خورخي لويس بورخيس - حديقة الدروب المتشعبة.. ت: فوزي محيدلي

ورد على الصفحة 22 من كتاب ليديل هارت «تاريخ الحرب العالمية الأولى» ان الهجوم على خط سيريه ـ فونتوبان من قبل ثلاث عشرة فرقة بريطانية (مدعومة بـ 1400 قطعة مدفعية) والذي خطط له ليكون في 24 تموز من عام 1916 كان يجب تأجيله الى صبيحة اليوم 29 من ذاك الشهر. وقد أوضح القائد ليديل هارت ان الأمطار الجارفة سببت ذلك التأخير وهو بالتأكير غير ذي أهمية.

يلقي التصريح التالي الذي أملاه وراجعه ووقعه الدكتور يوتسانا، البروفسير السابق للانكليزية في جامعة هوتشسكول في الحديقة الواقعة عند مرفأ تشينغتا والصيني، يلقي الضوء المنير على كامل الموضوع. وتجدر الاشارة الى ان الصفحتين الأولى والثانية من الوثيقة مفقودتان.

«.. وأرجعت سماعة الهاتف الى مكانها. حالاً بعد ذلك، أدركت من هو صاحب الصوت الذي ردّ بالألمانية، كان ذاك القائد ريتشارد مادن. وجود مادن في شقة فيكتور رونبيرغ معناه نهاية قلقنا ومعناه كذلك ـ لكن هذا بدا أو ربما كان يجب ان يبدو ثانوياً جداً بالنسبة لي. نهاية حياتنا.

الأمر أن رونبيرغ أوقف أو اغتيل. قبل غروب شمس ذلك النهار، قد ألقى بدوري نفس المصير. كان مادن من النوع الصعب الارضاء او لربما كان مضطراً ليكون كذلك. رجل ايرلندي في خدمة انكلترا، رجل متهم بالانحلال وربما الخيانة، كيف سيفشل بتلقف فرصة عجائبية كهذه مع الشكر: اكتشاف، أسر، وربما حتى موت اثنين من عملاء الرايخ الألماني؟ قصدت غرفتي في الأعلى؛ بشكل عبثي أقفلت الباب ورميت من ثم نفسي، على ظهري، فوق السرير الحديد. عبر النافذة وقع بصري على السطوح الأليفة وشمس السادسة المظللة بالغيم. بدا الأمر غير مصدق بالنسبة لي، أن ذلك اليوم قد يكون من دون سابق انذار هو يوم موتي الذي لا يرحم.

رغم موت والدي، ورغم أني انوجدت كطفل في حديقة مماثلة لهاي فيننغ، ايعقل أنني الآن سأموت؟ ثم فكرت ان كل شيء يحصل للانسان، بالتحديد، وبالتحديد الآن. قرون وقرون مرت وفقط في الحاضر تحدث الأشياء، أعداد لا تحصى من الرجال في الهواء، على وجه الأرض والبحر، وكل ما يحصل حقاً يحصل معي.. ما طرد حالات التهويم هذه هو التذكر الذي يكاد لا يطاق لوجه مادن الأشبه بوجه الحصان في منتصف فورة حقدي ورعبي (لا يعني لي شيئاً الآن التحدث عن الرعب، الآن وقد سخرت من ريتشارد مادن، الآن ورقبتي تحن الى حبل المشنقة) انتابني شعور بأن ذلك المقاتل الصاخب والسعيد دون شك، لم يشتبه بأني أملك السر. اسم الموقع الحقيقي للميدان الجديد للمدفعية البريطانية هو على النهر أنكر. زيّح طائر السماء الرمادية فقمت بترجمة ذلك خبط عشواء على أنه طائرة والطائرة مع وجود العديد منها (مقابل السماء الفرنسية) تفني موقع المدفعية بقنابل عامودية. يا ليت فمي قبل ان تهمشه رصاصة، يستطيع الصياح بذلك الاسم السري بما يجعله يبلغ المانيا.. كان صوتي البشري بالطبع ضعيفاً جداً. كيف يمكنني ان أوصله الى اذن القائد؟ الى أذن الرجل المريض والمكروه الذي لم يعرف شيئاً عن رونبيرغ وعني سوى أننا مودجودان في ستافورد شاير والذي كان ينتظر عبثاً تقريرنا في مكتبه القاحل في برلين، منهمكاً بتفحص الصحف دون انقطاع.. صحت عالياً: يجب ان افر. جلست بلا جلبة، في اتقان لا نفع له من الصمت، وكأن مادن كان حقاً بانتظاري. شيء ما ـ ربما مجرد التظاهر الأجوف بأن اثبت ان مصادري معدومة جعلني أبحث في جيوبي. وقعت على ما كنت أعرف أني ساقع عليه. الساعة الأميركية، سلسلة النيكل وقطعة العملة المربعة، حلقة المفاتيح مع المفاتيح المورطة الخاصة بشقة رونبرغ، دفتر الملاحظات، رسالة قررت اتلافها في الحال (ولم اقم باتلافها)، قطعة كراون، شلينين اثنين وبضعة بنسات، القلم الأحمر والقلم الأزرق، المحرمة، المسدس ذا الرصاصة الواحدة. دون تركيز تناولت المسدس محاولاً تقدير وزنه لأنفخ الشجاعة في داخلي خطر لي بشكل مشوش ان طلقة المسدس يمكن سماعها حتى من مسافة بعيدة. في غضون عشر دقائق اكتملت خطتي. في دليل الهاتف ورد اسم الشخص الوحيد القادر على نقل الرسالة، كان يعيش في ضاحية فنتون، على بعد أقل من نصف ساعة من السفر بالقطار.

أنا رجل جبان. أقولها الآن، الآن وقد أتممت بل وصلت الى النهاية خطة ذات طبيعة خطرة لا يمكن لأحد نكرانها. كنت أعلم أن تنفيذها مرعب، لم أفعلها من أجل المانيا، لا، لا أهتم لذلك البتة. لا أهتم من جهتي لبلد بربري فرض علي خساسة أن أكون جاسوساً. الى ذلك، اعرف رجلاً من انكلترا ـ رجلاً متواضعاً ـ أعتبره ليس أقل عظمة من غوته، تكلمت معه ليس أقل من ساعة، لكن خلال تلك الساعة أثبت انه بمثابة غوتيه..

فقلت ذلك لأني شعرت ان القائد يخشى بطريقة ما أبناء عرقي ـ بسبب الاسلاف الذي لا يحصون ممن يمتزجون بداخلي. اردت أن اثبت له أن رجلاً أصفر البشرة قد ينقذ جيشه. فضلاً عن أني يجب أن افر من النقيب مادن. يمكن ليديه وصوته ان يحضرا على بابي في أية لحظة. ارتديت ملابسي بصمت، قلت وداعاً لنفسي في المرآة، نزلت الدرج، تفحصت الشارع المسالم وخرجت، لم تكن المحطة بعيدة عن منزلي، ومع ذلك فكرت أن من الحكمة ان أستقل عربة. قلت لنفسي أنني بهذه الطريقة أقلل من احتمال تعرف أحد على شخصي. واقعاً وأنا داخل الشارع المهجور شعرت بأني ظاهر للعيان وضعيف بما لا يقاس. أتذكر اني طلبت من سائق العربة التوقف قبل مسافة قصيرة من المدخل. خرجت من العربة بتباطؤ متعمد اشبه بالمؤلم. كنت قاصداً قرية آشغروف لكني ابتعت تذكرة لمحطة أبعد. ترك القطار في غضون دقائق قليلة من وصولي عند التاسعة الا عشر دقائق. اسرعت، لأن القطار التالي سيغادر عند التاسعة والنصف. لم يكن من مخلوق عند رصيف المحطة. مررت بعدد من المقصورات. أتذكر عدداً من الفلاحين بين الركاب، امرأة في ملابس الحداد، صبي يقرأ بحماس «أخبار تاسيتاس»، الى جندي جريح وسعيد، بالنهاية تحركت المقصورات. ركض رجل تمكنت من التعرف عليه حتى نهاية الرصيف لكن دون جدوى. كان ذاك النقيب ريتشارد مادن راجعاً، ومحطماً، تكومت في الركن القصير من المقعد، بعيداً عن النافذة المخيفة.

من حالة التقوّض تلك، انتقلت الى حالة من الذل. قلت لنفسي ان المبارزة قد بدأت وأني ربحت الجولة الأولى من خلال احباط، حتى ولو لأربعين دقيقة، حتى ولو بضربة قدر، هجمة خصمي. فكرت ان هذا النصر الأخف بين كل حالات النصر يغطي على نصر كامل. قلت لنفسي (وبمغالطة من نفس العيار) ان هناءتي الجبانة اثبتت اني رجل قادر على تنفيذ المغامرة بنجاح. استمديت من هذا الضعف قوة لم تبرحني. أدركت بل تنبأت ان على الانسان ان يروض نفسه على الخضوع يومياً لمشاريع شنيعة؛ وسريعاً لن يتبقى سوى المحاربين وقطاع الطرق، اليهم أسدي هذه النصيحة. على مؤلف أو واضع انجاز فظيع ان يتخيل انه قد أنجزه سلفاً، ان يفرض على نفسه مستقبلاً لا يلتغى كما الماضي. وهكذا تابعت كأن عيني هما لرجل ميت وقد سجلتا انقضاء ذلك اليوم، الذي ربما كان الأخير وسجلتا كذلك انتشار الظلام. هرول القطار بانسياب بين شجر الدردأر. توقف تقريباً في وسط الحقول دون ان يعلن أحد اسم المحطة «آشفروف»؟.سألت جمعاً من الصبية الواقفين على الرصيف فجاءني الجواب، «آشفروف». نزلت من القطار. ثمة مصباح أنار الرصيف لكن وجوه الصبية كانت في الظلام. سألني أحدهم، «هل أنت ذاهب الى منزل الدكتور ستيفن البرت؟» ودون انتظار جوابي سألني آخر»، المنزل على مسافة طويلة من هنا، لكن لن تضل اذا اتبعت هذه الطريق التي الى اليسار ثم انعطفت عند كل تقاطع الى اليسار»، رميت لهم آخر قطعة نقود معدنية معي، نزلت على بضع درجات حجرية ومن ثم انطلقت عبر الدرب المنفردة. كانت ترابية وتنحدر ببطء. بدت أغصان الأشجار العليا متشابكة فيما بدا البدر المنخفض يتعقبني.

لبعض لحظة، اعتقدت ان ريتشارد مادن قد اخترق بطريقة ما خطتي اليائسة، لكن سرعان ما أدركت ان ذلك كان مستحيلاً. ذكرتني الارشادات التي زودني بها أحد الأولاد بالانعطاف دائما الى اليسار ان ذلك كان السياق المعهود لاكتشاف النقطة المركزية لبعض المتاهات. كانت لدي فكرة ما عن المتاهات. فأنا لم أكن للاشيء الحفيد الأكبر لذاك» التسوي بن» الذي كان حاكماً لمنطقة يافان والذي تخلى عن النفوذ الدنيوي من أجل كتابة رواية قد تكون أكثر ازدحاماً بالشخصيات من رواية «حلم الحجرة الحمراء» الصينية وليقيم متاهة يتوه فيها كل الرجال. لقد كرس 13 سنة لتلك الأعمال الممنوعة لكن يد شخص غريب اغتالته ـ وروايته بدت غير مترابطة بل متنافرة المضامين ولم يقع أحد على المتاهة. تحت اشجار انكليزية رحت أتأمل تلك المتاهة الضائعة: تخيلتها صافية وكاملة عند القمة السرية للجبل؛ تخيلتها وقد ترسبت بحقول الرز أو تحت الماء. تخيلتها غير محدودة، ولم تعد تتألف من اكشاك مثمنة الجوانب، ودروب آيبة، بل من الأنهار والمقاطعات والممالك.. فكرت في متاهة المتاهات، في متاهة متطاولة متعرجة يمكن ان تطال الماضي والمستقبل وبطريقة ما ايضا النجوم. واذ انا مستغرق في هذه الصور الوهمية، نسيت وضعي بأني مطارد. شعرت أنني ولفترة غير معروفة مدرك تجريدي للعالم، اثرت بي وشغلتني اشياء من مثل الريف الحي الغامض، القمر، بقايا اليوم فضلاً عن انحدار الطريق الذي ازال اي احتمال للتعب. كان بعض الظهر حميماً ولا متناهياً تقريباً. انحدرت الطريق وتشعبت بين المراعي الفوضوية الآن. تهادت موسيقى عالية وموقعة تقريبا، ثم انكفأت مع تبدل الريح ثم اختفت وراء الأوراق والمسافات. فكرت بيني وبين نفسي ان الرجل قد يكون عدواً لغيره من الرجال، أو عدواً للحظات غيره من الرجال، لكن ليس عدواً لوطن: ليس عدواً لليراعات، الكلمات، الحدائق، جداول الماء، والمغيب. واذ أنا غارق في افكار لهذه بلغت بوابة عالية صدئة. من بين قضبان البوابة تبينت بستان حور واستراحة مسقوفة. أدركت في الحال أمري، الأول تافه، والثاني لا يصدق تقريباً. فقد أتت الموسيقى من الاستراحة المسقوفة، وكانت هذه الموسيقة صينية. لهذا السبب بالتحديد تقبلتها دون أي اكتراث. لا أتذكر سواء اذا ما كان يوجد جرس أم أنني قرعت البوابة بيدي. تتابعت شرقطات الموسيقى.

من مؤخرة المنزل الذي في الداخل تقدم مصباح بل فانوس، مصباح تلونت بنوره أحياناً الأشجار وأحياناً حجبته. كان فانوساً ورقياً له شكل طبلة ولون القمر، ورجل طويل يحمله. لم استطع رؤية وجهه لأن النور أعماني. فتح الباب وقال متمهلاً بلغتي الأم: «ارى ان التقي هسي بينغ يثابر على تصحيح عزلتي. لا شك أنك تريد رؤية الحديقة؟».

أدركت هوية أحد تفاصلنا وأجبت دون ارتباك، «الحديقة»؟

«حديقة الدروب المتشعبة». شيء ما حرك ذاكرتي فقلت بثقة غير مفهومة المصدر، «حديقة أحد أسلافي تسوي بنى».

«أحد اسلافك؟ أحد اسلافك اللامعين؟ تفضل ادخل».

تعرج الدرب الرطب كما دروب طفولتي. بلغنا مكتبة فيها كتب شرقية وغربية. تعرفت الى مجلدات عدة مكسوة بالحرير الأصفر من «دائرة المعارف الضائعة» التي حررها الامبراطور الثالث «للسلالة الفقيرة» دون ان يصار لاحقاً الى طبعها. وكان ثمة اسطوانة شغالة على فونوغراف قريباً من طائر عنقاء برونزي. وأتذكر أيضاً مزهرية من فئة «عائلة تدرجات القرنفلي» ومزهرية أخرى، اقدم بقرون، من ذلك التدرج اللوني الأزرق الذي نسخه حرفيينا عن آنية بلاد فارس..

قابل البرت ستيفن تأملي بابتسامة. تميز، كما ذكرت سابقاً، بطول فارغ، قسمات حادة، عينين رماديتين ولحية شيباء. أخبرني انه كان مبشراً في تيانتسين قبل ان يطمح لأن يكون عالماً بأمور الصين».

جلسنا كلينا، أنا على أريكة طويلة منخفضة، أما هو فجلس وظهره الى النافذة والى ساعة مستديرة. حسبت الوقت مستنتجاً ان مطاردي، ريتشارد مادن، لا يستطيع الوصول قبل ساعة على الأقل. أما تصميمي الذي لا يلين فبامكانه الانتظار.

«مصير مذهل، ذاك الخاص بتسوي بن»، قال ستيفت البرت «حاكم مقاطعة، متبحر في علم الفلك، علم التنجيم وفي التفسير الذي لا يكل لكتب الشريعة، الى كونه لا يحب الشطرنج، شاعراً معروفاً وخطاطاً ماهراً، فقد هجر كل هذا من أجل تأليف كتاب ووضع متاهة. نبذ مسرات الطغيان والعدالة، الخاصة بمركزه العامر، بمآدبه حتى بسعة اطلاعه كل ذلك لينقطع لثلاث عشرة سنة الى «جناح العزلة الشفافة». بعد موته لم يجد وارثوه شيئاً سوى مخطوطات فوضوية. وقد ارادت عائلته، كما قد يكون تناهى اليك، احراقها، لكن منفذ وصيته ـ راهب طاوي او بوذي ـ «لم ينقطع المتحدرون، تسوي بن» عقبت، عن لعن ذاك الراهب. طبع المخطوطات كان بلا معنى. فالكتاب الذي ضمها في النهاية شكل كومة غير مفهومة من المسودات المتناقضة. تفحصت الكتاب مرة فوقعت على موت البطل في الفصل الثالث، لكنه يعود الى الحياة في الرابع. أما بالنسبة للمشروع الآخر لتسوي بن، اقصد متاهته..»

قاطعني ستيفن البرت قائلا «هاهي متاهة تسوي بن»، مشيراً الى مكتب طويل مطلي ولماع.

«متاهة عاجية» صحت متعجباً. «متاهة الحد الأدنى». «بل متاهة الرموز»، صحح لي. «متاهة غير مرئية للزمن. بالنسبة لي أودعت الثقة برجل انكليزي بربري لكشف هذا اللغز الشفاف بعد مرور اكثر من مئة سنة، لا يمكن استعادة التفاصيل، لكن ليس صعباً تخمين ما حدث. لا بد ان تسوي بن قال ذات مرة: «سأنسحب لاكتب كتابا». ومرة أخرى قال: «سأنسحب لبناء متاهة»: تخيل الجميع ان ثمة عملين اثنين سيقوم بانتاجهما، ولم يخطر ببالي أحد ان الكتاب والمتاهة كانا شيئاً واحداً. جناح العزلة الشفافة يقع في قلب حديقة ربما كانت معقدة غامضة، وهذا ما قد أوصى للورثة بوجود متاهة مادية ملموسة. مات تسوي بن، ولم يقع أحد داخل الأراضي المترامية الخاصة به على تلك المتاهة. وقد أوحى اضطراب الرواية أو الكتاب لي ان الكتاب هو المتاهة. أمران اثنان اعطياني الحل الصحيح للمعضلة. الأول، قصة بل اسطورة ان تسوي بن قد خطط لخلق متاهة ستكون لا نهائية؛ الثاني، قطعة من رسالة وجدتها».

نهض البرت، أدار لي ظهره للحظة، ثم فتح درجاً تابعاً للمكتب الأسود والذهبي، بعدها ادار وجهه نحوي حاملاً في يده ورقة كان لونها قرمزياً من الماضي، لكنها غدت زهرية ومقطعة عرضياً. شهرة تسوي بن كخطاط لم تأت من العبث بل كسبها عن جدارة. قرأت دون أن افهم لكن بحماسة تلك الكلمات المكتوبة بفرشاة دقيقة من قبل رجل من لحمي ودمي: «أترك الى مختلف اقسام المستقبل (ليس للكل) حديقتي ذات الدروب المتشعبة». أعدت الورقة دون ان تصدر عني كلمة ثم تابع البرت:

«قبل اكتشاف هذه الرسالة سألت نفسي عن الطرق التي يمكن للكتاب ان يكون فيها لا نهائياً. لم يخطر ببالي سوى مجلد لمحتواه طابع الحلقات، كتاب دائري. كتاب تتماثل صفحته الأخيرة مع الأولى، كتاب يتسم بامكانية التتابع غير المحدد. تذكرت ايضاً تلك الليلة التي في منتصف الف ليلة وليلة حين تشرع شهرزاد بتلاوة حرفية لكن اصيلة لقصة من الف ليلة وليلة مجازفة بالعودة ثانية الى الليلة التي سيكون عليها اعادة تلاوتها، وصولا بالتالي الى اللانهاية. كما تصورت عملاً وراثياً أفلاطونياً منتقلاً من الاب الى الابن حيث يضيف كل فرد جديد فصلاً او يصحح بعناية ورعة صفحات اسلافه. هذه التخمينات شدت انتباهي لكن اياً منها لم يتوافق، ولو من بعيد، مع الفصول المتناقضة لتسوي بن. وسط هذا الارتباك وصلتني من اوكسفورد المخطوطة التي تفحصتها أنت. توقفت بشكل طبيعي عند الجملة التي تقول: «أترك الى أقسام المستقبل (ليس للكل) حديقتي ذات الدروب المتشعبة». في الحال تقريباً فهمت أن «حديقة الدروب المتشعبة» كانت هي الرواية الفوضوية. وعبارة «مختلف أقسام المستقبل (لي للكل)» أوحت لي أن التشعب في الزمن وليس الحيز المكاني. وقد أكدت إعادة قراءة متأنية للعمل. يحصل في كافة الأعمال السردية أن يواجه الشخص ببدائل أو خيارات متعددة، فيختار واحداً ويهمل الباقي، أما في العمل السردي لتسوي بن، فإنه يختار في الوقت نفسه كل الخيارات. «إنه يختلق»، بهذه الطريقة حالات متنوعة من المستقبل، أزمان متنوعة التي بدورها تنتج أخرى وتتشعب. هنا، إذن، تكمن تناقضات الرواية. لنفترض أن لدى فانغ سر، يطرق غريب على بابه، ويقرر فانغ قتله. بطبيعة الحال، ثمة العديد من المخارج المحتملة. يمكن لفانغ قتل الدخيل، يمكن للدخيل قتل فانغ، يمكن لكليهما الهرب، يمكن لكليهما أن يموتا، وهلم جراً. في عمل تسوي بن، كل المخارج محتملة؛ كل واحد يشكل نقطة انطلاق لتشعبات أخرى. أحياناً تتوجه دروب هذه المتاهة الى نقطة واحدة. على سبيل المثال تصل الى هذا المنزل، لكنك كنت في واحدة من حالات الماضي عدوي، وفي أخرى صديقي. إذا قررت التسامح مع لفظي العصي، سنقرأ عدداً من الصفحات».

تراءى لي وجهه ضمن دائرة نور المصباح وجه رجل عجوز لكن مع شيء غير متبدل فيه، بل حتى غير فان. قرأ بدقة متأنية نسختين من نفس الفصل الملحمي. في الأولى، يسير جيش الى معركة عبر جبل أوحد، يؤدي رعب الصخور والظلال بالرجال الى الاستخفاف بحياتهم فيربحون معركة سهلة. في الثانية، يجتاز نفس الجيش قصراً حيث يقام مهرجان، وتبدو لهم المعركة مثابة استمرار للاحتفال ويكون لهم النصر. أصغيت بكل احترام مناسب للنصين القديمين، لربما كانا أقل مدعاة للإعجاب في ذاتهما من أنهما قد وضعا من قبل شخص من لحمي ودمي وأنه احتفظ بهما لي من قبل رجل من امبراطورية بعيدة، ضمن مسار مغامرة يائسة، فوق جزيرة «غربية». لا زلت أتذكر الكلمات الأخيرة، المردّدة ضمن كل نص وكأنها إحدى الوصايا السرية: «وهكذا حارب الأبطال، فأراحوا أفئدتهم، استلوا سيوفهم مستسلمين للطعن بالأعداء والاستشهاد».

منذ تلك اللحظة ولاحقاً، شعرت حولي وداخل جسدي المظلم احتشاداً لا يمكن لمسه أو رؤيته. لم يكن احتشاد جيشين متنافرين، متوازيين وبالنهاية مختلطين، لكن نوع من التأجج الحميم الصعب المنال الذي تصوره الجنود قبل حدوثه بطريقة ما. تابع ستيفن ألبرت:

«لا أعتقد أن سلفك الجليل قد لعب تبطلاً بهذين النصين. لا أعتبر أن من المعقول أن يضحي بثلاث عشرة سنة لتنفيذ لا متناه لاختبار بلاغي. تعتبر الرواية في موطنك جزءاً بل شكلاً ثانوياً من الأدب؛ كانت في زمن تسوي بن شكلاً يستحق الازدراء. اعتبر تسوي بن روائياً لامعاً، لكنه كان أديباً أيضاً، لم يعتبر نفسه من دون شك مجرد روائي. تؤكد شهادة معاصريه، كما تؤكد حياته أيضاً، اهتماماته الميتافيزيقية والصوفية. يستولي الجدل الفلسفي على جزء لا بأس به من الرواية. أعلم أن من بين كل المشاكل، لم يزعجه شيء أو يؤرقه كما معضلة أو الزمن التي لا نهاية لها من حين لآخر، المسألة الأخيرة هي الوحيدة التي لا تظهر في صفحات «الحديقة». هو حتى لا يستعمل الكلمة التي تشير الى الزمن. كيف يمكن تفسير ذلك الحذف الطوعي؟».

اقترحت حلول عدة كلها غير مرضية. ناقشناها. أخيراً، قال لي ستيفن ألبرت:

«في أحجية جوابها هو الشطرنج، ما الكلمة الوحيدة الممنوعة؟». فكرت للحظة ثم أجبت، «كلمة شطرنج».

«بالتحديد»، قال أبرت «حديقة الدروب المتشعبة عبارة عن أحجية ضخمة، أو قصة ذات مغزى، موضوعها الزمن. هذا السبب الغامض يمنع البوح بهذا أو ذكره. إن حذف كلمة بشكل دائم، واللجوء الى الاستعارات البعيدة والتطويل أو اللغو هو على الأرجح الطريقة الأكثر توكيداً من طرق التركيز عليها. هذه هي الطريقة الملتوية التفصيل، في كل من إعوجاجات بل تلويات روايته التي لا تكل ولا تمل التي خطها تسوي بن الذي لا يحب الطريق المباشرة. عمدت الى مقارنة آلاف المخطوطات، صححت أخطاء سببها إهمال الناسخ، وقمت بتخمين خطة هذه الفوضى، أعدت وضع أؤمن أني أعدت وضع التنظيم الأساسي، ترجمت كامل العمل: خرجت من هذا أنه ولا مرة أتى على استعمال كلمة «زمن». والتفسير واضح: «حديقة الدروب المتشعبة ما هي إلا صورة غير كاملة، لكن ليست خاطئة، للكون كما فهمه تسوي بن. بالعكس من نيوتن وشوبنهاور سلفك لم يؤمن بزمن مطلق متناسق. لقد آمن بسلسلة لا متناهية من الأزمان، آمن بشبكة متنامية، مدوخة من الأزمنة المتفرجة المتلاقية والمتوازية. هذه الشبكة من الأزمنة التي اقتربت من بعضها، تشعبت، انقطعت، أو كانت غير مدركة واحدها بالآخر لقرون، تحتضن كل احتمالات الزمن. نحن لا ننوجد في أكثرية هذه الأزمنة؛ قد تنوجد أنت في بعضها، ولا أنوجد أنا؛ في البعض الآخر قد أنوجد أنا وأنت لا؛ وفي قسم ثالث قد ننوجد سوياً. في الزمن الحاضر، الذي منحني إياه قدر ملائم، بلغت أنت عتبة بيتي؛ في آخر، وأثناء عبورك الحديقة، تجدني ميتاً، وفي ثالث، أنطق هذه الكلمات نفسها، لكنني غلطة، بل شبح».

«في كل من هذه»، قلت له، مع رجفة ما في صوتي، اني «شاكر لك وأبجلك لإعادة إعمارك لحديقة تسوي بن».

«لا تشملها جميعها»، تمتم مع ابتسامة. «الزمن يتشعب دائماً صوب حالات مستقبل لا تحصى. وفي واحدة منها أكون عدوك».

من جديد داهمني شعور الاحتشاد الذي تكلمت عنه سابقاً. بدا لي أن الحديقة الرطبة التي أحاطت بالمنزل كانت مشبعة بأشخاص غير مرئيين. هؤلاء الأشخاص جميعاً لم يكونوا سوى ألبرت وأنا، سريين، مشغولين ومتعددي الأشكال في أبعاد أخرى من الزمن. رفعت عينيّ فانحل الكابوس الضعيف. لم يظهر في الحديقة الصفراء والسوداء سوى رجل واحد، وكان هذا الرجل قوياً كما تمثال... كان يقترب على الدرب، إنه النقيب ريتشارد مادن.

«لطالما إنوجد المستقبل»، أجبت «لكني صديقك. هل بمقدوري رؤية الرسالة ثانية؟».

نهض ألبرت. ممشوق الطول، فتح درج المكتب. في هذه اللحظة كان ظهره يواجهني. كنت قبلاً قد أعددت المسدس. أطلقت النار بحذر شديد. سقط ألبرت من دون تأوه في الحال. أُقسم بأن موته كان على الفور كما البرق.

ما تبقى غير حقيقي، وغير ذي مدلول. ظهر مادن وألقى القبض عليّ. حُكِم عليّ بالموت شنقاً. ربحت بشكل كريه. أبلغت برلين بالاسم السري للمدينة التي يجب أن يهاجموها. قصفوها البارحة. قرأت الخبر في الصحف نفسها التي قدمت لإنكلترا لغز عالِم الصينية ستيفن ألبرت الذي اغتيل من قبل غريب، يدعى يوتسان. حل القائد هذا اللغز. علم أن مشكلتي كانت تحديد (عبر ضوضاء الحرب) المدينة المسماة ألبرت، وأنني لم أجد وسيلة لذلك سوى قتل رجل بهذا الإسم. لم يدر (لا أحد يمكن أن يدري) مقدار نومي وسأمي.
 
أعلى