حبيب مونسي - تأويل النص السردي القديم: مقاربة في فهم وتأويل قصص الجاحظ.

يقوم الوصف في الفعل السردي مقام العمود الفقري الذي يعطي لهيكل النص اعتداله واستقامته. وليس السرد في حقيقته الأولى إلا وصفا لوقائع وأحداث، تتخللها حوارات في إطار زماني ومكاني. وكأن السارد لا يفعل شيئا سوى استحضار الحادثة من خلال آلية الوصف التي تتفنن في استعراض الحدث والفاعلين والإطار المكتنف لهما. غير أن الوصف بهذه السعة، لا يمكن أن يكون مرادفا للسرد، ولا للقصة. بل سيكون فيهما عنصرا متضمنا إلى جانب عناصر أخرى تشكل حقيقة السرد. فهو من هذه الناحية، قريب الشبه بالتعبير الذي يكون الغاية التي يقوم من أجلها الأثر الأدبي والفني طورا، وطور آخر عنصرا متضمنا في الأثر نفسه. ومن ثم تكون مقاربة الوصف باعتباره صنوا للسرد، غير مقاربته وهو العنصر الماثل فيه مثول العناصر الأخرى.
والوصف في طبيعته الثانية يمكن ملاحظته مستقلا عن عرض الأحداث والأفعال التي تشكل طبيعة السرد. وقد استطاع الدرس النقدي التقليدي التمييز بين لونين من الوصف المتَضَمَّن في السرد. فسمى الأول ب"الوصف التجميلي" "description ornementale" الذي يتوقف دوره عند المعطى الجمالي فقط. والثاني ب"الوصف الدال" "description significative". كما يكون الوصف في حد ذاته "فعلا" كما هو الشأن في الرواية الجديدة.
والذي يكشف عنه التقسيم السابق ضرب من الفهم الذي أخذ مع نهاية القرن التاسع عشر، يستثقل المقاطع الطويلة الواصفة، ويجد قراءتها مملة، مُثقَلة بالجزئيات التافهة التي لا تغني شيئا في دلالة الأثر. خاصة وأن وعي العالم لم يعد على الهيئة التي كان عليها من قبل، تحكمه الرؤية السكونية التي تجد في الأشياء ثباتا قريبا من الأزلية. فالوصف الذي يحاول اختزال العالم في نموذج مصغر ويحاكيه، لا يمكن له أبدا أن يحيط بحقيقته تلك. بل لن يقدم إلا صورة مشوهة عنه.
فالانصراف عن الوصف –انطلاقا من هذا الوعي- جعل النقد الواقعي لا يجد في مقاطع "فلوبير" "FLAUBERT" الوصفية في روايته "السيدة بوفاري" "M. BOVARY"، مجال لعاطفة، ولا لحياة.( ) وكأن ما استثقله النقد الواقعي في تلك الفترة، ليس إلا الإسهاب في عرض اللوحات البرجوازية التي اكتظ بها الأثر اكتظاظا ملحوظا. غير أن ظاهرة الوصف التي نبذها الذوق الأدبي في مطلع القرن، عادت مرة أخرى، في الرواية الجديدة سلاحا لا يمكن اعتباره ضدا للجمالية الرومنسية، بل بحثا غامضا عن شكل جديد من التعاويذ التي لا تزال تنتظر شكل شعريتها الجديدة.( ) إذ غدا الوصف فيها ضربا من الحدث الذي يمتلك شخصيته المتميزة، والتي تفضي في كثير من الأحيان إلى عرض إشكاليات الواقع الذاتي والجماعي من خلال التركيز على جزئيات تافهة في المحيط، تُحَجَّم بمقادير تسدُّ على شخصيات الرواية منافذ الرؤية السليمة للمواقع. وكأن الجزئيات التي تأخذ أحجاما شاذة، كوابيس تؤرق الذوات المعذبة في آتون الاغتراب والوحدة.
لقد عرف "الوصف" تحولات تتماشى والرؤية الفكرية التي تؤطر الفن، من جهة، وتوجه التيارات التي تتلون في المناهج والأدوات. وقد يكون من السهل على متتبع حركية الوصف فيها أن يلحظ –في مقابل الحركات الأدبية- أشكال الوصف المصاحبة لها، على النحو التالي:
1- الوصف الكلاسيكي محاكاة النموذج.
2- الوصف الرومنسي محاكاة وتشخيص + عواطف وأحاسيس.
3- الوصف الواقعي. تصوير + دقة علمية.
4- الوصف الرمزي/الصوفي. تمثيل + تماهي عاطفي + تجريد.
وحركة الوصف بين هذه الرؤى لا تفارق أبدا المطلب الأولي في استحضار الموضوع إلى المعاينة الفنية التي تشف عبر الكلمات. غير أنه في كل محطة من المحطات، يتلبس من الخصائص الجمالية ما يرغمه على أن يضيف إلى أدواته شيئا جديدا يمايز بينه وبين الهيئة التي كان عليها من قبل. فالوصف الانطباعي الذي عرفته المدارس التعبيرية، قد يكون قريب الشبه من الوصف الرومنسي، ولكنه في الانطباعية يجنح إلى تغليف الرؤية بشيء من الضبابية التي تغيم معها الحدود والتفاصيل. وهي عين الظاهرة التي يحملها فن الرسم الانطباعي في عرض أشيائه. إذ ليس الغرض فيه المحاكاة، ولا الدقة، والتجريد.. بل المطلب فيه أن يوهم بوجود الموضوع على هيئة تتحسسها الذات في الشيء الماثل أمامها، حتى وإن كانت غير بيِّنة الملامح في الشيء ذاته. فالانطباع وهمٌ يرتسم على صفحة الذات في لحظة التأمل الثاقب. قد تدوم أولا تدوم، ولكنها تترك للأشياء أمثلة في غاية من الطرافة.
فإذا كانت طبيعة الوصف تتحول مع تحول الرؤى الفكرية المؤطرة لها، فإن وظائفه تلازم في جميع الأحوال ثلاثة أنشطة:
1.2- الوظيفة التجميلية:
إنها الوظيفة التي استشفها النقد الحديث من المقاطع الوصفية الطويلة التي كانت تتخلل الآثار الأدبية الكلاسيكية، والتي رأى فيها ضربا من الحشو الذي يمكن للقارئ الاستغناء عنه، دون أن يغيِّر حذفه من النص شيئا. فهي مقاطع تكتظ بها النصوص من غير أن يكون وراءها هم، سوى هم التنميق، وإظهار القدرة على العرض البليغ. غير أنها ليست كذلك في عين الدارس الذي يجد فيها اليوم -وخاصة في غياب الصور والوثائق- خير معين على تصور الحقب التاريخية، والتعرف على أثاثها، ومبانيها، وألبستها، وعاداتها، وطرق تعاملها.. لأنك تجد في الوصف شريحة اجتماعية حية، تتحرك أمامك بأذواقها، وكليشيهاتها.. فالوصف –بهذه الصفة- وثيقة في غاية من الدقة والطرافة، تستحضر أمامك الغائب الذي يفتقر إلى الوثائق المصورة. بل قد يكون الوصف الذي نجده في الروايات الانسيابية، معينا على مفهم بعض ملامح اللوحات المرسومة في ذلك العصر. فنعرف منها مسميات الأشياء وقيمتها في السلم الاجتماعي والجمالي المهيمن.
إن عملية استحضار الموضوع تتجاوز قيمتها الفنية إلى القيمة التاريخية التوثيقية، حين يتيح الوصف استحضار العصر بكل ملابساته الثقافية والمهنية. فالاستحضار لا يتوقف عند الموضوع الغفل، بل يتعداه إلى التصوير، والتفسير. ومن ثم كانت الوظيفة الثانية:
2-2 - الوظيفة التصويرية:
تُكسب الوظيفة التصويرية الوصفَ قيمةَ الوجود الضروري في صلب العمل الفني. إذ يتعذر على القارئ تجاوزها أثناء القراءة من غير الإخلال بالنص في كليته. ذلك أن الوصف التصويري لا يمكن له أن يكون فضلة يمكن الاستغناء عنها في النص. بل يكون الوصف – وهو يكتسب صفة التصوير- بمثابة العين التي يطل منها المتلقي على عالم النص، وهو يتحرك في الزمان والمكان. وليس التصوير إلا تلك العملية التي تتولى رفع العناصر القصصية إلى حاسة التلقي، بما فيها من ترابطات تلتقي بالسمع، والبصر، والشم، والذوق، واللمس. لأن في التصوير من القدرة السحرية التي تجعل اللغة قادرة على توصيل هذه المحسوسات توصيلا يكاد يكون حقيقيا، إذا كان للوصف التصويري قسط من البلاغة والنفاذ. وقد رأينا في المشهد القرآني كيف تشترك الحواس جميعها في استقبال الصورة، بما يثار فيها من أصوات، وأحاسيس، ومذاق..
لا يخلو نص من النصوص القصصية من وصف تصويري. بيد أننا لا نريد من الوصف التصويري تلك الخاصية الناقلة التي تحاكي العين الزجاجية للمصوِّرة، ولكننا تريد من التصوير تلك الخاصية التي تمازج بين الشيء والعواطف التي تصاحبه. إذ ليست الأشياء في الحاسة الفنية، عاطلة من الأحاسيس. بل لكل شيء مهما كان تافها حقيرا، قسط من الأحاسيس الكامنة فيه، تستنطقها حاسة الفنان وتماهيه معه. فالعالم يكتنز معناه في أشيائه وأفعاله. وليس أمام الفن سوى الكشف عن المستكنّ وراء المظاهر الجامدة التي توحي بخلو الحياة فيها.
ولهذه الأسباب جميعها، لا يمكن الاستغناء عن الوصف التصويري، كما لا يمكن عده فضلة. بل الأحرى بنا أن نتدبر الوصف التصويري على أنه روح السرد الذي ينسج للقصة أرضيتها المعنوية والمادية التي تقوم عليها. إنه الروح الذي يُكسب الأشياء قيمتها الدلالية في النسيج العام. ومن ثم يغدو العنصر البسيط في النسيج الوصفي، عنصرا دلاليا يحبل بالخطاب الذي يرفعه نحو القصة.
3.2-الوظيفة التفسيرية:
إننا حين نقرر في الوظيفة التصويرية معنى الروح الساري في السرد، فإننا نجد في التفسير رافدا جديدا يقيمه الوصف إلى جانب التصوير الذي قد يتوقف عند مجرد العرض الشاخص، فيتولى التفسير إضفاء الحركة التي تمتد من الشيء إلى معناه، أو إلى المعاني التي يقصدها الفنان. إن المبدع –حين يصور- لا يتوقف نشاطه عند عملية العرض التي يستحضر بها موضوعه، بل يريد للموضوع أن يتبوأ موقعا فاعلا في البناء الكلي للنص. هذه الرغبة فيه، تجعل التفسير شطرا متصلا بالتصوير، قائما فيه. وكأننا حين نعزل التصوير عن التفسير، لا نفعل ذلك إلا لغرض التعرف على العناصر فقط. لأن العملية واحدة في أساسها. وكل تصوير تفسير من نوع خاص. ذلك لأننا حين نقف أمام التشبيه، أو الاستعارة.. فإننا نلاحظ وجود الشيء المستحضر ماثلا في وسط دلالي يمكِّننا من استشفاف ظلاله الممتدة بعيدا. وهو امتداد منوط بالوظيفة التفسيرية التي ترفعه إلى مصاف الإشارة، التي يتحول معها الموصوف إلى مجرد مؤشر على ما يقع وراءه من معاني ودلالات.
وقياسا على ما سبق، يمكننا أن نلمس أنواعا مقابلة للاستحضار: فالمحاكاة تكتفي بالمماثلة، بينما يكون في الاستحضار الواقعي تركيز على الدقة العلمية والموضوعية، التي تبقي للموضوع استقلاليته، ويدمج الاستحضار التعاطفي الذات في موضوعها دمجا يخلع عليه الحياة، ويحلق الاستحضار التجريدي في سماء الرمز المنفتح على التأويل. إنها الحالات التي يكون فيها التفسير على درجات متفاوتة من الحضور والفتور. غير أنه في جميع الأحوال شرط ماثل في النشاط الوصفي الإبداعي.
2- الوصف واستحضار الموضوع:
احتل الوصف في الكتابات القديمة مكانة جليلة القدر، بالغة الأهمية، حين أوكلت له الكتابة مهمة نقل القارئ إلى حضرة الموضوع نقلا يتخطى الزمان والمكان، ويتيح المعاينة التي لا تغيب عنها الحركة الدقيقة التي تنتاب الموضوع الموصوف. غير أن الوصف لم يكن أبدا محايدا، خاليا من الكيد بالقارئ والموضوع معا. وكأن الكتابة في حد ذاتها تبييت لقصد، سواء توسلت الوصف أو غيره. وعليه فإن خطابها الخاص لا بد له أن يجد في الوصف مجاله المفضل الذي يحرك فيه عناصره الدلالية. وكلما أعدنا قراءة كتابات "الجاحظ" الوصفية، كلما بدت لنا الوظائف التي تحدثنا عنها من قبل فاعلة في صلب الكلمات المختارة، والعبارات المنسوجة، والرؤية التي تكتنف الوجهة التي يسعى إلى تحقيقها الفعل الإبداعي في أثره. نختار منها نصا يستوفي حقيقتها من "الحيوان" في وصف "قاضي البصرة":
« كان لنا بالبصرة قاض يقال له "عبد الله بن سوار"، لم ير الناس حاكما زميتا ركينا، ولا وقورا حليما، ضبط من نفسه وملك من حركته مثل الذي ضبط وملك. كان يصلي الغداة في منزله وهو قريب الدار من مسجده. فيأتي مجلسه فيحتبي ولا يتكئ. فلا يزال منتصبا لا يتحرك له عضو، ولا يلتفت ولا تحل حبوته، ولا يحل رجلا على أخرى، ولا يعتمد إلى أحد شقيه. حتى كأنه بناء مبني، أو صخرة منصوبة. فلا يزال كذلك حتى يقوم إلى صلاة الظهر، ثم يعود إلى مجلسه فلا يزال كذلك حتى يقوم إلى صلاة العصر، ثم يرجع لمجلسه فلا يزال كذلك حتى يقوم لصلاة المغرب، ثم ربما عاد إلى مجلسه. بل كثيرا ما كان يكون ذلك إذا بقي عليه شيء من قراءة العهود والشروط والوثائق، ثم يصلي العشاء وينصرف. فالحق يقال لم يقم في طول تلك المدة والولاية مرة واحدة إلى الوضوء، ولا احتاج إليه، ولا شرب ماء، ولا غيره من الشراب. كذلك كان شأنه في طوال الأيام وفي قصرها، وفي صيفها وفي شتائها. وكان مع ذلك لا يحرك يدا ولا عضوا، ولا يشير برأسه، وليس إلا أن يتكلم فيوجز، ويبلغ باليسير من الكلام إلى المعاني الكثيرة.» ( )
تتألف قصة "القاضي البصري" من مشهدين اثنين، يمثل " السكون" الحيثية التي يشيعها الوصف في المشهد الأول، بينما تمثل "الحركة" الخلفية التي ينشأ عليها الوصف في المشهد الثاني. وكأن "الجاحظ" بحسه الفني المرهف، يدرك أن المتلقي حين يواجهه سيلا من الأوصاف التي تمكِّن السكون من الاستتباب، يتطلع إلى ما وراء السكون.. إلى الحد الذي سينتهي إليه، فينقلب حركة. وكلما أمعن "الجاحظ" في وصف السكون، بما حشد له من صفات، كلما كان انتظار التحول المفاجئ فيه ضرب من التوقع الذي لا بد له من التحقق إن عاجلا أو آجلا.
إن هندسة الخبر التي أقامها الواصف على مشهدين فقط، تجعلنا نتساءل عن الكيفية التي حقق بها الانتقال من السكون إلى الحركة، من غير أن يفقد الخبر طرافته. إذ الغرض القائم وراءه -في مقصد الكاتب- تصوير الطرافة التي تخرج بالأمر العادي من اليومي العابر، إلى الخبر الملفت للانتباه. والذي يمكن أن يؤول لاحقا ليتخذ أبعادا ثقافية وفكرية بالغة الأهمية والخطورة معا.
أقام "الجاحظ" المشهد الأول على الهندسة التالية:
1- الإطار المكاني للمشهد. البصرة.
2- الإطار الزماني للمشهد. لنا. أي في أيام الجاحظ.
3- موقع القاضي من الناس. زميت (جليل، وقور) ركين (الثابت، الرزين) حليم، ضبط نفسه ضبطا.
4 - آيات السكون في القاضي. يحتبي، لا يتكئ، يظل منتصبا، لا يتحرك له عضو، لا يلتفت، لا تحل حبوته، لا يحل رجلا على أخرى، لا يعتمد على أحد شقيه، بناء مبني، صخرة منصوبة،
5- السكون في الحركة. يقوم إلى صلاة الظهر ثم يعود إلى مجلسه. يقوم إلى صلاة العصر ثم يرجع إلى مجلسه.يقوم لصلاة المغرب ثم ربما عاد إلى مجلسه.فلا يزال كذلك..
6- السكون في السكون. كان شأنه في طوال الأيام وقصارها.. لا يحرك يدا، ولا عضوا، ولا يشير برأسه، وليس إلا أن يتكلم فيوجز، ويبلغ باليسير من الكلام إلى المعاني الكثيرة.
إن إصرار "الجاحظ" على تتبع آثار السكون في القاضي وأحواله، يجعلنا نلتفت من الفكرة التي يحملها الخبر عن القاضي إلى "فكرة السكون" والثبات التي ألزم القاضي بها نفسه. وكأنها هي البؤرة التي يتأسس عليها الوصف أولا وأخيرا. فليس المقصود في الخبر "عبد الله بن سوار" وإنما المقصود هو "الهيئة" التي تتشخَّص من خلال سلوكه ذاك. ومن ثم يكون انتظارنا الذي يمليه علينا الحشد البيِّن لآيات السكون في المشهد، انتظار يتجاوز القاضي إلى ما سوف يعتري السكون المجسد في أحواله. تلك هي الفكرة التي يتأثَّث بها المشهد في كل عنصر من عناصره.
وإذا حاولنا تطبيق بعض الرؤية التي أطرنا بها المشهد لقياس الهيمنة في المشهد، لم نجد للقاضي من حيز سوى بعض الجمل التي أخبرتنا عن اسمه، ومدينته، وزمانه، وأخلاقه.. في حين انصرف الوصف إلى أحوال تتصل بهيئته في إطار السكون ذاته. وكأن القاضي عنصر من عناصر السكون وحسب. وليس الخبر الذي يرفده المشهد، متعلق بالقاضي في شخصه المسمى، بل الخبر للسكون الذي يمثله القاضي في جلسته تلك. وإذا شئنا أن نقرب المسألة مما نريد أكثر، قلنا أن القاضي في هذا المشهد عنصر ثانوي، يقع في درجة تالية بعد الوصف نفسه. فالوصف يحتل الدرجة الأولى المهيمنة في المشهد. فالقاضي - في نفسه- يلتزم الوقار والسكينة، ولكنه في عين الواصف ليس إلا صخرة أو بناء. أي أنه السكون المجسد في هيئة خاصة.
هذه الرؤية تفسر لنا إصرار "الجاحظ" على تتبع آيات السكون وعرضها على نحو يثير الغرابة والتعجب في القارئ. ولا يكتفي "الجاحظ" بها على كيفية واحدة، وإنما يجعلها حركة في السكون، حين يصف قيام القاضي للصلاة: ظهرا، وعصرا، ومغربا.. فلا ينوع لها الصياغة التعبيرية، بل يحافظ على صياغة واحدة رتيبة، ذات صلة واحدة: "فلا يزال كذلك" "ثم يعود إلى مجلسه". فترفع لنا الصياغة حركة واحدة تتكرر في أوقات معلومة، صيفا وشتاء، ربيعا وخريفا. لا يعتريها، على كر الأيام، تبدل ولا تحول.
ولا يقف "الجاحظ" عند هذا الحد من الإصرار العنيد المتتبع للسكون، فيرغمنا مرة أخرى على الانتباه إلى السكون في السكون ذاته. إنه في آيات السكون ينفي أن نتخيل حركة اليد، أو العضو، أو الرأس.. أو غيرها.. إذ لا مجال في السكون أن تشوبه شائبة أخرى، تنزع عنه حقيقته المطلقة. فالوصف هو السيد في هذا المشهد، بما استطاع من عرض، وبما حقق من سكونية للسكون. فإذا جئنا نصنِّف الوصف – بحسب التصنيف السالف- قلنا عنه: أن وظيفته، وظيفة تصويرية تفسيرية تتضمن قيمة جمالية. فكل ما أثّث المشهد من صور أساسي في بنائه، ضروري للفكرة التي يسعى إلى تمثيلها في نهاية المطاف.
و لل"الجاحظ" في هذا المشهد ثلاث حركات استعراضية: حركة أولى تناولت الإطار المكاني والزماني، وأخلاق الشخصية. وحركة تناولت آيات السكون. وحركة التفتت إلى سكون من طبيعة أخرى يتعلق بالإيجاز في الحديث والتعبير عن المعاني الكثيرة بالكلمات القليلة. وهو العرض الذي لا يترك لطبيعة الموضوع ظلا تتوارى وراءه معاني أخرى قد تتصل به. ف"الجاحظ" في استقصائه الوصفي يريد للوصف أن يكون سيد الموقف العام في المشهد. وكأنه الشخصية الرئيسية في الخبر. وعندما يشعر "الجاحظ" أنه قد استوفى حق السكون في المشهد الأول، وأن حاسة الترقب في القارئ قد انصرفت من القاضي إلى موضوع الوصف، ينقلنا فجأة إلى المشهد الثاني، فيقول:
« فبينا هو كذلك ذات يوم وأصحابه حواليه، وفي السماطين بين يديه، سقط على أنفه ذباب فأطال المكث، ثم تحول إلى موق عينيه، فرام الصبر على سقوطه على الموق، وصبر على عضته ونفاذ خرطومه، كما رام الصبر على سقوطه على أنفه، من غير أن يحرك أرنبته، أو يغضِّن وجهه، أو يذب بأصبعه. فلما طال ذلك عليه من الذباب، وشغله وأوجعه وأحرقه، وقصد إلى مكان لا يحتمل التغافل، أطبق جفنه الأعلى على جفنه الأسفل فلم ينهض. فدعاه ذلك إلى أن يوالي بين الإطباق والفتح، فتنحى ريثما سكن جفنه، ثم عاد إلى موقه بأشد من مرّته الأولى. فغمس خرطومه في مكان كان قد آذاه فيه من قبل ذلك، فكان احتماله أقل، وعجزه عن الصبر عليه في الثانية أقوى، فحرك أجفانه، وزاد في شدة الحركة، وألح في فتح العين، وفي تتابع الفتح والإطباق، فتنحى عنه بقدر ما سكنت حركته، ثم عاد إلى موضعه. فما زال يلح عليه حتى استفرغ صبره، وبلغ مجهوده، فلم يجد بدا من أن يذب عن عينه بيده ففعل، وعيون القوم ترمقه. وكأنهم لا يرونه. فتنحى عنه بقدر ما رد يده وسكنت حركته. ثم عاد إلى موضعه، ثم ألجأه إلى أن يذب عن وجهه بطرف كمه، ثم ألجأه إلى أن تابع ذلك. وعلم أن فعله كله بعين !
من حضره من أمنائه وجلسائه. فلما نظروا إليه قال: أشهد أن الذباب ألج من الخنفساء وأزهى من الغراب، قال: وأستغفر الله فما أكثر من أعجبته نفسه فأراد الله -عز وجل- أن يعرفه من ضعفه ما كان عنه مستورا. وقد علمتم أني عند نفسي وعند الناس من أرزن الناس، فقد غلبني وفضحني أضعف خلقه. ثم تلا قوله تعالى:) وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه، ضعف الطالب والمطلوب(.» ( )
كان الوصف في المشهد الأول يصر إصرارا بيِّنا على السكون، وبسط آياته في شخص القاضي وأحواله على مدار السنة. وكانت العناصر التعبيرية التي يسوقها الوصف لتجلية مقاصده تخدم ذلك الغرض، فيرتفع النظر من شخص القاضي إلى السكون ذاته. غير أن المشهد الثاني الذي مهد له الانتظار والترقب في كل صفة وصورة، يتحول بالقارئ من السكون إلى الحركة والإلحاح عليها. فما كان في المشهد الأول إصرارا، ينقلب في الثاني إلحاحا. وبذلك يتوازى المشهدان في مستوى واحد من الاتساع والدلالة.
وعند فحص المشهد الثاني –على النحو الذي جرينا فيه مع المشهد الأول- تتبين لنا هندسته في شكلها التالي:
1- تحديد عنصر المفاجأة. فبينا…
2- مكان الحادث الطارئ. مجلس إفتاء.
3- طبيعة الحدث الطارئ. وقوع الذباب على وجه القاضي.
لقد كانت العبارات الواصفة لمظاهر السكون، عبارات ذات نفس طويل. وكأنها تحاكي في شكلها، وهدوئها، وتواليها، طبيعة الموصوف. فتأخذ منها حظا من السكينة والرتابة. غير أن العبارات التي تصف الحركة الخاصة في المشهد الجديد، تعاين وضعا حرجا. يتصارع فيه السكون والحركة. ويحدث الصدام الحاصل بينهما مزيجا من الوقار المشوب بالقلق المتعاظم في نفس القاضي. فآيات السكون تناضل من أجل الإبقاء على صورتها الأولى، غير أن ما يعتريها من غزو الحركة يجعلها آيات تخفي كثيرا من القلق والضيق. فهي في تبدل أحوالها الداخلية أكثر اضطرابا من الحركة ذاتها. ومن ثم كانت الجمل الموكولة لوصفها، جملا قصيرة، لاهثة، تخفي في طياتها تذمر القاضي من الوضع الطارئ.
وإذا عددنا الجولات التي دارت بين الذباب والقاضي، ألفيناها على التدرج التالي:
1- أطبق جفنه الأعلى…
2- والى بين الإطباق والفتح..( للجفن الواحد).
3-حرك أجفانه..
4-وزاد في شدة الحركة.
5-ألح في فتح العين.
6- تتابع الفتح والإطباق.
7- ذب عن عينه بيده.
8- ذب عن وجهه بطرف كمه.
9-تابع ذلك.
وفي التدرج تقهقر للصبر على الأذى أولا، وتقهقر للسكون ثانيا. وكأن الحركة الغازية استطاعت أن تنتزع من السكون ثباته، وأن تأخذ من أطرافه جزءا جزءا. حتى هزمته أخيرا. وقد أفلح الوصف في رسم درجات التضعضع الحاصل في بنيان السكون، وهو يأخذ منه على قدر في كل جولة من الجولات. كل ذلك يحدث والعبارة الموكولة إلى وصف الذباب واحدة قلما تغير من شكلها. وكأنها في ثباتها ذلك تدل على طبيعة الإصرار والمعاودة في الجولات كلها. "فتنحى ريثما سكن…" "فتنحى عنه بقدر ما.." وكأن العبارة توقيع للجولات، تؤذن الواحدة منها بنهاية شوط وبداية آخر. وعليه فإن الحركة التي تسكن المشهد حركة موقعة بهذا النمط الأسلوبي الذي يعلن عن الفواصل الداخلية في الوصف. فكلما وصل القارئ إلى واحدة منها، انتظر ابتداء أخرى أشد منها وتيرة وإيلاما. وكأنها في تصعيدها تماثل التدرج الانهزامي في السكون عينه. وإذا نحن أمام حركتين: حركة نازلة متراجعة للسكون، وحركة مصعّدة تنتهي بنفي السكون نفيا كليا.
والغريب أننا حين ننزاح عن الخبر إلى الصراع بين السكون والحركة على هذا النحو من الفهم، نجعل من خطاب المشهدين فكرا يتعالى عن مجرد الإخبار الطريف إلى ما يمكن أن يرتسم وراء حدود المشاهد وتخومها. فإذا قلنا أن القاضي قد يمثل الماضي/التراث، وأن السمة التي تلحقهما وتجسد حقيقتهما هي السكون والثبات، وما يتبعهما من مستلزمات كل واحد منهما. فإن الذباب قد يمثل الجديد/ الطارئ، وأن السمة التي تميزهما هي الحركة المستمرة المتصاعدة التي تنتهي بنفي السكون وإبطال سطوته. فالخطاب كما نقدمه في هذه القراءة قد وجدنا صداه في الفكرة التي بسطها "مصطفى ناصف" من قبل في كتابه "محاورات مع النثر العربي" حين قال:« وأنا أنزه القارئ أن يقف عند هذا القص المحبوب لا يتجاوزه، أنزه نفسي عن الانخداع بفكرة الخبر والسرد والواقع والتلهي وتسرية القارئ وترفيهه… هذا الذباب يمثل الحركة والتغير والاضطراب والعدوان أيضا.. لدينا العامة والخاصة. لدينا التقييم الذي لا يعرف الاحتمال والاحتيال. لدينا القياس القديم والاستقراء الحديث.» ( )
إن الذباب من الكثرة والضجيج ما يسمح لنا بأن نرى من خلاله مظاهر الثقافة الجديدة التي انفتح بها العصر الجديد أمام المدونات والأمالي، وصب فيها من الألوان المستجدة ما فيه كثير من العناد، والإلحاح، والعدوان. فكأن الذباب مؤشر على طبيعة الحصاد الذي تلتفت إليه العامة وتستملحه في مقابل ما كان يستجيده أهل العلم والفضل. و"الجاحظ" الساخر/الناقد يعرف ذلك جيدا ويعاينه، ويقدم منه في كتاباته الكثير الذي أضحى عمدة الجديد في الذوق والرؤية الجمالية الحضرية. فالوصف الذي كان بين أيدينا استحضارا لذباب حقير، استحال إلى صراع بين السكون والحركة في المشهدين، واستحال أخيرا –على مستوى الخطاب- إشارة إلى ما يسكن الحضارة العربية في العصر العباسي من صراع دامي بين القديم والجديد. قديم يجد صورته في وقار القاضي، وحرفته، وسكونيته، ووقاره. وجديد يجد صورته في هوان الذباب شكلا، ولكن له من الجسارة والوقاحة، ما يجعله أكثر إلحاحا وصمودا من غريمه.
أ.د.حبيب مونسي
كلية الآداب والعلوم الإنسانية
سيدي بلعباس.
التعليقات
0 # رؤية ثاقبة للعلاقة بين أنماط الخطاب — حبيب مونسي 2009-08-12 18:58
مرورك الكريم يشجعني على المضي في هذا الطرح الذي أجده وسيلة لتجديد الصلة بين القارئ والنص عبر تقنيات كانت البلاغة العربية القديمة تسميها بأسمائها المعروفة غير أنها لم تساعد القارئ على إيجاد كيفيات التعامل معها جماليا. إنك تجد في الاستعارة والتشبيه طاقة تشع في النص ولكنك لا تدري كيف تجعل تلك الطاقة مبعا للذة المتابعة في القراءة. ربما ستجد التشبيه حشرا في أماكن كثيرة من النص، ولكننا إذا رأينا في التشبيه مثلا إمكانية تعبيرية تساعد المبدع على فتح جبهات في نصه للدلالة تتفر ع منها على إمكانات القول ساعتها سنجد في البلاغة صديقا للمبدع يمده بالعون ساعة يكون في حاجة إليه. إنني أرى الاستعارة مثلا تلك الطاقة التي تحرر الدلالة من المباشرة وتدفع بها في فضاءات التأويل فتمكن النص من التمدد دلاليا إن جاز لنا التعبير...





* عن أنفاس من اجل الثقافة والانسان
 
أعلى