هيثم سرحان - عقـدة جـودر

قلـّةٌ من الباحثين العرب استطاعت قراءة النصوص الأدبية العربية القديمة وتحليلها واستخراج مفاهيمها الثقافية الدالـَّة علي أبعاد الهوية العربية الإسلامية والكاشفة عن تمثـُّلات الذات وتجلياتها ومواقفها الاستراتيجية. ولعلَّ البحث في هذه المساحة المعرفية يسهم إسهاماً فاعلاً في تشكيل جملة من التصورات والمبادئ التي تدفع الذات لتفكيك أبنيتها ونقد مفاهيمها بهدف مراجعة مكوناتها وفهم مآزقها. ومن هنا تتأتّي أهمية هذه القراءات التي ينبغي أنْ تكون مشروعاً ثقافياً عاماً تـُوجـَّه له طاقات الباحثين وتُستنفَرُ لمواصلته جهودُ الـمُفكِّرين وقُدراتُ المؤسسات الثقافية المختلفة.

ومن الباحثين العرب الذين تندرجُ أعمالُهم في هذا الحقل الشائك والشائق عبد الوهاب بوحديبة صاحب الأطروحة المهمة الإسلام والجنس الذي كشف عن تشوّهات المجتمع العربي واضطرابات مفاهيمه الثقافية. وبعيداً عن موقفه القائل بشمولية المجتمع العربي وعن ردود الأفعال والمواقف التي أثارتها الأطروحة فإنَّ ما يهمنا، في هذا المقام، فصل أطروحته الموسوم بـ إلي مملكة الأمهات الذي أشار فيه إلي عدم تطابق الواقع الفقهي والواقع الاجتماعي فيما يتعلـَّقُ بالتفاضل بين الجنسين، فالنـّصُ القرآنيُّ، كما يقول، ...أكد أفضلية الرجل علي المرأة بدرجة واحدة، غير أنَّ الفقه أطنب في الحديث عن ازدواجية الجنسين من الناحية الطبيعية واختلافها، وجاءت المجتمعات الواقعية لتزيدَ الأمرَ سوءاً بإرسائها قواعد القهر والانتقاص والسـّلب والنفي للمرأة . ويري بوحديبة أنَّ سلطة الفقهاء هي التي غلبت في ترسيخ صورة المرأة في الثقافة العربية، ففي الوقت الذي أرسي فيه الرسول محمد(ص) تعاليم دينية وسلوكاً شخصياً يـُشدد علي منزلة المرأة والعاطفة الزوجية إلا أنّ هذا الخطاب لم يصمد في وجه الـمُتغيرات الاجتماعية وسلطة الفقهاء التي استطاعت تشكيل صورة غامضة ومضطربة إلي حدٍّ كبير نتجت عن مساحة الاجتهاد والتأويل الفقهيين اللذين أعادا إنتاج صورة المرأة بما ينسجم مع مصالح القوي الاجتماعية الأبوية وامتيازاتها التي تمجـِّدُ الذكور وتحتفل بأدوارهم.

لقد تحوَّلت المرأة، في ثقافة الفقهاء، إلي أداة إمتاعية وإنجابية بعد أنْ تم اختزال الأنوثة إلي دالٍ ثقافيٍّ يُقابل دالّ الذكورة. ونتيجة هذا الفعل الإقصائي الذي يقصر دالَّ المرأة في داليِّ الإمتاع والإنجاب ترسـَّخ دورها في وظيفة (الأم) وهو دورٌ منعها من مزاولة أدوار وأداء وظائف أخري، كما أدّت هذه الثقافة: ثقافة قهر النساء إلي توجيه القهر وتحويله في اتجاه الأمومة الأمر الذي ساهم في إرساء قواعد مملكة الأمهات.

ونجم عن هذا التحوّل الاجتماعي ـ الثقافي نشوء، ما يـُطلق عليه بوحديبة، عبادة الأم التي تـمُثـّل احتجاج الأم علي الأدوار الاجتماعية التي وُزِّعت عليها من قبل المؤسسة الاجتماعية المنحازة ثقافياً وجنسياً. ليس هذا فحسب بل إنَّ الأم، في الثقافة الجمعية، أرادت الثأر لنفسها والاحتجاج علي عبادة الذكور ومنطق القهر الذي ينصّ علي استبعادها من مجال إنتاج المفاهيم وتوزيع الأدوار الثقافية.

ويستعين بوحديبة في تشقيق عقدة جودر بفرضية الباحثة هيلين دويتش Helene Deutsch التي ذهبت في أطروحتها علم وظائف أعضاء النساء The Psychology of Women إلي أنَّ مواقف المرأة النفسية من المفاهيم الاجتماعية والثقافية تنتقل إلي أطفالها عبر الحبل السـّري . ونتيجة بؤس المرأة الاجتماعي وحرمانها الطويل فإنّ المرأة تعيد تشكيل هويتها الثقافية والنفسية بسفح مشاعرها وعاطفتها علي أطفالها لدرجة رغبتها في الاستحواذ عليهم الأمر الذي يكشف عن تطلـعاتها في التـَّمركز. ومن هنا فإنّ الفقه الذي يقرُّ بضرورة ارتباط الأطفال بأمهاتهم يكون قد منح الأم، من حيث لا يعلم، سلطة تجنيد أولادها في مشروع إعادة إنتاج الأدوار وتوزيعها توزيعاً عادلاً.

وسوف يتمخـَّضُ عن محاولات إعادة تشكيل المنظومة الاجتماعية احتقانات ثقافية تـُسبب حدوثَ شروخ وانتهاكات وتصاعد الرغبة في الهيمنة من قبل الآباء والأمهات اللواتي سينجحن في التحالف مع أبنائهن للالتفاف علي السلطة الأبوية الغاشمة، وليس هذا فحسب بل إنَّ النساء يقمن باستدرار عاطفة الأبناء ومنحهم الحب لإيهامهم بأنهنّ الملاذ الوحيد من عقدة الخصاء التي تتربـّص بهم. إنَّ الأم في المجتمعات العربية الإسلامية،حسب بوحديبة، ليست سليلة نظامٍ أُموميٍّ يحتفل بالأنوثة ويمجـّدُ الخصوبة وإنما هي بديلُ النظام الأبوي الـمُفرط في ذكورته الذي يُهدّدُ مجتمع الأطفال بالخصاء، فالأبّ ليس وحده خاصياً في المجتمعات العربية... إنما المجتمع برمـَّته خاصٍ بفعل القيم الذكورية الـمُتورِّمة الطاغية عليه . ونتيجة لذلك تتشكـَّلُ مملكة الأمهات بوصفها بديلاً مُتخيـَّلاً وفعليـَّاً آمناً عن عالم الواقع الخارجي الذكوري.

فالأطفال، عند المرأة العربية، وسائلُ دفاع عن الهوية والذات والحياة؛ إنهم سـُترٌ واقية من النفي الذي تواجهه وتعيشه في ظل النظام الأبويّ. ولعلّ هذا ما يفسـِّر مقاومة شهر زاد الموت فقد تمكـّنت من تعطيل برامج شهريار الداعية إلي تصفية النساء، من خلال ليالٍ سردية استطاعت فيها أنْ تنجب، في غضون ألف ليلة وليلة ، ثلاثة ذكور: واحدا يمشي، وواحدا يحبو، وواحدا يرضع.

عقدة جودر

تتأسس عقدة جودر علي حكاية جودر بن عمر التاجر مع أخويه التي وردت في متن ألف ليلة وليلة. وتقوم الحكاية علي نزاع ينشب بين الإخوة بسبب الحظوة عند الأب ينجُمُ عنه تآمرُ الأخوين؛ سالم وسليم علي أخيهما جودر. وسوف يتخذ هذا التآمر عدة أبعاد ومستويات تبدأ بالتـَّسلـُّط، والكيد، والاحتيال، والخداع، والتخطيط للقتل. أمـَّا الأم فقد تسلط عليها سالم وسليم بعد وفاة أبيهما ونالا منها بالسخرية والضرب والاستحواذ علي ما ورثته من زوجها، إضافةً إلي الطرد الذي سرَّع بتحالفها مع ابنها جودر لمواجهة شرور سالم وسليم. إلا أنّ هذه التحالفات لا تستمرّ في الحكاية؛ إذ يقوم سالم وسليم بالتضرّع لأمهما لإنقاذهما من الأحوال السيئة التي آلت إليه أوضاعهما بعد فقدهما ما ورثاه من أبيهما وسوف تقوم الأم بمد يد العون لهما وإنقاذهما بإعطائهما مالا وطعاما مما يجنيه جودر بعد أنْ كانا قد نزعا منه ما ورثه من أبيه بحجة عدم العدل في قسمة الإرث. وهكذا سيصبح الإرث الأبوي محور النزاع والتنابذ بين الإخوة والأم. أما الحكاية الإطارية فسوف تتناسل لتنجب حكايات وتولـِّد دلالات تـُعجـّلُ بتحريك البرنامج السردي وتعقيد مساراته وإحداث تحويلات في مساراته السردية حيث تتنامي الأحداث وفق قاعدتي النمو التصاعدي لمحور جودر والنمو التنازلي لمحور أخويه: سالم وسليم، إذْ يرتقي جودر من العيش علي الكفاف إلي امتلاك ثروة طائلة ثمّ امتلاك السلطة باعتلاء عرش المملكة في حين تتفاقم مكائد سالم وسليم وترتد عليهما ثبوراً وذلك بأنْ تنتهي حياتهما في سجن الملك. وإذا كان الأخوان يواجهان أخاهما جودر بالكيد والتدبير والإيقاع فإنَّ جودر يقابلهما بالصفح والعفو والإحسان وينعم عليهما بالجود والأمن وجمع الشمل بعد أن يكونا قد دبـَّرا لتشتيته. أما الأم فلها بعدان: بعدٌ واقعي بيولوجي حيث الأمومة، وبعد رمزي يتشكـّل في إحدي الحكايات المتناسلة حيث يقتضي مسار الحكاية السردي أنْ يتمّ تعريتها لاستخراج الكنز.

لقد أسس بوحديبة مقتربه المعرفي علي علاقة الأم/ الابن التي تمتد من الحكاية الإطارية إلي الحكايات الداخلية وبخاصة حكاية جودر مع الساحر المغربي عبد الصمد الذي يطلب من جودر تعرية أمه التي سيقابلها في الطريق المؤدية إلي الكنز المدفون في عمق أحد الأنهار.
لا يستطيع جودر مسّ صورة الأم و تحطيمها رغم علمه بوهميتها ورغم ما أخبره به الساحر المغربي من أنّ الصور التي سيواجهها في طريقه إلي الكنز صور أشباح لا صور أرواح، ومع ذلك فقد أخفق جودر في تعريتها في المرة الأولي. ويري بوحديبة أنَّ هذه الحكاية تمثـِّل استعارة ثقافية مفادها أنَّ علي المرء رؤيةَ صورة أمه الحقيقية ومواجهتها دون أي حواجز . وبهذه الطريقة يتحرر الوعي الجمعي من الصور النمطية ويصبح قادراً علي قتل الأشباح التي تنتجها.

وبموازاة ذلك يري بوحديبة أنّ مكونات حكاية جودر السردية وعناصرها النفسية والاجتماعية والفردية واللاواعية والطبيعية والوهمية تجعلها دالـَّة علي عمق إنسانيّ؛ فحكاية جودر تماثل حكاية أوديب من حيث علاقة الآباء بالأبناء. وإذا كان أوديب قد استحق عقوبة فقء عينيه لمحاولته قتل الأب بالتجرؤ علي غشي المحارم فإنَّ جودر استحقّ الكنز لأنه نجح في التخلـّص من عقدته، في المرة الثانية، بتعرية أمه وتجريدها من ملامحها الأسطورية والتعامل معها واقعياً.

وقد دفعت قراءة بوحديبة الباحث فرج بن رمضان إلي أنْ يفرد دراسة مستقلةً لبحث صورة الأم في الـمُتخيل العربي. عالج فيها ابن رمضان حكاية جودر بن عمر التاجر مع أخويه مـُعالجة تركيبية تأويلية تضمـَّنت نقداً لقراءة بوحديبة التي لم يتورع ابن رمضان عن نعتها بـ الانتقائية والجزئية ؛ لأنها اعتمدت علي حكاية داخلية واحدة هي: حكاية الكنز. في حين أنَّ مقاربة فرج بن رمضان شملت الحكاية كلها واعتمدت مبادئ نظرية السرديات الدلالية عند تودورف الـمُطعـّمة بمبادئ التحليل النفسي اللاكاني للكشف عن تمثـُّلات عقدة أوديب في حكاية جودر وتأويل الرموز والعلامات التي أغفل عنها بوحديبة وهي رموز تتعلـَّق بمفاهيم الخصاء مثل الأسد، والثعبانين، والسيف (2).

1 باحث أكاديمي في جامعة فيلادلفيا الأردنية.


2 الإحالات:
ہ عبد الوهاب بوحديبة، الإسلام والجـنس، ترجمة وتعليق: هالة العوري، ط2، رياض الريس للكتب والنشر، بيروت، 2001.
ہ فرج بن رمضان، صورة الأم في الـمُـتخيـل العربي: حكاية ألف ليلة وليلة، دار محمد علي للنشر، ط1، صفاقس ـ تونس، 2006.
 
أعلى