كواباتا ياسوناري - صوت الخيزران ... أزهار الخوخ.. ت: هلال حميد

ترى متى نشأ على الاعتقاد بأنه كان يسمع صوت الخيزران ..وأزهار الخوخ في داخله ؟
أما الآن ..فلم يعد مقتصرا على سماع صوت الخيزران ، ورؤية ازهار الخوخ ، الآن كان يرى ايضا صوت الخيزران ويسمع ازهار الخوخ .
وفي بعض الاحيان ، فيما هو يصغي بسمعه لصوت الخيزران ، كان يحدث أن يسمع ايضا صوت اشجار السنديان ، الذي ماكان ينبغي أن يسمع في ذلك المكان . وفيما هو يتأمل أزهار الخوخ ، كان يحدث أن يرى أيضا أزهار شجرة البرقوق ، التي هي الاخرى ماكان يمكن أن تكون متفتحة في تلك اللحظة . إن هذه الاشياء غالبا ما تحدث على عكس مايتصوره المرء خطأ ، لكنها بالنسبة الى مياغاوا هيساو ، قد وفدت اليه مع الشيخوخة .
فالصقر فوق الهضبة وراء البيت ، كان مياغاوا قد رأه في الربيع ، قبل سنتين ، لكنه كان يتذكره كما لو يكن الآن .
كانت سلسلة الجبال المنخفضة تمتد طويلاحتى تصل الجانب الخلفي لسكنه . وهناك كانت تنتهي ببروز يشبه قطرة طويلة من قطرات الشمع . فكان ذلك البروز عبارة عن هضبة صغيرة . ومن إحدى الصخور الرصاصية اللون التي انبثقت عند قدميها ، كانت قد انبجست انواع شتى من الاحراش ونباتات السرخس .
غير أن لا السراخس ولا الاشجار التي يمكن أن تستلفت النظر كانت تنمو على امتداد منحدراتها ، التي كانت الاعشاب والاغصان المتشابكة قد غزتها وكستها بالخضار . وفي قمتها كانت تنهض شجرة ضخمة عجفاء من اشجار الصنوبر .
فبعد الإبر المصفرّة التي تساقطت منذ بضع سنوات ، كذلك الاغصان الأكثر هزالة تكاد تكون جميعها قد انسلخت ، ولم يتبق سوى الجذع والاغصان الأكثر سمكا، التي كانت في معظم الحالات مقصفة النهايات .
والآن كان الهيكل المتيبس للصنوبرة منتصبا كالحربة المدببة في وجه السماء .
حينما رأه ، كان الصقر قابعا على رأس الصنوبرة ، تقطعت أنفاس مياغاوا ، وأحس بانفجار صيحة صمّاء في صدره . فهو لم يتصور ابدا بأن صقرا من الصقور قد يتمكن في يوم ما من الوصول الى تلك الهضاب . فكان ذلك حدثا غريبا يصعب على المرء أن يجد له تعليلا . ومع ذلك ، كان الأمر يتعلق بالذات بصقر من الصقور الجارحة كما يمكن ملاحظة ذلك من الأبعاد والنظرات الحادة .
وهو مخيم فوقها ، كانت الصنوبرة العظيمة تبدو أقل ضخامة من المعتاد . حيث كان الصقر هناك مستقرا بلا حراك ، بصدره المنتفخ وبنظرته الحادة المستقيمة قدامه . ومياغاوا الذي كان يتطلع اليه من تحت ، قد تنبه في الحال الى مدى عظمة وبأس ذلك الطير الجارح .
كانت الضياء الدافئة للغسق الربيعي منتشرة حول المكان . وفي السماء بلون الخوخ ، المحجبة بالضباب الخفيف ، كانت منغرزة كالنصل الأسود قمة الصنوبرة التي كان الصقر يربض فوقها . فكان ذلك المشهد الرائع متجسدا بما يشبه السحر ، لامثيل له ولا صلة له بكل ما يحيط به .
في تلك السماء الشاحبة ساعة الغروب ، كان يبدو مستحيلا أن يكون الصقر قد عثر على الطريق ليصل حتى ذلك المكان . أو انه سيتمكن من العثور على طريق آخر للعودة الى الوراء . لا . لا يمكن ذلك . لأن طريق الصقور لايمكن أن يكون مخددا في السماء ، إذا لقد كان موجودا هناك من أجله هو بالذات . ومياغاوا كان يتأمله بعينين ملتمعتين نت الدهشة والانبهار .
لقد كان في دهشته هذه يبدو كما لو أن من قلب نار مضطرمة ، تكون قد تفتحت على حين غرة زهرة عظيمة من ازهار اللوتس البيضاء . لا لأن ذلك الغسق الربيعي يمكن له ان يناجي حريقا ، ولا ، لأن الصقر كان يشبه زهرة لوتس بيضاء ، بل ، لأن ذلك الصقر ذا النظرة الحادة المستقيمة ، القابع فوق الصنوبرة
الجافة ، كان يبعث هدوءا عظيما ، على قدر ما تبعثه زهرة لوتس بيضاء محاصرة بلهب النار .
إن تلك الدهشة التي قطعت أنفاسه حينما أخذت بالفتور ، بدأت تتبلور في أعماق قلبه فكرة أن ظهور ذلك الصقر هو علامة للبركة وحسن الطالع ، الأمر الذي أثار في نفسه إبتهاجا عظيما .
في تلك البلدة الساحلية من بلدات طوكيو ، لم يسبق وأن شوهدت فيها صقور في يوم من الايام ، ومامن أحد قد سمع بأنها كانت موجودة فيها . وحتى الفكرة نفسها بالالتقاء بواحد منها كانت تبدو فكرة غريبة مستهجنة .
مع ذلك ، فإن الشىء الذي كان يراه هو ، واقفا فوق الصنوبرة على الهضبة وراء البيت ، كان صقرا وليس شيئا آخر .
ترى من يدري لماذا جاء الى هنا . وهل كان هذا هو هدفه ؟ أو انه ضل سبيله ؟ أو لعله كان هناك بمحض الصدفة العمياء . ولكن لماذا اذن ، وهو وصل المكان ، قد اختار موضعه فوق قمة الصنوبرة اليابسة بالذات ، وبالذات فوق الهضبة التي كانت وراء بيت مياغاوا ميساو ؟
إن ذلك لايمكن أن يكون عرضيا ، فكّر ، لابد أن يكون وراء ذلك سبب معين . إذ كان يخالجه إحساس بأن الصقر يحمل اليه رسالة ما أو بلاغا معينا ، الى مياغاوا .
من حسن الحظ قال مخاطبا نفسه : ان الصنوبرة العجوز لم تكن قد اقتلعت . ولربما أن الصقر قد جاء خصيصا لأنه كانت هناك تلك الشجرة العظيمة المنتصبة فوق الهضبة . ولعله كان قد حطّ عليها هي بالذات لأنها كانت يابسة . ولو أنها لم تكن هناك ، فاغلب الظن لما كانت قد توفرت له فرصة الالتقاء بالصقر فوق الهضبة وراء البيت .
من حسن الحظ انها بقيت على قيد الحياة ، كان يفكر الآن ، على حين انه في زمن مضى قد فكر مرارا بضرورة اجتثاثها . فمنذ سنوات عدة ، كان الاحتضار البطىء لتلك الصنوبرة ، القائمة كعلامة متميزة ، وكأنها قوة إلهية حامية للبيت ، تكدر نظرته وتورثه حزنا عميقا .
كانت الشجرة تتراءى ايضا من السكك الحديدية ، وليس لمياغاوا وحده ، بل ولكل أفراد عائلته ايضا ، ففي كل مرة يصعدون أو ينزلون من متن القطار كانوا يلتفتون للنظر الى الصنوبرة ، وكان ذلك يتم بحركة عفوية ، الى أن اصبح ذلك شيئا معتادا لدى الجميع . فالآن لم يعد أى منهم يشعر بالحاجة الى تأكيد الملاحظة بأنه كان من جهة السكك الحديدية قد شاهد الصنوبرة . ولكن في زمن مضى ، كان مجرد القول بأن احدهم قد تمكن من رؤية شجرة البيت من ذلك المكان ، كان يثير دهشة عظيمة وانفعالا عاطفيا مؤثرا لدى الجميع . وعند العودة من السفر ، والنزول من القطار ورؤية الصنوبرة ، كان تارة يبعث في النفس راحة عظيمة ، وكان تارة اخرى يقبض عليها كقبضة الكماشة .
إن مياغاوا ماكان في وسعه تقدير عمر الشجرة بمجرد النظر الى هيئتها ، ولكن تبدو له بأنه منذ أن كان قد انتقل الى ذلك البيت ، على عمر يناهز الخمسين ، والى حد ست أو سبع سنين خلت ، عندما كان قد أكمل السبعين من عمره ، ظلت الشجرة على حالها . اذا ، لابد أن يكون لها من العمر مالايقل عن مئة وخمسين
سنة .
كذلك شجرة السنديان القائمة في عمق الحديقة التي كانت تشكل نقطة الحدوح مع السكن المجاور ذى الطابقين ، وشجرة الريحان التي كانت تبسط أغصانها حتى وسط الحديقة ، كانتا بالاحرى من الاشجار
المعمرة ، لكنهما بلا شك لاتقارنان بالصنوبرة . كما ولم تكن فوق الهضبة أشجار أخرى تتميز بنفس الضخامة والهيبة . فيا ترى كيف يمكن اذا ، تعليل واقع أن في ذلك المكان لاتوجد فيه سوى صنوبرة واحدة بهذه
العظمة ؟
ولماذا كانت هي الوحيدة من نوعها قد ظلت على قيد الحياة بينما كل الصنوبرات من نفس جيلها قد لقين حتفهن ؟
يجب أن يكون لها أكثر من ضعف سنوات عمرها . ((ومع ذلك ستعيش عمرا مديدا ، أطول بكثير من سنوات عمري )) كان يفكر مياغاوا في تلك الايام الخوالي . حينما كان يستريح تحت أفيائها . فهو منذ صباه ، حينما كان يتجول في الجبال والغابات ، وعندما كان يلتقي بشجرة قديمة ، قد تعود بالسليقة على تقدير سنوات عمرها بمجرد النظر الى هيئتها ، غير أن ذلك ، بدلا من أن يوضح له مدى سرعة زوال حياة الانسان ، كان ينتهي عكس ذلك فيزيد في إضعاف بصيرته ويوهن ادراكه ، فكان يبدو كما لو أن حياته أخذت تنصهر مع حياة تلك الشجرة العجوز التى كانت جذورها غائصة بثبات في الارض ، شجرة قوية لايزعزعها شىء .
وهكذا ، اخذ يدرك بأن الصنوبرة فوق الهضبة كانت تكمن في أعماق نفسه .
على امتداد منحدرات الهضبة لم تكن هناك ممرات أو مسارب تتسلق اليها . لذا ، لم تكن ثمة وسيلة
لبلوغها ، فظلت طوال حياتها دون تشذيب . وبما انه كانت تنقصها تلك العناية التي غالبما تعار لأشجار
الحديقة ، فقد نشأت وترعرعت على نحو طبيعي متوحش . وإذ أن أغصانها لم تكن تبدو بتلك الكثافة
والانتظام ، فإن ذلك لايعود إلا لشيخوختها .
ومع ذلك كانت الإبر تبدو ملتصقة التصاقا جيدا . ومياغاوا ، في ذات يوم ، من النافذة الصغيرة العالية في الحمّام ، كان يتطلع الى الاشجار والغرسات التى دمرها الإعصار . وكانت تلك النافذة هي الوحيدة التي كان يمكنهم من خلالها رؤية الهضاب عندما تكون كل مصاريع البيت الاخرى موصدة بسبب الاعصار . فكان واقفا أمام النافذة ، في الحمام ، ليتيقن من ان الصنوبرة لم تكن متعرضة للخطر . عندئذ كانت رشقات المطر العنيفة ترتطم وتضرب بقوة زجاج النافذة ، راسمة فوقها خطوطا مائلة منحدرة نحو الاسفل . وفي الحديقة الخلفية كانت الأوراق العريضة الخضراء للاشجار تلتف وتدور في دوامة الرياح العاصفة . غير أن إبر الصنوبرة ، يمكن ان يقال ، بأن لاشىء كان قادرا على زعزعتها وسلخها من الاغصان .
أو بالأحرى ، إن كانت منسلخة ، فما كان بالامكان التيقن من ذلك بمجرد النظر من نافذة الحمام ، لكن الشىء الأكيد هو انه لم تكن ترى حتى ولا إبرة واحدة تطير في دوامة رياح الإعصار . فالى جانب ذلك الهيجان العنيف الذي زلزل الاغصان وقلّب أوراق الشجر على طول منحدرات الهضبة ، كان الاهتزاز الطفيف لأغصان الصنوبرة يجعل المرء يرتاب بأن الأمر كان يتعلق بنفس ذلك الإعصار الشديد . ومياغاوا ، من النافذة الصغيرة للحمام ، كان يعانق في داخله الصنوبرة عناقا قويا .
وعلى حين غرة ، تراءى له هطول مطر صامت ، مطر من بتلات ناصعة البياض لأزهار الأقحوان . وفتاة عروس بملابس العرس البيضاء وهي تتقدم في أحد أروقة الفندق ، وكانت تحمل بين يديها باقة ورد الأقحوان . لابد من انها كانت متجهة نحو الصالة التي تقام فيها حفلة الزفاف . كانت تمشي بتبختر مجرجرة أذيال ثوبها الطويلة . ومن أزهار الأقحوان للباقة كانت البتلات البيضاء تنسلخ وتتساقط الواحدة تلو الاخرى فتنتشر حول المكان . ووراء العروس كانت احدى الوصيفات تنحني وراء كل خطوة تخطوها العروس لتلتقط البتلات المتساقطة على السجادة الخضراء. ومن حين لآخر كانت العروس تومىء لها بأن تنهض ، لكن هذه كانت لاتلبث أن تعود في الانحناء ثانية .
كان مياغاوا قد وجد نفسه في ذلك المشهد اثناء دخوله الرواق . وكانت حركات الفتاة المنهمكة بالتقاط البتلات المتناثرة حركات خفيفة صامتة بخفة حركات البتلات السابحة في الهواء . وهنا قد يتبادر الى الذهن السؤال فيما إذا كانت العروس تفطن الى باقة الورد التي بين يديها من انها أخذت تتحلل وتفسد . ولكن كانت العروس تبدو انها غير مكترثة للأمر .
لكن ذلك بالنسبة الى مياغاوا كان يبدو إهمالا وتقصيرا من جانب بائع الزهور الذي صنع باقة العرس من ازهار ذابلة تفقد بتلاتها على هذا النحو ، وفي هذه اللحظة بالذات ، وفيما هو يدقق في ملاحظته حول باقة الورد ، خطف بصره ذلك المشهد لحفلة الزفاف الذي كانت تتناغم فيه الموسيقى والحركات تناغما مسرحيا رائعا .
إن البتلات البيضاء لزهرة الأقحوان التي كان قد رآها تطير بصمت في تلك العاصفة بعد سنوات عدة ، كانت هي نفسها البتلات المفقودة من باقة العروس .
عند مغادرة المحطة ، والدخول في طريق البلدة الرئيسي ، ولمسافة قصيرة كانت الصنوبرة تتوارى عن الانظار ، إذ كانت تحجبها جدران البيوت العالية . لكنها سرعان ماكانت تعود للظهور من ركن حانوت بائع الفواكه . حيث كان الطريق من هناك يستأنف مساره مستقيما دون انعطافات ، وهكذا ، لمدة سبع أو ثماني دقائق ضرورية لبلوغ بيت مياغاوا كانت الشجرة تبقى على نحو ثابت ماثلة للعيان .
كما وكان يمكن رؤية الشجرة ايضا من جهة البحر . فإن ( كايو ) إبنة مياغاوا ، في المرة الاولى التي خرجت فيها في القارب مع خطيبها ، قد روت لأبيها في ما بعد ، بأنها حينما وجدت نفسها في عرض البحر ، كانت الهضبة وراء البيت تبدو من هناك صغيرة جدا . وكان واقع انها قد تمكنت أن ترى وتميز الصنوبرة من ذلك المكان ، قد أثار في نفسها انفعالا قويا حد البكاء من الفرح . إن مياغاوا قد تذكر ذلك اثناء حفلة زواج الإبنة . أما زوجها فلم يكن هو الخطيب نفسه الذي كان معها في القارب ، بل شاب آخر . أما أن يسئلها في ذاك الظرف بالذات ، لماذا كانت رؤية الصنوبرة من البحر قد جعلها تتأثر الى درجة ذرف الدموع ، فقد بدا له شيئا غير مناسب وليس في أوانه ، فأثر أن يترك السؤال جانبا .
لم يكن يتوقع بأن تلك الصنوبرة يمكن أن تموت وهو مايزال على قيد الحياة . وبطبيعة الحال ، انه لم يتصور بأنه في يوم ما سيعيش في ذلك البيت الذي تهيمن عليه الهضبة مع الصنوبرة ، لكنّ شيئا ما كان يحدثه بأن تلك الشجرة ، القائمة هناك منذ أكثر من مئة سنة ، كانت تنتظر مجيئه . وما كان يمكن ان تموت قبل ذلك إذا كان مقررا لها الحياة .
إن مياغاوا ماكان يعرف أن يوضح فيما إذا كانت الشجرة قد أخذت بالإصفرار من القمّة ، أو الوسط أو من تحت . فحاول الاستفسار عن ذلك من أسرته ، ولكن كل واحد منهم كان له رأى خاص بذلك .
بطبيعة الحال ، عندما اكتشف المكان الذي كانت الإبر مصفرة فيه ، لم يكن يتوقع بأن حياة الصنوبرة كانت معرضة للخطر . ولئن مياغاوا لم يكن لديه رجل بستاني آهل للثقة ، فقد كان أحد أصدقائه الذي أعلن له ، قائلا بفتور تام ، بأن الصنوبرة كانت على مشارف الموت . والآن كانت صيرورة التيبس قد انتقلت الى كل أجزائها وعلى نحو متواصل لارجعة فيه . وانها اصبحت موبوءة بالطفيليات تماما . هكذا نطق الرجل بقرار الحكم .
وإذا كانت الإبر قد أخذت بالإصفرار فتلك علامة جلية بأن لاسبيل لإنقاذها .
فما كان على مياغاوا غير الرضوخ للأمر الواقع ، لكنه الآن في كل مرّة تقع تحت بصره ، من البيت أو الحديقة أو شوارع البلدة أو المحطة ، كانت الصنوبرة تعتصر قلبه وتورثه حزنا عميقا .
بعد مضي أشهر عدة ، لم يعد يبقى على الشجرة شىء من الخضار ، ومع ذلك كانت الإبر المصفرة اليابسة لاتزال صامدة وليس لها أية نية في السقوط والإنسلاخ .
لقد حانت اللحظة التي أخذت تلك الشجرة اليابسة تبدو أمام عينيه كنذير شؤم ، وكمرآة تعكس بؤسه
وشقاءه . فلم يعد يرغب في رؤيتها ثانية ، حتى وإن كان يجدها في طريقه دائما ، فاعتزم على اقتلاعها وبأسرع مايمكن ، لا ليزيلها من حياته فحسب ، بل وليقيم لها مراسيم الجنازة .
لكن السنوات كانت تمضي دونما يحدث شىء . في هذه الاثناء أخذت الإبر المصفرة تتساقط شيئا فشيئا . وكذلك الاغصان ، النحيفة والسميكة لم تنج من التحطم والإنسلاخ .
وفي احيان كثيرة ، كان مياغاوا ينسى وجود تلك الشجرة الجرداء . حتى انه نسي تماما بأنه كان يريد
اجتثاثها . أما الآن فقد أصبحت ندف الثلج تكسو اغصانها الجافة ، وتخلع عليها مظهرا جديدا . فكانت تلك الصنوبرة القديمة المتلفعة بالكفن الأبيض تبدو في ذات الوقت أكثر دفئا وأكثر بردا .
ومن ثم ظهر الصقر فوق الصنوبرة . وبطبيعة الحال ، أن الطير كان يستطيع الوقوف في قمتها لأنها نجت من ضربة الفأس .
إن الشىءالذي حال دون اقتلاعها وجنبها الموت ليس انعدام المسارب للوصول اليها فحسب ، بل وكذلك شىء من الحيرة والتردد من جانب مياغاوا . فهو نفسه لم يكن يعرف ما الذي منعه من القيام بذلك .
وهكذا ، بقيت الصنوبرة قائمة فوق الهضبة ، حيث كان الصقر يربض فوقها ساكنا بلا حراك . ومياغاوا ، كان يتأمله حابسا أنفاسه ، فكان يبدو وكأن عظمة الطير قد تسللت في داخله . كما وخيّل اليه أن جبروت البهيمة هذه قد توغل كذلك في جسد تلك الصنوبرة الجافة .
إن ذلك الطير الذي ظهر فجأة ، والذي يبدو الأن جامدا كالتمثال ، بمخالبه الغائصة في خشب الشجرة
اليابس ، مايزال حيا يرزق ، ولكن سيأتي زمن يرحل فيه ، مخلفا وراءه الصنوبرة الجافة . أما هي فلم تعد سوى جذع ميت كان قد حطّ عليها ذات يوم صقر من الصقور .
وحتى الطير ، الآن ، بعد أن كان مياغاوا قد رآه ، سيبقى خالدا في اعماق نفسه . ولكن ما الذي أراد أن يقول له حينما وصل الى هذا المكان ؟ وإذا كان ظهوره آية للبركة والحظ السعيد ، فماهي طبيعة ذلك الحظ ، أهي السعادة التي كانت ستكون من نصيبه ؟ . ألا يمكن أن تكون رؤية الطير وحدها هي السعادة ؟ .
كان مياغاوا قد رأى الصقر قبل سنتين . وفوق قمة الهضبة وراء بيته كانت الصنوبرة العظيمة اليابسة ماتزال منتصبة كشأنها دائما . أما الطير فقد رحل ولم يعد ثانية .أو لعله قد عاد لكن مياغاوا لم يفطن به .
مع ذلك ، لقد أدرك مياغاوا بأن الصقر ايضا كان في داخله . وإذ كان من الصعب بأن يصدقه أحد ما ، في ما لومضى ليروي قصته للآخرين ، بأنه في البلدة ، بل ، فوق الهضبة وراء بيته ، قد جاء صقر من الصقور ، لذا ، قرر في نهاية الأمر بأن لايتفوه بكلمة لأيما أحد .



* ترجمت هذه القصة من كتاب ( الجمال يذوي سريعا وقصص أخرى ) .
 
أعلى