حياة عثمان أحمد - ألف ليلة وليلة.. سحر يتجاوز الزمان والمكان

تعد حكايات (ألف ليلة وليلة) من حكايات القصص الشعبي العربي التي تزخر بها المكتبة العربية، وهي ما زالت تحمل نفس السحر والبريق الذي ظهرت به منذ أمد بعيد، ذلك لما تفردت به (الليالي) من أسلوب القص وما حواه من خيال وتشويق ونهايات سعيدة.

تجاوزت (الليالي العربية) كما يسمونها جغرافية المكان، ولما كان الأدب وسيلة من وسائل التثاقف بين الشعوب، فقد حظيت (ألف ليلة وليلة) بدور كبير في هذا المجال، فعرفت في أوروبا وأمريكا وآسيا، مع وجود أدب شعبي لهذه البلدان له خصوصية المكان والثقافة والهدف الذي صيغ من أجله، إلا أن (الليالي) كان لها تأثيرها الذي ميزها مع الاحتفاظ بأصلها العربي، وهذ التأثير له (شهادات) إن صح التعبير من المستشرقين أنفسهم كما سيأتي لاحقاً.

أصول وتاريخ الحكايات:
اجتهد كثير من الباحثين العرب والمستشرقين محاولين التعرف على كاتب (الليالي) التي فاقت الواحدة بعد الألف (1001) كما يحوي ذلك العنوان، إلا أن المستشرقين قد ذهبوا بعيداً بأن (كاتب) الليالي قد يكون من بلاد فارس أو الهند، عندهم في ذلك ما يؤيد زعمهم.

أولاً: وهو أن الكاتب في الافتتاحية كان قد أورد قائلاً: (إن الحكايات التي سميت بألف ليلة وليلة) فلو كان هو مؤلفها لقال: إن الحكايات التي سميتها بألف ليلة وليلة.
ثانياً: إن (البيان) الذي استخدم في القص فيه خيال واسع، واستخدام الخرافات بهذا الخيال يتناسب مع أسلوب أهل هذه المنطقة أي فارس والهند.

أما الباحثون العرب فقد كان ردهم داحضاً لهذا الزعم:
أولاً: إن تسمية الكاتب للحكايات (بألف ليلة وليلة ) كان قد أخذها من تسمية فارسية كانت معروفة في فارس ب (هزار أفسانة) وهي تعني (الخرافة) بمعنى أن حكايات (أفسانة) هي خيالية أشبه بتلك التي صيغت في (ألف ليلة وليلة)

ثانياً: استخدام الخرافة كثيراً وبهذا الخيال الواسع والتشويق ليس بعيداً ولا خارجاً عن الأدب العربي طالما استخدمه المؤلف لغاية.

ثالثاً: إن الحكايات والخرافات كان مرغوباً فيها ومشتهاة أيام بني العباس فظهر (الوراقون) كابن دلان وابن العطار، وآخرون يكتبون على ألسنة الحيوانات كابن المقفع وسهل بن هارون وغيرهم.

أما عن صاحب هذه الحكايات فيقول الباحثون العرب إنه عربي؛ قد يكون مصري المولد أو عراقياً أو سورياً، ذلك لوجود بعض المفردات العامية الدراجة في هذه البلدان، وكون مؤلفها مصرياً فهو إذن قد عاش في عهد الدولة الفاطمية.
ورأي آخر يرى بأنها كتبت في عهد الدولة العباسية في عهد ازدهار الأدب والحياة بوجه عام، تحديداً في عهد الخليفة العباسي (هارون الرشيد)، وهذا الرأي يبدو هو الأرجح؛ فهنالك شواهد كالجارية (تودد) يقال أن اسمها يرجع لاسم (تيودورا) زوجة الأمبراطور (جستنيان)، فقد كان لها تأثيرها في الحكم فشخصيتها المؤثرة جعلت لها ميتاً وشهرة إبّان فترة التثاقف وازدهار العلاقات السياسية الخارجية في زمن هارون الرشيد، ومما يرجح هذا القول أن الاسم (تودد) لم يوجد عند العرب سابقاً ولا إبّان الحكايات.

بيد أن هنالك رأياً آخر مغايراً لكنه لايخرج عن كون المؤلف عربياً ،يقول هذا الرأي أن المؤلف هو (شهرزاد) نفسه، الذي قام بجمع أكثر من 1000 كتاب من كتب التاريخ والأمم في أزمنة متباينة، ثم قام بقصها على الليالي الواحدة بعد الألف، ذلك كما كانت تفعل شهرزاد مع شهريار.

غير أن ما يهم في هذه الاجتهادات أن تأثير الحكايات عربية ،وأن تأثيرها بلغ حتى يومنا
هذا ويستمر لاحقاً.

نسخ الليالي وطبعها:
طبعت الطبعة الأولى (ببولاق) عام 1835، ثم طبعت اثنتان بكلكتا عامي1839و1842، ثم مطبعة الآباء اليسوعيين، والتي هذبت عبارات ما يعرف في الأدب العربي (بالأدب المكشوف ) وذلك عامي 1888و1890 ثم (دار صادر) التي أصدرت طبعة دون (تهذيب) فكان الإقبال عليها كبيراً.

يلاحظ أن ما يعرف بـ (التهذيب) أو (التطهير) أو النقل الحرفي الدقبق كما فعل المترجمون والنقلة، هذه الأمور قد تُفقد النص الأصلي بعضاً من جماله، ذلك لأنه قد يدخل فيها أو يؤثر فيها المزاج الشخصي.

نقل وترجمة الليالي:
ازداد انتشار الحكايات ذات الأصل العربي وتأثيرها بعد سقوط غرناطة عام 1492 وبعد الحروب الطاحنة التي شهدتها أوروبا في القرن السادس عشر.
إن الاهتمام (بألف ليلة وليلة ) متجدد ومستمر ما دام هنالك هجرة وتثاقف بين الشعوب. ومن أهم الترجمات كانت ترجمة (غالان) و(لين)، بيد أن لكل أسلوبه في الترجمة فجاءت ترجمة الأول تستدرج القارئ وتغريه ،أما الثاني فقد قام فيها بما يعرف بالتطهير، مهتمّاً بمن يبحث المعلومة لا من يريد التسلية، وهنالك آخرون كانوا قد أخذوا دور (الرواة) أثناء الترجمة، ذلك بما قاموا به من حذف وإضافة للنصوص، إلا أن أثر (الليالي) كان قد اتضح في الأدب الغربي كما تدل شهادة الكاتب والفيلسوف (فولتير) حين قال: «لولا الليالي لما أكملت قصصي»، وهنالك رواية (وليم بيكفورد) والتي قلد فيها قصة الخليفة الواثق من حيث حياة القصر وما يحدث فيه من دجل وشعوذة، وتأثير نساء القصر وأم الخليفة في ذلك، فجعل من قصر (فونتيل) الذي كان يسكنه وأسرته والنساء في القصر صورة أخرى للحياة الشرقية، وتصويره لطائر (الرخ) وهو يحلق به بين الجن والسحر؛ فقد جعله ينقطع تماماً عن عالم الإنس، حسبما ذكر هو.

بشكل عام إن تأثير (الليالي العربية) يبدو واضحاً في تطور الرواية الفرنسية من الكلاسيكية إلى الرمزية، كحكايات الأميرة شهرزاد والتي وجدت ذيوعاً في فرنسا في وقت كانت فيه المرأة ترتقي سياسياً وأدبياً خاصة في مجالي السيرة الذاتية والرواية، لم يقتصر سحر الليالي هنا بل امتد حتى تركيا، وذلك في التقارب بين الحوار المنظوم في الحكايات الشعبية التركية وما هو معروف في الأدب العربي، ويتضح ذلك في قصتي (بدر الدين) و(قمر الزمان).

أما في روسيا فقد بدأت تعرف الليالي في نهاية القرن الثامن عشر، وقد تأثر بها الشاعر الكبير الكسندر يوشكين.

هكذا تنقلت الليالي على بساط التثاقف، مؤثرة بالإضافة أو محدثة نقلة كما حدث ذلك في الرواية الفرنسية.

ألف ليلة وليلة في الأدب المعاصر:
إن لهذا الكنز سحره الأخاذ والذي يبرق عبر الأزمنة، فكان تأثيره واضحاً في الأدب المعاصر، وقد ظهر ذلك في عدة نماذج، فهنالك مسرحية «شهرزاد» لتوفيق الحكيم التي كانت ترمز فيها شهرزاد للطبيعة، وما ميز هذا العمل هو أن الحكيم استطاع أن يحتفظ بالتراث ومن ثم يضفي عليها اكتساباته فتحولت البنية من تراثية إلى درامية، هذا التحول كان الأول من نوعه.

هنالك نموذج آخر للدكتور عبد التواب يوسف عندما استخدم قصة المارد والقمقم بشكل رمزي، حين كان الغرب يريد إجبار مصر للدخول في الأحلاف السياسية، صور القمقم فارغاً بعد أن خرج المارد وهو يرمز بالفراغ للفراغ السياسي الذي ادعاه الغرب، والمارد هو العربي، عندما خرج من القمقم سأله الغرب مستغرباً: قل لي كيف كنت داخل هذا القمقم؟ فأجابه العربي ساخراً من سؤاله: إننا نحن أصحاب الحكاية!!!

وهكذا تستمر النماذج، ففي أدب الطفل كان هنالك كامل الكيلاني الذي استقى من الليالي مجموعتيه الثالثة والرابعة، وقد كان يفعل ذلك مراعياً التطور الذهني والعقلي للطفل فجاءت مجموعتاه مناسبتين لوعي الطفل وإدراكه.

مؤثرات فنية إسلامية داخل الليالي:
لم تكن (الليالي) سردية محضة الكلمات، فقد استثارت الخيال الذهني بالتخطيط والرسوم والزخارف والصور، فكانت الحكايات ملهمة للفنانين الإسلاميين، كما استلهمها المستشرقون لاحقا في أعمالهم الرومنتيكية.
ففي استخدام الأشكال لم تكن (الليالي) منغلقة على نفسها، فكما أثّرت هي فقد تأثرت بالحضارات القديمة، وهذا شأنها (إذ جمعت شهرزاد ما يربو عن الألف كتاب من كتب التاريخ والحضارات القديمة) فجاءت رسوم وأشكال مأخوذة من حضارات قديمة كحضارة اليونان والحضارة الفرعونية إلا أنها توافقت مع المفاهيم الإسلامية.

وذلك كاستخدامهم الدائرة من الهند والحضارة الفرعونية، فهي تشير إلى فكرة المركز الذي تتفرع منه خطوط مستقيمة لتنتهي بالمحيط، ونجد هذا الفكر عند المتصوفين الإسلاميين عند ابن عربي في البداية التي تتصل بالنهاية في شكل دائرة وهو يعني الخلق، الكون والوجود. هذه الدائرة هي نفسها الحكايات التي تقصها شهرزاد على شهريار، إذ تبدأ بالمركز (شهرزاد) ثم تخلص من حكاية إلى أخرى دونما انفصال، في حين أن كل حكاية مستقلة عن الأخرى، فنجد ذلك يشبه حركة المستقيم الذي يخرج من المركز إلى المحيط، وهذا يتوافق أيضاً مع نظريات علم النفس الحديث، فهنالك نظرية (الجشطالت) التي تدعو للنظر للأمور كلية، حيث إن الاتصال جوهري بين الأشياء.

أما المربع فأخذته الليالي من اليونان وهو يرمز عندهم للعناصر الأربعة: الماء، والهواء، والتراب والنار، هذه العناصر موجودة أيضاً في فكر ابن عربي وهي التي تكون الأرض والإنسان، ثم استخدموا المثلث من الفراعنة وهو يرمز للاتصال بين الأرض والسماء، وهذا موجود أصلاً عند المسلمين في الاتصال بين (الله/ العبد/ الصلاة).
أما الصور للمخلوقات الخرافية والمصنوعات من خزف وسجاد، فقد صورت حياة الترف والبذخ في القصور، بيد أنها أحدثت نقلة لبعض المفاهيم الانفعالية السالبة إلى أخرى إيجابية ، ففي تصوير طائر الرخ وهو يحمل «زالا» إلى الأعالي وهو مزركش بزخارف مترفة جعلت منه طائراً أليفاً، وفي تصوير نوافير الدماء في الحروب، نجدها قد حولت صورة العنف إلى صورة قوة مطلوبة للدفاع، كما ربطت هذه الصور وجعلتها مناسبة مع شخوص الأبطال كما في صورة الدماء للإمام علي رضي الله عنه.

بذا نجد الليالي العربية سحراً تجاوز الكلمة والصورة لبعد آخر، سحراً خاطب الأرض مبحراً والسماء محلقاً ليس ببساط الريح وحده ولا الكلمة ولا الصورة بل بالصورة الأخرى التي صنعتها واستلهمتها، إما حكياً بالقول أو بين السطور.
 
أعلى