جهاد فاضل - شهرزاد في مواجهة السلطة والجنون

- ماذا منع الملك شهريار من قتلها في الليلة الحادية بعد الألف؟
- الليلة الثانية بعد الألف غير مكتوبة وهي تجعل القراء يحلمون وفق رغباتهم
- ألف ليلة وليلة كتاب لا يمرّ عليه الزمن ويعود إليه قارئه مرات ليغرف منه
- ما الذي دفع شهر زاد إلى عدم العودة لرواية الحكايات مرة ثانية؟
- التراث السردي قابل للنفاذ والندرة ستعقب الوفرة عاجلاً أم أجلاً
- شهرزاد في مواجهة السلطة والجنون
- ملاحظات كيليطو حول "الليالي" ثمينة وتعكس قراءة معمقة لها

الحكايات مدرسة للحكمة لكن يلزم وقت طويل لاكتسابها

المعروف أن شهرزاد في كتاب ألف ليلة وليلة هي المرأة الوحيدة التي نجت من جنون شهريار وبقيت على قيد الحياة، ولكن شهريار كاد يفتك بها ذات ليلة لأن حكاياتها الأخيرة أحدثت مللاً قاتلاً لديه، ولم يقف عنها إلا لكونها أنجبت له ثلاثة أطفال ذكور.

يقول عبد الفتاح كيليطو إن شهريار أوقف شهرزاد بفظاظة في الليلة الحادية بعد الألف قائلاً لها: كفي! وهمّ بقتلها لأن حكاياتها الأخيرة أحدثت لديه مللاً، ولولا أطفالها الثلاثة للقيت حتفها!.

إنها خاتمة متشائمة إذ تكشف هذه الحكاية التي يرويها كيليطو عن عجزها أمام السلطة وأمام الجنون، أمام سلطة الجنون وجنون السلطة.

تفشل الكتب في تغيير مجرى الأشياء وفي تصحيح العالم، ينبغي أن تستسلم الحكمة أمام الهذيان، ولكن لنتأمل جيداً قول الملك: حكايات شهرزاد أحدثت لديه مللاً قاتلاً، والحكايات الأخيرة بوجه خاص، وإذن الأولى أيضاً وإن بدرجة أقل، وإذا كان قد أوقف الراوية، فلأن حكاياتها مخيفة بحيث إن الإنصات إليها يهدّد حياته، ولكي يحمي نفسه، لكي يبقى على قيد الحياة، عليه أن يقتل.

وعلى صعيد آخر، يتضمن سلوك الملك حكما على القيمة المتفاوتة لحكايات شهرزاد، يعني أن حكاياتها الأخيرة ليست في مستوى سحر الأولى، لقد تمّ إضعاف فضول الملك، وبما أن مغامرة الآخرين لم تعد تشدّ انتباهه، فقد ألقى نفسه من جديد وجهاً لوجه أمام صورته، وإذا بالشياطين القديمة تظهر من جديد، فالحكي في نهاية المطاف لا ينقذ من الموت، وعلى الأقل ليس أي حكي كان، يجب أن تموت شهرزاد لكونها لم تفلح في الحفاظ على مستوى حكاياتها الأولى.

هذه الخاتمة كسائر الخواتم ما يقال؟ لا تضع نهاية «الليالي» ينبغي أن يستمر السرد، لكن هل بقي هناك ما يقال؟ ماذا سيروى؟ حكايات وحكايات.

الليلة الثانية بعد الألف

ذلك أنه إذا كانت الكتب الألف هي مصدر «الليالي»، فإن هذه الأخيرة كانت مصدراً لألف كتاب ومن بينها تلك الكتب العديدة التي روت الليلة الثانية بعد الألف، الليلة غير المكتوبة، غير المحدودة، المحتملة، والتي يبدو أنها تمتدّ إلى اللحظة التي أودى فيها الموت بحياة شهرزاد وشهريار، تلك الليلة التي تجعل القراء يحلمون باستمرار، كل واحد منهم يبنيها على استيهاماته ورغائبه!.

ولكن ليست هناك ليلة ثانية بعد الألف ولن تكون، إذ ينتهي الكتاب في الليلة الحادية بعد الألف، الليلة الخشوية لكونها كما يقول النص أبيض من وجه النهار، هذه الليلة تُعَدّ نهاراً لا مثيل له. إنها بلا فجر ولا غد. لا داعي لترقب النهار الموجود هنا مسبقاً والباهر أكثر من أي وقت مضى، لقد جعلت النهار، وهي تستأثر بنوره، عديم الجدوى إذ لن يحدث ظهوره أي قطيعة ولا أي اختلاف. والحال أنه عند انعدام النهار ينعدم الليل. ولن يكون ثمة سوى زمن معلق بين نهار وليلة، بين الذكوري والأنثوي، مما يؤدي إلى المؤالفة بين مبدأين متضادين. تضع الليلة الحادية بعد الألف بوصفها ترفاً وهاجاً وانحرافاً عجيباً، نهاية للانحراف الكبير الذي سبق الليلة الأولى. هكذا يعود النظام الذي أخلّ به جنون الملك إلى نصابه. ولكن ها هو اختلال كوني يظهر للوجود، إذ يمتزج الليل بالنهار. وبهذه التحفة بهذا الإشراف المفاجئ يختتم الكتاب!.

توقيف خيط السرد

ولكن شهرزاد تقرر ذات ليلة قبل ليلة الملل الشديد الذي تسلل إلى شهريار، أن توقف خيط السرد وألا تعود إلى رواية الحكايات مرة ثانية، ما الذي يدفعها إلى اتخاذ مثل هذا القرار عند الليلة الواحدة بعد الألف؟ النص يسمح بكل الافتراضات وفي مقدمتها أن شهرزاد فقدت الرغبة في السرد، هناك افتراض آخر وهو أنها لم تعد تحتمل أن تعيش يوماً بيوم وترغب في أن تتعرف على مصيرها نهائياً وخلال ليلة تكون هي الليلة الحاسمة. افتراض ثالث هو أن شهرزاد صارت تملك السيطرة الكافية على شهريار، وهذا يجعلها مطمئنة إلى قراره الإيجابي، فضلاً عن أنها وضعت ثلاثة أطفال ذكور هم من أجمل الأطفال. أما الافتراض الرابع فهو أنها لم يبق في جعبتها ما تحكيه، أي أنها استنفدت موارد سردها وذخيرة الحكايات التي كانت تتوفر عليها عند البدء.

بعد ثلاث سنوات من جنون القتل، لم يعد الملك شهريار يجد فتاة يضحي بها، ولم يعد لدى شهرزاد، بعد ثلاث سنوات من التدفق السردي حكايات ترويها!.

ولكن لنتخّيل لحظة شهريار، بعد شفائه، وهو في حيرة من أمره لا يدري، ما سيفعله في سهراته الليلية بدون حكايات! لنتخيّله وهو يأمر شهرزاد، ذات ليلة، برواية حكاية جديدة مهدّداً إياها طبعاً بضرب عنقها إن لم تخرج عن صمتها. هذا ما يحصل تقريباً في حكاية قصيرة من «الليالي» هي بمثابة توطئة لـ «حكاية سيف الملوك» تروي هذه التوطئة قصة البحث عن تلك الحكاية، وبالتحديد البحث عن الكتاب الذي يحويها.

الوعد والوعيد

ذات يوم يقوم الملك محمد بن سبائك، وهو من أكبر المحبين للحكايات، باستدعاء قدير يدُعى التاجر حسن ويطلب منه أن يروي له حكاية لم يسمع بها من قبل. الطلب يشتمل، في الوقت ذاته، على الوعد والوعيد: إما أن يشبع رغبة الملك فيستوزره، وإلا عوقب عقاباً شديداً. ويتمكن أحد مماليك التاجر حسن قبيل انقضاء الأجل المحدد في سنة من العثور على حكاية سيف الملوك لدى أحد الرواة الشيوخ في مدينة دمشق!.

والواقع أن الشخصيات المبذرة في «الليالي» كثيرة. وتتأكد إرادة التبذير عادة لدى الابن مباشرة بعد فترة الحداد التالية لموت الأب.

لكن إذا كانت الممتلكات الموروثة مهددة، في أغلب الحالات بالزوال، فما هو يا ترى مصير الإرث الفكري، وبصفة خاصة إرث الحكايات؟ الحكايات تُروى وتُسمع، وسيظل الأمر كذلك على الدوام خصوصاً عندما يتعلق الأمر بوضعية مثل وضعية محمد بن سبائك، ذلك الملك الجبار الذي يتوفر على جميع الوسائل التي تخوّل له تجميع الحكايات على نطاق واسع، والحال أن هذه الحكاية القصيرة تؤكد أن التراث السردي قابل للنفاد، وإن الخصاصة ستعقب الوفرة عاجلاً أم أجلاً: ينفق الملك أمواله بلا روية ويغدق الهدايا على كل من يُقبل من أقاصي الأرض ليروي حكاية جديدة، وذلك بدون أن يتمكن وزيره، القلق بسبب الإسراف الذي يهدّد بإفلاس البلاد، من كبح جماحه، يتم تبذير المال بالتوازي مع تبذير التراث السردي المنقول من جيل لآخر، فمن فرط إنصاته للحكايات، استطاع الملك معرفة نفس القدر الذي يعرفه الرواة في العالم أجمع، وبما أنه استنفد مجموع الثروة السردية. فقد كان عليه انتظار سنة بكاملها قبل أن يستمع إلى حكاية جديدة، هي الأجمل لكنها الأخيرة في الآن ذاته.

ولكن إذا نضبت الحكايات فلماذا لا يتم ابتكارها؟ مثل هذا السؤال غير وجيه إذ ليس باستطاعة التاجر حسن أو غيره ابتكار حكاية ما.

الحكمة

والحكايات مدرسة للحكمة، غير أنه يلزم وقت طويل لاكتسابها. لذلك لا تلتفت شهرزاد نحو الملك لتدلّه على الفائدة الواجب استخلاصها، إلا بعد الانتهاء من رواية جميع حكاياتها: فكنت تعجب مما وقع لك من قبل النساء. وإنه قد وقع للملوك الأكاسرة قبلك أعظم مما وقع لك، وفي هذا كفاية للعاقل وموعظة للعالم، لقد كانت الحكايات مرايا تأمل فيها الملك حكايته الخاصة وتمكّن بفضلها من التغلب على عزلته. ومن ثم فإن حالته بعيدة عن أن تكون وحيدة تندرج ضمن حالات مماثلة إذ استطاع من فرط تماهيه مع شخصيات خيالية أن يكتسب رؤية جديدة للأشياء ويتخلّى عن حقده.

من أطرف ما ذكره عبدالفتاح كيليطو في تحليلاته لألف ليلة وليلة، أن هناك مريضاً آخر في حاجة هو أيضاً للحكايات، إنه قارئ الليالي! فمنذ الأسطر الأولى يتوجه إليه مصنف الكتاب بعبارات تذكرنا بعبارات شهرزاد: «إن سير الأولين صارت عبرة للآخرين لكي يرى الإنسان العبر التي حصلت لغيره فيعتبر ويطالع حديث الأمم السالفة وما جرى لها فينزجر، فسبحان من جعل حديث الأولين عبرة لقوم آخرين. فمن تلك العبر والحكايات التي تُسمّى «ألف ليلة وليلة».

يستعمل النص لفظة «عبرة» التي تعني التحذير والموعظة والمثل، العبرة هي المفعول الذي تخلفه الحكاية والطريق الذي تفتحه بوجه الاعتبار والتفكر. من المفيد ملاحظة أن «عبرة» قريبة من فعل «عبر» الذي يعني قطع الوادي من عبره إلى عبره. مبدئياً كل مستمع إلى حكاية ما يشعر بأنه معني بالأمر. ولهذا فإنه يقطع المسافة التي تفصله عن الذي يحكي في غالب الأحيان حكايته الخاصة. في البداية إذن يوجد كل من الراوي والمستمع على ضفتي نهر. وإذا كان هذا اللقاء الثنائي موسوما بعدم التفاهم بل وبالعداء، فإن التقارب والاتصال يبدأ في التحقق تدريجياً: المستمع يعبر الجسر الذي أقامته الحكاية، ويلتحق بالضفة التي يوجد عليها الراوي.

حكايات عجيبة

ويطرح كيليطو سؤالاً عمن هو القارئ الجيد «لليالي»، ويجيب: على أي حال ليس هو الذي يرى فيها فقط، حكايات عجيبة صالحة للتسلية والتعجب، إن القارئ الجيد هو الذي يستجيب لشرطين اثنين: عليه أولاً أن يستعمل العبرة، أي أن يفكر في مصيره حينما يعلم بما حصل للآخرين. فالحكايات عبارة عن نماذج توجه الاختيارات وتنير السلوك.

وهذا ما يؤكده مصنّف «الليالي» الذي يرى في استعماله العبرة، وفي التعليم بواسطة الأمثلة ممارسة للودع، وخضوعاً وامتثالاً لإرادة الله الذي يأمرنا بالتأمل في حكايات السابقين كي نعلم حدودنا ولا نزيغ!.

أما ثانياً «فالقارئ مدعو ضمنيا إلى كتابة الحكايات أو إعادة نسخها بحروف من ذهب إذا أمكن، كما تفعل العديد من شخصيات «الليالي»، ما إن تنسخ حتى تصبح رهن إشارته باستمرار لتزويده بالمتعة والمعرفة. فعلى أي مادة تستحق أن تكتب؟ إنها مهددة بالخارجية والغربة في حالة ما إذا سُجّلت في كتاب. لهذا سيكون من الأفضل، إذن، كتابتها على الجسد، وإن اقتضى الأمر، ويا للرهبة!، على طرف العين»!.

ويقول الباحث المغربي الكبير إن هناك، بالفعل، جملة في «الليالي» تتردد كثيراً وتثير الحيرة بل الخوف إذا ما ارتأينا أن نأخذها بحرفيتها.

وهل هناك اختيار آخر ما دامت تحيل على الحرف، على العلامة المكتوبة؟.

جملة تركز على العين في علاقتها بالكتابة والخياطة، جملة بتقريبها بكيفية خطيرة بين عضو البصر وبين الإبرة، تهدّد من يقرأها أن يُصاب فجأة بالعمى!.

قراءة متعمقة لليالي

إنها ملاحظات ثمينة حول «الليالي» للباحث المغربي الكبير عبدالفتاح كيليطو هي بلا شك وليدة قراءة معمقة لها، وهي ملاحظات بإمكانها أن تشكل مدخلاً إلى قراءتها من الآخرين، إذ تقدم لهم دليلاً هادياً على ضوئه يمكن فهم الكثير من هذا الكتاب الممتع الخالد الذي كان خير سفير للحضارة العربية الإسلامية في الخارج، وهو كتاب لا يمرّ عليه الزمن، ويعود إليه قارئه مرات ومرات ليغرف من معينه بلا ملل، ومن اطلع على الأعمال الأدبية والفنية التي كتُبت من وحيه، عندنا وعند سوانا، يذهل لأثره الهائل في الثقافة الأجنبية على الخصوص، فهو بالفعل سفير لعدة جهات في العالم منها الشرق بوجه خاص. هذا الشرق، بسحره وسرّه، المبثوث في كل حكاية من حكاياته، هو وراء نفوذه الواسع في كل مكان، وبخاصة في الغرب.

جريدة الراية
 
أعلى