الموسوعة العربية حتى سابع القرون الهجرية - الغزل والنسيب

الموسوعة العربية حتى سابع القرون الهجرية
هذا الباب - أكرمك الله وعافاك، ووقاك من فتنته وكفاك - بابٌ متسع، قد أكثر الشعراء القول فيه، وتنوعوا في أساليبه ومعانيه؛ لو استقصيناه لطال به هذا التصنيف، وانبسط هذا التأليف؛ وكان بمفرده كتباً مبسوطة وأسفاراً كبيرة، فلخصنا منه درراً نفيسة وأعلاقاً خطيرة؛ واقتصرنا منه على مارقَّ معناه وراق، وحسن لفظه وشاق؛ وارتاحت إليه النفوس، وتحلت به الطروس؛ ولمحته النواظر، وانجذبت إليه الخواطر. وقد تنوع الشعراء في الغزل: فتغزلوا في المحبوب باسمه، وكنوا عنه واستعاروا له، ووصفوا أعضاءه وشبهوها بأشياء، فشبهوا العيون بالنرجس، وأفعالها بالخمر والسِّهام؛ وشبهوا الحواجب بالقسيّ، والجبين بالصَّباح، والشُّعور بالليالي، والسوالف بالغوالي والصوالج والعقارب؛ وشبهوا الوجه بالشمس والقمر؛ وشبهوا الخدود بالورد والتُّفاح؛ وشبهوا الثُّغور بالأُقحوان، واللمى بالخمر، والريق بالشهد، والشفاه بالعقيق، والأسنان بالُّلؤلؤ؛ وشبهوا النُّهود بالرُّمَّان، والقوام بالغصون، والأرداف بالكثبان. وغير ذلك. وقد تقدم إيراد ذلك كله مستوفىً في موضعه، وهو في الباب الذي قبل هذا الباب.

وتغزلوا أيضاً في أصناف الفواكه المأكولة والمشمومة؛ وتغزلوا في الرياض والأزهار. وسنورد إن شاء الله ذلك في موضعه، وهو في القسم الثاني والثالث والرابع من الفن الرابع من كتابنا هذا، في السفر العاشر من هذه النسخة.

فلنورد الآن ها هنا من باب الغزل والنسيب خلاف ما قدّمنا ذكره مما ذكرناه وما نذكره إن شاء الله تعالى.

والذي نورده في هذا الباب نبذة مما قيل في المذكر، والمؤنث، والمطلق، والمشترك، وطيف الخيال، والرد على العذول، ورجوع العذول، والوصال، والفراق، والبين، والتوديع، والصدّ، والهجران؛ وما قيل في الزيارة وتخفيفها، وموانعها، والمدامع والرضا من المحبوب باليسير، والنُّحول؛ وما قيل في المحبوب إذا اعتل؛ وما قيل على لسان الورقاء، والمراجعات، والمردوف، والجناس، والموشحات.

مما قيل في المذكر

قال العماد الأصفهاني الكاتب:

وأحور يسبي بطرف يكلّ وتخجل منه الظُّبا والظِّباء.

بخدَّيه من حسنه والشباب تجمَّع ضدَّان: نارٌ وماءْ.

وفي مقلتيه وقد صحَّتا كما صحتا سقمٌ وانتشاء.

عففت وعفت الحيا في هوا ه حتى استوى صدُّه واللِّقاء.

وكلُّ حياءٍ يذود العف ف عن ودِّه، فعليه العفاء!

وقال آخر:

وكأنَّ بهجة وجهه في شعره قمرٌ بدا في ليلةٍ ليلاء.

وكان عقرب صدغه في خده وقفت مخافة ناره والماء.

قمرٌ رجوت من الزمان وصاله يوماً، فأخلف بالصُّدود رجائي!

وقال عبد الجليل بن وهبون:

وافت به غفلة الرَّقيب والنجم قد مال للغروبِ،

نشوان قد هزَّت الحميَّا منه قضيباً على كثيبِ!

يعثر في ذيله فيحكي عثرة عينيه في القلوبِ!

والله لو نالت الثُّريا ما نال من بهجةٍ وطيبِ،

دنا إليها الهلال حتى قبَّل في كفها الخضيبِ!

وقال ابن حجاج:

ومُذلَّل! أما القضيب فقدُّه شكلاً وأمَّا ردفه فكثيبُ!

يمشي وقد فعل الصِّبا بقوامه فعل الصِّبا بالغصنِ، وهو رطيبُ.

متلوِّن يبدي ويخفي شخصه كالبدر يطلع تارةً ويغيبُ.

أرمي مقاتله فتخطئ أسهمي غرضي، ويرمي مهجتي فيصيبُ!

نفسي فداؤك! إنَّ نفسي لم تزل يحلو فداؤك عندها ويطيبُ!

مالي ومالك لا أراك تزورني إلا ودونك كاشحٌ ورقيبُ!

وقال أبو نواس:

شبيهٌ بالقضيبِ وبالكثيبِ! غريب الحسن ذو دَلٍّ غريبِ!

بعيدٌ. إن نظرت إليه يوماً، رجعت وأنت ذو أجلٍ قريبِ!

ترى للصمت والحركات فيه سواماً لا يذاد عن القلوبِ.

ويمتحن القلوب بمقلتيه، فينكشف البريء من المريبِ!

وقال الوأواء الدمشقيّ:

بدرٌ تقنَّع بالظلا م على قضيب في كثيب!

تدعو محاسنه القلو ب إلى مشافهة الذنوب.

فعلت به ريح الصبا ما ليس تفعل بالقضيب.

عقلت ركائب حسنه بعقولنا عند المغيب.

وتلطَّمت وجناتنا بيد الدموع من النَّحيب!

وقال الأمير تاج الملوك ابن أيوب:

سلب الفؤاد فلا عدمت السالبا! ورنا، فكان اللحظ سهما صائبا!

قمرٌ مشارقه الجيوب، فلا ترى أبداً له إلا القلوب مغاربا!

ملك الفؤاد بمقلتين وحاجبٍ أمسى لحسن الصبر عنِّي حاجبا.

وحكى القضيب شمائلا عبثت به أيدي النسيم شمائلا وجنائبا!

وقال أيضاً:

يا أيها البدر الذي مطلعه طوق القبا!

يا جنة القلب الذي أضرم فيه لهبا!

فدَّيت هذا الوجه، ما أحسنه وأعجبا!

لم تر عيني قبله صبحاً تردَّى غيهبا!

وقال أبو نواس:

يا بدعةً في مثالٍ يجوز حدَّ الصفات!

فالوجه بدر تمامٍ بعين ظبي فلاة!

والقدّ قدُّ غلامٍ والغنج غنج فتاة!

مذكَّر حين يبدو، مؤنثُ الخلوات!

زها عليَّ بصدغٍ مزرفن الحلقات.

من فوق خدٍّ أسيلٍ يُضيء في الظُّلمات!

وقال كشاجم:

معتدلٌ من كلِّ أعطافه! مستحسن الإقبال والملتفت!

لو قيست الدُّنيا ولذَّاتها بساعةٍ من وصله، ما وفت!

سلِّطت الألحاظ منه على قلبي؛ فلو أودت به ما اشتفت!

واستعذبت روحي هواه فما تسلو ولا تصحو، ولو أُتلفت!

وقال فضل الرَّقاشيّ:

وشاطرٍ فاتك الشَّمائل قد خالط منه المجون تخنيثا.

تراه طوراً مذكَّراً؛ فإذا عاقر راحاً، رأيت تأنيثا.

ألثغ إن قلت يا فديتك: قل موسى،يقل من رطوبة: موثا.

ما زال حتى الصباح معتنقي مطارحي في الدُّجى الأحاديثا.

وقال كشاجم:

بليت بوجدين وجدي بظبيٍ يصدّ، وما به إلا لجاجُ.

وعذَّبني قضيبٌ في كثيبٍ تساوى فيه لينٌ واندماجُ.

أغار إذا دنت من فيه كاسٌ على دُرٍّ يقبِّله زجاجُ.

وقال أيضاً:

يا لقومي! من لمكتئبٍ دمعه في الخدِّ منسفحُ؟

لامه العذَّال في رشإٍ عذره من مثله يضحُ.

وادعوا نصحي! وأخون ما كان عُذالي إذا نصحوا!

خوّفوني من فضيحته، ليته وافى وأفتضح!

كيف يسلو القلب عن غصنٍ، علَّه من مائه المرح؟

ذهبيُّ الحسن تحسب من وجنتيه النار تقتدحُ!

وكأنَّ الشمس نيط لها قمرٌ، يُمناه والقدحُ.

صدّ أن مازحته غضباً! ما على الأحباب إن مزحوا؟

وهو لا يدري لنخوته أننا في النَّوم نصطلحُ!

ثم لا أنسى مقالته: أطفيليٌّ ومقترحُ؟

وقال تاج الملوك ابن أيوب:

فديت وجه الحبيب بدراً! والبدر يُفدى، وليس يفدي!

سبى فؤادي بليل شعرٍ وصبح وجهٍ وغصن قدِّ.

في فمه عنبرٌ مدافٌ في قهوةٍ خولطت بشهدِ.

كأنما خدُّه شقيقٌ، نُقِّط من خاله بندِّ.

ظبيٌّ من التُّرك ذو دلال يستحسن الجور والتعدّي.

كأنَّه غصن خيرزانٍ، إذا انثنى أو قضيب رندِ.

يحُلُّ في الحبِّ عقد صبري إن شدَّ في الخصر عقد بندِ!

وقال أبو نواس:

أيا من بحُبِّي عليّ اجترى؟ ومن بلساني عليّ افترى؟

ومن بيدي غلَّني للهوى، فأصبحت للحُبِّ مستأسرا؟

أما والذي جعل المستهام صديق السُّهاد عدوّ الكرى!

لقد ذهبت مهجتي باطلاً، لئن متُّ منك على ما أرى!

وقال آخر:

ومهفهفٍ طاوي الحشا خنث المعاطف والنظرْ!

ملأ القلوب بصورةٍ تليت محاسنها سورْ!

فإذا رنا وإذا شدا وإذا سقى وإذا سفر:

فضح الغزالة والحم امة والمدامة والقمر!

وقال آخر:

إذا أكثر الواشون فينا مقالهم وليس لهم عندي وعندك من ثارِ،

وشنُّوا على أسماعنا كُلَّ غارةٍ وقلَّت حماتي عند ذاك وأنصاري،

لقيناهم من مقلتيك وأدمى وأنفاسنا بالسَّيف والسيل والنارِ.

وقال آخر، من شعراء اليتيمة:

وأغنَّ أغيد حُبُّه مستأنس لي، وهو نافرْ!

إن قلت: زرني! قال: نمْ، فالطَّيف ليس يزور ساهرْ!

كيف السبيل إلى الرُّقا د كما رسمت، وأنت هاجرْ؟

ويقول لي فيما يقو ل: نعم! وما للقول آخرْ!

حتى أشاور! قلت: ل كنِّي هويت ولم أشاورْ!

وقال تاج الملوك:

يا قمراً أقبل يسعى على دعصٍ من الأغصان مهزوزِ!

وصلك، واويلي! على طيبه أصبح ذا منع وتعزيزِ.

ما كان إلا بيضة الدِّيك لي أو مطرةً في شهر تموزِ.

وقال أبو نواس:

عذَّبني قلبي بمن قلبه للصَّبِّ مثل الحجر القاسي.

أحور فتانٍ قطوف الخطا أغيد مثل الغصن ميَّاسِ.

أبيت ليلي ونهاري معاً معلَّقاً منه بوسواسِ.

إنِّي وإن لم يكُ لي نائلٌ منه لأرجوه على ياسِ.

وقال سيف الدين المشدّ:

إلى قدِّك اللَّدن يُعزى الهيف! فما هبَّت الرِّيح إلا انعطفْ!

قوامٌ أراد قضيب النَّقا يحاكيه، لما انثنى، فانقصفْ!

فيا رامياً قد رماني هواه بنار الأسى في بحار الأسفْ!

سهام جفونك قلبي غدا لها غرضاً، وضلوعي هدفْ.

وأوردتني في الهوى مورداً تجرّعت فيه مرير التَّلفْ.

وأعرضت عنِّي، ولا ذنب لي! فكم ذا الدّلال! وكم ذا الصَّلفْ!

ومخطف خصرٍ على ردفه، فكلُّ فؤادٍ به مختطف!

وقال أبو القاسم العطار:

وبي غزالٌ، إذا صادفت غرَّته جنيت من وجنتيه روضةً أُنُفا!

كالبدر مكتملاً، كالظبي ملتفتاً، كالروض مبتسماً، كالغصن منعطفا!

وقال تاج الملوك:

يا قمراً في غصنٍ من بانةٍ، يميل عجباً في كثيبٍ من نقا!

أصبح قلب المستهام مغرباً له، وأطواق القباء مشرقا!

أغيد، لا يقصد إلا تلفي! ولم يزل قلبي به مُعلقا.

ذكَّرني حسن ابتسام ثغره ال واضح لمع البرق إذ تألَّقا.

وطالما ذكَّرنيرضابه ال بارد صرف الراح إذ تعتقا.

أغنّ، ما فوّق سهم لحظه إلا أصاب القلب لما فوّقا.

حاجبه قوسٌ ولحظ عينه سهمٌ، فما يُخطي إذا ما رشقا.

وقال أبو نواس:

جال ماء الشباب في خدَّيكا، وتلالا البهاء في عارضيكا.

ورمى طرفك المكحَّل بالسَّح ر فؤادي فصار رهناً لديكا.

أنا مستهتر بحُبِّك صبٌّ لست أشكو هواك إلاَّ إليكا.

يا بديع الجمال والحسن والدَّل ، حياتي وميتتي في يديكا.

بأبي أنت! لو بليت بوجدي لم يهن ما لقيت منك عليكا!

أصبحت بالهوى سهام المنايا قاصداتٍ إليَّ من عينيكا!

وقال أيضاً:

يا من جداه قليل ومن بلاه طويلُ!

ومن دعاني إليه طرفٌ أحمُّ كحيلُ،

وواضح النبت يحكي مزاجه الزَّنجبيلُ،

ووجنة جائلٌ ما ؤها وخدٌّ أسيلُ.

وغصن بانٍ تثنى قدّاً، وردفٌ ثقيلُ،

ويجمع الحسن فيه وجهٌ وسيمٌ جميلُ!

فكلُّ ناحيةٍ من قلبي إليه تميلُ!

وقال الوأواء الدمشقي:

رماه ريمٌ فأصا ب القلب منه، إذ رمى.

واحتجَّ في قتلته بأنَّه ما علما.

يا معشر الناس! أما يُنصفني من ظلما؟

علَّم سقم طرفه جسمي منه سقما.

فسقم جسمي في الهوى من طرفه تعلّما.

لو قيل لي: ما تشتهي؟ مخيَّراً محكَّما.

لقلت أن ألثمه: نحراً ووجهاً وفما!

وقال الوزير أبو مروان عبد الملك بن جهور:

أحوى النواظر، ألعس الش فتين، عذب الرِّيق، ألمى!

لو زارني طيفٌ له عند الهجوع ولو ألمَّا،

لأفاد روحاً أو لفر ج من هموم النفس همَّا!

وقال آخر:

وأهيف، مهزوز القوام إذا انثنى وهبت لعذري فيه ذنب اللَّوائمِ.

بثغرٍ كما يبدو لك الصبح باسمٍ، وشعرٍ كما يبدو لك الليل فاحمِ.

مليح الرضا والسُّخط، تلقاه عاتباً بألفاظ مظلومٍ وألحاظ ظالمِ.

ومما شجاني أنَّني يوم بينهم شكوت الذي ألقى إلى غير راحمِ.

وحملت أثقال الجوى غير حاملٍ وأودعت أسرار الهوى غير كاتمِ.

وأبرح ما لاقيته أنَّ متلفي بما حلَّ بي في حبِّه، غير عالمِ.

ولو كنت مذ بانوا سهرت لساهرٍ لهان، ولكنِّي سهرت لنائمِ.

وقال أبو نواس:

يا ريم هات الدَّواة والقلما أكتب شوقي إلى الَّذي ظلما!

غضبان قد غرَّني رضاه ولو يُسئل ممَّا غضبت، ما علما.

فليس ينفك منه عاشقه في جمع عذرٍ لغير ما اجترما.

أظلُّ يقظان في تذكُّره حتى إذا نمتُ، كان لي حلما.

لو نظرت عينه إلى حجرٍ، ولَّد فيه فتورها سقما!

وقال سيف الدين المشدّ:

وبي رشيق القوام لدنٌ لقدِّه يُنسب الرُّديني!

ما نظرته العيون إلا فدته من نظرةٍ وعينِ!

قابل بالكأس وجنتيه، فحُفَّ نجمٌ بنيِّرينِ.

وزيَّنت كفُّه الحُميَّا! ما أحسن التِّبر في اللُّجينِ!

وقال كشاجم:

بالله يا مُتفرِّداً في حسنه ومقلِّباً هاروت بين محاجره!

ومُحكِّماً أردافه في خصره، ومصافحاً خلخاله بضفائره!

لا تغضبنَّ على فتىً يرضى بما أوليته، ولو انتعلت بناظره.

ويتكلم الأسرار حتى إنه ليصونها عن أن تمرَّ بخاطره.

وقال أبو تمام الطائي:

لها، وأعارني ولهاً! وأبصر ذلَّتي فزها!

له وجهٌ يعزُّ به، ولي حرق أذلُّ بها!

دقيق محاسنٍ، وصلت محاسن وجنتيه بها.

ألاحظ حسن وجنته، فتجرحني وأجرحها.

وقال أيضاً:

نشرت فيك رسيساً كنت أطويه! وأظهرت لوعتي ما كنت أُخفيه!

إن كان وجهك لي تترى محاسنه، فإنَّ فعلك لي تتري مساويه!

مُرتجةٌ في تهاديه أسافله، مهتزَّةٌ في تثنِّيه أعاليه!

تاهت على صور الأشياء صورته حتى إذا كملت، تاهت على التِّيهِ!

وقال المخزومي:

أيُّ مُحبٍّ فيك لم أحكه؟ وأيُّ ليلٍ فيك لم أبكهِ؟

إن كان لا يرضيك إلا دمي، فقد أذنَّا لك في سفكهِ!

وقال أبو نواس:

يا قابري بملاله ودامري بمطاله!

ويا مُبدِّل ليلي قصاره بطواله!

أعوذ منك بوجهٍ بدر الدُّجى في مثاله!

لكنه منه أحلى لحسن موضع خاله.

هلاَّ رحمت صريعاً تحت الرّدى وطلاله؟

من لا يرى منه فوق ال فراش غير خياله.

مثل الخلال نحيلاً يخفى على عذاله.

فمن بغى لك سوءاً، فكان في مثل حاله!

وقال محمد بن عبد الله السلاميّ، شاعر اليتيمة:

ومختصر الخصر، من بعده هربت فألقيت في صدِّه!

وقابلني وجهه مُقبلاً بحدِّ الحسام وإفرنده.

فما زلت أعصر من خمره وأقطف من مُجتنى ورده.

وأظمأ فأرشف من ريقه! فيا حرَّ صدري من برده!

وقال أبو هلال العسكريّ:

أقول لما لاح من خدره، والليل يرخي الفضل من سترهِ:

أبدره أحسن من وجهه، أم وجهه أحسن من بدره؟

قد مالت الرِّقة في شطرهِ، ومالت الغلظة في شطرهِ.

فأزره غصَّت بأردافه، ووشحه جالت على خصرهِ.

أصبحت لا أدري - وإن لم يكن في الأرض شيءٌ أنا لم أدرهِ-

أشعره أحسن من قدِّه؟ أم قدُّه أحسن من شعرهِ؟

ودُرُّه يؤخذ من لفظه، أم لفظه يؤخذ من دُرِّهِ؟

وثغره ينظم من عقده، أم عقده ينظم من ثغره؟

فمن عذير الصَّبِّ من صدِّه؟ ومن مُجير القلب من هجره؟

يا ليته يعرف حُبِّي له! عساه يجزيني على قدرهِ!

وقال تاج الملوك بن أيوب:

يا هلالاً لاح في غصنٍ، تشرق الدنيا بطلعتهِ!

وغزالاً طالما خضع الأسد الضاري لهيبتهِ!

ما رنا إلاَّ وجرد لي صارماً من لحظ مقلتهِ.

صل عليلاً، أنت أعلم من كلِّ مخلوقٍ بعلتهِ.

قد أطالت مُقلتاك بلا سببٍ تعذيب مهجتهِ.

كُلَّما لجَّت عواذله أجَّجت نيران لوعتهِ.

فاتَّئد من طول عذلك لي، يا عذولي في محبتهِ!

من بنى الأتراك مُعتدل، قد تمادى في قطيعتهِ.

ليس يشفى القلب من ظمأٍ غير رشفي راح ريقتهِ!

لا، ولا يطفي لظي كبدي غير تقبيلي لوجنتهِ!

ليت أن الدهر مكَّنني بيدي من حلِّ تكَّتهِ!

وقال آخر:

ومهفهفٍ! عنِّي يميل ولم يمل يوماً إليّ، فقلت من ألم الجوى:

لم لا تميل إليّ، يا غصن النَّقا؟ فأجاب: كيف، وأنت من جهة الهوى؟

وقال ابن الطرابلسيّ:

من ركَّب البدر في صدر الرُّدينيِّ، وموّه السحر في حدِّ اليمانيِّ؟

وأنزل النَّيِّر الأعلى إلى فلكٍ مداره في القباء الخسروانيِّ؟

طرفٌ زنا أم قرابٌ سُلَّ صارمه؟ وأغيدٌ ماس أم أعطاف خطِّيِّ؟

وبرق غاديةٍ أم برق مبتسمٍ، يفترُّ من خلل الصُّدغ الدَّجوجيِّ؟

ويلاه، من فارسيِّ النَّحر مفترسٍ بفاترٍ أسديِّ الفتك ريميِّ!

يكنُّ ناظره ما في كنانته! فليس ينفكُّ من إقصاد مرميِّ!

أذلَّني بعد عزٍّ؛ والهوى أبداً يستعبد الليث للظبي الكناسيِّ.

ما مان مانيُّ، لولا ليل عارضه ما شدَّ خيل المنايا بالأمانيِّ.

تكنَّف الحسن منه وجه مشتملٍ نفار أحور في تأنيث حُوريِّ.

أما وذائب مسك من ذوائبه على أعالي القضيب الخيزرانيِّ؟

لو قيل للبدر: من في الأرض تحسده؟ إذا تجلَّى، لقال ابن الفلانيِّ!

أربى عليّ بشتَّى من محاسنه تألَّفت بين مسموعٍ ومرئيِّ.

إباء فارس مع لين الشَّآم مع الظ رف العراقيّ في النُّطقِ الحجازيِّ.

وما المدامة بالألباب ألعب من فصاحة البدو في ألفاظ تُركيِّ!

أشبهته ببعادي، ثم كان له مزية الخلق والأخلاق والزِّيِّ.

من أين لي لهبٌ يجري على ذهبٍ في صحنٍ ابيض صافي الماء فضِّيِّ؟

وروضةٌ لم تحكها كفُّ ساريةٍ ولا شكا خدُّها من لثم وسميِّ؟

يحُفُّها سوسنٌ غضٌّ يغازله بنرجس بنطاف السحر موليِّ.

من منقذي أو مجيري من هوى رشإٍ أفتى وأفتك من عمرو بن معديِّ؟

لا يعشق الدهر إلا ذكر معركةٍ أو خوض مهلكة أو ضرب هنديِّ.

ولا يُحدِّث إلا عن ربابته من المهار العوالي والمهاريِّ.

والصَّافنات ولبس الضافيات وشر ب الصافيات وإطراب الأغانيِّ،

أشهى إليه من الدَّوح الظَّليل على الر وح العليل وتغريد القماريِّ،

شدّ الجياد لأيام الجلاد وإر شاد الصِّعاد إلى طعن الأناسيِّ؟

وحثّ بازٍ على نأيٍ وحمل قطا ميٍّ تكدَّر منه عيش كُدريِّ؟

في غلمةٍ كغصون البان يحملها كثبان بردٍ على غادات برديِّ؟

يمشون في الوشى أسراباً، فتحسبهم روض الرَّبيع على بيض الأداحيِّ.

والساحر الساخر الغرَّار بينهم كالشمس تكسف أنوار الدّراريِّ.

مهفهفُ القدِّ، سهل الخد، أغرب في ال جمال من لُثغةٍ في لفظ نجديِّ.

يلهيه عن كتبٍ تروى ونصرته لشافعيٍّ فقيهٍ أو حنيفيِّ.

عوج القسيّ وقُبُّ الأعوجيَّة والش هب الهماليج تربى في الأواريِّ.

والشعر في الشَّعر الداجي على الغنج الس اجي يُليِّن منه قلب حوشيِّ.

فلو بصرت به يصغي وأنشده، قلت النُّواسيُّ يشجو قلب عذريِّ.

أو صائد الإنس قد ألقى حبائله ليلاً فأوقع فيها صعيد وحشيِّ.

أغراه بي بعد ما جدّ النِّفار به شدو القريض وألحان السُّريجيِّ.

فصار أطوع لي منه لمقلته، وصرت أُعرف فيه بالعزيزيِّ.

ومما قيل في المؤنث، قال ابن الروميّ:

مخفَّفةٌ مثقَّلةٌ، تراها كأنَّ لم يعد نصفيها غذاءُ!

إذا الإغباب جدّد حسن شيءٍ من الأشياء، جدّدها اللِّقاءُ.

لها ريقٌ تشفُّ له الثَّنايا، ويروى عنه - لا منه - الظِّماءُ.

وأنفاسٌ كأنفاس الخزامى قبيل الصُّبح، بلَّتها السماءُ!

تنفس نشرها سحراً، فجاءت به سحرية المسرى رخاءُ!

وقال أبو نواس:

ما هوىً إلا له سبب يبتدي منه وينشعبُ.

فتنت قلبي مُحجبَّةٌ، وجهها بالحسن منتقبُ.

خليت والحسن تأخذه تنتقي منه وتنتحبُ.

فاكتست منه طرائفه واستزادت بعض ما تهبُ.

صار جدّاً ما مزحت به رُبَّ جدٍّ ساقه اللَّعبُ.

وقال أيضاً:

يا قمراً، أبصرت في مأتم يندب شجواً بين أتراب!

يبكي فيذري الدُّرَّ من نرجس، ويلطم الورد بعنَّاب.

أبرزه المأتم لي كارهاً، برغم داياتٍ وحُجَّاب!

لا تبك ميتاً حلَّ في رمسه، وابك قتيلاً لك بالباب!

وقال سيف الدين المشد:

وبمهجتي! من لو بدت للشمس من تحت النِّقابْ،

سترت محاسن وجهها خجلاً، ولاذت بالسَّحابْ!

وقال القاضي أبو علي التَّنُوخي، شاعر اليتيمة:

أقول لها والحيُّ قد فطنوا بنا وما لي عن أيدي المنون براحُ:

لما ساءني أن وشَّحتني سيوفهم وإنِّي لكم دون الوشاح وشاحُ.

وقال عمارة اليماني:

طرقتها، والليل وحف الجناح، وما تلبَّست بثوب الجناحْ.

في ليلةٍ بات نجادي بها ذوائباً يخفقن فوق الوشاحْ.

والحسن قد ألَّف أشتاته غصنٌ تثَّنى فوق ردف رداحْ.

نام رقيب الصُّبح عن ليلتي، وبات لي كلُّ مصون مباحْ!

أجمع من خدٍّ ومن مبسمٍ بحمرة الورد بياض الأقاحْ.

حصلت من ريقٍ ومن منطقٍ على اقتراحٍ ونميرٍ قراحْ.

ترنَّحت من نشوات الصِّبا فبتُّ مسروراً بنشوان صاحْ.

وفاح من نشر الصِّبا عنبرٌ أحرقه الفجر بجمر الصَّباحْ!

وقال أبو نواس:

وذات خدٍّ مورد قوهية المتجرّدْ.

تأمل العين منها محاسناً ليس تنفذْ.

فالحسن في كل جزء منها معادٌ مرددْ.

فبعضه في انتهاءٍ وبعضه يتولَّدْ.

وكُلَّما عدت فيه يكون لي العود أحمدْ!

وقال عليّ بن عبد الرحمن بن المنجم:

شبهتها بالبدر فاستضحكت وقابلت قولي بالنُّكرِ.

وسفَّهت قولي وقالت: متى سمجتُ حتى صرت كالبدرِ.

البدر لا يرنو بعينٍ كما أرنو، ولا يبسم عن ثغرِ.

ولا يميط المرط عن ناهدٍ، ولا يشدُّ العقد في نحرِ.

من قاس بالبدر صفاتي، فلا زال أسيراً في يدي هجري!

وقال العماد الأصفهانيّ:

لئن الأهلة بالمعاجر وكحلن بالسُّقم المحاجرْ.

ونظرن عن حدق حجر ن بها على آرام حاجرْ.

شهرت لحاظ ظبائهن على القلوب ظباً بواترْ.

آرام خدرٍ باللِّحا ظ تصيد آساداً خوادرْ.

غيدٌ لسفك دم المحب تظافرت منها الظَّفائر.

بيض التَّرائب حمرها خضر اللَّمى سود الغدائر.

وقال كشاجم:

جعلت إليك الهوى شفيعاً فلم، تُشفعي!

وناديت مستعطفاً رضاك فلم تسمعي.

أتاركتي مُدنفاً أخا جسدٍ موجعِ!

ومغريتي والدُّمو ع قد أحرقت مدمعي.

أ حين سبيت الفؤا د بالنظر المطمعِ،

جفوت وأقصيتني؟ فهلاَّ، وقلبي معي؟

وقال ابن المعلم:

صعدة القدِّ وسيف الكحل حكما حكم الهوى في أجلي.

يا لقومي! حملت ثقل دمي غادةٌ يثقلها حمل الحلى!

قدُّها معتدلٌ يظلمني! حزني من قدِّها المعتّدل!

خصرها ينشط، لكن ردفها أبداً يقهره بالكسلِ.

نظرةٌ من مقلتي جاريةٍ وثنت عطف القضيب الثملِ.

لست أدري: قمر في كلَّة ما أرى، أم دميةٌ في هيكل؟

سألت جسمي عن ساكنه! ومن الجهل سؤال الطَّلل!

وقال سيف الدين المشدّ:

وغادةٍ، أعشق من أجلها بدر الدُّجى والظَّبي والخيزرانْ.

لأنَّ ذا يشبهها بهجةً، وذاك ألحاظاً، وهذا بنانْ.

وقال أبو نواس:

يا منسي المأتم أشجانه لما أتاهم في المعزِّينا!

حلَّت عجار الوشي عن صورةٍ ألبسها الله التحاسينا!

استفتنتهنّ بتمثالها فهنَّ للتَّكليف يبكينا.

حقَّ لذاك الوجه أن يزدهي عن حزنه من كان محزونا.

وقال أيضاً:

أيا ليت شعري أمن صخرةٍ فؤادك هذا الذي لا يلين!

تقول إذا ما اشتكيت الهوى، كما يشتكي الباس المستكين:

أ في النوم أبصرت ذا كُلَّه؟ فخيراً رأيت، وخيراً يكون!

وقال المشوق الشامي:

أترى بثارٍ أو بدين علقت محاسنها بعيني؟

في خصرها وقوامها ولحاظها ما في الرُّديني.

وبوجهها ماء الشَّبا ب خليط نار الوجنتين.

وقال السريُّ الرفَّا، شاعر اليتيمة:

قامت وخطوط البانة ال ميَّاس في أثوابها.

ويهزُّها سكران: سُك ر شرابها وشبابها!

تسعى بصهباوين من ألحاظها وشرابها.

وكأنَّ كأس مُدامها لمَّا ارتدت بحبابها:

توريد وجنتها إذا ما لاح تحت نقابها.

وقال ابن الروميّ:

من بنات الروم، لا يكذبنا لونها المشرق عن منصبها.

قامة الغصن إذا ما اعتدلت قامة الغصن إلى منكبها.

شهد الشاهد من أحسنها، فحكى الغائب من أطيبها.

تشفع الحسن بإحسانٍ لها يجلب الأفراح من مجلبها.

تشرع الألحاظ في وجنتها فتلاقي الرِّيَّ في مشربها.

وجنةٌ للغنج فيها عقربٌ، وبلاء الصبِّ من عقربها.

وإذا قامت إلى ملعبها كمهاة الرمل في ملعبها،

سألت أردافها أعطافها: هل رأت أوطأ من مركبها؟

وقال أبو الحسين بن فارس:

مرَّت بنا هيفاء مقدودةٌ تركيَّةٌ تُنمي لتزكيِّ.

ترنو بطرفٍ فاترٍ فاتنٍ أضعف من حُجَّة نحويِّ.

ومماقيل في المطلق والمشترك، قال الطغرائي:

فيم التعجب من قلبي وصبوته كأنَّكم لم تروا من قبله عجبا!

ذوقوا الهوى ثم لوموا ما بدا لكم؛ أولا، فخلُّوا ملامي واربحوا التَّعبا!

وقال أيضاً:

وكنت أُراني مُفلتاً شرك الهوى، وقد صادني سحر العيون النَّوافثِ.

وأسمعني داعي الغرام نداءه، فقمت إليه مُسرعاً غير لابثِ.

وأعطيت إخوان البطالة صفقتي، وبعت قديماً من غرامي بحادثِ.

فما صفقتي في البيع صفقة خاسرٍ، ولا بيعتي للحُبِّ ببيعة ناكثِ.

فلا تعذلوني في غرامي بعد ما تولَّى الصِّبا، فالعذل أوّل باعثِ!

ولا تبحثوا عن سرِّ قلبي إنَّه صفاً، ليس يمضي فيه معول باحثِ.

أرى صبوات الحبِّ قد جدّ جدها، وقد كان بدء الحب مزحة عابث!

وقال الأرّجانيّ:

قفا معي في هذه المعاهد! لا بدّ للصبِّ من المساعدِ!

لا تبخلا يا صاحبيَّ واسمحا بوقفةٍ على المُعنَّى الواجدِ.

في منزلٍ عهدت في عراصه، لو ردّ معهوداً بكاء عاهدِ،

كواعباً من الدُّمى لواعباً مشبهة الثُّغور لا القلائدِ.

يمشين من فرط النَّعيم والصِّبا كالقضب الموائل الموائدِ.

فيهنَّ ظبيٌ علق القلب به من الظِّباء النُّفر الشواردِ.

إذا تبدّى مرضٌ بطرفه، لم يخل من أفئدة عوائدِ.

رميته، فصادني. فمن رأى صيداً يمرّ بفؤاد الصائدِ؟

قطعت من قلبي رجائي في الهوى! والقطع طبُّ كلِّ عضو فاسدِ!

وقال أبو القاسم عبد الله الدينوريّ، شاعر اليتيمة:

يا لعصر الخلاعة المودود ولظلِّ الشَّبيبة الممدودِ!

وارتشافي الرُّضاب من برد الثَّغ ر ولثمي عليه ورد الخدودِ!

وبكوري إلى مجالس علم رواحي إلى كواعب غيد!

في قميصٍ من السُّرور مذال ورداء من الشباب جديد!

وقال تاج الملوك بن أيوب:

ألا رحمتم ميتاً دنفا ما زال من جوركم بكم عائذْ!

صبّاً قضى الله أن يهيم بكم ولا مردّ لحكمه النافذْ!

يلوذ حُبّاً دون الأنام بكم وحسبه أنه بكم لائذْ!

وقال فخر الدين الوركاني، شاعر الخريدة:

أ أحبابنا أمَّا حياتي بعدكم فموتٌ، وأما مشربي فمنغَّصُ.

وأسعد شيء فيّ قلبي لأنَّه لديكم، وجسمي بالبعاد مخصَّصُ!

وقال العماد الأصفهاني:

بذلت لهم -أبغي رضاهم -مودَّتي وقلبي وصبري والرُّقاد، فما رضوا.

وهبني عن كلٍّ تعوّضت بعدهم فقل لي: بماذا عنهم أتعوّض؟

وما كان ظنِّي أنَّ عيشي ينقضي ونجم الصِّبا ينقضُّ والعهد يُنقضُ.

وقال الطغرائي:

إن الألى أرضاك قولهم بالأمس، تحت رضاهم سخطُ!

لمَّا صفا ذاك الجمال لهم، تاهوا على العشاق واشتطُّوا.

همُّوا ببينٍ فاستطار له قلبي، فكيف يكون إن شطُّوا؟

وقال الطغرائي أيضاً:

في القلب من حرِّ الفراق شواظُ، والدمع قد شرقت به الألحاظُ.

ولقد حفظت عهودكم، وغدرتم. شتان غدرٌ في الهوى وحفاظُ!

لله أيُّ مواقفٍ رقَّت لنا فيها الوسائلُ، والقلوب غلاظُ!

وقال أيضاً:

وسائلٍ عن جوى قلبي، فقلت له: ما أنت عندي على سرٍّ بمتَّهمِ!

طاب الجوى في الهوى حتى أنست به، فهو المرارة يحلو طعمها بفمي!

وقال أحمد بن محمد بن عبد ربه:

أتقتلني ظلماً وتجحدني قتلي، وقد قام من عينيك لي شاهداً عدل!

أ طلاَّب ذحلي، ليس لي غير شادنٍ بعينيه سحرٌ فاطلبوا عنده ذحلي!

أغار على قلبي، فلما أتيته أطالبه فيه، أغار على عقلي!

بنفسي التي ضنَّت بردِّ سلامها! ولو سألت قتلي، وهبت لها قتلي!

إذا جئتها صدَّت حياءً بوجهها، فتهجرني هجراً ألذَّ من الوصلِ.

وإن حكمت جارت عليّ بحكمها؛ ولكنَّ ذاك الجور أشهى من العدلِ.

كتمت الهوى جهدي، فجوّده الأسى بماء البكا، هذا يخُطُّ وذا يُملي!

وأحببت فيها العذل حُبّاً لذكرها، فلا شيء أحلى في فؤادي من العذلِ!

أقول لقلبي كُلَّما ضامه الأسى: إذا ما أبيت العزَّ، فاصبر على الذُّلِّ!

برأيك لا رأيي تعرَّضت للهوى، وأمرك لا أمري وفعلك لا فعلي.

وجدت الهوى نصلاً من الموت مغمداً فجرّدته ثم اتكأت على النصلِ!

فإن كنت مقتولاً على غير ريبةٍ فأنت الذي عرَّضت نفسك للقتلِ!

وهذه الأبيات معارضة لصريع الغواني في قوله:

أديراً عليّ الكأس، لا تشربا قبلي ولا تطلبا من عند قاتلتي ذحلي!

فما حزني أنِّي أموت صبابةً؛ ولكن على من لا يحلُّ لها قتلي!

فديت التي صدَّت وقالت لتربها: دعةه، الثُّريا منه أقرب من وصلي!

وقال ابن عبد ربه:

صحا القلب، إلا خطرةً تبعث الأسى لها زفرةٌ موصولةٌ بحنبنِ.

بلى، رُبَّما حلت عُرى عزماته سوالف آرام وأعين عينِ.

لواحظ حبَّات القلوب إذا رنت بسحر عيونٍ وانكسار جفونِ.

وريط من الموشيِّ أينع تحته ثمار صدورٍ، لا ثمار غصونِ.

برودٌ كأنوار الربيع لبسنها ثياب تصابٍ لا ثياب مجونِ.

فرين أديم الليل عن نور أوجهٍ تُجنُّ بها الألباب كلَّ جنونِ.

وجوهٌ جرى فيها النعيم فكُلِّلت بورد خدودٍ يُجتنى بعيونِ.

سألبس للأيام درعاً من العزا، وإن لم يكن عند اللِّقا بحصينِ.

وكيف، ولي قلبٌ إذا هبَّت الصِّبا أهاب بشوقٍ في الضلوع دفينِ؟

وقال آخر:

هزُّوا القدود وجرَّدوا الأجفانا! فاطلب لنفسك، إن قدرت أمانا.

والق السلاح إذا انثنوا وإذا رنوا؛ وكن الجبان وإن ملكت جنانا.

واحذر ضراماً بالعيون، وسل به مثلي، وجانب بالقدود طعانا.

فلقد رأيت الأسد وهي كواسرٌ تخشى بمعترك الهوى الغزلانا.

لا تعبثنَّ بذابلٍ وبباترٍ! وخف المهفهف واحذر الوسنانا!

لولا تشلبه مقلةٍ أو قامةٍ، ما خفت يوماً صعدةً وسنانا.

وأنا الذي حضر الوقائع في الهوى وأقام في أسير الغرام زمانا.

ولكم رأيت به الشَّدائد مُرَّةً! ولكم رأيت به الممات عيانا!

وثبتُّ بين معاطفٍ ولواحظٍ في موقفٍ يذر الشجاع جبانا!

مستسلماً للعشق: لا مستصرخاً صبراً، ولا مستنجداً سلوانا.

أرجو الشهادة إن قتلت به، وما وليت فيه ولا ثنيت عنانا.

يا ويح قلبٍ ما خلا من شغله بصبابةٍ ومحبَّةٍ مذكانا!

لو فتَّشوه لما لقوا لسوى الهوى فيه ولا غير الغرام مكانا.

وقال التلعفريّ:

هذا العذول عليكم، ما لي وله؟ أنا قد رضيت بذا الغرام وذا الوله!

شرط المحبة أنّ كلَّ متيمٍ صبٍّ يطيع هواه، يعصي عذَّله.

وأخذتموني حين سار بحبكم مثلي، ومثلي سره لن يبذله!

وما أعربت والله عن وجدي بكم وصبابتي إلا دموعي المهملة.

جزتم مداكم في قطيعتكم، فلا عطفٌ لعائدكم يرام، ولا صلة.

أ ألومكم في هجركم وصدودكم، ما هذه في الحُبِّ منكم أوّله!

قسماً بكم، قد حرتُ مما أشتكي! حسبي الدُّجى، فعدمته ما أطوله!

ليلي كيوم الحشر معنىً إن يكن لا ليل ذاك له، فذا لاصبح له.

يا سائلي من بعدهم عن حالتي! ترك الجواب جواب هذي المسألة!

حالي إذا حدَّثت لا لمعاً ولا جملاً لإيضاحي لها من تكملة.

عندي جوىً يذر الفصيح مبلِّداً: فاترك مفصَّله! ودونك مجمله!

القلب ليس من الصِّحاح فيرتجى إصلاحه، والعين سحب مُثقلة.

يا نازحين، وفي أكلَّة عيسهم رشأٌ عليه حشا المُحبِّ مقلقله!

قمرٌ له في الطرف بل في القلب بل في النَّثرة الحصداء أشرف منزلة.

الصدغ منه عقربٌ، ولحاظه أسدٌ، وخلف الظهر منه سنبلة.

ما أجور الألحاظ منه إذا رنا! وإذا انثنى، فقوامه ما أعدله!

لو لم يصب صدغيه عارض خدِّه، ما أصبحت في عارضيه مسلسلة.

لله منه مهفهفٌ أجنيته عسل الهوى فجنيت منه حنظله!

لو كنت فيه قبلت نصح عواذلي، ما أدبرت أيام حظِّي المقبلة!

وقال الطغرائيّ:

رويدكم! لا تسبقوا بقطيعتي صروف الليالي، وإنَّ في الدهر كافياً.

ويا قلبُ، عاود ما ألفت من الجوى! معاذ الهوى أن تُصبح اليوم ساليا!

ويا كبدي، ذوبي! ويا مقلتي، اسهري! ويا نفس لا تُبقي من الوجد باقيا!

فلا تطمعوا في برء ما بي، فإنه هو الداء قد أعيا الطبيب المداويا!
 
أعلى