سامى الجمعان - ألف ليلة وليلة... سحر السرد وتجلياته الدرامية

1/2

تقديم :

قصر الملك شهريار، على موعد في كل ليلة مع دراما" سردية .. قصصية" جديدةتحقق لها الكثير من عناصر الفعل الدرامي، (فشهرزاد) الراوية تعتلي منصة ذلك المسرح وتقدم حكاياتها المدهشة، وكأنها فريق مسرحي متكامل حقّ لنا أن نسميه: "فريق شهرزاد المسرحي"، وهذا الفريق لم يكن ليقدم فنه اعتباطا بل لجمهور يتابع، وملك البلاد شهريار في مقدمة هذا الجمهور المنصت الذي ودّ لو أن كل ديكة الأرض انقرضت حتى لا يأتي صوت صياحها فيقطع طقسه المسرحي، ولينبهنا إلى أن شهرزاد تلعب بقوة الحكي وسلاحها سره السرد وشيء من الدراما حينها نتساءل: من أين لها هذا؟ ولماذا ألف ليلة وليلة؟

سؤال كبير لا يمكن لإجابته إلا أن تأتي كبيرة بحجمه، ومثيرة كفرط إثارته، وإشكالية على مستوى المعرفة والنقد والدهشة أيضا!! فأعلم أننا جميعا ـ هنا وهناك ـ نحمل في أذهاننا عن هذا المؤلف صورة نمطية عالقة في الذهن ؟ وهنا تزداد حيرتي في أن ابدأ معكم من قضايا الكتاب الداخلية أو الخارجية؟ ثم ماهي المبررات التي بها نبرر تحول هذا الكتاب ـ إن جاز لنا التعبير ـ إلى نسق ثقافي الطابع، والنسق ـ بحسب توجه النقد الثقافي ـ قوة ضاربة ، هيمنة قادرة على تشكيل المخيلة، وإني أؤكد على أن ألف ليلة وليلة نحتت في دواخلنا شيئا من سحرها؟

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ـ إذن لنبدأ بالدهشة الخارجية التي صنعتها الليالي العربية ـ كما يسميها النقد الحديث ـ ؟

الدهشة الأولى :

طالما أن ألف ليلة وليلة بلا مؤلف معروف فهو حق مشاع، للجميع فيه نصيب ومع هذافلم يسلم من أن يقف أمام إحدى المحاكم المصرية ولأكثر من مره ، فالدعوةالأولى التي رفعت ضد الناشر حسين محمد صبيح عام 1985 م ورقم القضية هو 1142 كما دونها التاريخ في محاكم آداب القاهرة . والدعوة الثانية ضد ثابت عبدالرحيم عبدالمنعم رقم القضية 1155 في 1985م ونص التهمة كما ورد في ملف القضية يقول : " إن المتهم في يوم 4/3/1985م حاز بقصد العرض والبيع والاتجار مطبوعات نسخ كتاب ألف ليلة وليلة "
(انظر مجلة فصول ص 279 ،العدد4 المجلد 12 ) .

الدهشة الثانية :

يبدو أن لعنة عفاريت هذا الكتاب وجنه وشياطينه لا يزال سحرها ساريا ، وقد انتقلت آثارها من شخوص الحكايات إلينا نحن القراء ودليلها انتشار إشاعة لانعلم عن صدقها ، مفادها أن كل من قرأ هذا الكتاب كاملا كان مصيره الهلاك والموت ؟ وكأنه حين ينجز الكتاب ينجز مسيرة حياته معه؟ فحقا يا للغرابة لايريد هذا الكتاب أن يقطع الاثارة حتى خارج نطاق حكاياته!!

الدهشة الثالثة :

تصدمنا ألف ليلة وليلة بسمتها الموسوعية فلا تبحث عن أمر من أمور الحياة إلا وتجده قابعا في أحافيرها :ـ العلم ، الشعر ، الديانات ، البلدان ، التاريخ، العادات ، المعتقدات ، .. أو لنقل كل شيء؟

فلماذا إذن ألف ليلة وليلة ؟

ـ وماهو السر العميق في علاقة سرديته الساحرة ومجال الدراما عامة والمسرح خاصة !

سوف أأجل الجواب بعد أن أقول هنا :ـ إن ( الوعي بالتراث لا تصبح له فعالية حقيقية إلا إذا ارتبط بوعي مماثل للواقع ؛ لأنه في هذه الحالة وحدها يمكن أن ينشأ جدلا عميقا ومثمرا ( (1) . ولهذا فقدرة الكاتب المسرحي على استيعاب عناصر التراث ، تعني القدرة على تحقيق حراك متبادل بين مجالين أصيلين في حياة البشرية التحما منذ أقدم فترات التاريخ البشري ( هما المسرح والحكاية ) ، وعلى العكس تماما ما سوف يحدثه قدوم الكاتب المستسلم لمسلمات التراث ، والمستغرق في مقولاته الجاهزة، حيث ننتهي إلى صدام فاتر ، قائم على مسلمات لا حراك فيها ولا روح .

ألا يحق لي ولكم الآن اعادة السؤال المشروع :

ـ لماذا ألف ليلة وليلة ؟
ـ وما لذي أضعف مقاومة المسرحيين حتى تقاطروا ليخطبوا ودّها المصون؟
ـ هل من سر دفين ، عتيق ، عجيب ، غريب جعل هذا الكتاب الشعبي النَفَس مرتعا لصنع بطولاتهم ؟

إشكالية الجواب تماما كـوهمنا بـ (ماء الحياة ) نلاحقه ويستعصي ؟ نتمناه ولا يأتي ؟ والليالي العربية هكذا ، عليك أن تتقدم صوب عرشها حاملا وعي َالانثربولوجيا ، والسيوسيولوجيا ، ووعي الميثيولوجيا ، ولا غضاضة أن أقول مجازا بل تحمل وعي ( الجني الأزرق ) الذي هو ثيمة لا تنفك حكاياتها عن أخافتنا به كلما تحركت متعة السرد سالبة فينا الإرادة؟ وإن كان لورقتي من طموح فهو الولوج في معترك المغامرة للكشف عن سر الليالي العصي !!

بداية، هناك عاملان أسهما في دفع الكاتب المسرحي نحو الحكاية الشعبية للإفادة من موتيفاتها :

عامل عام :يتمثل في كون العلاقة بين الحكاية والدراما علاقة قديمة ، واكبت نشوءالمسرح في العالم ، وظلت مستمرة الحضور عبر امتداد الحضارات .

عامل خاص : ـ يتمثل في الخصائص التي تحملها الحكايات الشعبية بصورة عامة ، والليالي بصورة خاصة ، وهي التي سينصب تركيزي عليها .

لخصائص ألف ليلة وليلة نوعان : ـ

أولاـ الخصائص الدرامية المختزنه :ـ

ابتداء من العناصر الأسطورية فيها ،والتي تجلّت في طبيعة الصراعات ومستوياتها ، وفي أسطورية شخوصها ،وأساليبها في التصوير البصري للأحداث . وفي قدرتها على تفعيل الانقلابات الدرامية في حياة أبطالها ، وتغيير مصائرهم بين عشية وضحاها ، ثم في سلالاتها الحكائية التي لا تنفك عن التناسل خالقة آفاقاً تلو الآفاق، كما لا يجب أن نبارح مجالس رواتها قبل أن نعي تقاليدهم المنسجمة ـ كثيراًـ معتقاليد رواة الفن المسرحي أداءً وتعبيراً .

ثانياـ الخصائص الموضوعية الشمولية :ـ المتمثلة في الصراع الدائر بين عنصري : الخير والشر ، ، والصراعات الطبقية ، والمتجاوزة في طرحها تابوهات المجتمع من دين وسلطة وجنس .

والآن سوف آخذكم في رحلة نظرية تطبيقية لنقف أولا على الخصائص الدرامية غير المباشرة والخصائص الدرامية المباشرة :

غير المباشرة هي:

أ ـ العناصر الاسطورية (الميثيولوجية) ، ب ـ تقاليد الراوي ، ج ـ تناسل الحكايات .

والمباشرة هي : أ ـ التحول والانقلاب . ب ـ التصوير البصري الدرامي .

1ـ أ :الخصائص ذات الطبيعة الميثيولوجية الاسطورية لحكايات الليالي :

تؤكدّالدراسات تأثر الحكايات الشعبية بالأسطورة ، ومرد ذلك إلى (كون الخطابين القصصي والأسطوري نتاج مرحلة ثقافية خاصة هي المرحلة الشفاهية ، والتي ماتزال فاعلة بيننا حتى اليوم في التعبير ، والفكر والسلوك ..()3،ويردُّها آخر إلى ( أن تجريدنا للأسطورة من محتواها الديني قد يؤدي بنا إلى خلق حكاية شعبية ، أو خرافية " (4) .أما هيرمان نور ثروب فيوسّع من دائرةتأثير الأساطير فيجعل منها مهدا لكل أشكال الأدب ، فيقول إن ( هناك صلةبين الأسطورة والحكاية الشعبية ، فالأساطير مقارنة بالحكاية الشعبية عادةما تكون على درجة خاصة من الجـدّية : فـيُعتقد أنها قد حدثت بالفعل ، أوأنها ذات مزايا نادرة تفسر ملامح معينة كالـطقــوس مثـلا ) (5).

وفي رأيي الخاص فإني أعيد تأثر الحكاية الشعبية بالأسطورة إلى وجود أرضيةمشتركة ينبثق الخطابان من خلالها ، مما يجعلهما عرضة للتداخل. واعني بالأرضية المشتركة اتسامهما بالطابع الشعبي ، وانتشارهما في الشريحة الأعظم من المجتمعات ، هي شريحة الكادحين المسحوقين الذين اتخذوا من الحكايات الشعبية مستودعا لتفريغ آمالهم ، وآمانيهم ، وان استدعى الأمر اللجوء إلى كل خارق وعجيب ، وكل مبهر ومثير.

وبتأكيدنا على علاقة الميثيولوجيا بالقصص الشعبي ، فمن الضرورة التأكيدعلى علاقة الأساطير بالدراما ، إلى الحد الــذي دفــع ببعض الدراسات لاعتبار ( نشأة الدراما عن الشعائر والطقوس التي تفسرها الأسطورة ) () 6

بعد هذا سوف أحدد ملاحظتين كبريتين تشكلان الصورة العامة للجانب الأسطوري في ألف ليلة وليلة ، ولن أخفيكم سرا في رغبتي العارمة في توسيع مجال دراستي لهذا الجانب في بحوث قادمة ـ إن شاء الله ـ نظرا للمتعةالعلمية والمعرفية التي ستلاحظونها أنتم عبر الأسطر القليلة القادمة :

ملاحظـتي الأولى : هي تفاوت تأثير العناصر الميثيولوجية تبعا للتعدد في أشكال التعبـير الحكائي في الليالي كمَّـًا وكيفاً في أبعاد تأثيرها في تلك الأشكال . وهذا يستدعي منا تحديد أهم الأنواع التي صنفت إليها حكايات الليالي ، فليتمان مثلا يصنفها إلى: { خرافات (7) ، وروايات وقصص(8)، وأساطير(9) ، وحكايات تهذيبية (10) ، وحكايات فكاهية (11)، ونوادر (12)}(13). أما الجزء الأسطوري في الليالي فقد أسماه النقاد الغربيون بالحكايات الأسطورية الحديثه ، وقصدوا بها ) كل الحكايات التي يظهر فيها العنصر الخارق بقدر كبير ، وتأتي في سرد نثري يولد الدهشة ، ونجد أن الآدميين داخل الحكاية ، أو القراء أنفسهم يصدقونها كليّاً أو جزئياً.. ) (14) . ونلحظ أن هذه العناصر ذات الطابع الأسطوري في الليالي تتمــركز في نوعين من الحكايات هما : الخرافة ، والحكايات الأسطورية ، وتتبعثر في بقية الأنواع هنا وهناك ؛ لذا فمن المتوقع أن يصادفنا عنصر ميثيولوجي في كل موضع من مواضع الحكايات ، وحيثما حضرت الدهشة الأسطورية حضرت روح الدراما بلا أدنى شك .

الملاحظــة الثانية : هي أن العناصر الميثيولوجية تتخذ لها صورتين : الأولى هي العناصر المادية المحسوسة الظاهرة، والثانيةهي العناصرالضمنية .

بقي أن أشير إلى أن غالبية العناصر الميثولوجية في ألف ليلة وليلة اتسمت بالطابع الدرامي البحت ؛ ولأنها عناصر تحمل في طياتها بذور الفكر الدرامي ، صارت محط أنظار كُتّاب المسرح العربي ، تماما كما كانت الميثيولوجيا اليونانية معينا صاغ منه كــُـتـّابها أدبهم المسرحي ، الخالد (15) . أما ابرز الأشكال التي ظهر الجانب الأسطوري بها مقتربا من الدراما وروحها في الليالي فهي :

1ـ الصراع الدرامي
2ـالطقوس
3 ـ الشخصيات الأسطورية الطابع)

1ـ الصراع الدرامي النابع من الاسطورة :

قـدمت لنا حكايات ألف ليلة وليلة ذات الطابع الأسطوري في كثير من المواطن صورة حية لموضوعات ذات طبيعة صراع درامي بحت (16) ، عاشها الإنسان منذالأزل ، كصراعه الدائر مع المجهول ، ومع قـوى الطبــيعة القاهرة ، أوالصراع القائم بينه وبين احتيـاجاته المادية والروحية ، وتلك هي حاجة الدراما الماسة صراع متـقـد يكون الإنسان طرفا رئيسا فيه. فضلا عن أن لها قـدرة التلاحم مع قضايا العصور المختلفة ، نظرا لاتسامها بالشـمولية والديمومة وملامستها للحقائق الأزلية كأصــول الأشياء ، والموت ، والعــالم الآخـر هي ثيماتها .

ولن يفوتني أن اذّكر بكونها تحوي (الأفعال) ، والدراما في أصلها تعني ( الفعل )، أو (محاكاة الفعل) ، وإليكم حكاية ( الصياد مع العفريت ) فهي مثال نموذجي لقوة الفعل في الليالي :ـ

تحكي هذه القصة (عن صياد سمك ، فقير ، رمى بالشبكة في البحر أربع مرات ، في المرة الأولى أمسكت شبكته بجثة حمار ، وفي الثانية يجد فيها رملا وطينا ،وفي الثالثة يعثر على أعشاب وزجاجات مكسورة .. أما في الرابعة فتصطادالشبكة قمقما من النحاس ، وعند فتحه له انطلقت سحابة من الدخان ، وتشكلت في صورة عفريت ضخم هدد الصياد بالقتل على الرغم من توسلاته ، استطاع الصيادبالحيلة أن ينجو بنفسه ؛ ذلك أنه سأل العفريت أن يريه كيف تمكن من دخول القمقم الصغير بجسده الكبير الضخم، وما أن عاد العفريت إلى قمقمه حتى اغلقه باحكام ، وألقى به في البحر) (18)

لقد فرض ( الفعل ) نفسه على أجواء الحكاية منذ أفتتح المنظر على اتساع البحر ، لتنطلق ثيمة الصراع مع الطبيعة ، ثلاث محاولات فاشلة لشبكة الصياد ،كان يستجدي البحر ويستعطفه ليعطيه قوته ، وقوت أولاده ، ونظرا لإصراره ،وقوة إرادته رمى بالشبكة للمرة الرابعة ، إلا أن الفعل يتحول هنا إلى صراع من نوع آخر ، فبعد أن استجاب البحر للصياد المسكين ، أتته قوة غاشمة ، هي قوة العفاريت والمخلوقات الممسوخة ، عفريت مسجون في القمقم منذ آلاف السنين بل منذ عهد سيدنا سليمان عليه السلام كما تقول الحكاية ، وعلى هذه الصورة تستمر الحكاية ، أفعال ترمي بنا في أحضان أفعال لتشكل مجتمعة كيانا دراميامتكاملا .

ومن الأسباب التي تعطي هذه اسطورية الليالي قوة في الحضور الدرامي ،مرونتها وطواعيتها في التشكل ، ربما لأنها نشاط تلقائي سابق على التفكير ،ومحرر من العـقلنه ،لا يحوي أحكاما ولا يضع فلسفة ، ولكنه مع ذلك يبرزالحقيقة في أحسن صورة "(19) ، وهي بتلك المرونة تتيح للكاتب المسرح يالإضافة ، والحذف ، والتبديل ، والتغيير .

2ـ الطقوس 20):

اذا كانت الطقوس منطلقا للدراما بحسب وصف مارتن أسلن ) تجربة جماعية طقسية ، تتجلى كتجربة فــي التأثير الثلاثي مابين الممثل والجمهور، وما بين الجمهور والجمهور ) ()21ومنجهة ثانية فالطقوس مكون من جملة مكونات الأسطورة وبالتالي فلا مناص من أن يلتقيان عبر ما أوردته ألف ليلة وليلة في حكاياتها من طقوس متنوعة لا نملك إلا أن نقف مبهورين حيال دقتها في وصف تفاصيل الطقس ـدينيا كان ، أم قوميا ، أم اجتماعيا ـ فوصفت تشكيل الكتل ، واستخدام الخطوط والألوان ، وارتداء الأقنعه ، وتلوين الوجوه والأجسام . ذلك في مجمله مشهدية درامية مكتملة العناصر، مما يكفل لهذه الطقوس الأسطورية ، أوالأسطورة الطقوسية (22) إحداث أثر بالغ في نفوس المتلقين . وعليه فسوف أقسم طقوس الف ليلة إلى أنواع ثلاثة هي :

1ـالطقس المرتبط بعادة اجتماعية معينة ، اعتاد شعب ما ، أو جماعة ما ، أوقبيلة ما على ممارسته في ظروف خاصة ، ودوافع خاصة . ومن أمثلة ذلك طقس تلك الشعوب التي كانت تحرق الزوجة مع جثمان زوجها المتوفى ، وهذا هو السندباد البحري يصف الطقس بعد أن أهداه الملك زوجة وقصرا

حكى السندباد قائلا ::

ثمأن الملك أعطاني بيتا عظيمـا ، وأعطاني خدما وحشما ، فصرت في غاية الراحة والانشراح ، وقلت في نفسي : إذا سافرت إلى بلادي آخذ الزوجة معي ، ولم يعلم أحد بما جرى لي ، فقد أحببت تلك المرأة ، وأحبتني محبة عظيمة ، ولمنزل على هذه الحال مدة من الزمن ، وذات يوم أفقد الله زوجة جاري وكان صاحبا لي ، فدخلت إليه لأعزيه في زوجته فرأيته في أسوأ حال ، متكر مهموم، فعندذلك عزيته وسليته وقلت له : لا تحزن على زوجك ، الله يعوضك خيرا منها ،ويكون عمرك طويلا إن شاء الله تعالى ، فبكى بكاء شديدا ، وقال : يا صاحبي كيف أتزوج بغيرها ؟ وكيف سيعوضني الله خيرا منها ؟ وما بقي من عمري سوى يوم واحد ، فقلت مندهشا : وكيف ذلك ؟ فقال لي : في هذا النهار يدفنون زوجتي ،ويدفنوني معها في القبر ، إنها عادتنا في هذه البلاد ، إذا ماتت المرأةيدفنون معها زوجها وهو حي ، وإن مات الرجل يدفنون معه زوجته حية حتى لايتلذذ أحد منهما بالحياة بعد رفيقة وتشاء الأقدار فتحل مصيبة ذلك الرجل بالسندباد حيث تمرض زوجه وتموت وتبدأ مراسم دفنها ودفنه معها ، انظروا كيف يصف الطقس :

( إجتمع غالب الناس يعزونني ، ويعزون أهلها فيها ، وقد جاءني الملك يعــزيني فيها ، ثم إنهم جاءوا لها بغاسلة فغسلوها، وألبسوها أفخر ما عندها من الثياب ، والقلائد ، والجواهر والمعادن، ثم وضعوها في التابوت وحملوها وراحوا بها إلى ذلك الجبل ، ورفعوا الحجرعن فم الجب وألقوها فيه ، ثم تقدم جميع أصحابي وأهلي لتوديعي في ليس فيهابل في نفسي أو موتي ، وأنا أصيح بينهم ، أنا رجل غريب وليس لي صبر على عادتكم ، وهم لا يسمعون قولي ولا يلتفتون إلى كلامي ، حيث أمســـكوا بي وربطوا معي سبعة أقراص من الخبز ، وكوز ماء ، وأنزلوني في ذلك البئر ، وقالوا لي فك نفسك من الحبال ، فلم أرض أن أفك نفسي فرموا علي الحبال ، ثم غطّوا فم المغارة بحجر كبير، وراحوا إلى حال سبيلهم)(23) .

إن حكايات ( السندباد البحري ) وحدها تحمل العديد من أشباه هذه الطقوس ،التي عرفتها الشعوب القديمة ، ومنها ان السندباد تعـرّض ورفاقة ـ في مغامرته الرابعة ـ لخطر " أكلة لحوم البشر" ، الذين جعلوا من الغول ملكاعليهم ، وكلما قبضوا على أي بشر أطعموه طعاما غريبا ، ودهنوه بدهن النارجيل حتى ينتفخ بطنه ، ويسمن فيذبحونه ويشوونه ، ثم يقدمونه للغول الملك ،أما هم فيأكلون الضحية دون شوي أو طبخ ، وهذا المشهد يتكرر كثيرا في الأساطير القديمة حيث الأقوام الذين يعيشون في عزلة عن الناس ، ويأكلون لحوم البشر ، وتصفهم الأساطير بأنهم عراة ، مفلفــلي الشعر ، سود البشرة ،إذا وقع بينهم الغريب علقوه من أقدامه وشرّحوه تشريحا وأكلوه .

النوع الثاني هو الطقس المرتبط بشعيرة دينية : أو كما أطلق عليه البعض ( الطقس المعبدي) ، ويتخذ هذا النوع من الطقوس مكانة كبيرة في عالم الأسطورةاعتمادا على الطقس الديني .ومن أمثلته في الليالي ما ذكر في حكاية ( قمرالزمان ) ، حـيث تقــابل (الأسعد بن قمر الزمان) فيها مع شيخ ينتمي إلى قوم يعبدون النار ، وكان هذا الشيخ وقورا ، يطيل لحيته البيضاء ، ويرتدي الملابس الفاخرة ، والعـمامة الحمراء ، وقد طلب هذا الشيخ من الأسعد أن يدخل معه إلى منزله ، فدخل فإذا بأربعين شيخا آخرين يتحلقون حول النار ،ويمارسون طقوس العبادة ، وكانت تلك الدعوة للأسعد مجرد خديعة من الشيخ يريد بها ورفاقه الآخرون ذبح الأسعد قربانا للنار.

النوع الثالث : الطقس المرتبط بالسحر : حيث يزاول فيه كل من الساحر ، والكاهن ، والعراف ، والمنجّم أعمالهم السحرية ، من أجل تحقيق غرض نفعي لهم ، أو لغيرهم ، خيرا أو شرا .وهذا الضرب من الطقوس يتكرر في الليالي بكثرة ،وتظهر المرأة العجوز الساحرة كثيرا ، فتقوم من خلال الطقس بتحويل القلوب ،وإحداث الأذى بالآخرين ، كما ظهرت العاشقة التي تسحر لتستجلب المحبة منحبيبها

3 ـ أسطورية شخصيات الليالي :

اقتربت الشخصيات التي قدمتها لنا الليالي من الاسطورة ، فتوافرت على العديد من عناصرها ، ومنها ـ بصورة عـامة ـ أن الليالي قدمت لنا ( أنماطا ( لا شخصيات ، و ( النمط ) هـو : ما يعكس صفة ثابتة ، ومتكررة تختزل مجموعة صفات ، أما العناصر الأسطورية التي برزت في شخصيات الليالي فهي على النحو التالي :

هوامش البحث :

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) توظيف التراث في المسرح ، لـ عز الدين اسماعيل ( ص : 178) / فصول / الهيئة المصرية العامة للكتاب ـ القاهرة / مج 1/ ع 1/ اكتوبر 1980 م 173

(2)التراث القصصي في الأدب العربي ( مقاربات سوسيوسردية ) ، لـ محمد رجب النجار ( المجلد الأول ) (ص : 70) / مرجع سابق

(3) أدب الحكاية الشعبية ، لـ غراء حسين مهنا ( ص : 11) / مكتبة لبنان ـ بيروت / ط1/ 1997م

(4) الأدب والأسطورة ، لـ هيرمان نور ثروب فراي ( ص68) / مرجع سابق

(5)التراث الشعبي في المسرح المصري الحديث ، لـ كمال الدين حسين (ص : 26) / الدار المصرية اللبنانية / ط1/ 1993م 0

(6)يُمثل للخرافات بــ : حكاية الصياد والعفريت، وحكاية التاجر مع العفريت، وحكاية في شأن الجن والشياطين المسجونين في القماقم

(7)الروايات والقصص ، مثل : حكاية عمرو بن النعمان وولديه شركان وضوء المكان ، وحكاية علاء الدين أبي الشامات

(8)الأساطير، مثل : حكاية مدينة النحاس ، وحكاية السندباد البحري في سفراته السبع

(9)الحكايات التهذيبية ، مثل : حكايات الحيوان كحكاية الثعلب مع الذئب وابن آوى ، وحكاية الغراب والسنور ، وكذلك الحكايات الواقعية كحكايةالجارية تودد

(10)الحكايات الفكاهية ، مثل : حكاية النائم واليقظان ، وحكاية الخليفة والصياد ، وحكاية معروف الإسكافي

(11)حكايات النوادر ، كحكايات الكرماء ، وحاتم الطائي ، ومعن بن زائدة

(12)ألف ليلة وليلة ، لـ ليتمان ( ص : 144)/ ترجمة ابراهيم خورشيد وآخرين / دار الكتاب اللبناني ـ بيروت / ط1/ 1982م

(13)حكاية قمر الزمان ابن الملك شهرمان ، لـ منى مؤنس / مجلة فصول مج 13 / ع1 ( ص: 116) / الهيئة المصرية العامة للكتاب ـ القاهرة / 1994م

(14) يقول الدكتور محمد حمدي ابراهيم في هذا السياق : ( كذلك فإن الأساطير الإغريقية .. تحمل في طياتها بذور الفكر الدرامي .. فإذا كان المسرح الإغريقي قد وصلب الفكر الدرامي إلى قمة شامخة فلا ينبغي أن ننس أن قدرا كبيرا من هذاالفكر الدرامي كان كامنا في تلك الأساطير حتى ينسج منها كتاب المسرحأعمالهم الخالدة ) انظر نظرية الدراما الإغريقية ، لـ محمد حمدي إبراهيم ( ص: 7)

(15) المقصود بالصراع الميثولوجي هو :

) أن التصور الأسطوري للعالم ، ما هو إلا تصور درامي على أساس من الصراعالمحتوم بين الإنسان والقدر ، كما يظهر في الأساطير المبدأ الثنائي للقوى المتعادية ، والصراع بين الخير والشر ، كما أن عالم الاسطورة عالم درامي ،عالم من الأحداث والقوى المتصارعه ) انظر: أساطير التوراة الكبرى وتراث الشرق الأدنى القديم ، لـ كارم محمود عزيز ( ص: 19) / دار الحصاد ـ دمشق / ط1 / 1999م

(16) انظر الف ليلة وليلة ،حكاية الصياد والعفريت ، الليلة الثالثة . ويعيد عبد التواب يوسف أصل هذه الحكاية إلى قــــــديم الـــــــــــزمان حيـــــث يذكــــــر حكايةقديمة مشابهة ، عن طبيب سمع صوتا يناديه من فوق شجرة ، وإذا به شيطان سجين في ثقب صغير في تلك الشجرة ، فيشترط الطبيب عليه أن يعطيه مقابل إطلاق سراحه دواء يشفي جميع الأمراض ، ومادة تحوّل كل شيء إلى ذهب ، ويحقق الشيطان ذلك للطبيب لكن ما أن يحرره حتى يحاول قتل الطبيب فيتحداه الأخيرأن يتحول إلى عنكبوت ، فيعود الشيطان عنكبوتا كما كان في الثقب ، وهنا ينجح الطبيب في الإجهازعليه انظر : الطفل العربي والأدب الشعبي ، لـ عبدالتواب يوسف ( ص: 65) / الدار المصرية اللبنانية ـ بيروت / ط1/ 1992م

(17)المنهج الأسطوري في تفسير الشعر الجاهلي ، لـ عبد الفتاح محمد أحمد ( ص: 57) / دار المناهل ـ بيروت / ط1/ 1987 م

(18) في علم الانثروبولوجيا يفهم الطقس Rite على أنه (من مترادفات كلمة ( شعيرة Ritual ) وان الأسطورة والشعيرة من أشكال التعبير عن القدرات الرمزيةوالتعبيرية للإنسان ) انظر: موسوعة علم الإنسان ـ المفاهيم والمصطلحات الأنثروبولوجيه ، لـ شارلوت سيمورـ سميث (ص : 457) / ترجمة محمد الجوهري وآخرون / المشروع القومي للترجمه

(19) تشريح الدراما ، لـ مارتن أسلن ( ص 28) / ترجمة يوسف عبد المسيح ثروة / منشورات مكتبة النهضة ـ بغداد / ط2/ 1984م

(20)الأسطورةالطقوسية : (هي نوع من أنواع الأسطورة ، كالأسطورة التعليلية ، وأسطــورةالتكوين ، والأسطورة الرمزية ، وأساطير الآلهة ، والأساطير البطولية ،ونعني بالأسطورة الطقوسية ـ تحديدا ـ الأساطير المرتبطة أساسا بعمليات العبادة ، أيا كان شكلها وطريقتها والتي تعتمد على الطقوس ( الفعل الحركي ) ، والأسطورة ماهي إلا ذلك الجانب القومي المصاحب لهذه الطقوس ، والذي يصبح فيما بعد حكاية لهذه الطقوس ) انظر:التراث الشعبي في المسرح المصري الحديث ، لـ كمال الدين حسين .

(21)ألف ليلة وليلة / الحكاية الرابعة من حكايات السندباد / الليلة 547/ الجزء الثالث / ص 147 .

(22)ألف ليلة وليلة / حكاية حاسب كريم الدين الليلة 464 / الجزء الثالث / (ص : 27) / دار ومكتبة الهلال ـ بيروت

(23)الراويفي اللغة : ( من روى الحديث والشعر يرويه رواية وترواه ، ورواية كذلك ،إذا كثرت روايته والهاء للمبالغة في صفته بالرواية ، ويقال : روّى فلان فلانا شعرا إذا رواه له حتى حفظه للرواية عنه، قال الجوهري : رويت الحديث والشعر رواية فأنا راو ٍ في الماء والشعر من قوم رواه ، ورويته الشعر ترويةأي حملته على روايته وأرويته أيضا ) انظر: لسان العرب مادة ( روى )، لابن منظـــور( ص : 153) / دار صادر ـ بيروت / ط1 / 1997م .و يعرف الراوي في الاصطلاح بأنه ذلك ( الشخص الذي يروي الحكاية ، أو يخبر عنها سواء كانت حقيقية ، أو متخيله) انظر : السردية العربية ، لـ عبد الله إبراهيم ( ص : 11 )


د. سامى الجمعان
ألف ليلة وليلة... سحر السرد وتجلياته الدرامية
 
أعلى