محمّد حجيري - حكايا التراث التي لا تنتهي

يستكمل الباحث والمحقِّق محمد مصطفى الجاروش في كتاب «عاشق المرحومة وقصص أخرى من التراث العربي» (منشورات الجمل، بغداد - بيروت) مشروعه في تحقيق سرديّات الثقافة العربية. وقد بدأ هذا المشروع من خلال الكشف عن «الليالي العربية المزوَّرة»، وتناول نصّين : «علاء الدين والفانوس السحري»، و«علي بابا والأبعون حرامي»، ونسبهما إلى كتاب «ألف ليلة وليلة»، حيث يبيّن أنه، على رغم الاعتراف العالمي بأن الحكايتين عربيتان، فإنه لا تتوافر لهما نصوص متداولة عربياً، لا في شكلٍ مستقلّ ولا ضمن طبعات «ألف ليلة وليلة»، باستثناء التلخيصات الموجَّهة إلى الأطفال.

يتكوَّن مخطوط «عاشق المرحومة» من 12 حكاية، غالبيتها أصلية، بمعنى أن ليس لها مثيلاً في ما نُشِر في التراث الحكائي العربي وحُقِّق. نذكر منها : «حكاية التاجر اليمني مع معشوقته التي ماتت موت الفجأة، حكاية اختفاء إبراهيم بن المهدي والفضل بن الربيع، وما وقع لهما من المِحَن، حكاية علي بن المُعلم مع بنت البيسري، حكاية هارون الرشيد مع الفقاعي، حكاية الأصمعي والخياط، حكاية الجارية قوت القلوب والست زبيدة، حكايةٌ لطيفة من غرائب الزمن وما يتفق فيها من العجائب، وغيرها.

تذكِّرنا بعض هذه الحكايات بحكايات وتيمات وردت في «ألف ليلة وليلة»، وفي كتاب «أخبار البرامكة» (تحقيق جليل العطية)، وكتاب «ثمرات الأوراق» لابن حجة الحموي و«العقد الفريد» لابن عبد ربه، و«نوادر الخلفاء» للإتليدي.

ثمة دور للمرأة في معظم الحكايات، حيث تُصَوَّر على أنها غرض للشهوة، وتُوَظّف توظيفاً رمزياً للدلالة على السلطة، وكأنها نوعٌ من البديل لها، بمعنى أن الاستيلاء عليها يرمز إلى الاستيلاء على السلطة. وبناء على ذلك ليس من قبيل المصادفة أن تكون النساء المرغوب فيهن على علاقات بأصحاب السلطة أو المحظيّات من السلطان. ومع ذلك فالشخصيات النسائية في حكاية اختفاء الوزير الفضل بن الربيع، يؤدّينَ دوراً أكثر طرافة وظرافة، ويتصفْنَ بالرحمة والتسامح والرأفة، على عكس الرجال الذين يؤدّون أدوار الخيانة والكذب وعدم الوفاء. وهذا ليس من باب المصادفة أيضاً، لأن لهذه الحكاية مصدراً تاريخياً معروفاً هو كتاب «الفرج بعد الشدّة» للقاضي البغدادي المحسن التنوخي. وبمقارنة النصَّين «الأصل التاريخي» و«الفرع الخرافة»، يتبين أن الراوي الذي استخرج القصة من مصدرها التاريخي، ووضعها في سياقها الجديد قد تصرّف فيها كي تتناسب أحداثها والوظيفة الجديدة التي يبتغيها منها. ويشبه دورُ النساء من الناحية الشكلية، أو من حيث النجاعة - إن شاء القارئ - دورَ شهرزاد الراوية في «ألف ليلة وليلة».

واللافت في حكايات «عاشق المرحومة» الحضور القوي لهارون الرشيد الذي كانت قصوره أشبه بعالم «ألف ليلة وليلة». ثمة الأصمعي البخيل، والجواري اللواتي يتصدرْنَ معظم القصص الحكائية العربية، يصنعنَ الأحداث ويحرِّكنها، ولا يتسمنَ على سمت واحد، كأنهن واجهة المتعة واللذة والقراءة، أو بوابة التحرُّر في الأدب والشعر، وقد خطفنَ أجواء الشعر والأدب والسرد وحتّى وهج السلطة والقصور، بينما بقيت النساء الرسميات أشبه بالمغمورات، ولا يُعرَف عنهن إلا القليل.

ويعود فضل المبادرة في الاهتمام بمخطوط «عاشق المرحومة» للمستعرِب يوسف سدان، فهو الباحث الأول الوحيد الذي اعتنى به وحقّق إحدى حكاياته وهي «حكاية السكندري الخيّاط مع تنكز»، التي رأى صلة قرابة بينها وبين «حكاية علاء الدين والمصباح السحري»، مما قد يثبت الأصالة العربية للأخيرة، التي طالما شُكِّك في متنها العربي المتأخِّر فعلاً عن النصّ الفرنسي الموجود في ترجمة أنطوان غالان الشهيرة العائدة إلى أوائل القرن الثامن عشر الميلادي. فالشخصية المذكورة في العنوان هي شخصية تاريخية معروفة باسم سيف الدين تنكز والي الشام أيام المماليك، لأن اسمه مُحَرَّف في النص إلى دنكز، ودنكر. وكان من بالغ وفاء الدكتور سدان للنص أنه لم يقم بأي تصحيح، مهما كان ضئيلاً، إلا ونبَّه إليه.

تحتفظ المكتبة الفرنسية بمخطوط الحكاية، ووفقاً لفهرستها فإن المخطوط نُسِخ في القرن الثامن عشر الميلادي، مع أن الدكتور يوسف سدان يرجّح تاريخاً آخر، ويرى أنه قد يكون نُسِخ في القرن السابع عشر أو السادس عشر. ومما لا شكّ فيه أن الحكايات أقدم بكثير من النسخ، وأن المجموعة كلها تعود إلى فترة الحكم المملوكي في بلاد الشام، وقد تصوَّر المحقِّق أنه يوجد شبه بين أسلوبها وأسلوب أقدم مخطوط لـ«ألف ليلة وليلة»، الذي يعود إلى القرن الخامس عشر الميلادي




الدوحة
 
أعلى