إبراهيم العريس - "مخطوطة وجدت في سرغوسطة".. الليالي العربية في رعب اسبانيا

منذ اكتشف العالم كتاب ألف ليلة وليلة. والكتّاب لا يكفون عن محاولة محاكاته، أو الاستيحاء منه. ولقد أضيف كتاب التراث الحكائي العربي/ الشرقي هذا، الى ذلك النمط من كتب الحكايات الذي كان معروفاً على نطاق واسع في الغرب، مثل "ديكاميرون" بوكاشيو، ليشكل زاداً للمبدعين وأسلوب كتابة شيقاً، يمكن فيه التنقل بين البلدان والمواضيع والأفكار والشخصيات وفق هوى الكاتب وبما فيه لذة القارئ، مع العودة الدائمة الى الحبكة أو الشخصية الرئيسية. وغالباً ما كان هذا النوع من الكتابة يقسم ازمانه وفصوله على ايام وليال، على نسق "ألف ليلة" أو على نسق "ديكاميرون" التي يرى بعض الباحثين ان مؤلفه لا شك اطلع على الليالي العربية، أو على مصدر من مصادرها، كما هي الحال بالنسبة الى حكايات كانتربري الإنكليزية التي تمت بصلة حميمة الى "ديكاميرون".

وعلى رغم تعدد الكتب، وفي لغات عدة، التي استوحت "ديكاميرون" أو "ألف ليلة" أو الاثنين معاً، يظل كتاب البولندي يان دي بوتوسكي، الأغرب والأكثر اثارة، مع ان الكتاب المعروف اقل من غيره، ومع انه لم ينشر مكتملاً في اية لغة حتى الآن، إذ في كل مرة يقال فيها ان فصولاً جديدة منه اكتملت وعثر عليها، يتبين ان ثمة فصولاً لا تزال ضائعة، بحيث ان حكاية هذا الكتاب، في حد ذاتها، صارت جديرة بأن تكون عملاً مستقلاً في ذاته. والكتاب الذي نعنيه هو "مخطوطة عثر عليها في سرغوسطة" الذي كتبه بوتوسكي اصلاً بالفرنسية وأعطاه عنواناً بسيطاً هو "الأيام الإسبانية"، لأن أحداث الكتاب تدور في إسبانيا، وباكراً في القرن الثامن عشر. ومن الواضح ان بوتوسكي لم يكتف بأن يستوحي "ألف ليلة وليلة"، بل جعل مركز الثقل في العمل شقيقتين مسلمتين هما امينة وزبيدة، يلتقي بهما بطله منذ اول رحلته فيغرم بهما، ويعود طوال الرحلة ليلتقي بهما من جديد، تطلعان له في لحظات خاصة كالسحر، بحيث يستنتج القارئ في نهاية الأمر ان هاتين الحسناوين ليستا سوى تجسيد للأشباح، أو لأحلام البطل... ومصدر إلهامة وحبه وقلقه. وكذلك على الدوام مصدر الرعب الذي يتملك القارئ طوال صفحات هذا الكتاب الغريب.

< يان بوتوسكي لم ينه هذا الكتاب سوى خلال العامين الأخيرين من حياته الصاخبة التي عاشها متنقلاً أفاقاً وديبلوماسياً مغامراً، وأتاحت له ان يضع الكثير من الكتب، من دون ان يتوقع يوماً أن ينتهي به الأمر الى كتابة هذا النص الساحر الغريب، فهو في كتاباته قبل ذلك كان مجرد عالم وباحث يخوض في تاريخ الشعوب، وفي ادب الرحلات، وفي الاكتشافات الجيولوجية. اما بالنسبة الى الأدب فكان مجرد قارئ لا اكثر. لكنه ذات يوم، وبعد ان انهكه الترحال كما يبدو جلس وبدأ كتابة "الأيام الإسبانية"، وربما على سبيل التسلية، ثم مات بعد إنجازها بعام ونصف العام. واللافت هنا هو ان المخطوطة الأصلية التي وضعها بوتوسكي للكتاب بالفرنسية قد فقدت، ثم ظل ما تبقى منها - والى فترة قريبة من الزمن - شبه مجهول تماماً، بحيث ان احداً لم يأت على ذكره. والكتاب كما عاد وبدأ يكتشف لاحقاً. وبشكل متتابع، يقدم نفسه على شكل مغامرات متتالية غريبة ومتنوعة، يعيشها في شكل حكايات داخل الحكايات على نسق ألف ليلة ضابط شاب من اصل هولندي، يقوم برحلة داخل إسبانيا. والحكايات تتحلق في الأساس من حول حكايات الجن التي يعيشها هذا الضابط الشاب مع شقيقتين سنفترض في النهاية انهما شيطانان مرتبطان بكوكب الجوزاء. اما الحكايات فموزعة على ايام، وداخل الأيام ثمة فصول وتقاطعات.

< الضابط الشاب المعني هو ألفونس دي فوردن ذو الأم الإسبانية، الذي يتعين عليه خلال رحلته الى مدريد ان يقطع السييرا ماديرا التي كانت خالية خاوية في ذلك الحين، إلا من البوهيميين وقطّاع الطرق. وهو عند اول رحلة يجد نفسه امام لصّين ميتين صلباً على خشبة. ثم يصل الى نزل مهجور لأنه مسكون، كما يقول اهل المنطقة من قبل الجن. ويقرر ان يمضي ليلته هناك. وعند منتصف الليل يوقظه من نومه حضور الفتاتين الرائعتين امينة وزبيدة اللتين تقولان له انهما ابنتا عمه، وتعلنان حبهما له وتعدانه بالثروة والحياة الحلوة إن هو اعتنق دينهما. والثروة هي عبارة عن كنز من الذهب مخبأ في الجبل. لكن دي فوردن يرفض، ويعود الى النوم بين الفتاتين ليفيق مرعوباً بعد لحظات ويجد انه معلّق بين اللصين الميتين. ويهرب ليلتقي بناسك في الصحراء يجده وقد آوى عنده شخصاً مجنوناً قال انه قد حدث له ما حدث للضابط الشاب. وهكذا تبدأ بالنسبة الى هذا الضابط الرحلة العجيبة التي تروى لنا، والتي تسير دائماً في تكرار يبدو الأمر معه وكأنه لعبة مرايا مذهلة. غير ان المغامرات تختلف وتقطعها حكايات ولقاءات تجعل الكتاب كله يبدو مثل تلك الدمية الروسية التي تخفي داخلها دمية اخرى وهكذا الى ما لا نهاية.

< عندما كتب يان دي بونوسكي هذا النص، كان قد تجاوز الخامسة والثلاثين من عمره، وكان قد وضع الكثير من كتب الرحلات، بل كانت صارت له في ادب الرحلات فلسفة عبّر عنها بعبارة مشهورة له تقول: "من المؤسف ان الرحالة لا يستخدمون في مجال ملاحظتهم لما يزورونه، سوى النظارات التي كانوا احضروها معهم من ديارهم، مهملين ضرورة ان يعيدوا تقطيع وصقل زجاجات النظارة لتتلاءم مع البلدان التي يزورونها. والحال ان كتابته هذا النص الغريب عن اسبانيا، واستيحاء من تراثها الشرقي، وباللغة الفرنسية يمكن ان يعتبر من جانبه صقلاً لنظاراته. مهما يكن من الامر فإن بوتوسكي حين كتب "الايام الاسبانية" التي ستحمل لاحقاً اسم "مخطوطة وجدت في سرغوسطة"، انطلق فيها، كما سيفعل كتّاب كثيرون من بعده، ليس اقلهم امين معلوف، في "سمرقند" مثلاً، من حكاية ضابط في الجيش الفرنسي يعثر خلال حصار سراغوسطة في العام 1809، على مخطوطة مرمية في بيت مهجور. وهذه المخطوطة هي التي تروي مغامرات الضابط الغالوني الشاب في سيرامورينو. وهذه المغامرات تدوم 66 يوماً، وكل يوم يروي حكاية، وغالباً من طريق شخصيات يبلغ عددها الاجمالي 32 شخصية، ويلتقيها الضابط خلال رحلته. والطريف اننا في نهاية الامر لن نجد انفسنا امام حكاية غرائبية طالما ان المؤلف يحرص على ان يبرر كل الاحداث التي شاهدناها ويعطيها معقولية مفاجئة... وواقعية.

< يان دي بوتوسكي كما اشرنا، عالم آثار بولندي ومؤرخ، وأحد مؤسسي علم الاناسة السلافي. وهو خلال سنوات حياته غير الطويلة تجول بين البلدان الاوروبية وآسيا وأفريقيا، حيث رصد الاعراق واللغات وتنبه خصوصاً الى التراث الشفهي للشعوب ووضع عن ذلك كله مؤلفات عدة لعل اهمها "التاريخ البدائي لشعوب روسيا" 1802 و"الاطلس الاركيولوجي لروسيا الاوروبية" 1803 وكتب رحلات قام بها الى تركيا ومصر وهولندا واسبانيا وغيرها. وخلال فترة من حياته خاض دي بوتوسكي العمل السياسي، ما اورده موارد الافلاس في بلده بولندا، وجعله مكتئباً. وهذا الاكتئاب لا بد سيلاحظه قارئ كتابه الفذ الذي تقدمه هنا. ورحل دي بوتوفسكي عن عالمنا في العام 1815، من دون ان يدري احد شيئاً عن الرواية العجيبة التي كتبها والتي ستصنع شهرته لاحقاً بأفضل مما فعلت كتبه الاخرى مجتمعة.

ابراهيم العريس
 
أعلى