هيثم سرحان - صورة الأم في ألف ليلة وليلة

«كتاب صدر حديثاً عن دار الحامي في تونس للباحث فرج بن رمضان. والمؤلف يُدرّس الأدب العربي ويُشرف على «وحدة البحث في المتخيَّل» في كلية الآداب والعلوم الانسانية في صفاقس، علاوة على كونه أحد الباحثين العرب الناشطين المشتغلين في حقل الدراسات السرد – ثقافية ودراسات النسوية العربية.

يعالج الباحث احدى ليالي أو نصوص «ألف ليلة وليلة» وعنوانها «حكاية جودر بن عمر التاجر مع أخويه»، وهو النص الذي يرى ابن رمضان أنه لم ينل نصيباً كاملاً من الدراسة والتحليل على رغم الجهود المبذولة في العقود الستة الأخيرة لإحيائه ووضعه على طاولة القراءة والتحليل. فقياساً بما كُتب في صدد أيام العرب ومجالسهم في الجاهلية والاسلام فإن نص الليالي يظل نصاً بكراً خصوصاً أن الثقافة العربية تطرَّفت في تلقيه حتى أنه حُكِم على طبعاته المختلفة بالحرق، لأنه يروِّج للمتع والانحلال، علاوة على مضامينه التي تُخالف الوقائع التاريخية وتستهين بالقيم والثوابت الثقافية من حيث جرأتها في تناول سير الخلفاء والمبالغة في وصف ملذاتهم وسرد تفاصيل حيواتهم.

أما دوافع اختيار نص «حكاية جودر بن عمر التاجر مع أخويه» فتتمثل، بحسب فرج بن رمضان، في كون هذه الحكاية من الحكايات الزاخرة بقضايا الجنس والمرأة والأمومة، اضافة الى طاقتها السردية حيث تشيعُ المكونات الغرائبية والمفارقات الزمانية والمكانية ما الذي يرشحها للاندراج في نوع «الحكاية العجيبة» التي تعد مادةً مهمة لدراسة الرمزيات والسيميائيات التي تتخذ حقل المتخيل موضوعاً لها. وهناك دافع اضافي تشكل نتيجة ما أثارته قراءته تحليل عبدالوهاب بوحديبة لهذه الحكاية في كتابه «الإسلام والجنس».

وهذا يعني ان فرج بن رمضان يخوض قراءة تسعى لنقد مشروع بوحديبة واعادة تشكيل فرضياته المستندة الى مفاهيم التحليل النفسي.

ويقوم العمل على ثلاثة محاور أساسية، عرض تحليلي لحكاية جودر بن عمر التاجر مع أخويه، وعرض قراءة بوحديبة، وقراءة تركيبية تتضمن نقد قراءة بوحديبة.

بسط فرج بن رمضان، في المحور الأول، عرضاً تحليلياً لحكاية جورد بن عمر التاجر مع أخويه من خلال اثارة اشكالية الحكاية المركزية المتمثلة في تنازع الإخوة على الحظوة لدى الأبوين. وتتأسس هذه الاشكالية على عقدة هي «عقدة جودر» التي تماثل، بحسب فرج بن رمضان، عقدة يوسف (عليه السلام). فجودر حظي بحبٍّ خاص وعلاقة مميزة بين أخويه (سالم وسليم).

وتتأسس الحكاية على نزاع ينشب بين الاخوة بسبب الحظوة عند الأب ينجم عنه تآمر الأخوين على أخيهما جودر. وسوف يتخذ هذا التآمر أبعاداً ومستويات تبدأ بالتسلط والكيد والاحتيال والخداع والتخطيط للقتل. أما الأم فقد تسلط عليها سالم وسليم بعد وفاة أبيهما ونالا منها بالسخرية والضرب والاستحواذ على ما ورثته من زوجها، اضافةً الى الطرد الذي سرَّع بتحالفها مع ابنها جودر لمواجهة شرور سالم وسليم. الا ان هذه التحالفات لا تستمر في الحكاية، اذ يقوم سالم وسليم بالتضرّع الى أمهما لانقاذهما بإعطائهما مالاً وطعاماً مما يجنيه جودر بعد أن كانا قد نزعا منه ما ورثه من أبيه بحجة عدم العدل في قسمة الإرث. وهكذا سيصبح الإرث الأبوي محور النزاع والتنابذ بين الإخوة والأم.

أما الحكاية الإطارية فستتناسل لتنجب حكايات وتولِّد دلالات تُعجلُ بتحريك البرنامج السردي وتعقيد مساراته واحداث تحويلات في مساراته السردية حيث تتنامى الأحداث وفق قاعدتي النمو التصاعدي لمحور جودر والنمو التنازلي لمحور أخويه: سالم وسليم. فيرتقي جودر من العيش على الكفاف الى امتلاك ثروة طائلة ثم امتلاك السلطة باعتلاء عرش المملكة، في حين تتفاقم مكائد سالم وسليم وترتد عليهما ثبوراً اذ تنتهي حياتهما في سجن الملك. واذا كان الإخوان يواجهان أخاهما جودر بالكيد والتدبير والايقاع فإن جودر يقابلهما بالصفح والعفو والاحسان وينعم عليهما بالجود والأمن وجمع الشمل بعد أن يكونا قد دبَّرا لتشتيته. أما الأم فلها بعدان: بعدٌ واقعي بيولوجي حيث الأمومة، وبعد رمزي يتشكل في احدى الحكايات المتناسلة حيث يقتضي مسار الحكاية السردي ان يتم تعريتها لاستخراج الكنز.

أما المحور الثاني فيستعرض فيه فرج بن رمضان قراءة عبدالوهاب بوحديبة لحكاية جودر في كتابيه: «الإسلام والجنس»، و «ثقافة ومجتمع». وتكمن خصوصية قراءة بوحديبة في كونها أول قراءة تتناول حكاية جودر بالتحليل، علاوة على تعمقها في النظر في أهم مقاطعها المتصلة بصورة الأم وعلاقة الابن بها. وقد عدها بوحديبة من أهم الحكايات العربية الكاشفة عن الأفكار المتعلقة بالحياة الجنسية والعلاقات بين الجنسين في المجتمعات العربية نظراً الى المكانة التي تتبوأها الأم في المتخيل الجمعي ودورها في تشكيل العلاقات الانسانية لدرجة ان صورة الأم تضخمت فلم تعد تقترن، بحسب بوحديبة، بالبرّ والتوقير والاحسان فحسب وانما بالعبادة.

ان الأم في المجتمعات العربية الإسلامية، بحسب بوحديبة، ليست سليلة نظام أمومي يحتفل بالأنوثة ويمجد الخصوبة انما هي بديل النظام الأبوي المُفرط في ذكورته الذي يهدد مجتمع الأطفال بالخصاء، «فالأب ليس وحده خاصياً في المجتمعات العربية... انما المجتمع برمته خاصٍ بفعل القيم الذكورية المُتورمة الطاغية عليه». ونتيجة لذلك تتشكل «مملكة الأمهات» بصفتها بديلاُ مُتخيلاً وفعلياً آمناً عن عالم الواقع الخارجي الذكوري.

بيد أن صورة الأم، وبفعل قيم الذكورة الطاغية، تأخذ بالتضخم والتعالي لتنتج صورة أسطورية خلاصتها «عقدة جودر» التي تعني انتاج علاقة تُعلي من شأن الرحم الأمومي. وبموجب هذه العلاقة فإن الذكور يفرون من السلطة الذكورية ويجدون في الأمهات متخيلاًَ بديلاً يفيئون اليه هرباً من التسلط والقهر. وتجد عقدة جودر، بحسب بوحديبة، مرتعها الخصب في اللاوعي الطفولي حيث تسود ثقافة ذكورية مهيمنة محصنة باستراتيجيات الفصل التعسفي بين الجنسين، وقمع البعد الأنثوي في نفسية الرجال ما يؤدي الى استفحال عقدة جودر وترسيخ مفعولها في بنية اللاوعي ما يُنتج قلقاً نفسياً وسلوكياً نتيجة الرغبة في احياء الرابطة الرحمية وانبعاث صورة الأم في الزوجة أو من في حكمها، الأمر الذي يؤدي الى حدوث أزمة في المنظومة الاجتماعية ينتج منه انهيار في طبيعة المفاهيم الثقافية وخلل في توزيع الأدوار الاجتماعية حيث يسود الاضطراب والتوتر.

أما المحور الثالث فيتضمن نقداً لقراءة بوحديبة واعادة تركيب قراءة جديدة. ومنذ البداية يقر فرج بن رمضان بألمعية المقترب الذي قدمه بوحديبة لتطوير مفهوم انثربولوجي أصيل ينتمي نصاً ونسقاً الى الثقافة العربية. ويرى امكان تطوير مفهوم «عقدة جودر» من خلال تحليل نصوص أخرى ثم تعميم المفهوم ليغدو مصطلحاً معرفياً متداولاً.

ويعين فرج بن رمضان وجه الافتراق بين مقاربته ومقاربة بوحديبة، فمنهج بوحديبة يقوم على منطلقات علمي الاجتماع والنفس في حين أن ابن رمضان يعتمد على مبادئ علم الأدب، لذلك سيحاول الكشف عن أبعاد عقدة جودر وعلاقتها بعقدة أوديب.

اعتمد فرج بن رمضان على مبادئ السرديات الدلالية عند تودورف وتطعيمها بمبادئ التحليل النفسي اللاكاني (جاك لاكان). ويرى فرج بن رمضان أن قراءة بوحديبة قراءة جزئية انتقائية، لأنها اعتمدت على حكاية داخلية واحدة هي: حكاية الكنز. لذلك راح فرج بن رمضان يستكمل تأويل الرموز التي أغفل عنها بوحديبة وهي رموز تتعلق بالمفاهيم الانثربولوجية الكاشفة عن معاني الخصاء بكل دلالاته. ومن هذه الرموز: الأسد والثعبانان والسيف.

وصفوة القول ان هذا الكتاب يمثِّل اتجاهاً نقدياً مهماً في الثقافة العربية، وان تطويره واستثمار مبادئه وآلياته التأويلية من شأنهما أن يُقدما للمعرفة والقارئ العربيين الكثير من المنافع التي لا تتوقف عند حدود القراءة الأدبية المجردة وانما تتجاوزها الى تحقيق قراءة انثربولوجية قادرة على الكشف عن أبعاد الهوية الحضارية ومآزقها الثقافية.

المصدر: الحياة
 
أعلى