محمد علي اليوسفي - كيف استوحى ابو حيان التوحيدي أجواء "ألف ليلة وليلة"؟ الباحث المصري انور لوقا في د

عندما يبحث أنور لوقا عن "حداثة" أبي حيان التوحيدي الذي عاش قبل عشرة قرون، يوضح بدءاً ان الحداثة "حداثات" ويساير أبا حيان متلمساً، في مواقفه وفي كلامه، تعريف المصطلح. فمهوم الحداثة استقر في أذهاننا نتيجة لظروفنا التاريخية المباشرة حين اقترنت نهضة العالم العربي بالتخلص من الحكم العثماني والانفتاح على الغرب كنموذج. إلا ان ما يلفت الانتباه هو عنوان الكتاب "أبو حيان التوحيدي وشهرزاد" دار الجنوب - تونس فالمؤلف يخرج أبا حيان باعتباره الوراق الذي استلهم شهرزاد. إذ يعتبر الوارث الحقيقي للجاحظ، والجامع بين الأدب الشعبي ألف ليلة وليلة وأدب النخبة.

في السجل الأول يجمع التوحيدي - على خطى الجاحظ - بين الطبع اي الشعور المرهف والمنشأ أي خبرة الثقافة والمجتمع التي توافرت للوراق وفي السجل الثاني يتوافر للتوحيدي تأثره بشجون الأحداث في القصص الخيالية، بعيداً من التكلف، قريباً من "أدب الطبع". ويغامر المؤلف بمنهجه الانتقائي والإسقاطي كما يفعل الباحثون في التراث، فيجد ملامح أخرى لحداثة التوحيدي وريادته في التمييز بين الدال والمدلول، وبين اللغة لساناً والقول خطاباً ونصاً. وهو ما شيد عليه الألسنيون لاحقاً مناهج التداولية وجدلية اللغة والسيميائية الجديدة وعلم السرد. واعتبر المؤلف ان التوحيدي قدم صورة "للمثقف" المحتج على فساد السلطة وتغليب الانتهازية والنفاق، ومعاناته في سبيل التعبير عن رأيه واستقلاله. كما سيفعل لاحقاً كل من روسو وديدرو وأبناء رفاعة الطهطاوي.

ومن أوجه الحداثة عند أبي حيان التوحيدي اهتمامه بموضوع "اللذة والإمتاع" مستبقاً فرويد الذي اتخذ اللذة مبدأ من مبادئ التحليل النفساني وكذلك رولان بارت في كتابه "لذة النص".

أما علاقة المقارنة بين التوحيدي وشهرزاد فيردها الى احتفائه بالتخييل، واعتماده في كتاب "الإمتاع والمؤانسة" على إطار سردي عام يؤدي وظيفة احتواء مضمون الكتاب وجمع أشتاته في قصة جامعة شاملة تماماً كعلاقة شهرزاد بشهريار في فاتحة ألف ليلة وليلة. إذ يذكر أبو حيان التوحيدي انه دوّن في هذا الكتاب، بأجزائه الثلاثة، كل ما دار بينه وبين الوزير من أحاديث، نزولاً عند رغبة صديقه أبي الوفاء المهندس الذي حرص على استيفاء توسطه بينهما بقراءة تفاصيل جلساتهما حتى يكون "كالشاهد معهما أو الرقيب".

والكلام الحديث، لغة، عند التوحيدي، مرادف للجديد ومضاد للعتيق الملل والسقم وعلاقة الحديث بالزمان علاقة حالية. والحديث مرادف لإخصاب الحداثة فهو "معشوق الصبا والنساء" لذلك تظهر المرأة وحكاياتها في نص أبي حيان، وهو ما يشكل بعض التطور في المادة القصصية لتأثره بألف ليلة وليلة. يضاف الى ذلك، الحوار والتقطيع الروائي للزمان، مع كل ليلة جديدة حيث حكمة النهاية التي تنبئ منذ الليلة الثانية ببداية جديدة "قال وقد اكتهل الليل: هذا يحتاج الى بدء زمان، وتفريغ قلب، وإصغاء جديد". وفي ختام الليلة الثالثة نقرأ "وقد تقطع الليل، ويحتاج في هذا الحديث الى استئناف زمان، بعد استيفاء جمام" وهو ما يعادل في ألف ليلة وليلة "ولاح نور الصباح فسكتت شهرزاد عن الكلام المباح".

أنشأ التوحيدي كتاب "الإمتاع والمؤانسة" - في ما يروي - تلبية لرغبة صديقه أبي الوفاء المهندس الذي قدمه الى الوزير ابن سعدان راعي الأدباء ببغداد، ليسامره في شؤون الثقافة والفكر. وكان ابن سعدان من عشاق الجاحظ، فتجاوبا. وامتدت مسامراتهما الى كل الآفاق. وتوقع أبو الوفاء المهندس غزارة تلك الجلسات، فاشترط على أبي حيان أن يدبج له ما يدور من الأحاديث، لينعم بقراءتها وكأنه شهدها. وقسم أبو حيان كتابه الى أربعين ليلة... ولا تدل الأربعون ليلة على أربعين مسامرة واقعية. فالأربعون عدد رمزي يشير الى التمام.

وإذ يتابع أنور لوقا مقومات السرد عند التوحيدي فإنه يأخذ على دارسي الإمتاع والمؤانسة اهتمامهم بالوثيقة التاريخية وقد فاتهم "التعبير الفني" و"دور أبي حيان في نشأة جنس أدبي، قيل انه مفقود عند العرب" وهو الرواية من معناها الحديث" ومن هؤلاء الدارسين أحمد أمين الذي نبه الى "الاختلاق" عند التوحيدي وبين أنه "اخترع"، في مقدمة الإمتاع والمؤانسة، "أشياء لم تجر في مجلس الوزير فهو عرف عنه أشياء من هذا القبيل" ويأخذ أحمد أمين مأخذ الجد، أي الواقعية، ركناً قصصياً بناه أبو حيان حول شخصية صديقه أبي الوفاء المهندس الذي يضطلع بدور "المرسل اليه" - في القصة - لتوصيته بإبقاء تلك الفصول سراً في حياة الوزير لئلا يغضب من تصرف كاتبها في الوقائع.

ويظهر تأثر التوحيدي ببناء "ألف ليلة وليلة" من خلال اختياره لشخوص تضطلع بالأدوار الإبداعية التي يقتضيها السرد. وبصرف النظر عن وجود الوزير الكريم النجيب ابن سعدان والصديق الحميم أبي الوفاء المهندس في واقع أبي حيان التاريخي، فقذ تطلب النص الاعتماد على المقومات الضرورية لتكون هيكل الرواية.

وعند توزيع أدوار "القائمين بالأمر" خص التوحيدي أبا الوفاء بدور المناصر للبطل، وابن سعدان بدور المرسل اليه، المتصرف في مقصود البطل، واحتفظ أبو حيان لنفسه بدور القاصد الذي يسعى الى نيل مكافأة الوزير على حسن مسامراته وهو ما كانت تنتظره شهرزاد من شهريار.

هكذا يظهر أشخاص ثم يختفون لإبراز مغزى يستحسنه المؤلف وهو يتستر دائماً وراء الراوي القائم بمهمة التسجيل والنقل خلال أربعين ليلة تتأزم على أثرها أحوال البطلين اللذين تشاطرا الأنس، تأزماً يفضي الى تمزق صداقة حميمة والى فراق فاجع. وتنتهي "الرواية" نهاية مأسوية مؤثرة.

يستبعد أنور لوقا وجود نواة للرواية والمسرح في "المقامات" التي استسلمت لاستبداد اللفظ وتداعيه. وعن سر إقفار التراث العربي من الرواية والمسرح يقول: "ان بزوغ هذين الجنسين لدينا - بعد اطلاع الرواد على ثقافة الغرب - ظاهرة ترتبط بعودة أدبائنا الى منابع ألف ليلة وليلة. ولعل في إقصاء ألف ليلة وليلة - في ما سلف من تاريخ التراث - بعض ما يعلل فقدان هذين الجنسين، لا سيما وهو يتوافق زمنياً مع تنحية أبي حيان وانتصار من تكلفوا تدبيج الرسائل الاخوانية أو الديوانية أو المقامات. وهؤلاء استدرجتهم اللغة الى التطريب بالسجع والجناس، والى صوغ الألغاز بتقريب بعض الألفاظ من بعض، فأداروا كلامهم في حلقات مفرغة.

أدى اقصاء التوحيدي عقب وفاته، من تاريخ الأدب العربي، الى تحول من الانفتاح على الدخيل واقتباسه الى الانغلاق عن الأصيل وتحجيمه... حينذاك بدأت جناية مقتل الجنسين الأدبيين الحيويين - الرواية والمسرح - اللذين سيتساءل توفيق الحكيم عن سر اختفائهما بحرقة الوارث المحروم الذي بدد أبوه ميراثه.



- محمد علي اليوسفي - كيف استوحى ابو حيان التوحيدي أجواء "ألف ليلة وليلة"؟
الباحث المصري انور لوقا في دراسة مقارنة
 
أعلى