شفيق طه النوباني - ألف ليلة وليلة : محاولة في التعريف

لم تبتعد القصة عن مدار اهتمام الأدباء في التراث العربي، فالناظر في كتب التراث الأدبي سيجد بعض الإشارات إلى القاصين بوصفهم مكونا من مكونات المهتمين بالأدب، إذ نجد إشارات إليهم في “الحيوان” للجاحظ وفي “الإمتاع والمؤانسة” للتوحيدي، وغيرها من كتب الأدب، حيث يتبين للقارئ وجود حلقات خاصة بالقاصين في الجوامع، كما سنجد كتبا خاصة بالقصص كما هو الحال في “الفرج بعد الشدة” للتنوخي، حيث تبرز العبرة في هذا الكتاب بوضوح تام، غير أن مكانة القصص والقاصين في الأدب لم تكن رفيعة عند طبقة الخاصة؛ ورد في كتاب الإمتاع والمؤانسة: “وليس يقف على القاص إلا أحد ثلاثة. إما رجل أبله، فهو لا يدري ما يخرج من أم دماغه. وإما رجل عاقلٌ فهو يزدريه لتعرضه لجهل الجهال، وإما له نسبة إلى الخاصة من وجه، وإلى العامة من وجه، فهو بتذبذب عليه من الإنكار الجانب للهجر، والاعتراف الجالب للوصل، فالقاص حينئذ ينظر إلى تفريغ الزمان لمداراة هذه الطوائف، وحينئذ ينسلخ من مهماته النفسية، ولذاته العقلية، وينقطع عن الازدياد من الحكمة بمجالسة أهل الحكمة، إما مقتبساً منهم، وإما قابساً لهم؛ وعلى ذلك فما رأيت من انتصب للناس قد ملك إلا درهماً وإلا ديناراً أو ثوباً؛ ومناصبةً شديدةً لمماثليه وعداته”.

ويبرز الموضوع الديني لدى القاصين في الحلقات التي كانت تعقد في الجوامع بوصفه أساس السرد، حيث تأخذ قصص الأنبياء الحيز الأكبر كما يبدو من خلال بعض إشارات الجاحظ في “الحيوان”، ولا شك في أن المكان الذي تروى فيه القصص (الجامع) يفرض قدرا من التحفظ وإن كان يسمح بمرور بعض الإسرائيليات التي كانت شائعة في بعض كتب التفسير، كما يسمح بسرد قصص لا تبتعد عن الوعظ.

لا شك في أن القصص القرآني كان يلبي حاجة من حاجات المجتمع الروحية إضافة إلى العبرة فضلا عن امتيازه بالمكانة الرفيعة بفضل اتصاله بالذكر الحكيم، غير أن القصص القرآني وأغلب القصص الوعظية لم تمثل بطبيعة الحال انعكاسا لواقع مجتمع المدينة الذي بدأ يتشكل مع نمو الدولة الإسلامية، فقد تشكلت مع نمو الحواضر الإسلامية طبقة برجوازية كان التجار يشكلون جزءا كبيرا منها.

اقتضى هذا التركيب الاجتماعي المختص بالمدينة شكلا أدبيا يتسق معه، فبرزت الحكايات الشعبية بوصفها الشكل الأكثر تفاعلا مع التركيب الاجتماعي في المدينة إضافة إلى فن المقامة. ومع بروز هذا الشكل انتقل مكان القص إلى المقهى الذي يفسح المجال للقاص بالدخول في موضوعات عديدة وبتناول شرائح اجتماعية قد لا تمثل في تفاصيلها انسجاما مع روح الجامع. هذا دون أن يلغي ذلك حلقات القص في الجوامع ولو مبدئيا.

مع بروز هذه الفئة من القاصين الذين بدؤوا بسرد قصصهم خارج الجامع اتسعت الهوة بينهم وبين الأدباء الرسميين، ولعل قول التوحيدي الذي سبق يقصد هؤلاء، غير أنهم لم ينفصلوا عن تلك الصورة التي قدمها الأدب الرسمي لهم، فبقيت هذه الصورة في أذهانهم، وانعكس ذلك في طبيعة الحكايات الشعبية التي مثلت “ألف ليلة وليلة” أبرز مثال عليها.

وقد لاحظت سهير القلماوي أن التزمّت الذي كان يلقاه القاص من الحكام والعلماء وأصحاب الأدب الراقي في الدولة الإسلامية، وتلك الفكرة من أن القصص ملهاة أجدى بأولي الجد في الحياة أن يبتعدوا عنها قد لعبا دورا مهما في تكوين كتاب “ألف ليلة وليلة” إذ اتجهت حكاياته إلى محاولة إيجاد عبرة في كل قصة تسرد وإن بدت محاولات القاص غير ناضجة في كثير من الأحيان.

أرى أن كتاب “ألف ليلة وليلة” بكليته لم ينفصل عن فكرة القلماوي هذه، فبالإضافة إلى محاولة القاص الشعبي إيجاد العبرة في كل حكاية وفق تفسير القلماوي سيجد القارئ أن الكتاب بمجموعه كان دفاعا عن القص والقصص، بمقدار ما هو استعراض للنمط الشعبي من القصص، حيث قام امتداد الحكاية الإطار على فكرة السرد نفسها، إذ استطاعت شهرزاد من خلال سرد القصص أن تنقذ حياتها وحياة من كان من الممكن أن يتزوجها شهريار بعدها فيما لو لم تكن على ذلك القدر من المعرفة في هذا المجال.

ولعل في الحكاية الأولى التي تسردها شهرزاد ما يؤكد هذا التوجه، فالتاجر الذي أراد العفريت قتله انتقاما لابنه الذي قتله التاجر بنواة تمرة دون قصد لم يستطع التخلص من هذا الحكم الذي وقع عليه إلا من خلال القصص، فبعد أن أبدى العفريت رغبته بقتل التاجر التحق به ثلاثة رجال عاش كل منهم قصة غريبة، فاستطاع هؤلاء أن ينقذوا حياة التاجر من خلال هذه القصص، إذ طلبوا من العفريت أن يفتدي حياة التاجر بقصصهم إن حققت الدرجة التي ترضيه من الغرابة، وبالفعل وهب العفريت ثلث دم التاجر لقاء كل قصة. ولعل من الواضح في هذه الحكاية الموازية للحكاية الإطار في مغزاها أنها تحاول التأسيس لمشروعية القص وفق سماته في حكايات “ألف ليلة وليلة”، فالقص هنا يقوم في مواجهة الموت ويتغلب عليه، ويؤسس في الوقت نفسه لمفهوم القص بوصفه وجها من وجوه الحياة من منطلق كونه يمثل طرف الثنائية المضاد للطرف الآخر المتمثل بالموت الذي تحقق مع النساء اللاتي سبقن شهرزاد في الزواج من شهريار والذي لم يتحقق مع شهرزاد بوصفها وعاء للموروث القصصي الشعبي كما أنه لم يتحقق مع التاجر الذي شفعت له قصص رفاقه.إن اعتبار القص وجها للحياة في مقابل الموت لا يدخل في باب المبالغة، بل إن بعض التعريفات الحديثة للرواية الحديثة جاءت من هذا المنطلق، وقد مثلت حكايات “ألف ليلة وليلة” بطابعها الشعبي تصويرا للحياة الشعبية ليس في تشكيلها الاجتماعي حسب وإنما في ذهنيتها ونزوعها نحو تحقيق رغباتها، ومن هنا فإننا سنجد الحدث بشكله التتابعي المشوق قوام القص الشعبي كما أننا سنجد الخوض في التابو الجنسي بصورة واضحة، وسنجد الشخصيات والأحداث الخارقة التي تعبر عن خيال الذهن الشعبي الذي لم ينفصل عن الدين الإسلامي في صورته الشعبية.

لقد مثلت حكايات “ألف ليلة وليلة” انعكاسا للذهنية الشعبية فيما يتعلق بمفردات الحياة اليومية لأبناء الحواضر الإسلامية في مقابل السيرة الشعبية التي مثلت النزوع نحو تحقيق الذات القومية والدينية للأمة العربية الإسلامية. في “ألف ليلة وليلة” لا نجد أبطالا محاربين يقودون جيوشا عظيمة لهدف ما بقدر ما نجد تجارا يرحلون في سبيل تجارتهم ويواجهون مصاعب عديدة يتغلبون عليها وينجون من الموت. إنها هموم الناس في سعيهم نحو رزقهم وحياتهم، ولعلنا نستطيع أن نتخيل أخا يحكي لأخيه أو صديقا يحكي لصديقه إحدى قصص “ألف ليلة وليلة” إذ يتم تداولها بين الناس في مواقف عديدة وفي إطار فعل التسلية في حين لا نستطيع أن نتخيل صديقا يسرد على صديقه سيرة عنترة أو سيرة بني هلال إذ لا بد من الاجتماع إلى حكواتي في هذه الحالة. وإن كان يمكن تفسير هذا الأمر من منطلق الطول والقصر، فإن ذلك لا يلغي التفسير المتعلق بطبيعة موضوع السرد، فالقصة التي تمثل همّا جماعيا لا ينشغل فيها الناس بقدر ما ينشغلون بقصة تعكس مفردات الحياة اليومية وتسعى إلى التسلية في الوقت نفسه.


د. شفيق طه النوباني
ألف ليلــــة وليلــــــة : محاولة في التعريف
 
أعلى