن تكون الصولجان.

س: حسناً. كم مرة في السنة تأتيكم جيوش العصف؟

ج: في السنة آم مرة نبتلى بالنزاع؟

شتاء السنة الماضية. منتصف الليل

انقضت علينا ریاح قارسة.

دافعنا ببسالة. لكن أضرارنا كانت آثيرة.

س: كيف كانت هذه الأضرار؟.

ج: قتل ما یقارب الإثني عشر منا

مات ما یقارب الستة.

كانوا صغارا.

بينهم ثلاث فتيات والكثير من الجرحى.

س: حسناً. ما عدا آفة العواصف، ألدیكم عدو آخر؟

ج: نعم.. نعم. أولها النار ومن ثم الحطابون،

وكذلك أولئك البشر الذین یتركون مخلفاتهم حولنا.

ربيع السنة الماضية، أقام أحد الأحزاب حفلاً كبيراً هنا.

ابتدأ رئيسهم بخطابه قائلاً:

هذه الأرض جنة العالم.

هنا مهد الحضارة والمدنية.

قال: الوطن نور العين.

الغریب أنهم حين غادروا،

تركوا للجنة القذارة

والوطن مزبلة.

س: سؤالنا الأخير. أي حياة تحب؟ كهذه التي في الطبيعة؟

أم تلك التي عند إلهك النجار..؟

ولماذا..؟

ج: في الحقيقة. حياتي في الطبيعة.

هنا إخضرار، وهناك بلا لون

ونصطبغ.

هنا رطب، وهناك یبْس

لكن هنا بقدم واحدة، ولا نبرح المكان

هناك، إن كنت محظوظاً، لدینا أقدام عدة

نتحرك، ونرى العالم أكثر.



ذكریاتي مذ كنت شجراً

لا تتخيلوها رقصاً في ضوء قمر فضي،

وماء مثلَّج،

محتضناً في اخضرار فتاة،

أو في قبلة برتقالية

ليلة تأوهات حمراء للرمان.



أنا بلا أحلام الإنسان

یقينا أصير جوز جفيف.

بدون حب وأصابع الأطفال

بدون حب المرأة

وضفائرها المتماوجة،

أبداً ما استطعتُ أن أحيا.



تلك الأصابع

كانت لي أغصاناً وأوراقاً أخرى.

تلك الأجزاء

كانت لي براعم وعُلاقات أخرى.



مذ كنت شجراً

أیام الثورة في الجبل،

إن سمعتَ یوماً

أن طفلاً صُدم في المعمورةِ

كانت براعمي تتكسر

وتتقصف أوراقي.

إن علمت

أن امرأة أحرقت

قرباناً،

كانت ركبتاي تنكسران

وتخر هامتي

ویتغلغل النخر أملي.



ذاك الزمن الذي قتل

السياحة، الرحلات والرقص

التنزه والمزمار

والـ "ره ش بلك"*

ذاك الزمن الذي

اختفى صياح ومندیل الدبكة فيه،

آنئذ، إمتلك الخواء روحنا،

وفقدنا أمل المأوى؛

حينها، لأول مرة

أدركتُ وحدتي وغربتي.



حينما كنتُ شجراً

جاءت أیام حبلى بالجراد

سملوا عيون الجوز.

جاءت أیام حبلى بالدخان

جَشمَت علينا التنفس في الغابة الشاسعة

جاءت أیام

جثم فيها الضباب علينا

وكأنما محال أن یبرحنا

وفي ليالٍ

كنتُ حتى الصباح

أحصي أوراقي الميتة.

من وجلهم، كانوا ینسلون لحضن بعضهم البعض.

أمام أعيننا قتلوا الماء.



أمام أعيننا

نصبوا للهواء والضوء مشنقة.

أمام أعيننا

تهادت أشجار هرمة

حتى جِواء

تحت سفح الجبل.

أمام أعيننا

مثَّلوا ببنات الصفصاف،

أطالوا ظمأ الكرم، حتى مات

ماالذي لم یفعلوه!؟.



عبرت عصريَ الشجري،

تفتقتُ یوما

جزوني إرباً،

سحلت ببغل إلى "حلبجة"

ومضيت إلى إلهي النجار،

جعلوني كرسياً.



الأریكة: فقط المنشار الأول مؤلم، ثم یغدو الأمر سهلاً

بحكم العادة.

ماذا بعد أن إصبحت كرسياً؟

الكرسي السنندجي: حظي أسوأ

لكني كنت أصغي له بعمق،

فالتهشم ومصدر الآلام أمر واحد.

الأریك : هذه الليلة له، لازال لدینا ليال كثيرة.

الكرسي السنندجي: أحب أن تخصصوا لي ليلة غدٍ. لعلها تكون

ملحمة الفردوسي بآلامها الطویلة، أو تكون أنفاسي.



"نحن ملل الكراسي، على لسان الخشب نسرد الشجر

على لسان الشجر نسرد الماء

ونعود بالزمن

إلى تقویم الدخول في الجحيم

على لسان الخشب نسرد المدینة

نسرد الإنسان

من رماد السنين.

تخضر القماعيل وتتفتح الأزاهير

نسرد الریاح حتى بدء هبوبها.

تبتعث تلك الأسئلة التي قتلت

سراً وعلنا.

یسرد الماضي بتروٍ

ليذروَ القدیم

أو یسهر ناحباً على الجثث

لعله یُعلّم أولئك الذین في أحلامه

الآن، والقادم

ليجدوا الأجمل الأجدد.



نحن قوم الكراسي

عمرنا أطول من عمر إلهنا النجار،

لا نرید أن یحرقوا كل الرؤى

والتجارب والذكریات

التي نكتنزها،

لذا قررنا

أن یسرد كل ليلة

واحد منا حكایة قدره الشجري

قدره الكرسي لكم.



الكرسي الآخر: لا تقطعوا حدیثه

الكرسي: أتيت إلى هنا مرتين.

كم بقيتَ؟، وماذا حدث؟، وكيف قبضوا علي في المرة الأولى؟

أحتفظ بها للأخير.

قبل أن یجدوني للمرة الثانية، كنت مؤجراً

لدلالٍ في السوق

حينها كنت فتياً

رغباتي متأججة ملتهبة.



لمرات عدة..

كنت كرسي عروس.

تلك الأیام

كانت الملائكة تقتعد في حضني

كانت النجوم والقمر

تستند علي،

كنت أشعر بأن أخشابي

ستخضر.

كانت تهن عيوني

وأرى أجمل الأحلام.

كنت أعود عِذقَ شجرة الجوز،

لا تعلم ما الذي یحدث لك

إن بركتِ العروسُ عليك..؟

یدها على یدك فخذها على فخذك.

وساقها ملتصقاً بساقك؛

لاأحد، إلا وذاب بالكامل،

جذلًا یحلق مع العروس نحو الغُسم،

في قبة السماء

یاإلهي

من تلك اللذة والقشعریرة

وارتهاك المفاصل

مشتعلاً من رأسي حتى قدمي،

أبداً، لن أنسى إحدى العروسات

عندما جلست

وفي الأسفل

حكت ساقي الأیمن بكاحلها البض.

حينما أرادت أن تنهض،

بإصبع خدش رفيع

أمسكتُ ثوبها بقوة

فجلست مجبرة

لم أتركها إلى أن

ارتویت منها.



أتذكر جيداً

عيد نوروز

أخذوني إلى تل "مامه یاره"*

و"بيرمرد"* بنفسه وضعني في الصف

الشامات التي على مفاصلي.... أترونها؟

أثار أصابعه

لكن نوروز آخر.

عندما صعدت للأعلى

استغربت من رؤیة كراس غریبة

أثریاء ومتعجرفون

بعضهم یعتمر برنيطة

أصابني الهلع ذاك النوروز

ارتعشت ركبي

ضاقت أنفاسي

وتيبس حلقي

تطقطقت مفاصلي.

كان "بيكه س" جالساً علي

ثقيلاً جداً.

تعرق جسدي

كان حسناً، آن رطبتني نسائم باردة من "كویزه"*

تنسمني كأیام الغابة

لهنيهة انتعشتُ،

غادرتني النسمة

فجأة نهض "بيكه س"

استنشقتْ مفاصلي الصعداء

خطى "بيكه س" خطوتين نحو الصف الأول

خطوتين لذاك الطرف

تلظت قامته وتفحمت أصابعه

باتجاه المستر "أدمونس"*

قرأ " سبعة وعشرین عاماً"

اهتاج صوته كطوفان

كلماته مشعلاً.



لاحظتُ المستر أدمونس كسلحفاة

أدخل عنقه في الصَّدَفة

بهَتَ لونُه

واختفى صوته

ذعرتُ كثيراً

قلت: لأنني كنتُ كرسيه

سيأتي إلى بالفأس والشرطة

یخلعون یديَّ

یقدون أقدامي.



لكن مرَّ كل شيء بسلام

أودج أدمونس كقط

أصدر مواءً

ترجل من على التل

لم یحدث شيء

بعد بره، آن نهضوا

ركلني بقوة كرسي أدومنس

مقهوراً

سقطتُ على فمي.

انكسرت قواضمي.

بات التل خالياً

إلا من الكراسي

والنار متقدة

تلك اللحظة..

وصل لـ "ویلدروا"*

ریح أحمر الشعرل "یارا"

على آتفيها نسر كأنه الثلج

جناحاها منبسطتان، عيناها برَّاقتان

لفَّتْ حول "یارا"،

توهجتِ النارُ،

برویة هبطوا للأسفل

أحكم الریح شعرها حولي

حملتني من الأرض

جلس النسر علي وقبلني

قائلاً: لا تغتم، ستأتي بعدي عاصفة

تأخذ كرسي أدمونس

تخطفه لجبال "حمرین".

لا تغتم

كراس ككرسي أدمونس لا تحيا،

الشعر الأشوس

وكرسي بيكه س

هما خالدان.



لا تقولوا لـ "بيكه س: إنه الربيع

لا یرید أن یرى الجمال أسيراً

لا تقولوا لـ "بيكه س" إن الورود جاءت

لا تقولوا النرجس یضحك.

لا یرید أبداً

الورد في غرفة ضریر

ولا النرجس بلا سماء.

یحب أن یرى

رقصة الورود

والحریة

وقلبه في الأفق نفسه.



یقول بيكه س: "إن لم یأتوا بهذا الشكل،

فلن یأتوا أبداً".



"بيكه س" أنت زمهریر جسدٍ

یتوجع صدأً وسُمَّاً،

لكن، في روحك ربيع

أحلى من فردوس الله،

نبصر بعيون الضوء

ذاك الربيع

نشمه بأنف الطفولة

نسمعه بأذن الأنبياء.

هاهم أطفالنا والفراشات

یشبكون أذرعتهم في ذراع الحب،

یمضون نحو الغد،

من رأسهم حتى أقدامهم.

تتقطر طلائع الفجر.



"بيكه س"....

أنت مرآة ذاك الحب المعلق

على جدران البيوت

كل یوم، ینظر الناس عبرك إلى

مستقبلهم

ویتجددون دائماً

كسهل قبَّله المطر.

الناس... الناس،

هم أعشاب مرابع نثرنا،

جدول شعرنا

لحنٌ لجناح أغانينا المحلقة.

بدونهم

ینهدم الشعر، وتقفرُّ الكتب

الفن آفيف، والعالم أصم.



ضوء یمدُ عنقه من رداء جليدي،

وحب یصير ضوء شمعة قصير،

في سجف الليل

یتسكع في الشوارع

یقول الناس:

ذاك ضوء شمعة "بيكه س"،

بهذا الشكل

كل عام یزورنا.



هكذا..

جاء یوم، وراح یوم

جاء كرسي وراح آرسي.



هذه المرة..

كنتُ لزمن طویل

في شرفة زجاجية

مقيداً داخل بيت

الشرفة زرقاء.

وأنا أبيض

ربُّ البيت

رجل یرتدي "كواو سلته"*

دحدوح، متسامح، لطيف

لكنه عبدٌ للقمار.



كان لهذه العائلة إبن یعزف التار

كان یعزف التار علي

فيستحيل بخاراً

شعاعاً

حماماً

مطراً عليَّ.

كان عاشقا لسيدة لوزیة ناعمة

لا تعلم، أیهما أكثر نعومة؟

الماء أم السيدة،

السيدة أم الماء؟

لم تكن تعلم، أیهما أكثر ارتباكاً،

الفتى أم أوتار التار؟

أیهما أظرف؟

الفتاة أم ابتسامة ورد الرمان،

لم تكن تعلم، أیهما كل ليلة

ینوِّم الآخر،

الشجرة أمام الشباك

أم الفتى..؟



لم تمضِ ليلة في الشرفة أوعليَّ

إلا وجثالة شِعر

خریف فرشات

قعيث لحن

اخضلت أعينهم.

لم تمضِ ليلة إلا وتسلق عنق العاشق

بریقٌ، ومضةٌ

لونٌ تائه.



كلما لمس التار بيده

حلق اللحن عالياً

فيصبح العاشق طيراً

والطير نوراً.

كلما ارتعد التار

وجنّت الأوتار

إنسابتْ أجنحة الإشراق

عليه.

على قمم الشروق.

كلما عزف الفراق

إستحالتْ سحاب تائه

وانهمر علينا.

كلما عزف الوصال

رأیته منبسطاً

آسماء شاسعة

تتساقط فيها ندف الثلج.



یوماً، زار العاشق ضيفاً

دخل الشرفة والأكوردیون على صدره؛

ضيف طيب الرائحة،

تفوح رائحة عنق العذراء منه،

وصليب المسيح

رائحة الآس لبيت "كریم ألك"

رائحة "أبونا".*

شاب قصير القامة، في عنقه قلادة صليب.

إلى حينها لم أكن قد رأیت ضيفاً محبوبا لدى العاشق

كهذا الموسيقار.

أقول قبَّله مئة قبلة، فزادوا عليه،

أصغيت لأعرف اسم الفتى

صار هاجساً لدي.

بعد دقائق..

وضع الأكوردیون في حضني

صارت فرصة لأهمس للأكوردیون قائلاً:

عذراً، ما اسم صاحبك؟

ما أن قلت ذلك، حتى استشاط الأكوردیون غضباً

أصدر صریراً طویلاً.

ومن ثم قال: كنت كرسي مغفل.

لا تفهم شيئاً

أیعقل أنه یوجد في هذه المدینة، من لا یعرف

من هو "وليم یوحنا"!.



قال العاشق:

إن أردتُ رؤیة الله

فإنني أراه بسرعة

لكن حين یجعلني احتراقي

بخاراً على ال "التار"

فقط آناء

یغرق في روحي تأملي.

فقط حين یتهشم

ليل التوجع

في حيرة أصابعي

في تفتتي

أرى اكتمال

وتجدد العشق.





***



یقول العاشق:

إن أردت أن أجلب إلى أعماقي

أمواج المحيط أو الخریر

والعواصف...

أجلبها.

لكن حينها

تنكمش وحدتي عليَّ

فلا تتسع إلا للحسرة

ویتضخم صمتي



***



یقول العاشق:

في تراب دیجور

أزرع ضوءاً لا یراه أحدٌ سوى الله وأنا.

أحياناً، عندما یترآني الله وحيداً

فأغدو بلا أحد

حينها بنفس منقبضة

أواسي نفسي.



***



یقول العاشق:

إن لم نكن نحن

لما كان الوجع وطناً

ماكانت الغربة عنوان الحياة

ولا القلق شاعراً.



***



یقول العاشق:

ذات ليلة سألتني الوحدة:

ما هو العشق؟

قلت: عندما تصبحين فراشة

حول اللظى

عندما تحضن الفراشة النار،

والنار تستحيل رماداً

قلت: حينها یأخذ الریح الرماد

للعدم

والعدم حين یصبح على الله

حلماً.



***



أنا العاشق

لا بد أن أندف

بأصابع أنفاسي

قطن هذا الزمن.

لتحلق الكلمات

وتستحيل العبارات ریشاً

للریاح التائهة، المشردة

التي لا بيت له

ولامعجم.

أنا حلاج آلامي اللكاثية.

في صوتي تحفظ الغربة جسدها.

في عيني شعاع القرابين.

في خيط شعري

عشبة حنين للوطن.



***



هكذا إلى یومٍ

جاء الجوع إلى البيت

القروض أتت للشرفة

وشرع الخبز بالبكاء.

یئس الماء

احتضنت القنادیل بعضها البعض.

وخلد التار للنوم علي.

سيد المنزل، تمنى عبثاً.

باع جزافاً أثاث بيته،

حمل نفسه وتشرد مع عائلته

وحده العاشق وتاره

خرجا بحزن.

ومن حينها بات الكرسي بلا مأوى

الكرسي بخياله المهشم

كسراب سارد.

كنتُ بلاعمل، لعدة أسابيعَ،

متلبد الشَّعر

كنت أنام باستمرار في زاویة مخزن.

إلى أن جاء یوم

واشترتني فرقة "بيشرو"

وقبَلتْني عضوا بينها.

في عدة مسرحيات

رأیت دور الكومبار.

في الحقيقة لن أنسى أبداً

تلك الأدوار التي

رأیتها بصحبة "عثمان جيوار"*



***



(على خشبة المسرح. منتصف الليل. غرفة كرسي

وطاولة خشبية. باتجاه الجمهور).

الكرسي: تأخر الوقت، لكني سأنتظر

بعد قليل سيعود جيوار.

ثملاً بالنبيذ والهموم

یمسك بجناحي، ویبعدني عن الطاولة قليلاً.

في الواقع، لا أنسجم مع هذه الطاولة

كأنني عبدها. علي أن أتبعها أینما ذهبتْ.

على آل حال، عندما جلس جيوار علي.

حينها كتب آخر مشهد للمسرحية.

(یأتي جيوار إلى الغرفة. مدندناً بكلمات أغنية حزینة،

یمسك الكرسي ویبعده قليلاً عن الطاولة. بضع ثوان من صمت وتأمل).

یقول:

جيوار: الأفضل أن أنهي آخر مشهد في المسرحية

بهذه الطریقة:

روناك: وصلت

إلى طریق مسدودة. ما من حل. علي

أن أترك جحيم هذا المنزل وهذا الزوج القاسي.



(تحت حزمة ضوء. تخرج روناك وزوجها نوزاد، روناك منتصبة بغضب. متوجهة نحو نوزاد):

خلاص. خلاص. من الآن فصاعداً سأضع

مایعتبره الناس عيباً في سلة المهملات.

ذاك الذي یُقال له بالهدوء.

وإن نقطع الحبل، فلن أربطه أبداً*

أنا من الآن حرة.

من الآن فصاعداً

لن أسكت على سياطك واضطهادك لي.

خلاص. سأترك لكَ البيت،

لكني أنا التي ستطلقك. أفهمت؟

أنا سأطلقك.

خلاص... خلاص... خلاص.



(نوزاد هو أیضا غاضب. لكنه جالس):

انظروا... انظروا، آم بلا حياء.

أهكذا؟ إلى أین خانم؟ إلى أین؟



روناك: أنت بالذات مصدر اللاحياء.

نعم هكذا وأكثر.

نعم سأذهب. إلى بيت أختي نرمين

في الجبل. في قریة "هلدن".

نوزاد: هم لا یجدون ما یأكلونه....



(روناك مقاطعة حدیثه): لا یهم. فلأمت من الجوع

لكن أكون حرة... حرة.



نوزاد: امرأة وجبل وقصف الطائرات؟!

روناك: نع . امرأة وجب . وليس هذا فحسب

بل امرأة والثورة..

وهذا آخر كلام لدي.







(تحمل روناك حقيبتها الصغيرة المحضرة مسبقا. وكما شخصية " نورا" في مسرحية " هنریك إبسن": غرفة الدمى الزجاجية، تخرج بلا تودیع وتصفق الباب خلفها أقوى من حركة نورا).



المشهد الثاني في المسرحية الأخرى

(خشبة المسرح فارغة. جيوار غائب، الكرسي وحيد. الوقتُ النهار).



الكرسي: كان یجب أن یكون جيوار موجوداً الآن .

یجلس علي ویكتب دور "كایيف" من مسرحية

تشيخوف "بستان الكرز"

لا أعلم!.

لم یسبق له أن تأخر قط.



(یخرج طيف تشيخوف بهدوء یقترب للأمام):

طيف تشخيوف: لا تنتظر.

الكرسي: لماذا؟

طيف تشيخوف: لن یجلس عليك مرة أخرى. أبداً؟

الكرسي: لماذا؟ ما الذي ارتكبته؟

طيف تشيخوف: كلا، أنت لم تفعل شيئاً، لكن جيوار

لن یأتي أبداً، لأنه قبل لحظات

وصلتْ روحه اللكاثية عندي

في بستان آرزي.

(ظلمة.. یسدل الستار).



(یتابع الكرسي سرده):

هكذا

أتت مسرحية وراحت مسرحية

جاء كرسي وراح كرسي

وأنا هكذا مشردٌ.

الكرسي السنندجي: الأریكية العثمانية العجوز نائمة ... أترون؟

الكرسي الآخر: إنها تحلم بأن تعود مرة أخرى

إلى اسطنبول.

الكرسي الآخر: في الواقع، الجو بارد. اليوم سكب علي

ذاك النادل الضال سطل ماء،

أشعر بأنني سأصاب بالزكام.

على أیة حال، رجاءاً اصمتوا،

حتى یكمل حكایته.

الكرسي: شكراً... شكراً.



نعم، هكذا مشردا ومعدماً،

أجيراً في هذا العمل لذاك،

من یدٍ لأخرى

لحظي المنحوس

كنتُ لمدة سنة، عند بائع خضروات

یضع علي صنادیق الكوسا والباذنجان والبندورة والبامياء.

لشدة بخله

لم یكن یعطيني حتى الفاكهة النتنة.



تلك الفترة..

رأیت أیاد كثيرة تتطاول على صدري

أیاد مشعرة وأخرى ذوات تجاعيد

أیاد ملساء بضة

وأخرى سوداء

أیاد خيرة وأخرى جشعة

أصابع بعضها ملأى بالخواتم

وأرساغها بالأساور.

صورة إحدى الأیادي

لا تفارقني أبدا

وعشرات المرات

وضعت على أصابعي وعلى كتفي

ید السيدة "فاطمة" الناعمة

في قصيدة "هردي"*

تشرد إثر تشرد

هذه المرة في مقهى "سر جيمن"

في دكان "علي فوتاو" العتيق

أصبحت كرسي ضيافة

كنا كرسيين فقط

أنا وكرسيي آخر للسيد علي.

علي فوتاو الورد

كانت حتى الحجارة والأشجار تحبه مثلنا

لم یمضِ على وصولي یومين

نزع أسمالي العتيقة

ألبسني ثياب خضراء جدیدة

ومسجني بيدیه

هناك، عرفت العدید من الطيبين

مساءات عدة

كان رجل یقتعد علي

كم كنت أحب مكوثه

لم یأت مرة إلا وحدثنا عن أشعار "نالي" و"محوي"

أو أشعار "مولوي" أو"حمدي".

لم یأت مرة إلا وصدح بصوته موالاً لـ "سيد علي أصغري كوردستاني"*

ذاك الرجل

كان اسمه دیلان

دیلان

صوت سماء ناصعة

جناحا نغم جليل

یتعالى إلى الله

مقامه في هيئة قمة

وانحدار جبل.

مقامه غسقٌ یعبره صف طيور مهاجرة.

ترقط الثلج بظلالها

نقطة... نقطة

بصَفقها الحزین القلق.

مقامه خيال نهر

في السفح یمضي غریباً

وحيداً للبعيد.

یضع على جناحيه

صوت لكاثي

یأخذه، ویأخذه آحلم ليل طویل.



دیلان

یستحيل سحر صوته

جناحاً

یستحيل الهم حول شعره

فراشة.

دیلان

تصمت المدینة

عندما یغني، یتقهقر خریر الماء

وحفيف الهواء

حتى صاحب الصوت الجميل

بذاته

یصغي لصوته البدیع.



"صباح خریفي لطيف، تكاد الدنيا تنزع عن جسمها،

لظى الصيف. بين الفينة والأخرى كانت نسائم

منعشة عبرت ثلج "بيره مكرون"

تصل في عجالة. خرج دیلان من البيت مرتدیاً بذلة

زیتونية، بربطة عنق حمراء نازلة حتى صرته

شعره یبرق منسدلاً، ودم الشبوبية یتأجج في جسده

تفوح من أمام بيته، رائحة تراب رُش بالماء

یستنشقها بعمق، زوبعة صغيرة كمنارة صعدت للسماء

حملتْ معها، القش والخث والأوراق

ومِزَق الجرائد، لفها كأنه یضعها في جعبتها

وأخذها إلى الشرفة التي تواجهنا

أخرج دیلان من الجيب الخلفي لبنطاله

مندیلاً أبيض. مسح به رقبته وجبينه

نزل بترو نحو الأسفل.

في عطفة الزقاق

كخبر مباغت

أو كمشهد فلم یستحيل تصوره

أول شخص التقى به

كانت امرأة ناعمة فاتنة

كان اسمها قبل عام على كل لسان

تسمرَّ أمام المشهد المباغت

كأنما التقى بحادث مؤسف

إنكمش قلبه كبرتقالة هشة

تصبب عرقاً بارداً

أحس بأن زوبعة صغيرة

كزوبعة الخرابة هبت من أعماقه.



مرة أخرى أخرج مندیلاً ومسح عنقه، وعينيه

رددّ لنفسه: نازنين.... نازنين محمد قرداغ

أي صدفة مؤلمة هذه...؟

وصل إلى دكان السيد علي فوتاو

عبره دون أن یتوقف، أو یطل عليه

ابتلعته دوامة اسم نازنين

كان مأخوذاً بالصدفة

فلم یسلك طریق المدینة

واتجه نحو "سيوان"

كان مشدوهاً.

أفكاره خلية نحل

وما أن یُذآر اسم نازنين

حتى تثار ذكریاته

وتئزُّ في دورانها.

بعض الناس فرادة على "سيوان"

وفي التل الآخر

یتعالى آالققنيس*

حرقة العهد في نحيب امرأة

بعد هنيهة، أصمَّ أمل قلبه

تصلبت أرجواناته

تخثر صمت شواهد القبور في الجهات كلها.



بدون أن یعرف لماذا

رفع رأسه إلى السماء

أغسام بيضاء نقشت في هيئة طيرین

استطالا في الأفق الشاسع

تأبطت تحت أجنحتها نظرة دیلان.

كان یحدث نفسه:

قبل عام حدثت كارثة

هزت المدینة كزلزال

نازنين لم تكبر فحسب

وإنما ازدادت فتنة.



قرأ على بعض الشواهد شعراً

فكر لوهلة بعبثية الحياة

قال لنفسه: فقط النهایة بلا معنى.

تلكأ في مشيته،

كأنما أقدامه ليست لجسده،

كانت خطوات الحيرة تتصاعد.

كحياناً، یكون شعور ولا شعور الإنسان عيناً

تأخذه للمكان الذي لم یخطط له.

اسم

ذكرى

تصبح سرّ تلك الحركة.



هكذا..

كالظروف النفسية للشاعر أو للكاتب

كناء الكتابة

تأخذه عباراته بعفویة إلى الجهة التي لم یفكر بها

بأي شكل.

فجأة، وصل إلى مستوى شجرتي أرجوان متشابكة.

في ظلهما قبر معمر بلون أبيض هادىء.

توقف هناك دیلان

تأمل القبر للحظات

واقتعد الحافة

طأطأ برأسه، وأخذ نفَسَاً عميقاً

في استمرار نحيب المرأة.

"كانا صغيرین من الحي ذاته، في العمر ذاته

وفي نفس اليوم، قبلا في الصف ذاته.

"ثرور النرجس" كان منذ طفولته هادئاً، خجولًا

فتى أشقر بشعر أسود وعينين جاحظتين،

شاب جذل بأمانيه. إما في یده وردة، أو زهرة في عروة جاكيته.

كان أكثر أصدقائه رقة. أحياناً، یستاء من كلام بلا معنى.

مرات عدة غضب من نكات دیلان واختفى.

دیلان بلا حيلة، كان یذهب إليه، مقبلاً وجنيته، مصالحاً

ومطمئناً.



لم یكن شاعراً أو كاتباً أو فناناً.

لكن روح هؤلاء جميعهم كانت فيه.



مرات عدة، في ليالٍ مقمرة،

كان یلح على دیلان الذهاب إلى أطراف المدینة،

في الصمت، كانا یحدقان في طلعة القمر وضوئه الفضي،

كان یقول: "أي وقت أحلى من رؤیة القمر في هذا السكون؟،

بعدها، الإرتواء من صوت دیلان"،

كان ثرور بعيدا عن السياسة والعمل الحزبي

قال لمرات عدة: "السياسة عالم مقفر، أغلبها خدع وأحابيل

كما إنني لا أصدقهم كثيراً

وأشك بهم دائماً".

كان دیلان منخرطاً في العمل السياسي

قُبض عليه، وأرسلوه إلى جنوب العراق،

بعدها بإسبوع، امتلك ثرور إحساس بالوحدة والفراغ

الجلي الذي خلفه دیلان بغيابه".





صرخة حادة أعادت لدیلان رشده

ونحيب المرأة في التل الآخر

یثقل الخریف هماً.

نهض، نفض قفاه بيده

وعاد للأسفل بالرغبة ذاتها

قال في نفسه: عندما أفرجوا عني

كان ثرور نحيفاً، شاحباً

العاشق كالقش، تحرقه الشمس اللاهبة

كان ثرور النرجس، متيماً بنازنين

كان ساردا في الفترة الأخيرة

مهموماً كأنما ضربه الماء*

(مثل كوردي یستخدم للدلالة على الضعف والخمول )



ليال كثيرة، لاحظته، یتسكع أمام بيتها

ونازنين، هي أیضاً كانت قد وعدته بأنها ستكون له وحده.

لكن، كلا..

كانت تخاتله بهذا الكلام.

طلب ید نازنين، فهاجم والد وأخوة نازنين بيت ثرور

لم یمضِ شهر، حتى تقدم ليدها شاب ثري

فتزوجته.

من حينها بات ثرور ثلجاً، كل یوم

تذوّبُ الشمسُ شيئاً منه.



ذهبتُ إليه مرة، حدثته قليلاً لأشدَّ من عزمه، لكنه

قال: "رجاء، اتركنا من هذا الحدیث

إنه موضوع خاص بي".

كهذا الفصل قبل عام

في مساءٍ تلاشت أجنحة الشمس

بين أغسام الأفق

انحنت غيمتان

ذابتا على المدنية.

حينها

في غرفة صغيرة

سُمع صوت طلق رصاص

عبَرَ الصوت بيتاً بيتاً

زقاقاً زقاقاً

شارعاً شارعاً.

سال من جسد العاشق دمٌ

على الكرسي

ومن الكرسي سال في الغرفة نزفٌ؛

وصل دیلان إلى دكان علي فوتاو

جلس على الكرسي وسرد لصدیقه

حكایة هذا الصباح، وصدفة نازنين المباغتة

ذهابه لسيوان

وكل ما یعتصر في قلبه

والذي كان یصغي بدقة لدیلان

مع علي فوتاو....

الكرسي الذي تحته.



الكرسي: نعم هكذا.

كنتُ أصغي بدقة،

وبعدها، عندما بقيتُ وحيداً

بكيتُ بحرقة،

كرسي المقدمة: أستغرب، كيف لم یبكِ الحجرُ، وقد أصغى له؟.

كرسي السنندجي: دعكم من ذلك، لدي سؤال أود أن اسألك إیاه منذ مدة.

الكرسي: تفضل یاعزیزي.

الكرسي السنندجي: بين هنا وهناك، ألم یقتعدكَ رجل سيء..؟

الكرسي: بدون شك.. بدون شك،

بطول عمر أخشابي

وطول عمر ترقبي

في كل مكان عشت فيه

أسوأ لحظاتي

تلك التي جلس فيها البعض علي

وأراد أن ینحر الحب

كنت أنكمش كعشبة

كفراشة

كنملة

أو أكبر كأماني الإنسان.



قبل سنوات، في مساء ما

كنت أصغي لقلب رجل اقتعدني،

كان یفكر بطریقة یشعل بها

في الغد

نزاعاً بين سواقي البستانين

حرباً بين ورودهما وأشجارهما.

مرة اخرى.

كنت أصغي لعقل رجل

یفكر بأنانية

كيف وحده... وحده فقط

یكون باب البيت ومفتاحه

ویكون البيت أیضاً.



شخص آخر في إحدى الظهيرات،

قرر علي أن یلقم انتقاماً "بربيلياً"*

(به ره بيلي ماركة مسدس.)

خرج بلعنة الله

ليغسل أمام القرآن شرفه

بشهادة منارة

في حوزة الجامع

فيهنأ بالنوم.



كرسي المقدمة: رجاء، احتفظوا بأسئلتكم حتى النهایة،

فليكمل الحكایة. حسناً، إلى متى بقيت في دكان فوتاو..؟

الكرسي: عندما أصبحنا في الصيف

غيَّر الدكان كل ثيابه وتغطى برداء جدید

صبغت الجدران بالأبيض

غسلت الرفوف

وسدت حفر الفئران

منح فوتاو كل أشيائه القدیمة

ومن بينها أنا، لكاتب عرائض من معارفه،

جاء في اليوم التالي

رجل نحيف محبوب، مبتسماً

إلى الدكان

جلس علي قليلا

بعدها وضعني على كتفيه حتى ساحة "سرا"*

وضعني على طاولة مهلهلة.

ضرب على ظهري ممازحاً

آنذاك جلس علي، وأخذ نَفَساً،

آلة كاتبة عتيقة بذراع مكسورة

صف طوابع ملتصقة، أربعة.. أربعة

أوراق خورشيدیة كثيرة

محبرة للإبصام

قلم ودبابيس، نظارة وورق كربون

لفيفة تبغ

منفضة

كلها أمامه.



طوال النهار، كانت أصابعه كمنقار دیك

مأخوذة بالطقطقة

كنت ألاحظه

من كل أربع كلمات

كان عنق كلمتين ینكسر.



كانت تلك الفترة ملآى بالأنفاس الدافئة والباردة

بتجارب مرة وحلوة

بالدموع والإبتسامات

الناس البسطاء

المعذبون بأسمالهم

شقاء القرویين

تشتتُ المشردین

عصفُ الأرامل

حرقة العاطلين عن العمل.

كانوا یأتون، یجلسون القرفصاء

تكتظ الطرق والممرات

بشكواهم،

وینساب من الشِبكَةِ

قهرهم

وهو بطقطقة المنقار یجعلها كلماتٍ

وجملاً وعباراتٍ

بشفقة ورحمة

وحزمة هموم قلبه

كان یؤلف كأنما اللغة

محض سوء.



عندما كان كاتب عرائضي، ینهض

وسراً تسد بابها

كان یضعني مقلوباً على ظهر الطاولة

ویسترنا بالمشمع حتى عودته صباحاً.



في البدء لم یتقبلونني

لكن بعدها تعرفت على الحروف

واحدة بعد أخرى.

تلك الحروف

حدثتني بلطف من ألف بائها

علمتني كلمة كل ليلة

أحفظها جيداً.



عرفتني على

حرف الألف

وحرف آخر رأسه دائري،

فكتبت الماء

عرفتني في ليلة أخرى على حرفين آخرین،

أحدهما كأنه بطة في ساقية

والآخر كأنه نقيفة وجهه في ذاك الطرف

فكتبت الحریة.

قالو في ليلة ما: هذا (ج)، وهذا (ز)

وهذا (ذ)،

هكذا، وبعد أشهر عدة

أحسست بانني لستُ ذاك الكرسي الذي ألفته سابقاً،

مترع بالعيون، بالآذان

بالفكر والفطنة.

هكذا شرعت بالكتابة

للشجر وللمطر

للروابي وللطيور

كل ما أردته.



ليلة إثر أخرى

كنت كلبلاب أتسلق نافذة الكلمات

أبحث عن الجدید

كنت أنمو حتى تمكنت من قراءة

شعر "قانع"*

وحفظه.



الحدیث یجر الحدیث

أنا نفسي كنت قد رأیته قبل ذلك،

صَدَف أن جلس علي هنا ثمان أو تسع مرات،

كرغيف محمص، هو "قانع"،

كالسمسم والزبدة والـ "دوینه"*( أكلة كردیة )

كریاحين الماء، هو "قانع"،

یدخل المدینة

فتراه في كل مكان مرَّ به

أوز في سواقي الطواحين

أخيلُ في الریاض

مدفئة حطب في جامع

تين ودبس مجفف في المنازل

صعوة في المزارع.



أتذكر جيداً

كان هنا

ظهيرة یوم ربيعي

دخل وفي یده "لواشه"* ساخنة

جلس عليَّ،

حضر لبن مخيض،

ثم تفرغ (ربما يقصد إستفرغ).

أخرج من جعبته ورقاً، وشرع بالكتابة

لم یخرج، حتى أنهى شعره علي.

أتذكر جيداً

كتب ذاك الشعر للخریف.





أعتقد بأنني انحرفت عن موضوعي.

لأعود إلى ساحة "سرا"،

لا أذكر جيداً، كان یقال لمالكي "نوري كاتب العرائض"

نسيت اسم والده

رجل یمكن هضمه مع السم.*

( مثل كردي یستخدم للدلالة على خفة الدم و المحبة )



كان یقدرني ویقدر الشجر والطبيعة

الأقلام والأوراق والفقراء،

كما أنه كان مقدسا للجبل

كان ینوي صلاته للماء وللحجر

للشجر وللتراب

ودائماً كان یقول لأصدقائه المقربين: "حسناً، لو لم تمدَّ الجبال

یدها لأیدینا، لكنّا كالسهول بلا أذرع

إلى أین كنا سمنضي..؟".

یوم سعيد أخي العزیز نوري كاتب العرائض.

یوم سعيد.

جلبتُ لك بياض حزن شجرة تفاح أنثى

ملعونة في حضن حقل قاسٍ

أتستطيع بتعابيرك

أن تسطر ماهو أبلغ من حرقة جسدي،

ما الذي ستكتبه أكثر من تمزقي علي..؟

لترقق قلب الإله الذكر

التاریخ الذكر

الرسول الذكر.

أخي نوري كاتب العرائض

یوم سعيد

أنا وجع أنثى هاربة من الوطن الهَلوف

لمن ستأخذ شكوايَ..؟

ماتستطيع فعله لي..؟

لأیة سماء لا ذكر فيها

ستحيل صراخي..؟

لأغني للحظات

أغنية أنوثتي المنثلة،

إن لم یحدث شيء

سأمشي في الشارع الجدید لدمي

أخي نوري كاتب العرائض

ماالذي ستكتبه لي..؟

أتيتك بعذابي الندي

في أي مكان تكوِّنه

تفوح منه نتانة أنوثتي

لكن، هذه الرائحة لا یشمها

إلا الأنوف التي تعلم بألم السنابل

تلّوي البساتين في الليل

أولئك المنغمسون في الشعر حتى عيونهم

ویهطلون مطراً.

ماالذي ستكتبه لي..؟

أكثر شفافية من شَعري

أكثر جلاء من الغدر المنثور في جسدي

أنا امرأة في عجاج الذكورة،

سقطت من غصني

أخذني للبعيد

لرمس النسيان.

أنا امرأة من صرخة البكم

من رؤى الكفيف

من ولادة العاقر

من ریاض الموتى

من أفق اللهاث

من طریق لا سبيل له

ومن المطر الجاف.



أنا امرأة، أو أجاصة جميلة

تتقضقض بين طفي رجل،

فأكتب الألم بليغاً،

فصاحة الألم في الجروح المدماة،

للرجال أكتب عریضة..

للسماء...

للمحيطات...

للجبال...

للعالم كله

أكتب الكذبة الكبرى،

من آدم حتى اليوم

في رسائلهم سميت العدالة...

رجولة.!!؟.



راح دكان... جاء دكان

راح كرسي... جاء كرسي

وبعدها جاء صيف

لم یغادر أبداً.



صباح صيف، زائغ العين

سمعت نفيراً

بعد النفير ذاك،

حشرجة الغرفة

اختنق الشارع

شُلّ الزقاق،

خوذٌ حدیدٌ اقتحمت الشوارع والبيوت بالحراب،

اقتحموا جعبة المدینة

أقفلوا المحكمة

نوري، لم یأت ككل یوم

یشيل الغطاء عنا.



یجلس عليَّ، ویشرع بالطقطقة،

لم یأتِ أحد إلينا،

بعد أیام عدة

بعون ریح تائهة،

صدف بمحمية جيش

فغير لسانه عربياً،

بعد نجاته جاء إلي

آنذاك، أدركت ما حدث.



قالت الریح: إعلم بأن كاتب عرائضكم لن یأتيَ مرة أخرى،

قلنا: لماذا..؟

قال: جنود الموت، أوقفوا أصحاب الرأي

قيل له: تعال وابصق على هذا الزجاج الأحمر،

على الجبال،

بعدها عد إلى البيت،

أدار كاتب العرائض وجهه لجندي الموت،

وقال لهم: معي بصقة وحيدة، وهي لوجهك

ووجه الطاعون البعثي... لن أعود للبيت.



بعد ذلك قضينا لياليَ ذاك الصيف الأرمل،

غاطسين في الغبار،

طلع صفٌ متلألىءٌ.

لم یظهروا حتى ذلك الوقت.

نزلت اللآلىء حتى اقتربت من الأسقف،

جاءت من أسقف البيوت

لقربها، كان الأطفال

یقفزون ليمسكوا بأردانها الحمراء

وشعرها الأشعث،

كانوا یعلقون أنفسهم بأكتافها وأعناقها المدماة،

وشعاعها الأصفر.



صف غيوم..

ثلاثة منها في هيئة ثلاثين كرة

ثلاثة منها في هيئة قلم

والبعض الآخر آحصان وثور.

تدحرج الكرات نحو الملعب،

تذهب الأقلام لصفوف المدارس،

یتجه الحصان والثور

نحو الأحياء وفناء المنازل

إحدى الغيمات على هيئة صفحة

تصعد عالياً

لتأخذ عریضة إلى الله.



هكذا جاء یوم وراح،

لكن حزیران لم یغادر أبداً

تلك الأیام..

حيث رائحة الدم تلفُ شوارع المدینة،

الطاعونيون كانوا فرادى وجماعات

یلتقون في المفترقات والزوایا

في الساحات والأزقة.



في أحد الصباحات..

في الساعة الحادیة عشرة

عصف ضابط وشرطي بغضب،

حملا المشمَّع عنا

أنزلونا، أخذ الضابطُ الطابعةَ في حضنه،

والشرطي لقفني للحمال.

وقال: خذه للسوق، لذاك المكان الذي أخبرتك عنه.



كانت لحظة مؤلمة، حين افترقتُ عن معلمي الطابعة،

كانت آخر مرة أراه

حياّني بذراعه المكسورة،

فأومأت له برأسي.

قلت لنفسي: لن أراه، ثانيةً،

ذاك الذي علمني النور في الليالي الطویلة

وأرشدني لسبيل الضوء.



مضينا.. وأنا على آتف الحمال

في شارع "مولوي"،

آن رأیت ثلاثة من أصدقائي القدامى،

وعرفتهم أمام مطبعة "إمام صالح"،

یجلس عليهم ثلاثة شبان أنيقين

استعدت غلواء شبابي وبریق عيني،

"قادر دیلان"، و"فریدون علي أمين" و"أنور أدهم"،

وصلنا للمزاد وسط السوق

وضعني الحمال أمام دكان عجوز مسكين،

وُضعت إلى جانب مدفأة بلهاء

مقببة، ثرثارة

بعدها تعرفنا، قالت لي:

إن كانت أخشابك صالحة، لن تبقى هنا آثيراً

الكرسي لا یحتار أبداً، فجميع الفصول له.

نحن التعساء، إن توجه الصيف إلينا... أساساً لم یأتِ الشتاء هذه السنة.

قبل غد أتوا بكرسيين، لم یمض یوم حتى أخذوه مع أغراض أخرى

لمقهى في "بازیان".* ( منطقة قریبة من السليمانية )

الكرسي: لاأحب الذهاب إلى خارج المدینة

ولكن من یكترث بما نحب.

لتعلمَ، قبل شهر جاؤوا بكرسي مثلك تماما

بقامته ووجهه.

أتعلم؟

أخذوه إلى مشرحة... أي نعم. إذاً، خارج المدینة

سيء أم قاعة المشرحة...؟

ماذا..؟ أتنوي إخافتي..؟

لا أخيفك.... لكن أرید إخبارك بأنه یوجد السيء والأسوأ... أليس كذلك..؟

لا أعلم ما سأقوله، أرجو ألا نصبح في أیامنا الأخيرة محل سخریة غاسل

وحارس الموتى

والسوَّاس.





جاء مزاد وراح مزاد.

أتتِ الشيخوخة، وراحت الصبوة،

و أنا بين كومة خردة

وجدت نفسي أنتظر مصيري

في سوق ناءٍ،

لكني أنوي التوقف هنا.

وأعود القهقري

إلى الحادثة أمام باب "سرا".



كرسي المقدمة: عفواً قطعتُ حدیثك، أین كنتَ في حادثة "سرا"..؟

الكرسي: كنت هنا، لماذا..؟

كرسي المقدمة: لأنه كان یجب أن تبدأ من هناك.

الكرسي: ليس شرطاً، من هذه اللحظة أعود لتلك.

كما قلت لكم سابقاً، كنتُ هنا للمرة الثانية.

في المرة الأولى كنتُ فتياً، بعد السادس من أیلول الأسود،

انقضوا علينا هنا، وقُبض عليَّ مع النادل.

أعطوني مجاناً لبائع خردة، وبائع الخردة باعني لدلال في السوق.



وهكذا كما سمعتم سيرة حياتي،

أعتقد مالكي بأنني انتهيتُ،

هو أیضا مثلي من "هورامان"،

استقصى عني كثيراً، لكنه لم یجدني،

فراقنا كان طویلاً... طویلاً جداً،

إلى أن وصلت إلى المزاد، قرب المدفأة الثرثارة.

صدف أن وجدني "جایجييّ"* السابق

(بائع الشاي أفضل من لهجة الكوجكات، كما تلفظ في اللهجة العراقية )

عرفني، فاشتراني وجلبني إلى هنا.



كرسي المقدمة: جعلتَ من البدایة نهایة.

كرسي آخر: دعه یكمل الحكایة.

(یبدأ الكرسي في سرد ذكریاته):

كما قلتُ، حينها كنت في غلواء شبابي، لم أكن أخشى، لا المنشار ولا المسمار،

ولا حتى النار، كنت حدیث القدوم إلى المدینة.



هنا

فقط مضتْ أیام خمسة،

حتى أمسك أیلول بقامة السنة،

من أیلول تفوح رائحة قرنفل "وه یس"*

( مزار في جنوب السليمانية ، كان حينها مكانا للتنزه )

وعطر "نالي"

وعریشة بيت "صائب".

كانت الأحياء

أساور زجاج في ید السليمانية

وكان العالم صغيراً.



فقط خمسة أیام مضت من أیلول،

في سفح ذلك العام

تدحرج لمروج اليهود

بریح "آاني باوه" كل شيء

حتى غزلان "كانيسكان"*

( حي في السليمانية )

تخضلت بأغاني وصوت "رشول"*

بمطر ذاك المقام

في الدلف المخضر.



صاروا قنادیل مضيئة

في ليالي المدینة

یتكاثر في الشوارع والسوق

همس محمر،

جناح همسة تكبر لحظة إثر لحظة

تأخذها الریح

ویتسع حفيف الخبر بحدة

إلى أن كانت الریح تعود.



للمرة الأولى..

ینحدر من الكهف استجداء

ومن الجبل تصل أحصنة بحریة

على الشارع

صوت مفوض آتيبة المدینة.

السادس من أیلول.

كمرآة تهشمت سماء المدینة

وتفتت

في الشارع المقابل، مضرجة بالدماء

إلتهب أتون "سرا" جحيماً

والسریة صارت سریة موت.



دخل الدخان عيني الله

كان دوي وأزیز.



قتلت الأسئلة كما الأطفال،

قتل الحلم كالشعر

سقطت على الماء غشاوة

أعمت النوافذ

أصمَّتِ الأبواب.

اضطربت الأشجار من طرف لآخر، وفرَّت.

ذاك الخریف في "سرا".

صار الصياح إعصاراً أزرقَ

والدموع أوراقاً.

نحروا الأوراق

فصارتْ قنادیلَ.

دوي وأزیز...



رأیتُ هنا

بعض الفراشات الفارَّة

من عجاج الحكومة،

بضعة أشعار "بيكه س" وبضعة مقامات "ره شول"

وبعض أخشاب "سعيد النجار"

دخلتْ هذا الممر

رأیتُ بنفسي

الفراشات آلمات

والمقامات سواقي

الأشعار طيوراً

الأخشاب عُصياً

لعلم الشمس

ذاك اليوم

حط عليَّ الغمُّ.

أُترعتُ بالضباب

كنتُ وجعاً ذاك اليوم،

وكانت الشفرة علي.

كنت أحترق ذاك اليوم

والنار اقتعدت علي.

ذاك اليوم..

عندما حل المساء

وبدلاً من الغسق

جاءت مياه حمراء

غطت الـ جایجي ، الموقد والسماور

الكأس وصحنه

غطتنا كلنا.



ذاك اليوم..

غُربل صراخ المدینة

سقط من أصابع الصباح الضوء

وعصفت الریح بطلائعه.

لكنك لم تعلم أنه في الوقت ذاته

كان تحت جسد الخریف وأحزان الطبيعة

رضيع

كغبار طلع الأقحوان، ینمو.

كان صراخ مستقبلنا یسمع في الطرف الآخر

لم أصبح على لسان الجبل استجداء

كنت ثغر شباك الكتب

واستجدائي شارع المدینة الطویل.



ماالذي لم أره..؟

كم جيلاً من الكراسي المختلفة ودَّعتها،

وبقيت وحيداً؟.

كم باب خائن، وكم طاولة مرتشية

ومنفضة مماذقة..؟

كم ناي عاشق..؟

أسرَّة خشب تجهل الوجع،

كم كمنجات عاشقة..؟

وأقلام بلا مأوى.

عكازاً أعرفه من بعيد

ذاك العكاز

أخذ صاحبه للحافة

منسحباً من تحت یده

ليسقط في الهاویة.



رأیت نوافذ مع اللص شرآاء

ورف وَشَى بكتبه

مرة، مدّ إطار لوحة یده

رغث ألوانه

وأشجار تضرم النار في مهدها

لكني وجدت أشجاراً أخرى

في عشبة ظليلة

وعلى حق بادرة

نازعت الفأس حتى ماتت منتصبة،

رأیت مذراة على حقة عدة سنبلات،

غرز في صدر المزرعة أصابعها.



لم أرَ بنفسي

لكنهم قالوا: كان جسراً

عليه إناء تهشم ظهره

عابر سبيل

تأوه متماسكاً بأوجاعه

لم یسقط حتى عبر

العابرون.

وأكثر الكراسي بسالة

وأندرها عدداً

المتجاسرة على السؤال.



المتشككون

الرافضون لكل أشكال القضاء

بينهم من إنبرى مباشرة للنجار الإله.



لم أر بنفسي

لكنهم یسردون:

لأنهم أجبروا عبداً ليكون عماد المعسكر الكبير

سحب بدعم عارضة

آتفه من تحت البناء

منتحراً في تقویض المعسكر.



كان لي كرسي صدیق

أسمر "كر- كو- كي"،

إبن شجرة ليمون

من "الشورجة"*

( حي في كركوك )

في خده الأیمن شامة واحة تمر

زنده أكثر سماكة من عنقه.

أقدامه صلبة

ودون أن یترنح

حمل على كتفه كيسيْ ملح.

یوما، لقف نائب ضابط داكن السمرة

دیناراً لجایجينا

وبعدها فقدنا الكرسي

لم أره لسنوات.



كان حين رأیته

شاحباً، نحيفاً، یلهث

بالكاد یقوى أن یحضن طفلاً.

قبلته متسائلاً:

ماالذي جرى لك..؟ أین أخذك نائب الضابط..؟

قال: دعني وشأني، لا تعلم ماالذي حصل لي. ثم حكى

كيف وضعوه في غرفة معتمة رطبة

جعلوه للمعتقلين، كرسي تعذیب

كان یسرد أشياء

یطرقس المرء منها.

كان یقول: أتتْ أیام ، تضرجت أقدامي بالدم

وأیام أخرى،

لُفَّ جسدي كله بأسلاك آهرباء،

وكثيرا ماكانوا

یتركون المكواة الحارقة على ظهري.

كان یقول: جلس سجين نحيف عليَّ،

صغير

مع ذلك، لا الكي، والكهرباء

لا القناني ولا قطع أحشائه الجائعة

ولا المطرقة

ما استطاعت أن تخرج من أعماقه

اسماً.



رأیت من هم ضخام في أشكالهم،

خصورهم آشجرة صمغ

وآقامة خالي التوت

قبل أن یجلسوا علي

ما إن رأوا المكواة،

حتى ارتهكت رُكبهم

وانساب كل ما لدیهم.

بعدها كانوا یوشوش لي: رجاء دع الأمر بيننا.

نتفوا صدیق "حيدري"،

وجدته حتى فرموه

یضحك.



كرسي المقدمة: لقد حدثتنا فقط عن الكراسي الكورد. ألم تذهب

عند ملل أخرى؟.

الكرسي: للأسف لم أذهب إلى تلك الأماآن.

لكن مرة جاء كرسي إلى هنا.

لم یكن بأناقته وطلعته یشبه كراسينا الكورد.

فأغلبنا قاماتنا قصيرة

وهو كان طویلاً، شعره أصفر.

مع عشرین سماور، من صناعة "وارسو"،

وصلوا على ظهر بارجة من بحر قزوین إلى إیران،

ومن إیران إلى هنا.

كان مخططاً أن یصل بيت الشهبندر

لكنه أضاع الطریق،

كما قلت، حتى وجده حراس الشهبندر

في هذا المقهى الصغير

أمسكوا بقبة الجایجي

وبعدها أخذوه عنوة.



كرسي المقدمة: كيف كنتم تتفاهمون..؟

الكرسي: كلانا كان یعرف القليل من الفارسية.

لكنه كان متعلماً یجيد لغات عدة. وكذلك كان قد أنهى في جامعة وارسو،

قسم علم الغابات والكراسي ،

لأول مرة عرفت بلغته أسماء بضعة كراسٍ

مشهورة في العالم.



ككرسي نابليون المتغطرس.

وكرسي تشيخوف المقتول بالسل.

أو كرسي الروائي المقامر، مؤلف الجریمة والعقاب.

أو أریكة بوشكين المغدورة.

أو كرسي العجوز الذي فارقت روحه أخيراً،

في محطة قطار،

وحيداً... تائهاً.

أو كرسي الشاعر العظيم

الذي بتر المشردون قدميه في الحبشة.

أو كرسي موباسان المجنون.

أو كرسي مدام بوفاري الذي أخذوه للمحكمة عنوة،

مرات ومرات أخرى كثيرة.



كرسي المقدمة: أتعتقد بأن كراسي العالم تعلم بأمر الكراسي الناطقة بالكوردیة..؟

الكرسي: كلهم لا؛ لكن الكراسي الإنسانية تعرف ذلك جيداً، لمَ لا؟.

ألم یكن الكرسي المنغولي یرید ان یأخذ

لعصبة الأمم موضوع أشجارنا وأخشابنا..؟

كرسي المقدمة: نعم، لكنه ندم في اللحظة الأخيرة.

الكرسي: نعم، أجبرته السلطة على الندم.

حسناً.

والكرسي المعتمر "سيدارة" بيضاء... "نهرو"،

وكرسي "إسماعيل بيشكجي" التركي،

والكرسي الليبي، صاحب العباءة،

وكرسي الأنثى الفرنسية،

وكراس أخرى،

هنا وهناك.





كرسي المقدمة: شكراً.. في الواقع أتعبناك.

كم جيل كرسي مختلف ودعت،

وبقيت وحيداً..؟

من، وما الذي لم أره..؟

مرات عدة، رأیت "رفيق حلمي"،

لم یكن یحب المقاهي

لم یكن یجلس..

لكنه عندما كان یرغب في رؤیة صدیق

أو أحد معارفه، كنا نراه عند الباب

كان یراهم عند بابنا،

هنا كانوا یلتقون.

حينها رأیت في ذاك الطرف

"حمدي" لم أجد بأناقته أحداً،

أتصدقون أن "شيخ محمود الحفيد" وجل من شعره..؟؟

أتذكر "سلام"

عندما جلس في الصباح علي

مترجماً إلى الكوردیة

مقاطع من رباعيات الخيام.

سرد أمامي الـ "خال رجب"، نكتة

فضحك باب المقهى.



جلس علي مرة "إبراهيم أحمد"،

كاتباً رسالة لـ "سجَّادي"*

أتذكر "كيُّو"* قادماً منهكاً من "هولير"

والكاميرا على كتفه

كان یسأل عن صاحبي الجایجي.

"بختيار زیور" أیضاً

ترك علي سيدارته.

"محمود جودت" نام في ظهيرة علي

أفزعه سقوط سيجارته في حضنه.

احتراق صرته.

حينها كانوا یضعونني في المقدمة.

مرة شاب فتي

كدیك بعرف أسود وعينين زرقاوین

جلس علي، وتكلم بلباقة،

جذبنا بسحر صوته

كالمغناطيس،

لم أكن قد رأیته قبل ذلك،

سكت الجميع آناء خطابه

أصغوا مشدوهين.

سألت الكرسي الذي على یميني:

من یكن هذا..؟

قال: عجباً، كيف لا تعرفه، إنه "رفيق جالاك".

أردف قائلاً: أتذكر جيداً، عندما أخذني إلى مدرسة "غازي"،

نبت على المسرح

شقائق نعمان.



ظهيرة یوم آخر..

لدقائق نفذ صبر أخشابي،

كادوا أن یتمردوا على المسمار

ویهربوا.

لدقائق، بردائه، جلس علي "سالار" المجنون

وفي قبضته حجر، لكنه نهض فجأة

وذهب دون أن یكمل شرب شایه.



هكذا راح كرسي، وجاء كرسي.

راح مجنون، وجاء مجنون.



مرة أخرى، لاأتذكر إن كان هنا

أم في وسط السوق..

مساء

رجل مسكين، ملطخٌ بالأصباغ

جاء، وجلس علي بفرشاته

ضرب بفرشاته على ظهري

فتغير لوني من الجهتين.

شرع بالحدیث

كان قد جاء من حمام "سور تا و"

فأدركت بأنه رسام، واسمه "حسن فلاح"،

یوم آخر، ترع قلبي

حاولت أن أتماسك، لكني لم أفلح

فأجهشت بالبكاء.

أنا كرسي عاطفي

حينما أغدو وحيداً بلا أحد

أندب حظي.

كأنما یطهر ذاك البكاء

أعماقي.



أعود إلى حدیثي، ذاك اليوم بكيتُ كثيراً.

بعد موت "كوران"*. جاء "هيوا"*

فجلس عليَّ..

و"بيكه س"، على الطرف الآخر

یقرأ أشعار "هيوا"،

لم أبكِ بمفردي، بل الكراسي الأخرى،

تخضلت بالدموع

عينا السماور الصفراء،

وعينا إبریق شاي أصفهاني.



توجد كراس ذليلة..

لا تخجل من أي شخص یقعد عليها،

وإن كان جلاداً

بل وحتى تضحك.

یقعد علي أحياناً عشرات الأشخاص،

فلا یتعلق قلبي بهم،

وأحياناً یأتي شخص

فلا أریده أن یفارقني.

صدف أنني انتظرتُ لأیام عدة

أولئك الذین أحبهم،

أحب الفقراء، لأنهم بسطاء لا یتعجرفون

ولا یركلونني في الأسفل

أما الذین یتعبونني آثيراً...

لاعبو الدومينو، لا یبرحونني

بعض المدخنين أیضاً، أسرفوا في الأمر،

قلنا لا بأس، فهو شاعر، لكن "شيركو بيكه س"، أحرق في

جهات عدة ذراعي.

أكثر الأشياء التي قهرني رؤیتها

منظر أولئك المساكين الذین اقتعدوا

واحتاروا في ثمن الشاي.

هكذا جاءت دنيا وراحت دنيا

دارت الأیام ودار الكرسي معها

حتى وصل هذه اللحظة،

حتى استيقظت الأریكة بسعال الكرسي.

(كرسي المقدمة یلتفت نحو الأریكة):

كيف كانت اسطنبول..؟

الأریكة: متعبٌ... متعب، لا تعلم بأنه البارحة جلس رجل ضخم علي، ومعه أكياس سكر!.

الكرسي: ها هو الفجر یهم بإخراج طلائعه الفضية،

من سجف الليل،

وبعد قليل، سيفتح الضوء باطمئنان

نافذة یوم جدید.

لقد سردت ذكریاتي، والليلة القادمة سنصغي لأخينا العزیز

الكرسي السنندجي.

وصيتي هي، إن مت وأنتم هنا

أحرقوني،

ستساعدكم النار الأثيل،

لقد أخبرتها بذلك

آنذاك، انثروا رمادي على كل أرض حبلى ببذور الحياة،

لتنجب أشجاراً ندیة

وفي النهایة أشكر اصغاءكم لي.



أنا كاتب هذا النص

في زمن كوليرا البعث

ككل شعر أو قصة أو مسرحية

ونثر

ككل عاشق تائه

كأغان هاربة

كفراشات الخریف

توجهت للجبل، ودرب التبانة

ومنها كطيور مهاجرة

أو غسم وحيد

وصلت أوربا،

سنوات الغربة صارت رفيقة درب

والغربة عنواناً

في البعد ذاك

دائما كان كرسي مقهايّ في البال

أزوره في أحلامي

حلم دام لسنواتٍ.



أنا كاتب هذا النص

الآن عدت للمدینة

كان "أمنه سوره كه"*

في ید الرمان

و"أي رقيب"* یتمشى في الممرات سراً،

والدماء في الحامية استحالت قنادیلَ،

وصلت عند شجرة الرمان

كان الحلم في الشارع

باخضرار مطر حضنته في شارع "مولوي"،

على تمثال "كاوا"،

أمطرتُ "محرم محمد أمين" قبلاً

أمام الحدیقة العامة، اتجه نحوي

"شاكر فتاح"

أعطاني زهرة یاقته، وقال لي:

جاء عبد الخالق من هولير

یسلم ویبحث عنك.

قرب المخفر السابق

اجتمعت آلاف العصافير والسنونوات

أرانب وسناجب والرشا

وبينها "كمال صابر"

ممتطياً صهوة حصان لكاثي ثمل

عينه اليمنى عوراء

یمسك بإحدى یدیه رسن الحصان

وبالأخرى ربعية "فل"

یرتشف الربعية أحياناً

ومن ثم یحكي للحشد نكتة إثر نكتة.

وهي كانت تصفق له بأجنحتها

وبمناقيرها وآذانها.

صار الأجيج كرنفال هزل

في "تووى ملك"

ترجل تمثال كاوا الحداد من على قاعدته

ودبك بين الناس

لكنه لم یكن یجيد الدبكة الجدیدة.

أمسك بيده "مام ریشه"* ليعلمه الدبكة.



على منارة الجامع الكبير

وجدت كركياً،

وضع السبَّحة والسجادة جانباً

وأخذ یرقص

بسط جناحيه جيتاراً

عازفاً الموسيقى.



في شارع "صابون كران" قرابة أربعين أنثى من الغربان،

أضرمت ناراً، واحدة تلو أخرى

نزعت العباءة والحجاب والجبة

لقفتها للنار.

بالقرب منها، وقف ثلاثة رجال مبتسمين

معروفين في الحي ذاته،

كانوا یشجعون التصفيق

أحدهم كان یقرأ بصوت غليظ،

قصيدة للشيخ "نوري شيخ صالح" إذ یقول في أحد الأبيات:

"انزعوه، تالله.. ألقوه في التنور، حرام

وضع یوم مشرق في دیجور الليل".

والآخر أیضاً، كتب بخط جميل كبير،

شعراً على یافطة طویلة.

والثالث بعد سرد نكتة عن الملا "دالاشي"

وضع لأكثر الغربان شجاعة في الكرنفال

علامة.

أولئك الرجال هم: الملا نجم الدین صاحب " شتي نوح"*

وخالد زامدار الخطاط، وأستاذ الریاضيات عمر عارف

صاحب القبقاب الأسود.



في حي "كانيسكان"، على النبع الجميل

مَنْ رأیتُ مِنْ بين قطيع التيوس والغزلان..؟

یا إلهي، أیكون هو، نوري محمد علي؟

من ورود الدفلى، ارتدى سروالاً وقفطاناً

ونطاقاً من الكرز،

زهرة بستان في شَعره،

زوج نعل "هوراماني" أحمر في قدميه،

الآن حضنته، حطّت علينا آلاف الفراشات،

آه یا نوري العزیز، متسربلاً بالأحمر كأنك یاقوت

من أین، إلى أین نوري الحبيب..؟

قال: من عدمٍ لعدمٍ.

دعك من ذلك، الحمد لله أنني رأیتك

في رأسي سؤال یدور ليل نهار،

صار حزناً أحمر، حلماً أحمر،

یدوي في رأسي.

سؤالي هو: لماذ قتلوني... لماذا... لماذا... لماذا؟؟

كدتُ أقول شيئاً،على حين غرة

صرخ كل غزال وتيس

غدر... غدر... غدر.

ثم التفتت كلها مع نوري

توجهت نحو التلال،

واختفت عن الأبصار.



في شارع "صهولكه " وجدت "ثروت سوز"*

وبعض الطواویس

وببغاء وغزلاناً ملونة، تقيم ورشة عمل

لطلبة مدرسة "ليلى قاسم"

یعلمونها الرسم.

من بعيد أبصرت "سلام الملا صابر"،

یوزع السكر والحلوى في علبة مزرآشة

أسفل مسجد "خانقه".



أروني جَديُّ مسلح

قالوا: هذا الجدي، في خطبة الجمعة الماضية، قال:

"إن كل غبراء أو دجاجة أو حمامة، تصبغ مناقيرها بالأحمر

یعرون أذرعتها وأقدامها

ولاترتدي ألبسة هلباء

ولاتتوشح بالجبة كآلدیك الرومي

حتماً، كلها كفرة.



الملا الجدي، أفتى في مكبر الصوت،

بهدر دم القمریة واليمامة والبلابل اللواتي

افتتحت صالات حلاقة، وبنت أعشاشها

قرب جرس الكنيسة في حي "كاوران".



ذهبتُ ذاك اليوم إلى المقهى

جلتُ ببصري المكان

رأیتُ كراس جدیدة كثيرة

لم أجد كرسيَّ،

بحثتُ، اضطربتُ

قال باب المقهى:

عن أثر من تبحث..؟

قلت: عن كرسي بذاك الشكل وعن أریكة عثمانية.

وكرسي من أهالي سنندج، لا أجدها

قال: یا أخي ماالذي تقوله..؟

في أذن أي ثور كنتَ نائماً؟*

( مثل كوردي ،یرادفه عربيا ، النوم في بطن الحوت ، یستخدم للدلالة على الجهل بأمر ما)

منذ الثمانينات، منح المعلم لصهره من أهالي

منطقة "كفري"

الكرسي وكراس أخرى والأریكة.

للأسف لن تبصرها مرة أخرى.

للأسف هي أیضاً مع العم "ویس" والخالة "خجه"،

والصهر وأغاني "علي مردان"،

وعمامة "خداداد علي"،

وجاكيت "كثيري"،

تم نفيهم بعيداً... للبعيد؛

تم إنفالهم للجنوب.



ممعناً في نقطة سوداء،

للحظات استحالت سنونواً حبيساً،

آنئذ رفعتُ رأسي،

حلق السنونو عالياً

أبصرتُ في سطح سماء ناصعة،

غيمة في سيماء كرسي،

نفسه، الكرسيُّ

وُضع قرب بيت الله،

منتظراً

أن تقعدَ عليه.. أخيراً

الحریة.

***

"الكراسي"، كتاب وضع متنه شيركو بيكه س، مركز المتن هو نفسه الشاعر؛ تتألق فيه الذكرى والطبيعة وشخوص كردستان وحيواتها وشعراؤها ومقاهيها، تتألق في المتن الرغبةُ الجنسُ، والأشجارُ، والتاریخ والمنفى؛ كتابٌ شعرٌ، یُذبح فيه الكورد، وتقوم فيه قيامة الحياة الصخَّابة المعاشة، بين یدي الشاعر، الذي نَجرَ نصّه الشعري، بآفاقٍ، هي آفاق كردستان وتاریخها.

نصٌّ صعبٌ، نصٌّ مفتوحٌ على سيجارة شيركو بيكه س، القلقة:

(قلنا: لابأس، فهو شاعر، لكنْ، "شيركو بيكه س"، أحرقَ فيَّ جهات عدة من ذراعي). یقول الراوي الكرسي.
 
أعلى