محمد الخضيري - بحثاً عن "المؤلف البولاقي" لألف ليلة

(2-3)

رجل من الأزهر

بقدر ما يجهل اسم مؤلف نسخة بولاق، بالقدر الذي ترسم الكتابات التي عاودت زيارة طبعته الأجواء التي أنتجت فيها نسخة بولاق لألف ليلة وليلة. إنه قدر الكتاب، أن يكون له ألف وجه ووجه... وأن يعود "مؤلفوه" دوماً إلى السرّ.

في كتابه "العين والإبرة"، والذي أفرده لألف ليلة وليلة، يطرح عبد الفتاح كيليطو سؤالاً، يتردد منذ الأزل عن الليالي "من ذا الذي ابتكر الحكايات التي ترويها؟". فهي في الآن ذاته قائمة منذ زمن يبدو موغلاً في القدم، وممتدة إلى الحاضر. حاضر كل قارئ يمد يده إلى شجرتها فيقطف الثمرة التي يشتهي، لكنه في الآن ذاته عاجز عن إكمالها وقد تصيبه اللعنة فيموت إن هو أتم "حكاياتها"، كما تحكي الأسطورة. يجيب كيليطو: "هذا السؤال لا فائدة منه وغير وجيه إذ يمليه فضول غريب عن كتاب الليالي الذي لا يهتم سوى بعملية الرواية".

سؤال فضولي، يجد لذته القصوى في تقصي آثار المؤلِّف الحديث للقصة الأشهر في اللغة العربية. كل الحكايات حوله تتوقف عند وصفه بـ"الشيخ القاهري"، الذي دوَّن القصص دون أن يعلن عن ذاته. قد يبدو هذا، في لحظة أولى، تفانياً من "الكاتب"، الذي حرَّر طبعة بولاق، لكن الدراسات، خاصة لمستشرقين استقرأوا تاريخ الكتاب، تستعيد تفاصيل من عملية التأليف في حد ذاتها، للكتاب الذي بين أيدينا، ويشكل أول طبعة لألف ليلة وليلة في التراب العربي.

ضحية الطهرانية؟

طبعة بولاق، لألف ليلة وليلة، أدخلت الحكايات الأشهر لدى العرب إلى التاريخ الحديث. فرغم وجود مخطوطات متفرقة يتحدث عنها أكثر من مؤرخ، لم يكن هناك كتاب مطبوع يضمها. ويبدو أن حركة النشر المزدهرة في مصر في بدايات القرن التاسع عشر عجلت بنشر كتاب من هذه القيمة في المخيال الشعبي. كلف "الشيخ القاهري" إذا بتأليف الكتاب. لكنه لم يكشف عن هويته. بالنسبة إلى جون كلود غارسان، في كتابه "من أجل قراءة تاريخية لألف ليلة وليلة" وهي دراسة نقدية تاريخية لطبعة بولاق. كانت حكايات ألف ليلة وليلة أدباً، يعتبر أقل مكانة من التاريخ والفلسفة والجغرافيا والتاريخ... ولهذا أراد الشيخ القاهري إخفاء هويته لهذا السبب، يقول الباحث. في تلك المرحلة، يضيف غارسان، كان من العادي لدى الكتَّاب ألا يشهروا أسماءهم حينما يألفون كتباً "شعبية"، لا ترقى إلى الآداب والعلوم "الراقية" الخاصة بالنخبة. لكن غارسان يوضح أيضاً أن هوية الكاتب لربما كانت معلومة بين أوساط أقرانه من "المثقفين" في تلك المرحلة، لأن أسماء المؤلفين كانت متداولة في أوساط المتعلمين. نظرية غارسان تملك صدقية أكبر إن علمنا أن "شيخ بولاق" التزم بالثقافة السائدة في المرحلة بل ألبس حكايات ألف ليلة وليلة لباساً جديداً، يحذف القصص الجنسية والمنتقدة للحكام. فاختار الحكايات "الجيدة" وفق الذائقة العامة، التي صارت تطغى عليها رياح "الطهرانية" التي ابتدأت تستب في الشرق.

وحسب غارسان المستعرب والمؤرخ، والأستاذ السابق في جامعة إيكس أون بروفانس- مارسيليا، الفرنسية، والذي أبحر لعقود في النصوص العربية، تطرح نسخة بولاق العديد من التساؤلات. تساؤلات انطلقت من خلال قراءاته لترجماتها المختلفة. لم يكن من الممكن تصديق التأريخ الذي اقترحه المترجمون للأحداث ولا لنصوص الكتاب. وهو ما دفعه إلى محاولة تأريخ النصوص، من خلال دراسة المعطيات التاريخية التي تقدمها من أجل مقابلتها مع مصادر تاريخية كالمراسلات وكتب التاريخ والجغرافيا إلخ... التي تمكن من الاطلاع على علاقة النص العضوية بالتاريخ وبالتالي تمكّن من الكشف عن سياقاته.

فالنصوص التاريخية، كما يقول غارسان في واحد من حواراته، قد تكشف أن السلطة كانت ممثلة بجهاز ونمط حكم معين، بما أن الفضاءات الجغرافية والمساكن، المذكورة في الكتاب، تظهر لنا هل موافقة للعمران في فترة معينة إلخ. يخلص الكاتب إلى النص، لا يعود إلى الإرث القديم لتراث ألف ليلة وليلة، لكن لنسخ أكثر "حداثة" من نص الليالي.

وهو ما يأتي أيضاً من خلال المعجم المستعمل في رواية حكايات الليالي الألف أيضاً. يقول غارسان، إن المعجم مختلف عما يمكن أن تقدمه النصوص التراثية. انطلاقاً من المعطيات التي استقاها الكاتب يرى أن "الشيخ القاهري"، قدَّم سياقاً تاريخياً معيناً، وبالتالي يمكن القول إن النص الذي قدمه هو نص عرف شكله الأخير في فترة معينة حديثة من التاريخ، ولم يكتب انطلاقاً من النصوص التراثية.

فرانسوا بويون، الباحث الأنثربولوجي، يشير من جانبه في كتابه "ما بعد الاستشراق، الشرق الذي خلقه الشرق"، إلى أن ولادة نسخة بولاق، ما هي إلا صنيعة لكل هذه التحولات السياسية والاجتماعية التي فرضت الانتقال التدريجي من نسخة متحرّرة وشجاعة إلى نسخة "محافظة". فيقول إن مقدمة الكتاب مقارنة بنسخ أخرى، تدل على هذا "الاختزال الذي طاول الكتاب". ولربما هذا التشذيب كان أيضاً لانتماء "مؤلف بولاق" إلى المؤسسة الدينية، وعدم قدرته على كسر كل القواعد المتعارف عليها، ما دفعه إلى "تأليف" الكتاب انطلاق من القواعد المرجعية لعصره التي فرضت ذوقاً عاماً محافظاً. بيون يحيل، لإظهار هذا الملمح في الكتاب، إلى مترجم آخر لـ"ألف ليلة وليلة". يخص الأمر أندري خوام، ذا الأصول السورية الذي ترجم ألف ليلة وليلة إلى الفرنسية في القرن العشرين. خوام، كال الكثير من الانتقادات إلى نسخة الشيخ القاهري. فلا يتردد في الحسم بأن مؤلف نسخة بولاق "كان مراقباً عن قرب من طرف الأزهر، ما جعله يفضل الاعتماد على مراجع حديثة (من القرن الثامن عشر)، المشذبة أصلاً (...) ففي هذه الحقبة، هبت رياح من التقشف الطهراني في العالم الإسلامي: ظاهرة لم يمنحها المؤرخون أحياناً ما يكفي من الاهتمام. وهو ما نحسّه بفظاعة في نسخة بولاق، التي تخفي عن القارئ التقيّ صورة الخليفة الذي يتنكر في زي العامة، ويهدد بالضرب، وحيث لا تسكر الشخصيات بالنبيذ بل تكتفي بشرب عصير الفاكهة..." يقول خوام.

يبدو من خلال الإشارات النادرة، هنا وهناك، أن الشيخ الذي كان في الخمسينيات من عمره كما يرجح غارسان، كان يخضع لسطوة المرحلة، وهو ما قد يحيل إلى أن هويته لم تكن مجهولة تماما إبانها. كان النص محافظاً، خوفاً من ردة فعل المؤسسات الدينية والسلطة، وربما للحفاظ على سمعة الشيخ، المهووس بهذا التراث الذي يعتمد في جزء منه على الطابع الشفاهي للحكايات، لكنه يصقلها في نسخة مكتوبة صارت مرجعية. فطبعة بولاق، كانت المادة الأساسية التي اعتمدها المترجمون من المستشرقين. وفي السياق الفرنسي، تظل ترجمات أنطوان غالون وماردريس (الترجمة الأكثر شهرة لنسخة بولاق) ترجمات مرجعية.

"خونة" طبعة بولاق

لم تكن نسخة الشيخ الأزهري الأكثر وفاء للحكايات القديمة لليالي الألف، لكنها كانت النسخة المطبوعة الأولى في الشرق، ففتحت الكثير من الأبواب، أمام الجمهور الغربي والمستشرقين النهمين إلى الثقافة العربية. جوزيف شارل ماردريس، الفرنسي، من أصول مصرية أرمنية، كان أول من أولى عناية خاصة بنص بولاق. ماردريس الذي كان يصف نفسه بــ"المسلم ولادة والباريسي بالصدفة"، والخبير بالإصدارات المصرية النشيطة حينها وبالثقافة العربية التقليدية رأى في النسخة الحديثة مادة دسمة تصلح للترجمة. فانبرى إلى نقلها للغة موليير. ترجمة جاءت لتكسر ضيق الأفق، والانتحال الذي شاب أشهر ترجمة إلى حينها، وهي ترجمة أنطوان غالون، الذي ادعى أنه يملك نسخة مجهولة من ألف ليلة وليلة في حوزته.

لم يكن غالون وحده من يدعي امتلاك نسخة فريدة من النص. فماردريس الذي تعرَّض لانتقادات عند صدور ترجمته إلى الفرنسية، حاول الدفاع عن نفسه، وعن نسخته بالحديث عن امتلاكه نسخة "محفوظة" من الليالي يقول إنه اعتمدها، هو والشيخ القاهري، في إعادة كتابة الليالي! تنقل دومينيك جوليان، في كتابها "عشاق شهرزاد، تنويعات معاصرة على ألف ليلة وليلة" دفاع ماردريس عن نفسه، وعن نسخته الخاصة. يقول: "لقد اعتمدت خاصة على نسخة عربية تعود إلى نهاية القرن 17. هذا المخطوط هو الأكثر اكتمالاً والذي حفظ بشكل جيد، وهو الذي يعتقد المستشرقون أنه اختفى، لكن لحسن حظي وسعادتي أمتلكه شخصياً. إن هذا المخطوط هو الذي أُنجِزَت من خلاله نسخة بولاق التي انتشرت في كل المشرق". لا شيء يثبت أو ينفي ادعاءات المترجم، لكن دفاعه، يوحي باعتماده الكبير على نسخة بولاق في إنجاز ترجمته التي انتشرت سريعاً في أوروبا.

إكزوتيكية شرقية

هكذا، وبتشجيع من الشاعر ستيفان مالارمي، جعل ماردريس من نص بولاق العمود الفقري لترجمته وكساها بنصوص من ترجمات إنكليزية ونصوص آسيوية. لكن نسخته لم تخل هي أيضاً من التهويمات والانزياحات بالنص إلى عوالم أخرى، وهو ما يشير إليه فرانسوا بويون، في كتاب آخر هو "معجم المستشرقين": "المقارنة بين النص، مع الكتاب الأصلي العربي تظهر أن "ألف ليلة وليلة" تتعرض لتحول ملحوظ كما هو الحال مع "الخائنة الجميلة" لغالون. لا يقتصر المترجم على طبعة الليالي، لكنه ينهل من نصوص أخرى خاصة المجموعات القصصية الفرنسية عن الحكايات العربية (آرتان باشا، سبينا بيي) والهندوستانية (غارسان وتاسي). تمت معالجة النصوص الأصلية لإنتاج ألوان براقة إكزوتيكية وإيروسية". يوحي المستعرب والباحث أن هذا التوجه كان لإثارة فضول ونهم القارئ الباريسي في بدايات القرن العشرين، ونقل صورة الشرق الحسي، التي التصقت بالمنطقة وفق بناء استشراقي معين. لكن هذه النسخة التي تضمنت جلّ نصوص بولاق، دفعتها إلى حياة أخرى. إذ ترجمت نسخة ماردريس إلى لغات أخرى منها الإنكليزية والإسبانية والبولونية في بدايات القرن العشرين. لكنها منحت حياة أخرى لنسخة بولاق إذ كانت الأكثر مقروئية في أوروبا، حسب ما يورده بويون.

هذا المصير يجعل من نسخة بولاق سيفاً ذا حدين. فقد اقتطعت من ألف ليلة جزءاً من معناها، وهي تسلبها روح التمرد والحرية المطلقة لشخصياتها، التي تكسر كل القواعد الأخلاقية والاجتماعية. لكنها في الآن ذاته، كانت نصاً مهما فتح أمام الليالي حياة جديدة. وكأنها المتاهة ذاتها تفتح معبراً جديداً للنص، فتدخله أبواب الأبدية، وتمنحه وجوداً جديداً يذيب وجه المؤلف، ويُبقي وجه الحكاية.


* ضفة ثالثة
 
أعلى