عبد الفتاح كيليطو - نحن والسندباد

حكايات السندباد تتكون من سبع حكايات يرويها السندباد البحري بنفسه ويصف فيها ما جرى له في أسفاره السبعة. وبالإضافة، هناك حكاية أخرى لها وضعية خاصة لأنها تؤطر الحكايات السبع، وتقوم شهرزاد بروايتها لشهريار : حكاية لقاء السندباد البري بالسندباد البحري، التي تبدأ هكذا:
’’ قالت بلغني أنه في زمن الخليفة أمير المؤمنين هارون الرشيد بمدينة بغداد رجل يقال له السندباد الحمال وكان رجلا فقير الحال يحمل بأجرته على رأسه فاتفق له أنه حمل في يوم من الأيام حملة ثقيلة وكان ذلك اليوم شديد الحر فتعب من تلك الحملة وعرق واشتد عليه الحر فمر على باب مصطبة عريضة فحط الحمال حملته على تلك المصطبة ليستريح ويشم الهواء ‘‘ .

الحمال هذا، الذي يدعى كذلك السندباد البري، يجلس على قصر السندباد البحري. لقد أنهكه المشي على البر تحت شمس محرقة وهاهو الآن يجلس في الظل ليستريح، قبل أن يستأنف حمل أثقاله. المكان الذي اختاره للجلوس ’’ مصطبة‘‘ تفصل بين عالمين، عالم البر وعالم البحر. أو عالم الفقر وعالم الغنى. إن ما يتوق إليه الحمال هو البحر، وهو الآن على الشاطئ ، في مكان مرشوش بالماء يهب عليه ’’ هواء معتدل‘‘. فوق المصطبة تم اللقاء بين البر والبحر. بين عنصرين مختلفين. البر هنا له صفات مكروهة بينما البحر له صفات محبوبة. الحمال يترك وراءه البر الملتهب ويستقبل بوجهه البحر الذي يرحب به برذاذه ونسيمه العليل، من جهة البر والحر (أو النار). ومن جهة الماء والهواء. العناصر الأربعة الأولية (1) تتواجد وتتواجه بإزاء المصطبة .

المواجهة تتجلى عندما ينشد الحمال أبيات شعر يبدي فيها استغرابه من كون ’’ كل الخلائق نطفة‘‘ ومع ذلك فهو ’’ في تعب زائد‘‘ بينما صاحب المنزل الذي يوجد قبالته له ما شاء من ’’ بسط وعز وشرب وأكل‘‘، وحين يسمع السندباد البحري كلام الحمال، يرسل في طلبه ويقدم له’’ شيئا من أنواع الطعام المفتخر الطيب النفيس‘‘ ثم يقول له: ’’ اعلم أن لي قصة عجيبة وسوف أخبرك بجميع ما صار لي وما جرى لي من قبل أن أصير إلى هذه السعادة وأجلس في هذا المكان الذي تراني فيه فإنني ما وصلت إلى هذه السعادة وهذا المكان إلا بعد تعب شديد ومشقة عظيمة وأهوال كثيرة .

كلا السندبادين وصل إلى ’’ هذا المكان‘‘ بعد تعب ونصب، ولكن شتان بين ما قاساه السندباد البري وما قاساه السندباد البحري. ’’ السعادة‘‘ تقاس بالمشاق التي كوبدت من أجلها. من هذا المنظور، كل واحد ينال من النعيم بحسب الأهوال والأخطار التي لقيها. الحمال لم يركب البحر ولم يتجشم مشاقه فلم ينل من كنوزه شيئا ولم يشاهد غرائبه وعجائبه. لهذا السبب ليس له، على عكس السندباد البحري، حكاية يرويها. لقد بقي فوق البر لم يبرحه ولم يتوغل في البحر الذي يوفر الغنى ورصيدا من الأخبار الشيقة التي تحلو روايتها. كل ما يستطيع فعله الآن هو الإصغاء إلى السندباد البحري ومعاينة العجائب في مرآة خطابه والتقاط الأشياء التي يقذفها أحيانا على الشاطئ .

إلا أننا إذا تأملنا ما حدث للحمال، نلاحظ أنه عاش بصفة مصغرة تجربة عجيبة تجعله جديرا باقتسام اسم ’’ سندباد‘‘ مع صاحبه، وجديرا بأن تروي شهرزاد ما وقع له. فعندما أرسل السندباد البحري في طلبه اجتاز الباب الذي كان جالسا قبالته، يعني أنه انتقل من فضائه المألوف إلى فضاء غريب: ’’ فعند ذلك بهت السندباد الحمال وقال في نفسه والله إن هذا المكان من بقع الجنان‘‘. لو بقي في الفضاء الأول لما كانت هناك حكاية إذ الشرط الأساسي للحكاية هو الانتقال أي اجتياز العتبة الفاصلة بين فضائين (2). عندما يدخل الحمال إلى الفضاء الغريب يتغير وجوده وتعريفه. لقد ’’ حط حملته عند البواب : لم يعد بحاجة إلى حمل ’’ أسباب الناس‘‘. الدور المنوط به الآن هو الاستماع إلى ما يرويه السندباد البحري. في صباح كل يوم يقصد الفضاء الغريب وفي المساء يعود إلى فضائه المألوف. في الصباح يذهب إلى البحر وفي المساء يرجع إلى البر .

هذه الحركة الدورية نلاحظها بعينها في مسيرة السندباد البحري. لقد سافر سبع مرات من بغداد إلى بلدان بعيدة وغريبة وكل سفر ينتهي بالإياب إلى بغداد. الطواف شمسي، يبعد السندباد من نقطة في العالم ثم يعيده إليها. لكن حدث بعد السفرة السابعة أن الشمس لم تعد تنشط إلى الدوران. تجمدت عند نقطة انطلاقها ولم ترغب في مبارحته مرة أخرى. وبفقدان الحركة ينتهي السرد ولا يبقى إلا وضع نقطة الختام. الجمود الذي أصاب السندباد هو في نفس الوقت جمود السرد الذي يعيش بالحركة ويموت بالاستقرار .

حج السندباد سبع مرات ثم جلس في منزله يحكي مغامراته. وبعد سبعة أيام لم يبق له ما يحكيه ولم يبق لشهرزاد ما تحكيه عنه، فيتوقف كل شيء ويتحجر الأشخاص في انتظار الموت. هل معنى هذا أن عنصر البر قد انتصرعلى عنصر البحر وأن هذا الأخير تحول إلى ذكرى تتردد كتردد الأمواج على الساحل ؟

الإيهام والإبهام

رغم تعرف السندباد البري على الفضاء الغريب ورغم صحبته للسندباد البحري فإنه يبقى موسوما بـ ’’ البري‘‘ و’’ الحمال‘‘. ماذا يحمل ؟ قبل ولوجه الفضاء الغريب كان يحمل ’’ أسباب الناس‘‘ بالأجرة. وبعد هذا الولوج تحسنت حاله إلا أنه ظل يحمل ثقل الأرض، عنصره الأساسي الذي لا يملك إزاحته عن كاهله. خطواته كلها تتم فوق البر ولا مناص له من الخضوع للعنصر الذي ينتمي إليه والذي يجذبه ويشده إليه .

أما السندباد البحري فإنه ينتمي إلى الماء الذي لا يستقر على حال إذ هو دائم الحركة والتغير. ليس هناك سكون على وجه البحر وإنما مد وجزر، أمواج ورياح هوجاء يتلوها هدوء لا يجوز الاغترار به لأنه ليس سوى حركة أقل سرعة وأقل قوة. ولكن سمة السندباد البحرية لا تطمس جانبه البري كما أن السمة البرية لصاحبه لا تمنعه كليا من الانجذاب إلى البحر. السندباد البحري ، على الرغم من النعت الذي يوصف به ، مرتبط بالبر الذي لا يعني، بالنسبة إليه ، التعب والضنى تحت الحر وإنما السلامة والراحة والأمن. البر هو فضاؤه المألوف الذي يجد فيه أحبابه ورفاقه والعادات التي تربى عليها والتي تبدو له بديهية ومتفوقة على عادات الأقوام الآخرين. ومع ذلك فإنه يلبي دائما نداء البحر: ’’ فاشتاقت نفسي إلى الفرجة في البلاد وإلى ركوب البحر وعشرة التجار وسماع الأخبار‘‘. إذا كان البر يضمن الاستقرار والاطمئنان فإن البحر يضمن الغنى ومشاهدة عجائب البلدان. لهذا فالتذبذب هو ما يميز السندباد الذي يضع رجلا هنا ورجلا هناك. عندما يكون في البر يشتاق إلى البحر ويتنكر لعنصره البري، وعندما يكون في البحر يندم على مفارقته لبغداد ويتنكر لعنصره البحري: ’’ وصرت ألوم نفسي على ما فعلته وقد تعبت نفسي بعد الراحة وقلت لروحي يا سندباد يا بحري أنت لم تتب وكل مرة تقاسي فيها الشدائد والتعب ولم تتب عن سفر البحر وإن تتب تكذب في التوبة فقاس كل ما تلقاه فإنك تستحق جميع ما يحصل لك ‘‘ .

البحر فتنة تسلب العقل وتؤدي إلى الهلاك وعلى قدر الفتنة يكون النفور. هذا ما يمكن استنتاجه من صفات العالم الغريب الذي يعرض أشياء تغري السندباد وأشياء يشمئز منها .

الصفة الأولى تتعلق بحجم المخلوقات الذي يختلف عما هو شائع في العالم المألوف. هناك مثلا ’’ القرود‘‘ أي الأقزام ’’ وهم أقبح من الوحوش وعليهم شعور مثل لبد الأسد ورؤيتهم تفزع ولا يفهم أحد لهم كلاما ولا خبرا وهم مستوحشون من الناس صفر العيون سود الوجوه صغار الخلقة طول كل واحد منهم أربعة أشبار‘‘. على ان الضخامة هي الميزة الغالبة. عندما يحلق الرخ في السماء فإنه يحجب الشمس كما تفعل الغمامة ويظلم الجو. والفيل الذي هو أكبر حيوان في عالم السندباد المألوف، لا يزن أكثر من ذبابة فوق قرن ’’ الوحش المسمى بالكركدن‘‘. الكركدن هذا ’’ يحمل الفيل الكبير على قرنه ويرعى به في الجزيرة والسواحل ولم يشعر به ويموت الفيل على قرنه ويسيح دهنه من حر الشمس على رأسه ويدخل في عينيه فيعمى فيرقد في جانب السواحل فيجيئ له طير الرخ فيحمله في مخالبه ويروح به عند أولاده ويرزقهم به ‘‘ .

الصفة الثانية للفضاء الأجنبي هي مزجه للمتناقضات والمتنافرات إذ تتجاور فيه أشياء نفسية مع كائنات مخيفة: ’’ ومشيت في ذلك الوادي فرأيت أرضه من حجر الألماس... وكل ذلك الوادي حيات وأفاع‘‘.. ليس للوادي منفذ ولا مخرج ويبقى السندباد يهيم في جنباته متأملا الأحجار الكريمة ومتحسرا على إحراز ثروة هائلة لن يستفيد منها إذ ينتظر بين لحظة وأخرى أن يصير في جوف حية. أسباب الغنى والسعادة تتجاور مع أسباب الذعر والموت.

الصفة الثالثة هي وجود شعائر وعادات لم تكن تدور بخلد السندباد فيقشعر منها جلده ويشعر بالدوار تجاهها. فهناك قوم يتلذذون بأكل لحم الآدميين ثم هناك قوم لهم عادة رديئة جدا إذ كلما ’’ ماتت المرأة يدفنون معها زوجها بالحياة وإن مات الرجل يدفنون معه زوجته بالحياة حتى لا يتلذذ أحد منهم بالحياة بعد رفيقه ‘‘ .

العالم الغريب ميدان فسيح للوصف المفصل، بينما في العالم المألوف تكفي الإشارة والتلميح. ليس هناك أي داع لوصف بغداد أو الفيل أو النسر: التسمية وحدها كافية لإبراز خصائص الكائنات المألوفة. وليس هناك كذلك أي داع للتحدث بإسهاب عن عادات العالم الذي ينتمي إليه الراوي. فعندما يعلن هذا الأخير أنه إثر عودته إلى بغداد ’’ تصدق ووهب وأعطى ‘‘ فإنه لا يشعر بأدنى حاجة إلى أن يضيف أنه فعل ذلك شكرا لله لأنه شيء معلوم. علة الأحداث معروفة في عالمه ولا تحتاج إلى تفسير أو تعليق. العالم المألوف يقتصد فيه في القول بينما لا بد من الإطالة في وصف العالم الغريب لأنه مجهول .

الصفة الرابعة تتعلق بالتسمية. لا يخفى ما للتسمية من أهمية قصوى إذ بفضلها يتم ضبط الأشياء والتجول بثقة خلالها. السندباد كثيرا ما يعجز عن تسمية الأماكن التي تلقيه فيها العواصف. إذ ذاك يكون الضلال والضياع لأنه لا يستطيع وضع اسم على الجزيرة التي يوجد فيها فلا يدري الجهة التي يجب عليه أن يقصدها ليتم له الخلاص والنجاة. سئل مرة بعد عودته إلى بغداد عن مدينة عاش فيها مدة من الزمن فأجاب ’’ والله لا أعرف للمدينة... اسما ولا طريقا‘‘ العالم الغريب له خريطته الخاصة التي تختلف عن خريطة العالم المألوف .

وقد يحدث أحيانا أن التسمية العامة المجردة ( جزيرة، إنسان.. ) تصدر عن الوهم والالتباس. فمثلا يبصر السندباد ’’ قبة كبيرة بيضاء شاهقة العلو كبيرة الدائرة‘‘ ولكن يتبين له فيما بعد أنها ’’ بيضة من بيض الرخ‘‘. ومرة أخرى ينزل هو والبحارة إلى ’’ جزيرة كأنها روضة من رياض الجنة‘‘ ثم يعلمون بعد فوات الأوان أن ما ظنوه جزيرة ’’ إنما هي سمكة كبيرة رست في وسط البحر فبنى عليها الرمل فصارت مثل الجزيرة وقد نبتت عليها الأشجار‘‘. وعلاوة على ذلك ما هو الاسم الجدير بالقوم الذين يأكلون لحم البشر ’’ بلا شي ولا طبخ‘‘؟ وأي اسم يليق بأهل مدينة ’’ تنقلب حالتهم في كل شهر فتظهر لهم أجنحة يطيرون بها إلى عنان السماء‘‘ .

هذه الأسئلة تؤدي بنا إلى السؤال التالي: ما هو التعريف الذي يليق بالسندباد ؟ هل سعيه في العالم الغريب يجعله، ولو إلى حد ما ، غريبا عن نفسه ؟ بعبارة أخرى، هل هو متمسك كل التمسك بمنطق العالم المألوف بحيث يسلم من عدوى الغرابة ؟

3 - السندباد الهوائي والسندباد التحت أرضي

البحر ماء والماء يتبخر ويصير ماء، لم يكتف السندباد بركوب البحر بل جرب كذلك، ثلاث مرات، صعود الجو، مرة على متن طير الرخ، ومرة على متن نسر، ومرة متشبثا بأحد الرجال الذين تنبت لهم أجنحة كل شهر. وحسب ما يظهر من الحكاية السابعة فان التحليق في الفضاء من عمل الشيطان ولا ينبغي للإنسان أن يحاوله لان فيه تجاوزا للطبيعة البشرية. من طبيعة الطيور ان تصعد في الجو ولكن على الآدميين ان يحجموا عن ذلك لان فيه تطاولا وشططا وتحديا للحدود المرسومة لهم. وبالفعل فقد كادت التحليقة الثالثة أن تنتهي بكارثة أي أن السندباد كاد أن يهوي إلى الأرض ويتكسر عقابا له على غروره: " ولم يزل طائرا بي ذلك الرجل وانا على أكتافه حتى علا بي في الجو فسمعت تسبيح الأملاك في قبة الأفلاك فتعجبت من ذلك وقلت سبحان الله والحمد لله فلم استتم التسبيح حتى خرجت نار من السماء فكادت تحرقهم فنزلوا جميعا والقوني على جبل عال وقد صاروا في غاية الغيظ مني" (34)

النار كما رأينا في البداية حليفة البر بينما الجو حليف البحر. النار عدوة الهواء كما ان البر عدو البحر. إذا كان ركوب البحر مكروها لأن فيه مجازفة واستسلاما لعنصر التغير فان ركوب الجو محرم لأن فيه تشبها بالعفاريت والشياطين وخرقا لنواميس الطبيعة. على كل حال لم يعد السندباد الى مثلها وعمل بنصيحة زوجته: " قالت لي احترس من خروجك بعد ذلك مع هؤلاء الأقوام ولا تعاشرهم فإنهم إخوان الشياطين ولا يعلمون ذكر الله تعالى" (35).

العلاقة بين البر والبحر أفقية بينما العلاقة بيم البر (او النار) والجو عمودية. وقد تتطور العلاقة العمودية الى علاقة بين سطح البر وجوفه أي بين عالم الأحياء وعالم الأموات. فكما ان لسندباد ارتفع ثلاث مرات إلى عنان السماء فلقد نزل ثلاث مرات الى عمق الأرض. الى منطقة تخيم عليها " ظلمة شديدة" (29) ولا بعرف فيها " الليل من النهار"(21). فلقد دفن حيا مع زوجته الميتة في السفرة الرابعة. أما في السفرة السادسة والسابعة فانه لم يجد طريقة تخلصه من الوحدة والضياع سوى ركوب فلك صغير يسير مع التيار في نفق طويل تحت الجبل. الفلك بمثابة تابوت متجول، والسندباد، الذي تأخذه، من شدة التعب، " سنة نوم" (29)، كالميت فيه. في عالم الظلام والموت يتحكم زمان خارج الزمان العادي الذي يتحدد بطلوع الشمس وغروبها.

مما سبق يمكن أن نستنتج أن السندباد، بانتمائه إلى عالمين مختلفين، قد صار وسيطا بينهما ( الوسيط هو الذي يكون في الوسط بين شخصين ويكون ملما بكل حاجاتهما وميولهما ومشاكلهما). بفضل أسفاره التي تنقله من أفق إلى أفق، تأهل لأن يكون سفيرا بين بغداد ( رمز الفضاء المألوف) وأقطار الغرابة. لقد اهتدى مرة إلى تلقين قوم غرباء صناعة السروج، وبالمقابل عاد يوما بهدية من احد ملوك البلاد البعيدة إلى هارون الرشيد. " فتعجب الخليفة من ذلك غاية العجب وأمر المؤرخين ان يكتبوا حكايتي ويجعلوها في خزانته ليعتبر بها كل من رآها"(31). السرد في هذا المضمار أحسن وسيلة للتبادل بين العالمين .

4 – المقايضة

متى يأخذ رواة ألف ليلة وليلة في سرد حكاياتهم؟ عندما لا يكون بد من ذلك ويصبح السرد الوسيلة الوحيدة للخروج من ورطة او موقف صعب. السرد وليد توتر بين قوي وضعيف. حين يشد القوي بخناق الضعيف لا يجد هذا الأخير خلاصه إلا بسرد حكايته أو حكاية أشخاص آخرين. الحكاية مرادفة للتوسل والرجاء، انها القربان الذي يذبح لتهدئة غضب الشخص المتسلط وتقريبه من الشخص الذي يوجد تحت رحمته. بحيث تصير العلاقة بينهما، ليس بالضبط علاقة مساواة، وإنما علاقة تفاهم وتبادل. بهذا المعنى تتحول عملية السرد إلى عملية تعاقد ( ضمني أو علني) بين راو ومستمع4. كلا الطرفين ينتظر من الأخر شيئا: المستمع ينتظر من الراوي حكاية شيقة، والراوي ينتظر من المستمع ان يعفو عنه أو بصفة عامة، ان ينقله من حالة سيئة إلى حالة محمودة. للسرد سلطة عجيبة لا تقاوم. كلما يتقدم السرد كلما يهدأ المستمع وتسترخي ملامح وجهه المكفهرة، أي انه يسقط في الفخ الذي نصبه له الراوي عندما أخد في السرد. الراوي لا مندوحة له من الكلام والمستمع لا مندوحة له من تنفيذ رغبة الراوي عندما يتم حكايته. السرد له وظيفة معينة إذ هو صلة وصل بين شخصين اتسعت الهوة بينهما إلى حد أن احدهما يكون على شفا حفرة من القتل. وظيفة السرد هي إعادة التوازن لعلاقة مختلة.

هدا النوع من التعاقد نجده بالطبع في حكايات السندباد ولكن علاقة القوة بين الراوي والمستمع معكوسة هنا. في جل حكايات ألف ليلة يكون المستمع (شهريار مثلا) هو القوي المسيطر, ويكون الراوي (شهرزاد) هو الضعيف الخاضع الذي يلتمس العطف والرحمة. لكن في حكايات السندباد نجد نقيض هذا: السندباد البحري. الرجل القوي (الغني) هو الذي يقوم بالسرد. بينما السندباد البري. الرجل الضعيف(الفقير) هو الذي يتلقى السرد .

ما هو ثمن الإصغاء؟ السندباد البري ينصت الى حكايات السندباد البحري وينال كل ليلة مكافأة سنية جزاء له على إنصاته. " ثم ان السندباد البحري عشى السندباد البرى عنده وأمر له بمائة مثقال ذهبا وقال له آنستنا في هذا النهار فشكره الحمال واخذ منه ما وهبه له وانصرف إلى حال سبيله"(8). الإصغاء يقدر بمائة مثقال ذهبا بالإضافة إلى عشاء فاخر. عندما دخل الحمال في علاقة تبادل مع السندباد انتقل من الفقر الى الغني . التبادل يؤدي الى التبدل .

نتذكر أن السندباد البحري شرع في رواية مغامراته ليبرهن للحمال ان " السعادة" التي صار اليها قد استحقها بما كابده من صعوبات ومشاق. ويمكن أن نضيف أنه تاب من الإسفار ولكن لم يتب من الرواية، فلا بد له من مستمع يغيره سمعه. لكن ماذا حدث بعد أن انهي السندباد حكاياته السبع؟ لم تنفصم علاقته مع الحمال لان السرد خلق بينهما أنسا ومودة استمرا إلى أن أتى " هازم اللذات ومفرق الجماعات "(35).

ينبغي ان نشير الى أن السندباد لم يرو للحمال فقط ما جرى له. لا ننس أنه تاجر وان التجارة, بجانب " الفرجة" هي الغرض من أسفاره: " وكل محل رسونا عليه نقابل التجار وأرباب الدولة والبائعين والمشترين ونبيع ونشتري ونقايض فيه "(8). عندما يسعفه الحظ (البحر) فانه يتاجر بالبضائع التي حملها معه من بغداد. ولكن ماذا يفعل عندما يغرق مركبه وتضيع أمتعته ولا ينجو إلا بأعجوبة من الغرق؟ هل يفقد صفة التاجر؟ لا, لأنه يستدر عطف الناس بسرد ما وقع له أي انه يتجر بالخطوب التي لقيها. عندما يتلف البحر جميع ما يملك فانه يرقع حاله بالسرد وبعد مدة يصير من جديد غنيا. السرد سلعة يجدها دائما رهن إشارته عندما يفقد سلعه الأخرى. قي وسعه دائما أن يروي كيف ضاعت منه سلعه وكيف صار معدما, ومقابل حكايته ينال الخير العميم: " ولم نزل سائرين إلى أن وصلنا إلى مدينة الملك المهرجان وقد دخلوا عليه واعلموه بقصتي فطلبني فأدخلوني عليه وأوقفوني بين يديه فسلمت عليه فرد علي السلام ورحب بي وحياني بإكرام وسألني عن حالي, فأخبرته بجميع ما حصل لي وبكل ما رايته من المبتدأ إلى المنتهى فعند دلك تعجب مما وقع لي وما جري لي.. ثم انه أحسن إلي وأكرمني وقربني إليه وصار يؤنسني بالكلام والملاطفة وجعلني عنده عاملا على مينا البحر .."(6). بفضل ما تدره عليه حكايته من مال يشتري سلعا جديدة ويعود الى الاتجار والمقايضة.

على انه أحيانا لا ينفع السرد في إيجاد تعاقد يرضي الطريفين، يحدث هذا عندما يكون احد الطرفين مفتقرا إلى عنصر من عناصر الآدمية. إذ ذاك يصبح السرد عديم الفائدة لأنه قبل كل شئ، فعل بشري لا يتم إلا بين البشر. لا شئ يرجى من آكلي لحم الإنسان ولا من الاقزام الذين، بالإضافة إلى توحشهم، " لا يفهم احد لهم كلاما ولا خبرا" ولا شئ يرجى من العجماوات ولا من المخلوقات المتشبهة بها كالعملاق الذي يظهر في الحكاية الثالثة والذي هو " في صفة إنسان" ولكن " له أنياب مثل أنياب الخنازير وله فم عظيم الخلقة مثل فم البئر وله مشافر مثل الجمل"(13). هذا المخلوق الذي تغلب غليه الأوصاف الحيوانية لا يتكلم وليس بإمكان من يقع في قبضته ان يجري معه أي حوار .

ماذا يحدث عندما يكون احد الطرفين لا يستطيع احد الطرفين التعبير عن حاجاته إلا بالإشارة؟ لنقرأ ما وقع للسندباد مع شيخ البحر: " ثم دنوت منه وسلمت عليه فرد علي السلام بالإشارة ولم يتكلم فقلت له يا شيخ ما سبب جلوسك في هذا المكان فحرك رأسه وتأسف وأشار لي بيده يعني احملني... فتقدمت إليه وحملته على اكتافي5، وجئت إلى المكان الذي أشار لي إليه وقلت له انزل على مهلك فلم ينزل عن أكتافي وقد لف رجليه على رقبتي فنظرت إلى رجليه فرايتهما مثل جلد الجاموس في السواد والخشونة"(24). هذا المخلوق يدخل في حوار مع السندباد ولكن بالإشارة فقط . إن رجليه الجاموسيتين، وعدم قدرته على النطق تقربانه من الحيوان. فهو، كالعملاق والأقزام، نصف إنسان ونصف حيوان. التواصل في هذه الحالة منعدم او لا يخدم إلا طرفا واحدا، وحين يصير التبادل مستحيلا لا يبقى إلا العنف ولغة القوة.

5- السندباد العربي

لنتساءل ألان عن التوبة الصادقة التي أعلنها السندباد في نهاية مطافه: " ثم أني تبت إلى الله تعالى عن السفر في البر والبحر بعد هذه السفرة السابعة التي هي غاية السفرات وقاطعة الشهوات"(35). هل السفر من المحظورات ؟ ما هو الذنب الذي يقترفه والذي يستلزم التوبة ؟

إن ما تاب منه السندباد هو فتنة العالم الغريب والنزعة إلى الذوبان فيه. الهلاك الذي يتهدده في البحر هو الاستسلام إلى إغراء " الآخر" والتنكر للمنبع والأصل. في كل سفرة تختلط عليه المسالك ويكاد أن لا يعود إلى ذويه. التوبة هي الأوبة إلى بغداد، إلى النقطة التي كان منها انطلاقه، إلى البداية.

لكن الوفاء لعالم الألفة لا يعني الانفصال الكلي عن عالم الغرابة. وإلا فلماذا يشعر السندباد بحاجة ملحة الى رواية تجاربه ولماذا " صار كل من سمع بقدومه يجئ إليه ويسأله عن حال السفر وأحوال البلاد فيخبره ويحكي له ما لقيه وما قاساه"(12)؟ حكايات السندباد بمتابة حوار، أو جدل، بين الانغلاق والانفتاح، تماما كالثقافة العربية المعاصرة لها (الجاحظ مثلا) التي تتميز بالالتحام بين عناصر مألوفة وأخرى غريبة، بين البر والبحر.

واليوم من ينكر أن السندباد ما يزال يخاطبنا عبر القرون ويسألنا عن علاقتنا بالعالم المألوف وبالعالم الغريب(الغربي)؟ لقد كثر حفدته على الخصوص منذ عصر النهضة ( انظر على سبيل المثال الساق على الساق لأحمد فارس الشدياق وحديث عيسى بن هشام للمويلحي) وليس في الأفق ما ينبئ بأن عهد "السنابدة" قد انتهى، بصفة أو بأخرى كلنا اليوم، في العالم العربي، سندباد.

---------

( 1 ) يستفيد الباحث العربي عند دراسته للمؤلفات الكلاسيكية والحديثة مما كتبه باشلار حول العناصر الأساسية ( الأرض ، الماء ، النار ، الهواء ) . مدلول هذه العناصر ليس قارا في كثير من الأحيانم وإنما يتلون حسب الثقافة المعنية والحقبة التاريخية ، بل إن العمل الأدبي ، إذا نظر إليه على حدة ، قد يعطي صبغة خاصة لهذه العناصر ويوظفها توظيفا فريدا . انظر مثلا تحليل كريماص لإحدى قصص موباسان .
( 2 ) لوتمان ، 1975 ، ص 103
غريماص ، 97
نفس المصدر ، الصفحات 98 - 101
4 - بارث 1970 ، ص: 95-96 - تودوروف 1971 ص: 86-88
5- السندباد البحري يصير حمالا كالسندباد البري

عبد كيليطو ، الأدب والغرابة ( دراسات بنيوية في الأدب العربي ) ، دار الطليعة ، ص ص 95 – 98
 
أعلى