نجيب كيالي - "بيوت الخفاء".. الدعارة وما بعد الحداثة في حلب

يتخذ الكاتب والقاص السوري إياد جميل محفوظ في كتابه الصادر أخيراً "بيوت الخفاء في حلب الشهباء خلال القرن العشرين: خزائن لم تفتح" (دار الحوار – 2017) من العوالم السفلية لمدينته حلب معبراً لبحثه التاريخي والتوثيقي، متناولاً الدعارة والبغاء في هذه المدينة الاستثنائية، منطلقاً من مرحلة ما قبل افتتاح "المحل العمومي"، في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، إذ تشهد الوثائقُ على وجودٍ واضحٍ للدعارة في مناطقَ عديدة من المدينة، منها: منطقةُ "كرم الكسمة" القريبة من "قشلة الترك"، وهي "ثكنة هنانو" حالياً، ما يدفع للتساؤل عن ما إذ كان السماحُ بترخيص بيوت الدعارة يهدف إلى إخراج تلك الظاهرة من حيِّز الخفاء إلى دنيا العَلَن مع فرضِ رقابةٍ صحية على البغايا مما يحمي المجتمعَ، ولا سيما عمادُهُ من الفئة الشابة من خطر الأمراض الجنسية كالزهري، والتعقيبة؟ ويحصر ممارسةَ الفحشاء في مكان ضيق، أم كان الأمر تلبيةً لحاجة الجنود الأتراك يومئذ الذين أثقلتِ الحروبُ كواهلَهم، وطال ابتعادُ المتزوجين منهم عن زوجاتهم؟ أم له أسبابٌ أخرى تتعلق بمقتضيات العصر، والتطور الذي بات يقرُّ علناً بالحاجة الجنسية والسماحِ بإشباعها؟

حملتْ بيوتُ الدعارة التي انتقلتْ آنئذٍ إلى حيِّزٍ جغرافيّ واحد في حلب هو: "بحسيتا" أسماءً عديدةً من أشهرها: "المحل العمومي"، "الكرخانة"، "المنزول". وكانت هناك ضوابطُ لممارسة المهنة، وضوابطُ لدخول المكان، فلا يُسمَحُ باجتياز عتبته لمَنْ هم دون الثامنةَ عشرة، كذلك يُحظَّر على المتزوجين دخولُه.

بعد إقفال المحل العمومي نهائياً عام 1974 أعاد المشتغلون فيه تنظيمَ صفوفهم بطريقةٍ خبيثة، وغزَوْا كثيراً من أحياء حلب الشعبية والراقية فيما أَطلق عليه محفوظ: "ظاهرةَ الدعارة الحرة"، وهكذا صار مجتمعُ مدينةِ الشهباء أمام عنوانين ساخرين ومؤلمين للفحشاء، هما: دعارة الحداثة، ودعارة ما بعد الحداثة! من هنا يطرح الكاتب سؤالاً كبيراً يتركه من دون إجابة: هل كان إغلاقُ المحل العمومي الذي صدرَ في زمن الوحدة بين مصر وسوريا قراراً صائباً؟

ويكشف صاحبُ الكتاب بجرأة علاقةَ أجهزة الأمن بالدعارة في مرحلة ما بعد المحل العمومي، فقد وفَّرتْ هذه الأجهزةُ مظلةً رحبة من الحماية للكادر المشتغل في هذا القطاع، وصار لبعض بنات الهوى سطوةٌ نافذةٌ كبرى كأم جمال، وحميدة أنطون، ووداد قازان، وبهذا يسهل التأكيد أنَّ الفاحشة عمليةٌ اجتماعية وحتى سلطوية مركَّبة، ومن الخطأ الجسيم تحميلُ مسؤوليتها لعنصر واحد من عناصرها، وهو: البغي.

في الكتاب ثراءٌ آخرُ إضافةً إلى ما سبق، نلمس جوانبَ ذلك الثراء في المادة التاريخية المعروضة التي نطَّلعُ من خلالها على معلومات تخصُّ الحياةَ العامة القديمة وتركيبتَها غيرَ السهلة حتى في ذلك الزمان، ونطَّلع أيضاً على جمال الكناية التي كان يُعبِّر بها المصحف الشريف عن العلاقة الجنسية كالوطء، والملامسة، وغِشْيان الآخر.. إلخ. ونطَّلع أيضاً وأيضاً على أسرار تتعلق بإصدار القوانين، وتصريفِ أمور الدول قديماً وحديثاً، والأهمُّ من كلِّ شيء أننا نعرف الكثيرَ عن حدوتة صغيرة كبيرة هي حياتنا البسيطة المعقَّدة.

لم تطبعْ حياديةُ الكاتب في تقصي موضوعه أسلوبَه بطابع الجفاف، بل كان الأسلوبُ ممتعاً، شائقاً طرَّزَهُ السردُ الجميل، والطرائفُ المدهشة المسليَّة، مما يضيف لقامة الكتاب ارتفاعاً آخرَ من النجاح والـتأثير.

لعل السردَ يرتبط بكونِ الكاتب متمرساً في القص، أصدر ما يقرب من عشر مجموعاتٍ قصصية، أمَّا الطرائفُ فهي رياضة نفسية، ولعلها تتصل بهواية الرياضة التي مارسها المؤلف في شبابه طويلاً، فمن الجدير بالذكر أنه كان لاعباً متميزاً في كرة السلة، ويبدو أنَّ حيوية الجسم وجدتْ لها طريقاً إلى حيوية الأسلوب ومحتويات المضمون.

ومن الطرائف – على سبيل المثال – حكاية سيدة الهيلاهوب، وهي فتاةٌ عديمةُ الجمال كانت تلبس جواربَ طويلة ملونة عارضةً جمالَها وبضاعتَها من الدلع، فيعبثُ بها الشبانُ ويساومونها على تخفيض السعر، فتخفِّض، وتخفِّض من دون أن تنجح في جرِّ أحدهم إلى سريرها!

ومن الجدير ذكره أن الكتاب موزع على ستة أقسام اندرجت بعد المقدمة إلى: المحل العمومي والدعارة الحرة ومعززات فنية متنوعة ودعارة ما بعد الحداثة، وصولاً إلى الخاتمة التي انقسمت إلى ثلاثة فصول هي أم المدن، ومعابر لتنشيط الذاكرة، ولمحة تاريخية.

* نجيب كيالي
عن موقع أوكسجين
العدد 211 | 2 أيار 2017
 
أعلى