ماجدة بن عميرة - شهرزاد في الرواية الفرنسية والعربية بين رينييه وطه حسين "دراسة موضوعاتية مقارنة"

لا أحد ينكر على كتاب ألف ليلة وليلة مكانته الأدبية بين روائع التراث العالمي، إذ يعد من أهم الكتب الشرقية التي أثارت حولها العديد من التساؤلات والاهتمامات.

ولعل ثراء كتاب الليالي يعود بالدرجة الأولى إلى أنه أحدث ثورة عارمة مسّت العديد من المستويات: السياسية والاجتماعية والفكرية والدينية وحتى الأخلاقية منها. فضلاً على أنه بانوراما فنية تضافرت في صنعها وإخراجها إلى الوجود حضارات وثقافات متنوعة: هندية وفارسية وآخرها عربية. فلخّص بذلك سحر الشرق وعظمة الفكر الإنساني والمخيّلة الشعبية، ودخل الأسطورة من بابها الواسع.

ولعل القارئ اللبيب أيضاً، يدرك لا محالة أن أهم شخصية في الكتاب هي شخصية الراوية "شهرزاد"، وأنها المحور الأساس والقلب النابض لقصص الليالي التي تواترت في سردها وقصها على الملك الثائر "شهريار". فلولا شهرزاد لما كانت الليالي، ولولا الليالي لما سمعنا بشهرزاد، فكوّنا معاً قوة ضاربة وعلامة بارزة على اتحادهما واستدعاء أحدهما للآخر. لقد اقتطعت شهرزاد الإعجاب والتقدير لدرجة التقديس بفعلها البطولي إذ واجهت الرجل والموت معاً، وقدّمت نفسها قرباناً فداء لبنات جنسها، فحافظت بذلك على بقاء الجنس البشري، كما كسّرت المقولة بأن الكتابة والإبداع كانا حكراً على الرجل، فعرفت كيف تستعمل اللغة والحكي في تدجين المتوحش، لتجعل منه إنساناً سوياً.

وهكذا، بدأت الملامح الأسطورية تغزو وجهها، ويصبح اسمها رمزاً للشرق تارة، وللمرأة الخالدة بجمالها وذكائها تارة أخرى، وقد زادتها الأعمال الإبداعية التي استلهمتها أو ميزة منها "صفة الأسطورية". وصارت من أبرز المواضيع المستخدمة في الأدب والفن، فنجدها في أكثر من مجال: الرواية والقصة والمسرح والشعر والرسم والباليه والسينما... كما زاد من غناها وثرائها وانتشارها أن أعطتها ثنائية (الزمان/المكان) صدى واسعاً جعل المبدعين والفنانين على اختلاف اختصاصاتهم الفنية وجنسياتهم وثقافاتهم... يوظفونها في أعمالهم ويحمّلونها رؤاهم وقضاياهم الفكرية والاجتماعية والسياسية، سواء أكان ذلك استنطاقاً للتاريخ أم قراءة للواقع الرّاهن.

بين هنري دو رينييه وطه حسين:

مما لاشك فيه، أن الرؤية التي انبنى عليها توظيف موضوع شهرزاد عند هنري دو رنييه(1) وطه حسين(2)، ارتبطت بكينونة المرأة ووجودِها ـ باعتبارها موضوعاً مشتركاً بين المبدعين ومختلفاً فيه في الوقت ذاته ـ عبر مسيرة تاريخية طويلة، لعبت فيها المرأة دوراً أساساً في تشكيل أول تجمع إنساني عرفته البشرية، هو المجتمع الأميسي (الأمومي)، حيث "أسلم الرجل قياده للمرأة، لا لتفوّقها الجسدي، بل لتقدير أصيل وعميق لخصائصها الإنسانية وقواها الروحية وقدراتها الخالقة، وإيقاع جسدها المتوافق مع إيقاع الطبيعة" (3).

فكانت الأم والحاضنة والمربّية والمنتجِة والحرفيّة والمسؤولة الأولى عن سلامة أبنائها وإطعامهم وحمايتهم، وبالتالي المحافظة على حياتهم، حسب ما يراه البعض. والواقع أن الطبيعة وهبت المرأة قدرات ووظائف أهلّتها إلى القيام بتلك الأدوار، ولا غرابة في ذلك، فالأنثى تقوم بتلك الأدوار في جلّ التّجمعات "الحية" كما هو الشأن في التجمعات الحيوانية التي تؤدّي فيها الأنثى دوراً رئيساً.

ولهذا ظلّت طوال هذه المرحلة من التاريخ رمز الخلود والوجود والخصب والاستمرارية، فلخّصت دورة الطبيعة في ذاتها. وفي المقابل، منحها مركزها الاجتماعي ـ باعتبارها رمز القوة والسلطة في المجتمع ـ صلاحية انتساب الأبناء إليها.

ثم حدث الانقلاب التاريخي الكبير، الذي ارتقى من بعده الرجل عرش السلطة. فقلب الأوضاع، وغيّر الموازين، وسنّ القوانين وفق رؤاه وقناعاته، وبدأ حينها عهد جديد سمته الاضطهاد والتسلّط. لكن المرأة التي صنعت التاريخ والحضارة والأسطورة، لم تتوقّف يوماً عن كفاحها المستمّر والمستميت، وسعت دوماً للبحث لها عن مكان يستوعبه الرجل.

لم تحاول شهرزاد الخروج عن طبيعة المرأة ودورها الرئيسي الذي جبلت عليه. فكانت في البداية، المرأة المضحية والمنقذة والحاضنة لشهريار. ثم لعبت أمامه دور الضحية المنتهكة. وفي الأخير، نجحت في خلق الانسجام والتكامل بينهما. وكأنها عكست السيرورة التاريخية للمرأة عبر المراحل الثلاث التي مرّت بها، وهي: المجتمع الأميسي (شهرزاد) ثم المجتمع الرجولي الأبوي (شهريار)، فالمجتمع المتكامل (شهرزاد + شهريار).

لأجل هذا، اتخذ موضوع شهرزاد لدى الأدباء أبعاداً متعددة لخّصت اهتماماتهم الفلسفية والسياسية والفكرية والاجتماعية... ووظّف هذا الرمز للتعبير عما هو غير مسموح به، لأنه يمسّ المحرّم (السياسة، الأخلاق، السلطة...). كما أنه يعبّر عن الذات والآخر وأحلام كل طرف في محاولة لتغيير هذا العالم الممسوخ الفاقد للقيم والمبادئ، لتخليصه من فوضى الصراعات والطموحات الزائفة، وبعثه عالماً جديداً تدبّ فيه الحياة وتسوده السكينة والهدوء.

سيتّضح من خلال إجراء مقارنة بين توظيف الموضوع في رواية "رينييه" الفرنسية ـ رحلة حب أو تربية على طريقة أهل البندقية ـ (4) ورواية "طه حسين" العربية ـ أحلام شهرزاد (5) جملة من النتائج ارتبط بعضها بالجانب الشكلي وبعضها الآخر بالمضمون. فاتّفقت الروايتان في بعضها واختلفتا في بعضها الآخر.

وإذا تأمّلنا جيداً العملين، ندرك لا محالة أن هناك حضوراً مكثّفاً للجانب الشكلي، يعكس اتفاقاً في بعض عناصره واختلافاً في البعض منها. ولعل أبرزها: الجنس الإبداعي، وعني به الرواية بخصائصها الفنية المختلفة، وبنية العناوين من خلال الأصل وتشكيله بما يتناسب والفرع المنبثق عنه، والعناصر الأسطورية كالشخصيات والرموز والمواضيع.. وسنبدأها بـ:

1 ـ الجنس الإبداعي (الرواية):

انحصر النتاج الأدبي لهنري دو رينييه بين القصيدة الشعرية والرواية، دون غيرهما من أشكال الإبداع الأخرى. وقد لخّص هذان الجنسان تجربته الذاتية ورؤيته الفلسفية تجاه الإنسان والعالم بقراءته للواقع من خلالهما.

في حين كانت نتاج طه حسين أكثر ثراء وتنوعاً، فكتب في القصة والسيرة والرواية والتاريخ... ما عدا القصيدة. وهذا لا يعني أنّه لا يكتب بأسلوب الشاعر، فجلّ أعماله الإبداعية لا تخضع لقانون الكتابة التقريرية، وإن كانت لا تخلو من المباشرة، فهي تخضع مقابل ذلك إلى الكتابة التي تلخّص الأبعاد الإنسانية بكل مستوياتها.

وعليه، يبدو أن الكاتبين يتفقان في كونهما كتبا في أكثر من جنس أدبي، ويختلفان في أن "رينييه" تتّسم كتاباته بنفس شاعري مردّه في ذلك كونه شاعراً قبل أن يكون روائياً. أما "طه حسين" فيطغى على كتاباته الطابع التقريري المباشر، وهذا لا يعني نفي الجانب الفني عن أعماله. لأن النتاج الإبداعي يبقى نتاجاً فنياً إيحائياً بالدرجة الأولى.

ولقد أثّرت الثقافة العربية والإسلامية ثم الغربية في أسلوب طه حسين، فنجده يكتب بأسلوب القدامى "الجاحظ، ابن المقفع، الأصفهاني..." المطّعم بالألفاظ القرآنية، وتخضع بعض جمله إلى خصائص الجمل الفرنسية التي تتميز بالطول مع التقديم والتأخير، وهذه الميزة الأخيرة هي السمة البارزة في أدب "رينييه"، فضلاً على لغته الشعرية الرمزية ذات الإيقاع المتناوب والمنسجم. كما أن جمله يطغى عليها الزمن الماضي الناقص (I'imparfait) المعدّ أساساً للسرد والوصف.

وبالتالي، يمكننا القول إن "طه حسين" يغرف من بحرين (اللغة العربية والفرنسية)، بينما يغرف "رينييه" من بحر واحد هو (اللغة الفرنسية). وعلى الرغم من أن الاختلاف الجذري القائم في استعمال لغتين خاضعتين لأنظمة لغوية متباينة (فرنسية وعربية) إلا أنهما يتفقان من حيث بعض التقنيات الروائية مثل:

1 ـ الحوار:

ـ ويتمثل في الجزء الرابع من الرواية الفرنسية، وجمع بين شهرزاد والسيدة الفرنسية (جرمين).

ـ أما في الرواية العربية، فنجد الحوار بين الشخصيات على مستويين:
ـ الأول: بين شهريار وشهرزاد.
ـ الثاني: بين فاتنة ووالدها طهمان/وفاتنة والوزير.


2 ـ الاستباق (الاستشراف):

ـ في الرواية الفرنسية: وفي الجزء المعنون "السعادة الحقيقية" تتنبّأ العرافة لـ "جرمين" بأبناء من المستقبل وتخبرها بأن أبواب السعادة ستُفتَح أمامها عند سن الأربعين.

ـ في الرواية العربية: نجد شهرزاد تقود شهريار في رحلة زورقية تُريه خلالها صوراً من المستقبل لضحاياه التي قلتهن من قبل، كما أنها لم تكتف بسرد قصص من الماضي، بل إنها تسرد لها قصصاً من المستقبل.

3 ـ الاسترجاع:

ـ عند رينييه: وكان عندما صوّر شهرزاد في البداية ملكة ثم عرّج إلى الحديث عن طفولتها وشبابها، ليُكمل بعدها سير الأحداث...

ـ عند طه حسين: عندما يشير إلى الفترة الأولى من ثورة شهريار على الفتيات وعذابه جرّاء الخيانة.

4 ـ ثنائية (الزمان/المكان):

يتميّز "رينييه" في توظيفه لهذه الثنائية عن "طه حسين" بكونه استخدم أزمنة وأمكنة متعددة ومتفتحة على العديد من الجبهات. فنجد الزمن ينفتح على الزمن الأسطوري (زمن ألف ليلة وليلة)، وزمن القرن الثامن عشر (إشارة إلى سقوط الملكية وقيام الجمهورية، وزمن القرن العشرين: سنة 1930 عندما تزور جرمين صديقتها شهرزاد وتقطع المسافة بين باريس وبغداد على متن الطائرة). أما المكان فنجد بغداد، باريس، البندقية، إسبانيا، الهند... فكان هو الآخر متعدداً. وبالتالي تكون كل من شهرزاد وجرمين صورة عن المرأة في كل مكان وزمان... الخ.

في حين كان الزمن الموظّف عند "طه حسين" منفتحاً على الزمن الأسطوري المتعلق بزمن ألف ليلة وليلة (بالإضافة إلى الزمن في قصة فاتنة الذي يُعدُّ عند الجن بآلاف السنين). أما المكان فهو غير محددة أيضاً، إلا أن طه حسين يريد أن يحصره في مكان واحد هو: حضرموت (اليمن). ويوحي هذا المكان بارتباط شهرزاد عند طه حسين بالعرب، حيث تجري الأحداث في أرض العرب الأصليين، أي عند العرب العاربة.

5 ـ الشخصيات:

تختلف شخصيات "رينيه" عن "طه حسين"، حيث يحمّلها هذا الأخير أفكاره ورؤاه ويجعلها تتحدّث بلسانه، فضلاً عن أنه يقحم نفسه في أعماله الإبداعية. أما الأول، فيجعلها حرّة في اتخاذ أفكارها ورؤاها وأفعالها، ما يجعلها تتحدّث وتتحاور معه، أي أنها تخرج من معطف الخيال والإبداع لتُحاور الأديب على أرض الواقع.

ويقودنا هذا إلى القول بأن حركة الشخصيات عند "طه حسين" محددة ومرتبطة به أساساً، أي أنها تقول ما يقول وتفكّر ما يفكّر، بمعنى (مقيّدة).

أما حركة شخصيات "رينييه" فهي غير محددة وغير مرتبطة به (حرة أي مستقلة بذاتها عنه)، الأمر الذي يجعل شخصيات رينييه حيّة ومقنعة لأنها تنمو من جهة وقابلة للوجود الفعلي ـ بعد الفني ـ من جهة أخرى.

2 ـ بنية العناوين:

لا تخرج العناوين عن إطار النظرية الثنائية في جانبها الشكلي أو حمولتها الدلالية، على اعتبار أنها تعكس القيم الفلسفية التي ينبني عليها العالم (الحياة/الموت)، (الخير/الشر)، (الرجل/المرأة)... الخ. لهذا، لم تتجاوز العناوين هذا العدد (2) الذي يعدّ مكوّناً أساسياً في الحياة والكون والوجود، هذا من جهة.

ومن جهة أخرى، فهي تعكس المرجعية التراثية المستند عليها في الاستلهام (أي كتاب ألف ليلة وليلة)، حيث إن الكاتبين قد تأثرا بهذا المرجع التراثي ووظّفاه في بناء العناوين، خاصة من خلال استحضار وتوظيف شخصية الراوية شهرزاد: (ترمّل شهرزاد عند الأول، وأحلام شهرزاد عند الثاني). كما تعكس العناوين من جهة ثالثة دلالة الموضوع المعبّر عنه، ويمكن أن نوضح ذلك من خلال:

1 ـ الرواية الفرنسية:

1- Le voyage/d'amour ou l’initiation/Vénitienne

(2) (1) (21) (1)

= رحلة/حب أو تربية على طريقة أهل البندقية (ويمكن أن نختصر هذا العنوان في (1) (2)

تلقين/بندقي: وهو يتكون أيضاً من مقطعين).

2 – Le veuvage/de Shéhérazade

(2) (1)

= ترمّل/ شهرزاد

(1) (2)

3 – Le vrai/bonheur

(1) (2)

= السعادة/الحقيقة

(2) (1)

4 – Entre/ elles

(2) (1)

= حوار/بينهما

(1) (2)

2 ـ الرواية العربية:

أحلام/شهرزاد

(1) (2)

وكذلك من خلال الجدول التالي:

العنوان

عدد المقاطع

الدلالة

رحلة حب أو تلقين بندقي

02

(الرحلة/الحب)

ترمّل شهرزاد

02

(الحياة/الموت) (المرأة/الرجل)

السعادة الحقيقية

02

(الرحلة/الحب) (المرأة/الرجل)

حوار بينهما

02
(الشرق/الغرب) (المرأة/المرأة)
أحلام شهرزاد
02
(الرحلة/الحب) (المرأة/الرجل)


ما يمكن أن نلاحظه من الجدول هو أن كل عنوان يعبّر ويلخّص مضمون القصة التي يتصدرها. كما أن هنالك حضوراً للثنائيتين: (الرحلة/الحب) و(المرأة/الرجل)، يجمع بين الروايتين باعتبارهما الثوابت التي يتفقان فيها من جهة، وفي توظيف شخصية شهرزاد من جهة أخرى، فضلاً عن عدد المقاطع التي يتكون منها كل عنوان ولا يتجاوز العدد (02).

كما تشترك الروايتان أيضاً في دلالة العنوان. فبالنسبة إلى العنوان الأول "رحلة حب أو..." الذي أسمى الكل بالجزء ـ بحكم الأسبقية ـ تدل كلمة "رحلة" على الانتقال والسفر من مكان لآخر غير محددين. وهو المدلول ذاته الذي تدل عليه كلمة "أحلام" العنوان الثاني للرواية، حيث يخترق الشخص الحالم الآفاق والأقطار والزمان والمكان، وبالتالي، هي رحلة مفتوحة بين العوالم المجهولة.

ومن جهة أخرى، نلاحظ أن ثنائية (الشرق/الغرب) و(المرأة/المرأة) من المتغيرات التي تفرّق بين العملين، لتتطرق الرواية الفرنسية إلى مواضيع لم تتطرق إليها الرواية العربية. أضف إلى ذلك خصوصية التوظيف ـ في حد ذاته ـ المتباين بينهما، والذي يخضع إلى طريقة رسمها التي تختلف من أديب لآخر، انطلاقاً من عدة عوامل أهمها المرجعية الثقافية والفكرية والاجتماعية.

ما يمكن أن نستنتجه من خلال هذه العناوين ـ خاصة عند رينييه ـ أنها تعكس تنامياً في الموضوع. حيث تدرج الكاتب في رصد علاقة المرأة بالرجل التي تكررت (ثلاث مرات): من البسيط (الجزء 1: علاقة الكونت الأب بزوجته أنهت كل مغامراته السابقة حتى بعد وفاتها لم يحاول خيانتها. ثم علاقة الابن الذي لم يضعف أمام إغراءات نساء البندقية، وبقي وفياً لحبه) إلى المركب المتعدد (الجزء 2: علاقة شهرزاد وشهريار، ثم علاقتها مع الشاب الملثم بعد موت زوجها). (الجزء ف 3: علاقة جرمين وزوجها، ثم علاقتها بجون بعد موت زوجها). فالشّاذ (الجزء 4: علاقة شهرزاد وجرمين).

وخلال كل هذا، ركّز رينييه بقوة على ثنائية (الرحلة/الحب) التي تكررت (مرتين)، وبالتالي، يؤكد هذا التكرار على أهمية العلاقة وسيرها على النسق الطبيعي العادي. وقد يعود عدم تكرار الثنائية (الشرق/الغرب) و(المرأة/المرأة) في الرواية ـ وعدم ورودها في الرواية العربية ـ إلى أن إمكانية التقارب بين الشرق والغرب مستحيلة الحدوث، وإن كان ذلك فكرة مطروحة على أرض الواقع. فالشرق شرق والغرب غرب، واتجاه كل واحد منهما (اتجاه جغرافي) يوحي بعدم الالتقاء والتقاطع.

أما في ما يخص الثنائية الثانية، فعدم تكرارها ناتج عن تجاوزها المسار الطبيعي. وإن لمسنا بعض الاستحسان المبدئي عند أنصار الشّاذين وغيرهم، إلا أن الرأي العام يرفض هذه الفكرة إجمالاً.

أما عند طه حسين، فنلمح الحضور البارز للثنائيتين (المرأة/الرجل) و(الرحلة/الحب) اللتين يتقاطع فيهما مع الرواية الفرنسية من حيث الموضوع والمضمون من جهة، ومن جهة أخرى يعكس إيمانه المطلق بهذه العلاقة (الثنائية الأولى) التي توطّدت بفعل تأثير الرحلة التي قام بها إلى فرنسا.

3 ـ العناصر الأسطورية:

نقصد بالعناصر الأسطورية، تجلّي الشخصيات والرموز والمواضيع الموظّفة في الروايتين، وتطويعها بعد ذلك كي تلقي بظلالها الدلالية على النص، وتعكس خصوصية الرؤية الفكرية والجمالية التي انطلق منها كل كاتب وهي:

1 ـ الشخصيات: نجد في الروايتين نمطين من الشخصيات الأولى: أسطورية (شهرزاد، شهريار)، والثانية: مبتدعة ومبتكرة (جرمين، فاتنة). أي يمكننا القول إننا إزاء نوعين من الشخصيات الأسطورية (قديمة ومستحدثة "جديدة").

أ ـ الشخصيات الأسطورية: (شهرزاد، شهريار):

اتفق الكاتبان في رصد الملامح الشكلية والجوهرية لبطلي الليالي، فشهريار عندهما ملك ثائر يعاني أزمة ما، ويمارس فعل القتل العمدي اليومي من غير وجه حق. في حين رسما شهرزاد ملكة تتوفر فيها جميع خصائص المرأة المرغوب فيها: جميلة ومثقفة (نسج القصص) ومضحية (إيقاف مسلسل القتل)، فضلاً عن حضورها القوي والبارز في الروايتين. ومردّ هذا الاتفاق هو الانطلاق من مرجعية تراثية واحدة هي كتاب ألف ليلة وليلة، والمرجعية التي تنبني عليها رؤية كل واحد منهما في رصد ملامح المرأة ـ النموذج (المثال): الجمال، الذكاء... ثم المرجعية الثقافية وهي مرتبطة بخصوصية المرأة في حد ذاتها (الجانب البيولوجي، الجانب النفسي، الجانب الفكري لديها؛ خاصة سعة الخيال والابتكار والتأليف والتضخيم).

ومع ذلك فالاختلاف واضح بينهما ويتضح من خلال المواصفات والأفعال التي تقوم بها الشخصيتان.

فشهريار "رينييه"، كان يقتل لا لأجل الخيانة، وإنما لأن قصص القاصات لم تكن تعجبه، كما أن مجيئهن كان بمحض إرادتهن. وبالتالي فالموت كان رغبة ملحة لديهم لاستحقاقه. كما كان ملكاً مستهتراً، تقوم سياسته على التسلّط والعنف والاضطهاد، لهذا فهو يُقتل عند الليلة الواحدة بعد الألف.

أما شهريار "طه حسين" فهو يعاني من جديد الأرق والملل، منذ الليلة الواحدة بعد الألف عندما توقفت شهرزاد عن الحكي. ومن هنا، كان لزاماً عليها معالجته من جديد بطريقة تختلف نوعاً ما عن الأولى، لأنها اعتمدت هذه المرة على:

ـ القص ليلاً (وهي نائمة): حكاية فاتنة ملكة الجن.

ـ الرحلة نهاراً: في الزورق في رحلة خيالية.

وقد نجحت شهرزاد في تغييره في الأخير، وهذا الفعل هو الذي اختلفت فيه مع شهرزاد "رينييه"، التي كانت في الأصل امرأة بسيطة من أبناء العامة (ابنة اسكافي) جاءت إلى الملك شهريار بحثاً عن المجد والثروة لتخرج ـ من خلاله ـ من دائرة الفقر والحاجة التي لازمتها طويلاً.

وقد أصبحت ملكة بعد موته، وصارت تقوم بالأفعال ذاتها التي كان يقوم بها: توقفت عن القص، وتبحث عن بديل يعوضها عنه، لكنها ألزمت من يقوم بهذه العملية بشرط "العقاب" إن لم يفلح في ذلك.

كما أضاف لها "رنييه" صفة "الخلود" و"الشذوذ"، إذ جعلها تقفز على الزمن الأسطوري لألف ليلة وليلة، وتصل إلى القرن العشرين وتدخل في علاقة شاذة مع امرأة فرنسية "جرمين" تعويضاً عن فشلهما في الحب.

ويعود الاختلاف في رسم هذه الشخصيات بين الأديبين إلى مجموعة من العوامل هي:

1 ـ المنطلق الأساسي: كان اعتماد "رينييه" على نسخة "جالان" الفرنسية التي حوّر فيها وأضاف وأنقص، لدرجة أنها تختلف بعض الشيء عن باقي النسخ العربية (أي أنه أخضعها للذوق الفرنسي).

2 ـ خصوصية المجتمع الشرقي والغربي: يختلف المجتمع الشرقي عن الغربي من حيث البنية الاجتماعية والسياسية والفكرية والدينية، ...لهذا، فمفهوم "المرأة" في المجتمعين يختلف باختلاف تلك البنى.

3 ـ الفكرة الفلسفية التي يتبناها كل أديب: ويظهر ذلك من خلال أفعال وتصرفات الشخصيات، شخصيات "رينييه" متنامية تتطور وتتدرج مع ما يصادفها، كما أنها حرة في القيام بأفعال قد لا تتناسب والذوق العام، إلا أن ذلك وارد، لأنه ينطلق من قناعاتها الشخصية، أي أن الكاتب جعلها تحدد مصيرها: هي حرة لأنها موجودة (اتجاه فكري وجودي ينبني عليه فكر "رينييه").

أما شخصيات "طه حسين"، فهي نمطية ومتنامية في بعض جوانبها، تخضع للمصير الذي يحدده لها الكاتب، أي أنها شخصيات قدرية مجبرة على تقمّص دور الوعاء الفكري للمبدع الذي أوجدها (اتجاه عقلي منطقي متشكك ينبني عليه "فكر طه حسين".

4 ـ الاحتكاك بين الشرق والغرب: لا يكون هناك احتكاك أو تقارب ما لم يكن هنالك اختلاف واضح وبيّن، إذ يمثل الشرق (القطب + = الجانب الروحي، الخيالي، الأسطوري،...) ويمثل الغرب (القطب ـ = الجانب المادي، الاستهلاكي،...). ومن هنا كانت فكرة المزاوجة والتقارب حلم الكاتب في حدوثها على أرض الواقع بعدما جسّدها في الرواية. كما كانت فكرة مطروحة من قبل، من طرف مفكرين وأدباء الشرق والغرب.

ويمكن تلخيص كل ما سبق في الجدول التالي:

شهرزاد

الثابت

المتغيّر

الهدف

النتيجة

ألف ليلة وليلة

ابنة وزير ـ مثقفة، جميلة، قاصة، مضحّية، الذكاء

ـــــ

ـ إنقاذ شهريار من عنفه.

ـ إنقاذ بنات المسلمين

إيجابية "بطلة أسطورية"

هنري دو رينييه

ـ مثقفة، جميلة، قاصة مضحية، الذكاء

ابنة اسكافي، تعيش في بغداد، تترمّل، تتوقف عن القص، ثم تدخل في علاقات شاذة، لها صنو "جرمين"

ـ البحث عن الثروة والمجد؛ التعبير عن وضع المرأة الشرقية ـ بعد اجتماعي ـ

سليبة "امرأة عادية"

طه حسين

ابنة وزير، مثقفة، جميلة، قاصة، مضحيّة، الذكاء

ـ تروي قصصاً من المستقبل، تروي وهي نائمة، تعالج شهريار من جديد، لها صنو "فاتنة"

ـ إنقاذ شهريار من عقدته الجديدة "ضميره" ـ بعد سياسي ـ

إيجابية "بطلة أسطورية".

ما يمكن ملاحظته من خلال الجدول هو أن هناك ثوابت تعالقت فيها الروايتان مع نص ألف ليلة وليلة من خلال بعض الصفات التكوينية في البنية النفسية والشكلية لشخصية شهرزاد: الجمال، الذكاء، الثقافة... كما أنّه توجد متغيّرات متباينة بينهما وبين نص الليالي، وتعود بالدرجة الأولى إلى خصوصية الأدب في التوظيف والهدف من خلال التحوير والتغيير والزيادة والنقصان التي أضفاها كل أديب على هذه الشخصية. فكان تركيز رينييه في رسمه لها يقوم على تصوير الجسد وإلغاء مفعول العقل لأنها تتوقف عنده عن السرد والقص، كما توقف شهرزاد غوتييه عنه كذلك. والتجأت إليه كي يمدّها من معين خياله وإلهامه. وكأنّ المرأة في المنظور الغربي لا تخرج عن هذه الصورة: "المرأة جسد جميل"، لهذا لا تخلو متاحف أوربا ومدنها وشوارعها من صور وتماثيل تجسّد مفاتنها. أما طه حسين، فظهرت شهرزاده في ثلاثة مستويات: صوت، فكر، جسد. لأنه يؤمن أن المرأة هي المدرسة الأولى في الحياة. وقد لمس ذلك في شخص زوجته سوزان. فكان صوتها هو الذي فتّق لديه الفكر وجعله يكتشف روائع الأدب الإغريقي والفرنسي.

لذا، حافظ طه حسين على صورة شهرزاد ـ الأسطورة التي عُرفت بها في نص الليالي، كما سعى أن يعيد إلى وجهها بريقه الأول الذي علاه غبار التّحوير والتّغيير (القناع) الذي نثره عليها أدباء الغرب. مع أن "رينييه" لم يحافظ على تلك الصورة بأن جعلها امرأة عادية تمارس الشّذوذ، لأن هدفه من وراء ذلك هو التّعبير عن الواقع الموجود، الذي يرفضه الشرق جملة وتفصيلاً. ويغضّ الغرب عنه الطرف بعض الشيء، لوجود بعض بذور الحرية والتّحرر في المجتمع الغربي.

كما أنه يؤكّد على أن فكرة الشذوذ، ليست حكراً على مجتمع معين، وإنّما وليدة مجتمعات عديدة وحضارات متعاقبة، عرفها الغرب كما عرفها الشرق، فضلاً عن أنه ليس الأديب الوحيد من أشار إلى هذه الظاهرة، فقد كانت موجودة على صفحات كتب أدبية خالدة: أشعار (صافو)، مسخ الكائنات (لأوفيد)، ألف ليلة وليلة، الديكاميرون (لبوكاتشيو) وغيرها من الأعمال الأخرى...

ب ـ الشخصيات الأسطورية الجديدة (المبتكرة):

استطاع الأديبان أن يوظفا إلى جانب الشخصيتين الأسطوريتين (شهرزاد، شهريار) شخصيتين مبتكرتين جديدتين (جرمين، فاتنة) توازيان في ثقلهما الرمزي والدلالي شهرزاد لكل واحد منهما.

فجعل "رينييه" السيدة الفرنسية "جرمين" الوجه الآخر لشهرزاده، تقوم بأعمال بطولية خارقة "الرحلة" من باريس إلى بغداد لرؤية أشهر أميرات الشرق على الإطلاق، فضلاً عن أنها تتوفر فيها خصائص المرأة ـ النموذج، فهي مثقفة وجميلة وثرية ومن طبقة راقية.. وقد عبّر بها الكاتب عن أوضاع المرأة الغربية في طموحها وتحررها وانفتاحها على كل ما هو جديد ومختلف ومغاير للمألوف.

وكذلك الشأن مع "فاتنة" طه حسين، الذي جعلها صدى لشهرزاده، لدرجة أن شهريار في الرواية لم يستطع أن يميّز بينهما. فهي ملكة وجميلة ومثقفة... بالإضافة إلى أنها تمتلك بعض صفات الآلهة: الخلود والإتيان بالخوارق (قهر الأعداء، حماية الرعية من الخطر المحدق بها...).

وقد عبّر بها طه حسين عن "الأرض" المعرضة للسلب والانتهاك والاستيلاء، في المقابل كانت شهرزاد الأسطورية ترمز إلى ضمير شهريار الحي وصوت الحقيقة والعدالة في داخله. فهي تنصحه وتوّجهه وتبصّره بواجبه، وتسعى إلى أن يكون حاكماً عادلاً ومسؤولاً في رعيته.

ومن هنا، اتّفق الكاتبان في جعل هاتين الشخصيتين الرمزيتين موازيتين لشهرزاد، لتقاسماها البطولة والتميز من جهة، وتعبّرا من جهة أخرى عن رؤية الكاتبين الفكرية والاجتماعية التي بدأاها مع شهرزاد الليالي.

2 ـ الرموز: ويمكن حصرها في ثلاثة رموز يربط بينها التوافق والانسجام والتكامل هي: المدينة، الدين، الماء.

تشكّل المدينة المكوّن الحضاري الذي يرمز إلى الاستقرار والرقي والرفاهية (إحياء التاريخ). أما الدين، فيمثّل المكوّن الروحي الذي يلعب دور المخلّص من الآثام والمجدد للإيمان والاعتقاد (إحياء الروح). في حين يعمل الماء باعتباره مكوناً حيوياً على بعث الحياة والتجدد والاستمرارية (إحياء الجسد).

وقد تجلّت تصالبات الروايتين في الرمزين الأول والثاني، حيث وظّف "رينييه" و"طه حسين" المدينة بكل ثقلها التاريخي الذي يحيل إلى وجودها على أرض الواقع من جهة، واعتبارها المسرح الذي تجري على ركحه الأحداث من جهة أخرى.

وقد رسم الأول مدينة "البندقية" تحفة الفن المعماري الراقي مثقلة بعبق التاريخ والحضارة اللذين يعكسان ذوق الأرستقراطية الغربية المتشبعة بالحب والجمال. وقد زادتها هندستها المائية سحراً وتفرّداً، مما جعلها مدينة أسطورية أثيرية.

أما "باريس"، فهي الأخرى امتداد لهذه المدينة التي تتقاطع معها في هندستها الغربية الراقية، فضلاً عن أنها رمز التطور والتحرر الفكري والاجتماعي. لهذا انعكس تأثير هاتين المدينتين على الشخصيات في تصرّفها وأفعالها... (شخص الكونت الشاب، الكونتيسة، جرمين..).

في حين كان للشرق (الهند، بغداد،...) في كتابات أدباء الغرب حضور بارز صوّر بطريقة فريدة، مما جعله رمز الجمال والحضارة والروحانية والتاريخ.... فلا ريب أنه بلد ألف ليلة وليلة الذي يلخّص كل هذا التوّق إلى ذلك المكان، كما أن تأثيره كان واضحاً في نفسية جرمين، والكاتب في حدّ ذاته.

ولم يخرج "طه حسين" عن هذا الاتجاه، فكانت مدينة "حضرموت" باليمن يفوح منها التاريخ والحضارة والروحانية أيضاً. فقد كان للمكان حظوة دينية، شهدت قصة النبي سليمان u مع بلقيس ملكة سبأ. ومن هنا، كان التّفرد، لأن عنصر "الجن" كان حاضراً في القصة والأحداث. لهذا، لم يبتعد طه حسين عن هذا "العنصر المهيمن" وجعله ركيزة أساسية لقصة فاتنة التي موضوعها الجن كذلك.

وما يمكن أن نسجّله على توظيف المدينة عند المبدعين هو أنهما اشتركا في ثوابت معينة هي: عراقة المكان وقدسيته الدينية والتاريخية (عند الأول: البندقية مرتبطة بإلهة الحب والجمال فينوس/عند الثاني: حضرموت مرتبطة بالنبي سليمان u وبلقيس) وهندسته المعمارية. كما شكّل الماء فيهما إكسير الحياة، الذي يعمل على تجديدهما المستمر. فضلاً عن تأثيره على الشخصيات فكان يتحكّم في أفعالها وتصرفاتها أيضاً.

أما الدين الموظّف في الروايتين، فكان وسيلة فنية استخدمها كل أديب. فأخمدا شعلة المقدّس، وتحوّل هذا الأخير إلى عنصر جمالي (مدنّس) مفرغ من الجانب الروحي، عدا دخوله كمكّون أساسي في بناء بعض أحداث الرواية.

وظّف "رينييه" بعض موتيفات "قصة يوسف وزوجته بوطيفار" من النص التوراتي: (الإغراء، الإثارة، الرغبة، الرفض، ...)، وبنى على نسقها الجزء الأول من الرواية: قصة الكونت الشاب الذي تعرّض لمحاولات إغراء، ...الكونتيسة له. ولكنه رفض هذه المحاولات لهدف أساسي هو "الإخلاص" و"الوفاء". فعند يوسف ـ u ـ كان هذا الهدف هو الذي منعه من ارتكاب الخطيئة (الوفاء والإخلاص إلى تعاليم الرب والمبادئ والأخلاق).

في حين، كان الكونت وفياً ومخلصاً للحب. إذن يمكننا القول إن غرضهما واحد، ولكن دافعهما يختلف باختلاف الموقف والمنطلق.

أما "طه حسين"، فاعتماده على العناصر الدينية في الرواية، كان متنوعاً: أحداث السيرة النبوية، آيات قرآنية، وبعض موتيفات قصة سليمان مع بلقيس. وتوظيفه لهذه الرموز كان لأجل بناء الأحداث، بتضخيمها لإعطائها بعداً أسطورياً (6)، أي يتقاطع مع "رينييه" في البعد الجمالي لهذه الرموز.

ومع أن "طه حسين" قد لاقى انتقاداً لاذعاً، لدرجة أنه شكّك في معتقده، لأنه جعل من فاتنة إلهاً بيده مفاتيح الغيب وقدر الآخرين ومصيرهم. وتمرّد هذه الشخصية الأسطورية المبتكرة على الدين (الإله) حيناً، وظهورها حيناً آخر في صورة المؤمن بالله، تجعلنا نقول عنها إنها بروميثيوس طه حسين، فهي تخضع للإله حيناً، وتتمرّد عليه حيناً آخر، لأجل إعطاء رعيّتها بعض الطمأنينة والأمان، وهو الفعل الذي قام به بروميثيوس عندما سرق جذوة النار من الآلهة وأعطاها للبشر.

ومن هذا، تقاطع "رينييه" و"طه حسين" في توظيف الدين في الروايتين بعد إفراغه من الجانب القداسي (عملية التّدنيس)، بغرض إضفاء بعد جمالي يسهم في بناء النصين وإحكام نسيجهما العام.

3 ـ المواضيع: يمكن حصرها أيضاً في ثلاثة مواضيع أساسية تشكّل حلقة دائرية مغلقة هي الحب، الموت، الرحلة. حيث يمثّل الحب القاسم المشترك بين الموضوع الثاني والثالث، كما يتّضح ذلك من خلال المخطط التالي:

http://www.startimes.com/icon.aspx?m=blank

فالحب هو جوهر الإنسان ورحلة البحث عن الطرف الآخر، حيث يتعايش الطرفان في عالم مثالي تسوده ثقافة التسامح والتضحية والتعاطف، وتحذف من قاموسه مفردات الحقد والانتقام...

أما الموت، فهو يعكس موقفاً فلسفياً في الحياة، كما أنه رحلة إلى العالم الآخر، وقدر يصيب الآخرين. دون أن يشمل دائرة الأنا.

في حين تمثّل الرحلة، السفر والانتقال من مكان إلى آخر، باختراق ثنائية (الزمان/المكان) أو من عالم إلى عالم آخر مغاير (الأحلام، الموت...).

ويمكن حصر هذه المواضيع في ثنائيتين هما: (الحب/الموت) و(الحب/الرحلة) اللتين تشكّلان بدورهما الثوابت المشتكرة بين نص الليالي والروايتين. ويتّضح ذلك من خلال الجدول التالي:

المواضيع

الحب

الموت

دلالته

الرحلة

هدفها

ألف ليلة وليلة

ـ شهريار، زوجته (1)

ـ شهريار، الفتيات

ـ شهريار، شهرزاد

قتل زوجته (1)

ـ قتل الفتيات

ـ قتل الشر

الانتقام

ـ عبر الأجساد

ـ عبر الطبيعة

ـ عبر الكتب

ـ الانتقام

ـ الاطلاع

ـ المعرفة

الاتعاظ

رحلة حب أو تربية على...

ـ شهريار، شهرزاد

ـ جرمين، الزوج

ـ شهرزاد، الفارس

ـ جرمين، جون

ـ موت شهريار

ـ موت الزوج

ـ موت العلاقة

التحرّر

ـ إلى الشرق (الهند، بغداد، ...)

ـ إلى إيطاليا

ـ الحب

ـ تعلم تقنيات ممارسة الحب

أحلام شهرزاد

ـ شهريار، الفتيات

ـ شهريار، شهرزاد

ـ موت الفتيات

الانتقام

ـ عبر الأحلام

ـ عبر الطبيعة

ـ عبر الرحلة الزورقية

ـ الحب

ـ العلاج/التوجيه

ما يمكن أن نستنتجه من خلال هذا الجدول، أن الحب والموت والرحلة هي مواضيع مشتركة بين نص الليالي والروايتين من جهة، وبين الروايتين في حدّ ذاتهما من جهة أخرى. والملاحظ أيضاً، أن تيمة الحب غالباً ما تكون مقترنة بالموت (7)، فشهريار يمارس فعل الموت بعد ممارسة طقوس الحب، أي بعد امتلاك الجسد يسعى إلى امتلاك الروح، ولا يتّم لـه ذلك إلا بالقتل انتقاماً لكرامته.

وكذلك الشأن مع "رينييه" إذ يتلازم الحب والموت معاً، وكأنهما وجهان لعملة واحدة، كما نلاحظ ذلك على الثنائيات التالية:

1 ـ (شهريار، شهرزاد)، (الزوج، جرمين) ـ ـ موت بعد علاقة حب.

2 ـ (الفارس، شهرزاد)، (جون، جرمين) ـ ـ موت صوري للشابين بعد علاقة حب كذلك.

ويركّز "رينييه" من خلال هذا الموت على فكرة التحرر. فشهرزاد وجرمين قد تحرّرتا من زوجيهما ـ بعد موتهما ـ لتدخلا في علاقة حب جديدة، سرعان ما تموت هذه العلاقة برحيلهما. وكان هذا تحرراً أيضاً، لأنه سمح لهما في الأخير بإقامة علاقة شاذة تجمعهما معاً.

ويتفّق نص "طه حسين" مع نص الليالي والنص الفرنسي، في تلازم طرفي الثنائية (الحب/الموت)، حيث يسعى شهريار إلى الانتقام بعد فعل "الخيانة" من زوجته الأولى، فكان الموت هو الخلاص الوحيد له من عذاباته.

كما تقترن تيمة الحب أيضاً بـ "الرحلة"، فنجد شهريار الليالي يدخل في علاقة حب مع شهرزاد بعد رحلة القص والسرد وعوالمهما العجيبة بدافع المعرفة والاطلاع.

أما مع "رينييه"، فنلاحظ نشوء علاقة شاذة بين شهرزاد وجرمين بعد رحلة هذه الأخيرة من باريس إلى بغداد عن الحب. وقبلها كانت رحلة الكونت الشاب إلى البندقية بهدف تعلّم تقنيات ممارسة الحب.

في حين مع "طه حسين"، كانت علاقة الحب التي جمعت بين شهريار وشهرزاد قد قويت بعد رحلة القص في الليل والرحلة عبر مياه البحيرة وحدائق القصر في النهار بهدف النصح والتوجيه والعلاج.

كما يبرز الاختلاف في توظيف هذه المواضيع عند الروائيين، وذلك من خلال:

ـ دلالة الموت: فهي عند رينييه دافعها التحرر، أما عند طه حسين، فالدافع إليها الانتقام، وبالتالي، يتفق النص الحسيني مع نص ألف ليلة وليلة في هذا الواقع.

ـ هدف الرحلة: كان الدافع إليها عند رينييه الحب وتعلم تقنياته. أما عند طه حسين، فكان لأجل العلاج والنصح والتوجيه.

وإذا كان للجانب الشكلي دور كبير في نشوء علاقة حميمية بين النص الفرنسي والنص العربي، اتضحت من خلال كل ماسبق. فإنه إلى جانب ذلك يبرز دور المضمون ببنيته العميقة التي توحّد الروايتين في بعض جوانبها وتفرّق بينهما في بعضها الآخر.

ولعل ذلك يعود بالدرجة الأولى إلى المنطلق الذي يتفق فيه الأديبان وهو نص الليالي، بالإضافة إلى وجود علاقة غير مرئية تربط العملين أحدهما مع الآخر، وتكمن في تأثير "رينييه" في "طه حسين" الذي جعله يتلفت إلى هذا الرمز الأسطوري (8).

وقد استطاع "رينييه" و"طه حسين" أن يسيرا على هذا النسق، ويجعلا من شخصية "شهرزاد" لسان حال قضاياهما المطروقة، ويعالجا من خلالها قضية المرأة والصراع السياسي الطبقي بكل مستوياته.

ركّز الكاتبان على "المرأة" باعتبارها العمود الفقري في الروايتين، وقد صوّر كل واحد منهما ووفق رؤيته الشخصية موقعها في المجتمع الرجولي. فتمايزا في طرحهما لهذه القضية انطلاقاً من عوامل معينة:

ـ ينتمي "رينييه" من الناحية الاجتماعية إلى الطبقة الأرستقراطية الراقية التي تحيا حياة الترف والبذخ والقصور... وانطلاقاً من هذا التموقع الاجتماعي انحصرت أعماله الإبداعية في نساء طبقته، فأدانهن لتخفيهن خلف قناع الشرف والأخلاق والتقاليد الراقية... الخ). مع أن الأخلاق والمبادئ بعيدة كل البعد عنهن، ويمكن أن توجد في نساء الطبقات الدنيا، كما أشار إلى ذلك في الجزء الأول من الرواية.

بينما ينتمي "طه حسين" إلى الطبقة الفقيرة من المجتمع، وغالباً ما عبّر عن قضاياه وانشغالاتها (الثأر الشرف، المرأة،...)، ومع ذلك وقف إلى جانب المرأة وحاول تفهم أسبابها ودوافعها في تفسير أفعالها وتصرفاتها. أما في هذه الرواية، فقد رصد تصرفات شهرزاد مع شهريار وصوّر علاقة الحب بينهما، انطلاقاً من قالب "الحب الغربي" الذي تأثر به وأضفاه على المجتمع الشرقي الذي يحيا فيه.

ومن هنا، تطفح إلى السطح الثنائية الأولى المتمثلة في:

1 ـ ثنائية (الثائرة/المتمردة):

لا تكون المرأة متمردة إلا إذا كانت قبل ذلك ثائرة. وثورتها تقوم أساساً على هضم حقوقها المشروعة المتفق عليها. فتثور انطلاقاً من افتقادها لهذه الأساسيات وترفض كل أنواع الاضطهاد والتملك (من باب الضعف). فيكون سعي الثورة إلى تغيير الأوضاع التي خرجت على نسقها العام هو سبيلها الوحيد.

لذا، اهتم "هنري دو رينييه" برصد ملامح المرأة ـ الثائرة المتمرّدة ـ في شخص شهرزاد وجرمين ـ والأسباب التي جعلتها تتمرد على العادات والتقاليد والمجتمع.. وحتى الرجل الذي أوجد كل هذه القيود التي تكبلها. ولعل هذه الثورة المعلنة التي تلعب فيها شهرزدا وجرمين دور البطولة، تعود إلى جملة من المسببات أهمها:

1 ـ الدينية: حاولت الأديان (اليهودية والمسيحية) أن تلصق بالمرأة جميع التهم التاريخية (الخطيئة، النجاسة، الخيانة...)، كما أنها سبب آلام الرجل وعذاباته، بدءاً من قصة الخروج من جنة عدن.

2 ـ التاريخية: ظلت المرأة في قيود العبودية والاضطهاد عدة قرون، بعد الانقلاب التاريخي الذي أحدثه الرجل عليها. وأضحت لا تملك حق تقرير مصيرها، كما أنها تعاني التبعية والوصاية منذ ميلادها إلى يوم وفاتها.

3 ـ الاجتماعية: تحتل المرأة في المجتمع مرتبة دنيا مقارنة مع بقية أفراد المجتمع، لدرجة أنها تُحرم من حق المطالبة بتعليمها أو إبداء رأيها في اختيار الزوج... الخ.

4 ـ الفيزيولوجية: تختلف فيزيولوجيا المرأة عن الرجل، مما أدى إلى الاختلاف في القدرات الجسمية والعقلية والنفسية... فتولّد لدى الرجل حب التملك والسيطرة لامتلاكه لهذه المؤهلات الطبيعية.

"وأخيراً، يبدو أنه لكي تعامل المرأة كإنسان لـه قيمته الذاتية بسبب قدرته على العطاء والإنتاج والإبداع، وليس كونه ملحقاً بالرجل، فإن عليها أن تدرك حقيقة أساسية وهي أن عليها أن تتخطى الكتل الضخمة من التقاليد والعادات السائدة منذ قرون. ونجاحها يستدعي تغييراً جذرياً في بنيتها النفسية وكذلك في بنية الرجل النفسية. ويجب أن تدرك أن العادات والتقاليد كممارسات مكتسبة تخضع لظروف اقتصادية واجتماعي وبيئية لا تحمل أي نوع من القدسية على الإطلاق، وأن تطور نظام الحياة وتقدم الوسائل وارتقاء المنجزات تستدعي ارتقاء وتطوراً في كيفية التفكير الإنساني" (9).

وقد حاول "رينييه" أن يشير إلى كل ذلك في الرواية من خلال شهرزاد وجرمين. إذ عانت الأولى منذ طفولتها الفقر والحاجة مما جعلها تطمح إلى تغيير أوضاعها بكل الطرق والوسائل المشروعة منها وغير المشروعة. ثم كان زواجها من شهريار، لكنها لم تسعد كثيراً، لأنها تترمل فجأة وتبدأ معاناتها مع الملل والحزن، ثم فشل علاقة الحب الجديدة التي انتهت بالخيانة والهجر.

أما جرمين، فقد مرّت على الدرب نفسه، عانت من ألم الوحدة بعد الترمل ثم ألم الفشل في الحب الذي انتهى بالهجر والاستغلال.

ما يمكن أن نستنتجه من خلال كل ما سبق، هو أن "رينييه" أراد أن يرصد بصورة عامة وضع المرأة الشرقية من خلال شهرزاد ووضع المرأة الغربية من خلال جرمين، ليصل إلى نتيجة مفادها أن مشكلة المرأة تتجاوز حدود الزمان والمكان والتاريخ والحضارة .. ليصوّر لنا في الأخير: المرأة بكل أبعادها النفسية والاجتماعية والتاريخية... ولهذا، كانت العوامل السابقة القوى المحفزة لثورة شهرزاد وجرمين على أوضاعهما القاسية.

لقد ساعد التطور الحضاري المرأة على تجاوز بعض القيود التي كانت إلى وقت قريب، تعبر عن المحرّمات والممنوعات: كالتعليم والعمل والزواج... فكسّرت بذلك روتين القرون الماضية، لأنه لا يتماشى وأوضاعها الحالية. فهي اليوم تتمرد من باب القوة، أي أنها لو تشعر بها، لما تمرّدت أو نادت بالتحرر. ويعود ذلك إلى جملة المحفّزات أهمها:

1 ـ سمح تعليم المرأة بتكوين رؤى خاصة بها، جعلها تسعى أن تتموقع في المجتمع جنباً إلى جنب مع الرجل، لأنها أدركت أهميتها ومكانتها في بناء المجتمع، باعتبارها المحرك الرئيسي فيه بالدرجة الأولى.

2 ـ تمتلك نساء الطبقات الراقية الثقافة والمكانة والجرأة على مواجهة الرجل والمجتمع بكل مكوناته، لأنها تنطلق من باب القوة، أي: أن طبقتها التي تنتمي إليها تشكل لها المحفز الرئيسي للمطالبة بالحرية والاستقلالية والمناداة والمساواة. وتقاليد هذه الطبقة ساعدتها على ذلك:

(الإشارة إلى حلقة القصاص الذين يتردّدون أسبوعياً على شهرزاد والصالون الأدبي الذي فتحت أبوابه جرمين في بيتها)، لأن الطبقات الفقيرة تفتقر لكل هذه المقومات، لذا فالمرأة في هذه الحالة تعاني الجهل والفقر والانسحاق الاجتماعي بكل مستوياته، ولا يمكنها بذلك من المطالبة بالتحرر.

3 ـ دخولها معترك العمل في جميع الميادين، جعلها تشعر بالاستقلالية المادية تجاه الرجل، وهذا ما جعلها تتجرد من بعض مسؤولياتها، وتتبرم من بعض أدوارها.

وهكذا مارست المرأة تحررها، وتمردت على سلطة الرجل "الطرف القوي" في المجتمع، وسلطة هذا الأخير، بأن رفضت كل تلك العادات والتقاليد والممارسات، لأنها لا تتماشى وطموحاتها الجديدة، فكسّرت القيود التي كانت تكبّلها وتشلّ حركاتها وتضعها بذلك على هامش الأحداث.

أما سلطة الدين والأخلاق فقد خالفتهما أيضاً من خلال الدخول في علاقات غير طبيعية (الشذوذ) ـ كما جرى بين شهرزاد وجرمين ـ نكاية "في الرجل وانتقاماً منه لقرون العبودية الطويلة التي عاشتها تحت رحمته. فهي قد اخترقت المحرّم لتدين الآخر وتعاقبه، وتفرض ذاتها عليه مع كل التغييرات التي أحدثتها، وكأنها تحاول تأكيد المقولة الديكارتية: "أنا أفكر، أنا موجود"، بأن أتت ببديل يتناسب وتحررها: "أنا موجودة، أنا حرة".

ويأخذ مفهوم التحرر عندها ـ عند شهرزاد وجرمين، وكل امرأة تعرّضت للظروف ذاتها ـ أبعاداً دلالية عميقة لا تقف عند مستوى واحد، وإنما تتجاوز به كل المستويات، لتجسد تحررها على أكمل وجه.

لكن الثنائية (الثائرة/المتمردة) أضحت باهتة المعالم مع "طه حسين"، وإن كنا نتلمس ثورة شهرزاد وتمردها على بعض القيم الموجودة في المجتمع الشرقي "العربي"، كتصوير الحب الإباحي وتصريح المرأة به أو ممارسته علناً أمام الجميع. فهذا هو الموتيف والوافد الجديد الذي أضافه "طه حسين" إلى المجتمع الذي يرفض سلفاً مثل هذه القضايا، لأنها لا تقبل المناقشة أو الجدال ولا حتى التمرد عليه. لأن طبيعة تركيبة المجتمع الشرقي تتأسس على فكرة "الرجل السيد" و"المرأة في الحريم".

ويبدو أن ما عرفه "طه حسين" يختلف اختلافاً عما كان مألوفاً في البيوت المصرية الصميمة. ومفهوم الحب للأسف ما يزال عندنا محتاجاً إلى كثير من المراجعات والتصحيحات ولمسات السمو وظلال الجلال" (10). فالفرق واضح بين ما عرفه وعاشه "طه حسين" وبين ما كان سائداً في المجتمع، فالمفهوم في حد ذاته قد تغير عنده، لأنه وقبل زواجه من سوزان، كان يبغض "الزواج بالكتابية لما ستصبغ به البيت من صبغة أجنبية، وكان يمزج ويسخر من مذكراتها التي نشرها 1955 في مجلة آخر ساعة ويقول لأخوته إنه سيعود بزوجة أجنبية" (11).

وهاهو الآن يصور في الرواية مظاهر الحب على النمط الغربي المخالف لقيم المجتمع العربي، فشهرزاد تدخل في عناق مع شهريار، عرفا أولـه ولم يعرفا آخره. وهاهي فاتنة تتمرد على ملوك الجن وترفضهم جميعاً، لأنهم لا يتفقون ورؤيتها في شروط الزوج الصالح الذي تريده.

ويبدو أن هذا الحب الذي صوره "طه حسين" خاضع لعملية "إسقاط" تعكس تمرده على الحب القديم في مجتمعه، لذا فهو يصبغه بصبغة غربية وليدة حياته الشخصية وقراءاته المتعددة للأدب الغربي والعربي على حد سواء.

من جهة أخرى، نرى فاتنة تثور على الرعية التي تجهل حقوقها وواجباتها وتخضع فقط لنزوات الحكام، كما ترفض الأفعال الصادرة عن ملوك الجن الذين استبدوا بشعوبهم وهدروا أرواحهم وحرياتهم.

ومن هذا المنطلق، تمردت فاتنة على القوانين المتفق عليها في ميثاق الأمم والشعوب أثناء الحروب، ورفضت مقابلة الملوك والسفراء، وأمرت بمعاقبتهم وتنحيتهم عقاباً لهم عن جرائمهم وتأكيداً على قراراتها الصارمة.

ما يمن أن نلاحظه من خلال كل ما سبق، أن هناك توافقاً في بعض التيمات المشتركة التي تربط الروايتين معاً وتتمثل في: الثورة على الظلم والاضطهاد، ومحاولة ممارسة الحرية بكل مقوماتها بعيداً عن القيود التي يفرضها المجتمع. وهذا لا يعني أن تلك المفاهيم المشتركة لا تختلف في دلالاتها ومسبباتها عند كل من "هنري دو رينييه" و"طه حسين" لاختلاف كل واحد منهما عن الآخر بطريقته في معالجة القضايا ورؤيته الشخصية للأمور.

أما الصراع السياسي الطبقي، فهو حركة فاعلة، لم تكف عن الدوران والتجدد، وكلما خفت صيتها حيناً، ثار من جديد تحت عوامل الاضطهاد الفكري والثقافي والسياسي... الخ. لهذا ظل الصراع حلقة متواصلة بين الأجيال عبر التاريخ. لأن ذلك يؤدي دوماً إلى التغيير المرجو.

ومن هنا، تبرز الثنائية الثانية المتمثلة في:

2 ـ ثنائية (السياسيّة/المُخَلّصة):

تتفق الروايتان الفرنسية والعربية على جملة من الثوابت تتعلق بموضوع المرأة السياسية المخلصة، التي تمتلك بعض الرؤى والمفاهيم السياسية التي تستخدمها في هذا النشاط الفعلي.

ولئن كانت هذه الملامح غير بارزة في شهرزاد "رينييه"، لأن الرواية في الأساس ترتكز على البعد الاجتماعي بالدرجة الأولى، فإن رواية "طه حسين" كتبت أساساً كرسالة سياسية تعبر عن آرائه في الحرب والسياسة وعلاقة الحاكم بالمحكوم.

ومع ذلك، فقد تقاطع كل من "رينييه" و"طه حسين" في رسم ملامح واحدة "للحاكم" الذي يحكم أفعاله وسلطاته: الاستبداد والقهر والطغيان... وتعبّر هذه الثوابت عن آليات الحكم والفكر السلطوي الذي يتميز به حاكما الروايتين، فيحيدان عن الدور الحقيقي الذي يجب أن يقوما به. لذا، كان نتيجة هذا الميل والانحراف والتبرم السياسي انقداح شرارة الثورة والغليان.

عرض "رينييه" في روايته صورة الحاكم وفق رؤيتين متوازيتين هما: سلطان الشرق (شهريار) وملك فرنسا. ووضع لكل منهما قناعاً واحداً هو التسلّط والجبروت وإدخال الرعية في حروب داخلية وخارجية طاحنة، أفنت الرعية وأموالها استجابة لنزوات الملك ورغباته وبحثاً عن الثورة والمجد.

وهذه هي الصورة التي جسّدها ببراعة "طه حسين" في أحلامه أيضاً، واتفق مع "رينييه" في تحديد أطرها العامة. وكانت هذه هي الوجه الحقيقي الذي يظهر به كل حاكم مستبد ومتجبر مع رعيته. فتظهر القطيعة بين الحاكم والمحكوم (الرعية) كرد فعل طبيعي لهذه المعطيات. وينتج جرّاء ذلك التمرد والثورة على أصحاب القرار.

ومن جهة أخرى، يرفض المبدعان فكرة "الحرب" غير المشروعة لأنها تسهم في الرق الاجتماعي الذي ما تزال آثاره موجودة وتعكس رق الشعوب القوية للضعيفة، والبقية الموجودة أيضاً في المجتمع الواحد.

ما يمكن أن تستنتجه من خلال هذا القول، هو أنه يوجد نوعان من الصراع:

الأول: بين المجتمعات أو الشعوب والحكام، وهو صراع مرفوض لأنه يقوم على الاستبداد وانتهاك حقوق وحريات الطرف الآخر (الشعوب).

الثاني: بين أفراد المجتمع الواحد.

وهذا النوع الثاني هو الذي ركز عليه "رينييه" في الرواية، وسعى كي تكون الثورة الأداة الفعلية والحقيقية للتغيير. فكان نظام الحكم الجمهوري هو السبيل للقضاء على الطبقية السياسية (إلغاء الملكية) والطبقية الاجتماعية (الفروقات الاجتماعية، كما حدث في الجزء الأول من رواية "رينييه" حيث رفض الأب علاقة بين ابنه الكونت والفتاة ليزة، لأنها من طبقة فقيرة في المجتمع).

أما "طه حسين" فقد ركز على النوع الأول بشدة، لأنه يرفض فكرة الاحتلال والاستعمار واستعباد الشعوب، ويرى أن "الحاكم" هو المفتاح الأساس في هذه الحالة. لهذا، نجده يضع له شروطاً حتى يؤدي عمله على أكمل وجه.

فكانت الثنائية شهرزاد (السياسية/المخلّصة) واضحة جلية عند المبدع الثاني (حسين) وجعل شهرزاد تفقه في أمور السياسة، بل لنقل إنها خريجة الفلسفة اليونانية والفكر الغربي (وهي صورة عن ثقافته الغربية التي تلقاها في باريس).

أما شهرزاد "رينييه" التي تسلمت السلطة بعد مقتل زوجها شهريار فإنها لم تسع جيداً إلى نشر العدالة والمساواة بين الرعية، كما يتّضح ذلك من خلال العقاب الذي سلّطته على القصاص "الصَّلم" الذين فشلوا في إمتاعها، وكأن السلطة في هذه الحالة تخضع للرغبات والأهواء.

أما موضوع "المخلصة" فتشترك فيه شهرزاد الأديبين، اللتان سعتا في بادئ الأمر إلى لعب دور "المخلّص" من الموت لفتيات المملكة، وإن اختلفت أسباب كل واحدة منهما، فقد قدمتا نفسيهما فداء لطروحات معينة، كانت نتيجة مجهولة مسبقاً.

ويشعّ هذا الموضوع بكثرة عند "طه حسين" خلافاً لـ "رينييه"، خاصة مع "فاتنة" التي سعت كي تكون "المسيح المخلّص" لرعيتها من الموت. فرفعت عنهم هذه اللّعنة (الحرب) وحملت خطاياهم (جمودهم الفكري والاجتماعي والسياسي، ...وصمتهم الرهيب على كل هذه الأمور). وكأنها تتفق مع شهرزاد الليالي التي وضعت حداً للموت وتحمّلت خطايا شهريار، لتصنع الحياة في الأخير.

وتعكس هذه الرؤية حقيقة وضعية المرأة العربية اليوم التي "لا جدال (أنها)... تهتم بقضايا مجتمعها السياسية والاقتصادية والثقافية والأخلاقية، وتشارك بفعالية في العمل الاجتماعي وحجم تواجدها في إيقاع الحياة أكبر، وسيرها نحو التحرر والمساواة ملحوظ..." (12).

ومع ذلك، فقد حاول الأديبان أن يعبّرا من خلال أسطورة "شهرزاد" عن أهم القضايا في مجتمعهما، وحاولا أن تكون رؤيتهما مطابقة لأفكار كليهما التي يؤمنان بها ويسعيان إلى غرسها. وكأن هذا الرمز يلخّص بصدق قضية المرأة، وتتبّعها من حيث خروجها من شرنقة الرجل وعالمه المحدود لتسبح في فضاء أكثر اتساعاً هو فضاؤها الذي صنعته من مخيلتها ونبته بأفكارها ورؤاها على أرض الواقع.

الإحالات:

1 ـ هنري دو رينييه Henri de Régnier (1864 ـ 1936): من عائلة أرستقراطية فرنسية عريقة. درس الحقوق، ثم اتجهت ميولاته إلى الأدب، وصار من شعراء الرمزية الكبار. انضم إلى الأكاديمية الفرنسية سنة 1911، له ما يزيد عن 67 مؤلفاً أدبياً أغلبها دواوين شعرية. تأثر بفكتور هيجو، ألفرد دو فيني، ..كان دائم التردد على حلقات ستيفان مالارميه زعيم الرمزية.

2 ـ طه حسين (1899 ـ 1973): أستاذ وأديب وناقد عربي. له العديد من المؤلفات الأدبية والنقدية و.. عمل رئيساً لتحرير مجلة "الكاتب المصري" ـ 1946، 1947 ـ، كما شغل منصب وزير المعارف 1950.

3 ـ فراس السواح: لغز عشتار، الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة، دار العلم، دمشق، ط 4، 1990. ص 9.

4 ـ Henri de Régnier: le voyage d'amour ou l'initiation vénitienne, Mercure de France, 9 éme edition, Paris, 1930.

5 ـ طه حسين: أحلام شهرزاد، المجموعة الكاملة، المجلد 14، القصص والروايات (2)، دار الكتاب اللبناني، بيروت، ط 4، 1974.

6 ـ انتقد الشيخ كامل محمد محمد عويضة في كتابه "طه حسين بين الشك والاعتقاد" (دار الكتب العلمية، بيروت ـ لبنان، ط 1، 1994 ـ 167) جميع أعمال طه حسين الفكرية والأدبية والنقدية والتاريخية.. خاصة في روايته "أحلام شهرزاد" وقال بأنها تمس العقيدة (تأليه فاتنة، مباركة شهرزاد لشهريار: يقوم الفكر المسيحي على هذه النقطة) والأخلاق (علاقات شهرزاد وشهريار).

7 ـ نجد في المجتمعات الحيوانية (مجتمع الحشرات: مثلاً العناكب) حيث تكون الأنثى أكبر حجماً من الذكر، مما يتوجب عليه تقييدها حتى تتم علمية التزاوج. لأنها لو انفلتت من القيد، لكان سعيها الأول القضاء على هذا الذكر الغازي. ومن هنا، يرتبط موضوعا الحب والموت. (رؤية مخالفة: الذكر هذه المرة هو الضحية).

8 ـ كذلك الأمر مع توفيق الحكيم. وقد أشار الأديبان العربيان في عملهما المشترك "القصر المسحور" إلى تأثرهما البالغ بهنري دو رينييه.

9 ـ مريم سليم وآخرون: المرأة العربية بين ثقل الواقع وتطلعات التحرر، مركز دراسات الوحدة العربية، سلسة كتب المستقبل العربي، عدد 15، بيروت، ط 1، 1999. ص 32.

10 ـ سهير القلماوي: في ذكرى طه حسين، دار المعارف، عدد 388، (سلسلة اقرأ)، القاهرة، أكتوبر 1974. ص 52.

11 ـ سهير القلماوي: في ذكرى طه حسين، ص 50.

12 ـ خديجة صبار: المرأة بين الميثولوجيا والحداثة، إفريقيا الشرق، بيروت، لبنان، المغرب، 1999. ص 9.

ـ أستاذة الأدب المقارن بمعهد اللغة العربية وآدابها ـ المركز الجامعي الطارف/الجزائر، وعضوة بمخبر الأدب المقارن، بقسم اللغة العربية وآدابها جامعة عنابة/الجزائر. وهي بصدد إنجاز أطروحة الدكتوراه في التخصص ذاته.
 
أعلى