أحمد حسن الزيات - ألف ليلة وليلة تاريخ حياتها... المحاضرة الثانية

ليس من اليسير علي الباحث الكشف عن حقيقة كتاب كألف ليلة وليلة أصله مفقود، ومؤلفه مجهول، وزمان وضعه مبهم، ومكان حوادثه مشتبه، لاننا اذا فزعنا الي التاريخ نسأله قال: ان ما يتصل بالأقاصيص والأساطير كان خارجا بطبيعته عن اختصاص الأديب ومنهاج المؤرخ، واذا رجعنا الي نص الكتاب ندرسه لنتبين من لغته وأسلوبه وأسماء أبطاله ومواطن رجاله وعقائد أهله- نصيب كل جنس وجيل في تكوينه وجدناه من هذه الجهة ضعيف الحجة خادع الرأي قليل الغناء، لأن كثيرا من النساخين والقصاصين في البلاد المختلفة قد اعتوروه فنقلوه علي وفق لهجاتهم، وعبثوا به علي مقتضي شهواتهم، حتي لاتجد نسختين منه تتفقان لا في الترتيب ولا في النص. ففي حكاية البنات مع الحمال والصعاليك الثلاثة مثلا يقول الصعلوك الثاني: انه قرأ القرآن بالروايات السبع وحفظ الشاطبية، والشاطبية في علم القراءات كالألفية في علم النحو، وفي بعض النسخ لايذكر الشاطبية ويكتفي بذكر الروايات السبع. فلو ان ذكر الشاطبية كان عاما في جميع النسخ لحكمنا بان هذه الحكاية كتبت بعد سنة ٠٩٥ وهي السنة التي توفي فيها الشاطبي. وفي حكاية مزين بغداد يذكر المزين الفيلسوف سنة ٣٦٧ في نسخة وسنة ٣٥٦ في نسخة اخري، فعلي أي الرقمين نعتمد في تاريخ هذه الحكاية؟ اذن لم يبق للباحث غير الاعتماد علي النقد المبني علي تاريخ الحضارات المقارن وعلي ما بقي في الكتاب من صور الأساليب ورسوم التقاليد التي لم يشوهها الناسخ ولم يعف عليها الزمن.
كان أول من ذكر الف ليلة من المؤرخين علي بن الحسين المسعودي المتوفي سنة ٦٤٣ في كتابه مروج الذهب فقد قال حين عرض لأخبار ارم ذات العماد »إن هذه أخبار موضوعة من خرافات مصنوعة نظمها من تقرب من الملوك برواياتها وان سبيلها سبيل الكتب المنقولة الينا والمترجمة لنا من الفارسية والهندية والرومية (وفي رواية اخري الفلهوية بدل الهندية) مثل كتاب هزار أفسانه، وتفسير ذلك بالفارسية خرافة ويقال لها (أفسانه). والناس يسمون هذا الكتاب الف ليلة وهو خبر الملك والوزير وابنته وجاريتها شهرزاد ودنيازاد) ثم جاء بعده محمد بن اسحق المعروف بابن النديم المتوفي سنة ٥٨٣ فقال في الفهرست: »أول من صنف الخرافات وجعل لها كتبا وأودعها الخزائن الفرس الأول، ثم أغرق في ذلك ملوك الاشفانية وهم الطبقة الثالثة من ملوك الفرس ونقلته العرب الي اللغة العربية وتناوله الفصحاء والبلغاء فهذبوه ونمقوه وصنفوا في معناه ما يشبهه، فأول كتاب عمل في هذا المعني كتاب هزار افسانه ومعناه الف خرافة.
وكان السبب في ذلك أن ملكا من ملوكهم كان اذا تزوج امرأة وبات معها ليلة قتلها من الغد فتزوج بجارية من أولاد الملوك لها عقل ودراية يقال لها شهرزاد، فلما حصلت معه ابتدأت تخرفه وتصل الحديث عند انقضاء الليل بما يحمل الملك علي استبقائها ويسألها في الليلة الثانية عن تمام الحديث الي ان اتي عليها الف ليلة.... رزقت في اثنائها منه ولدا اظهرته وأوقفت الملك علي حيلتها عليه فاستعقلها ومال اليها واستبقاها، وكان للملك قهرمانة يقال لها دنيا زاد فكانت موافقة لها علي ذلك، وقد قيل ان هذا الكتاب ألف لحميا ابنة بهمن«.
ثم قال ابن النديم في موضع آخر: »والصحيج ان شاء الله ان اول من سمر بالليل الاسكندر وكان له قوم يضحكونه ويخرفونه لايريد بذلك اللذة وانما كان يريد الحفظ والحرس، واستعمل لذلك بعده المارك هزار افسانه ويحتوي علي الف ليلة وعلي دون المائتي سمر لان السمر ربما حدث به في عدة ليال. وقد رأيته بتمامه دفعات، وهو بالحقيقة كتاب غث بارد الحديث«.
فالرجلان كما ترون متفقان علي ان الكتاب منقول عن هزار افسانه الفارسي وانه موضوع في خبر الملك والجاريتين شهرزاد ودنيازاد وان اسمه في عصرهما كان الف ليلة لا الف ليلة وليلة »ولا عبرة بمجيء اسم الكتاب كاملا في الطبعة الحديثة المصرية لمروج الذهب فان ذلك من زيادة المصحح« ويختلفان في نسب البنت والجارية فيقول المسعودي ان شهرزاد بنت الوزير ودنيازاد جاريتها وهو الصحيح، ويقول ابن النديم ان شهرزاد من أولاد الملوك وان دنيازاد قهرمانة الملك، ويزيد ان الكتاب يحتوي علي الف ليلة وعلي دون المائتي سمر وانه ألف لحميا أوهميا أو حماني أو حمانة أو جمانة أو حماني علي اختلاف الروايات وهي بنت الملك بهمن بن اسفنديار.
هاتان هما الوثيقتان الخطيرتان في تاريخ هذا الكتاب ولايوجد غيرهما فيما نشر علينا من كتب مؤرخينا القدماء اللهم الا اشارة الي وثيقة ثالثة مفقودة نقل عنها المقريزي في الخطط والمقري في نفح الطيب وعزواها الي مؤرخ مصري اسمه القرطي الف كتابا في تاريخ مصر علي عهد الخليفة العاضد الفاطمي ذكر فيه الف ليلة وليلة وقايس بين قصصه وبين مايتداوله الناس في عصره من الحكايات المشهورة. وفي هذا دليل علي ان الكتاب علي أي صورة من الصور كان معروفا في مصر علي عهد الفاطميين، وان اسمه كان اذ ذاك الف ليلة وليلة، وان عنصرا من القصص العربي قد دخل في هيكله. ثم تجاهله بعدئذ أدباؤنا ومؤرخونا فلم يحققوا مصدره، ولم يسجلوا نموه وتطوره، حتي جاء رأس المستشرقين البارون سلفستردسامي فبدأ البحث العلمي في أصله بمقالين نشرهما في جريدة العلماء Journal des savants أولهما في سنة ٧١٨١ والآخر بعده بإحدي عشرة سنة. وجملة رأيه أن الكتاب تأليف جماعة لاتأليف واحد، وانه مؤلف في العهد الأخير، وانه عربي الوضع من فاتحته الي خاتمته، ودفع قول المسعودي ان فيه عناصر اجنبية من الهندية أو الفارسية. فناقش ادلته قوم آخرون اشهرهم الاستاذ ٠يوسف ڤون هامر) الألماني فقد نشر في سنة ٩١٨١ مقالا في احدي المجلات الألمانية، وفي سنة ٣٢٨١ مقالا آخر في المجلة الآسيوية أيد فيهما رأي المسعودي تأييدا لا سبيل عليه لآخذ. وفي سنة ٩٣٨١ ترجم الاستاذ (وليم لين) الانجليزي قسما من الف ليلة وليلة وقدم له مقدمة حاول ان يثبت فيها ان الكتاب تأليف رجل واحد وانه ألف فيما بين سنتي ٥٧٤١ و٥٢٥١ للميلاد. ثم استأنف هذا البحث في هذا العصر طائفة من ثقات العلماء اشهرهم: كوچي وموللر ونولدكي واوستروب وكريمسكي وشوڤان وكارادفو، فاستجلوا علي قدر امكانهم ماغمض من أصل هذا الكتاب حتي أصبح من الممكن بعد تمحيص ما قالوه وتصحيح ما جهلوه ان نثبت في هذا الأصل رأيا يقارب الصواب ان لم يكن.

»أصل الكتاب وطبقاته«
أصل هذا الكتاب نواة من الأقاصيص الهندية والفارسية تسمي هزار افسانه ترجم الي العربية من الفهلوية في أواخر القرن الثالث للهجرة بعنوان »ألف ليلة« وهو الذي رآه المسعودي وانتقده ابن النديم. ثم تجمع حول هذه النواة في الأزمنة الواقعة بين القرن الرابع والقرن العاشر من الهجرة طبقتان طبقة بغدادية صغيرة وطبقة مصرية كبيرة. فأما النواة أو الأصل أو الاطار كما يسميه الباحثون فمؤلف من الحكايات الباقية الآتية: حكاية الملك شهريار واخيه شاه زمان وهي مقدمة الكتاب وحكاية التاجر والجني، وحكاية الأمير باسم وجوهر السمندلية، وحكاية اردشير وحياة النفوس، وحكاية قمر الزمان بن الملك شهرمان والأميرة بدور، وحكاية سيف الملوك وبديعة الجمال.
وقد اختلفت كلمة الباحثين في أصل هذا الأصل كما ألمحنا الي ذلك من قبل، ففريق يري ورأيه الأرجح ان المقدمة وبعض حكايات الأصل هندية ويبني هذا الرأي علي المشابهة في الموضوع والطريقة والأسلوب، فأما المشابهة والموضوع فإن في حكاية الملك شهريار واخيه مشابه من »كاثاسارت ساجارا« الهندية. واما المشابهة في الطريقة فان ادماج حكاية في حكاية وتوليد قصة من اخري احدي خصائص الأدب القصصي الهندي وهي ملحوظة في قصة (مهابهاراته) و(بنجه تنتري) اصل كليلة ودمنة، لان الباعث الأول علي القصص في أدب الهند كان ايناء الفرصة واكتساب الوقت حتي يؤفك المتهور عن عزمه، ويحجز المتسرع عن وجهه، كما فعل الببغاء مثلا مع زوجة صاحبه في حكاية (سو كاسابتاتي) فقد كان يقص عليها كل يوم احسن القصص ليعوقها بلهو الحديث عن زيارة خليلها في غيبة حليلها ويقطع حديثها دائما بقوله: سأقص عليك البقية غدا اذا بقيت في البيت. وهذه الطريقة وذلك الباعث نجدهما في كثير من حكايات الف ليلة وليلة فلا نزاع اذن في انها الباعث نجدهما في كثير من حكايات الف ليلة وليلة فلا نزاع اذن في انها هندية. واما المشابهة في الأسلوب فان من لوازم القاص الهندي ان يقول: لاتفعل ذلك والا اصابك ما اصاب فلانا فيسأله السامع وكيف ذلك فيجيب القاص علي هذا السؤال برواية القصة. وهذا الأسلوب نفسه مستعمل في تلك الحكايات من الف ليلة، وقولهم فيها وكيف ذلك؟ ترجمة حرفية لهذه الجملة السنسكريتية (كاثام إتات) ثم يمضي هذا الفريق في تطبيق نظريته علي بعض الحكايات وينتهي الي ان هناك طائفة من الأقاصيص لاشك في انها فارسية وهي حكاية الحصان الأبنوس وحكاية حسن -





* جريدة اخبار الادب
 
أعلى