بَّتريثْيا إِستيبان إرليس - اللعب.. ت: د. لحسن الكيري

لا زلت أعيش تحت وطأة العقاب. عندما أطل من باب غرفتي الموارب أسمع ضجيج أصواتهم عبر فتحة الدرج. كانت أمي تنشج بصوت خفيض بينما كان أبي يرفع نبرته عندما يتكلم عن تلك المصحة السويسرية التي أوصاه الطبيب أوكامبو بأن يودعني فيها. أستمع إلى وقع أقدامه، بلوب بلوب بلوب، و صوته يقترب و يبتعد بعد ذلك لأنه لم يكف عن التحرك من جانب إلى آخر كنمر الحديقة الأصفر. إنه من دون شك يمشي و يداه خلف ظهره كما يفعل عندما يكون قلقا بينما أمي تبكي و هي جالسة في مقعدها و ساقاها مجتمعان جدا و منديل أبيض اللون مكور بين يديها. يجب أن نتخذ قرارا يا مرسيدس يقول لها أبي، و بعد ذلك يعم الصمت.

سيأخذانني إلى هنالك، لا أدري إن كانت لاوريتا ستأتي معي أم لا لكنني متأكدة من أنهما سيأخذانني إلى هنالك. أنت المذنبة، أقول لها و أنا قلقة جدا و أنعطف انطلاقا من الباب. تبتسم أختي التوأم لاوريتا و هي جالسة على الفراش و تهز كتفيها. إنها متعودة على الانفلات من جميع العقوبات و رغم أنني أفعل فقط ما تأمرني به فإنها تنفلت دائما.

سيحلقون شعري من منابته في ذلك الكوليج الحقير الخاص بالبنات السيئات، سيلبسونني لباسا مخيطا من الأكياس، سيحبسونني في غرفة مليئة بالفئران و الصراصير وسأشرب فقط من ماء المطر الذي يمكن أن أجمعه براحة يدي من بين قضبان نافذة صغيرة. لقد قلتُ لهم الحقيقة لكن لم يصدقوني. أنا خائفة. الآن أبكي بصوت خفيض، هيهيهيهي، مثل كلبنا خاسبير المضطجع في ظل شجرة صفصاف عندما اقتربت منه و تذكار نصر أبي في يدي. لقد احتل أبي المرتبة الثالثة في بطولة النادي السنة الماضية فأهدوه ذلك الرجل البرونزي الحقير بقبعة و عصا جولف مرفوعة، و الذي كان وزنه ثقيلا. في الحقيقة لم يكن لدي أي حساب أصفيه مع خاسبير. كانت أختي لاوريتا، كما تفعل دائما، هي من أمرتني بأن آخذ ذاك التذكار من الخزانة الزجاجية و أن أربطه في طرف الحبل الذي نقفز عليه، هي من همست إلي بأن خاسبير كان يعاني كثيرا من الروماتيزم و كان من الأفضل أن أربط بإحكام الطرف الآخر من الحبل بعنقه. لقد رفضت ذلك في البداية كما هي العادة لكن لاوريتا قالت لي بأننا سنلعب عندها لعبة الموت إن لم أفعل، فأطعتُها .

كان خاسبير أعمى و بالكاد كان يستطيع أن يحرك رجليه الخلفيتين لأنه كان قد بلغ الاثنتا عشرة سنة. تباكى بصوت خفيض عندما انحنيت إلى جانبه كي أداعب أذنيه الطويلتين و المجعدتين كشعر أحد الملوك الفرنسيين المستعار و لم يكف عن فعل ذلك بينما كنت أحمله بين ذراعي حتى حافة المسبح. بعد ذلك رأيته يتخبط بسرعة في تلك المساحة محاولا أن يطفو على السطح لكن القوى ما فتئت أن خانته فورا لينزل إلى القعر. عندما نظرت إليه هنالك في الأسفل، هامدا جدا، فكرت بأنه لم يكن ليثير الكثير من الأسف لأنه في واقع الأمر لم يكن يبدو كلبا صغيرا و إنما ظِلَّ عنكبوتٍ أسود و غليظٍ جدا. بعد ساعة كنت أنا و لاوريتا قد اضطجعنا بهدوء كبير جدا في فراشي و نحن نقرأ معا في نفس كتاب "الخمسة" الذي كان يعجبنا كثيرا بينما سمعنا صراخ أمي في الحديقة.

في الحقيقة، أصبحت لاوريتا مزعجةً مؤخرا غير أن أبي لم يكن ليصدق و لا كلمة مما أقول بينما كانت أمي تشرع في البكاء عندما أتهم لاوريتا بكونها هي من تجبرني على فعل بعض الأشياء. بالطبع، هما ليسا مجبرين على أن يصدقا لعبة الموت الصغير و إنما سيفعلان كذلك كل ما ستطلبه منهم. أكره تلك اللعبة يا أميمتي العزيزة، بحت إلى أمي للمرة ما قبل الأخيرة، إن لاوريتا خبيثة و تقول إنها ستموت أمام عيني إن لم أطعها. لكن أمي نظرت إلي و كأنها لم تفهم، بعينيها المفتوحتين كصحنين و بعض قطع دميتها عطيل الصغير بين يديها دون أن تكف عن الهمس مرة بعد أخرى، لماذا فعلت ذلك، فكتوريا، لماذا؟ لم تكن هي تتصور الأسف الذي شعرتُ به عندما رطمتُ بالأرض تلك الدمية الخزفية السوداء التي كانت في ملكية جدتي الكوبية. هذا إلى درجة أني أغمضت عيني كي أفعل ذلك. كنت أعرف أن ذلك الصغير ذا اللون الشوكولاتي و اليدين الصغيرتين و الغليظتين المرفوعتين و كأني به فرح جدا و سيشرع في التصفيق بين الفينة و الأخرى، قد كان آخر تذكار تبقى لأمي من أمها. كان عطيل الصغير جميلا حقا، جميلا جدا. كان يبتسم بفمه المفتوح و أسنانه الشديدة البياض و حتى أنه كان ذا زغب أسود مجعد في أعلى رأسه الصغير. لقد حاكت له جدتي سيلفيا قميصا و سروالا أزرق سماويا منقطا و الذي كان يرتديه بالإضافة إلى حذاء صغير بأصداف من الللؤلؤ بحيث كانت أمي تغسل تلك الملابس كل أسبوع لكي لا يعلق بها الغبار في أعلى الخزانة. بعد ذلك، و بينما كانت الملابس تجف في الظل، كانت أمي و هي ملفوفة في منشفة بيضاء كما لو كانت كنزا تفرك بقطعة قماش مبتلة ذراعي و ساقي عطيل الصغير و وجهه الأسود السعيد، و هي تدندن بأغنيةِ مهدٍ كانت جدتي سيلفيا قد علمتها إياها عندما كانتا تعيشان في هافانا. كنت أعرف كم كان سيؤلمها أن تجد عطيل الصغير منكسرا إلى قطع، بل سينكسر قلبها هي الأخرى كذلك إلى ركام من القطع بحيث لن يكون باستطاعة أحد إصلاحه كما كان من قبل. غير أن لاوريتا جمعت ذراعيها و حركت رأسها من اتجاه إلى آخر بينما كنتُ أتوسل إليها مهدية إياها كُللي الزجاجية الزرقاء و حوض السباحة بالأرجل النحاسية الخاص ببيت دُمَايَ، و حتى المِدلاة الذهبية التي كانت قد أهدتها إلي عرَّابتنا. يا لكِ من حمقاء، قالت لي. ما حاجتي إلى مدلاة توجد في خصلة شعري، إن جاز لي أن أسأل؟ كسِّري الدمية أو نلعب، قالت. و ما أتذكره بعد ذلك هو أنها جعلتني أصعد فوق أحد المقاعد كي يصبح عطيل الصغير في متناولي، و الذي كان هنالك كما هو الحال دائما جالسا و سعيدا جدا في زاويته من خزانة والدي المصنوعة من الجوز. و لا حتى الارتطام المهول مع القرميد استطاع أن يفقده ابتسامة شفتيه، و إنما شطرها له إلى شطرين فقط.

تنحيت بسرعة عن الباب لأنني سمعت خطى أمي المتعبة في أسفل الدرج. جريت نحو السرير و دفعت لاوريتا فجأة كي تفسح لي مكانا. تصنَّعي، أمي قادمة، قلت لها مغمغمة. و هكذا جلسنا باستواء و شرعنا في اللعب بالحجر، الورق أو المقص. توقفت أمي بمحاذاة الباب و طرقته طرقتين خفيفتين جدا ثم سألت: هل أنت هنا يا فيكتوريا؟ و فعلت ذلك بصوت حزين جدا جعل حنجرتي ترتعش إثر إجابتها بنعم و أننا نحن الاثنتين ها هنا نلعب بهدوء. كنت أعرفُ أن أمي كانت تكتم نحيبها في الجانب الآخر و تنتظر قليلا و يدها في مقبض الباب قبل أن تدخل. لم نقل شيئا أنا و لاوريتا عندما رأيناها تدخل. اكتفينا فقط بالضحك في أذنينا كي تهدأ هي و ترى أن الكل على ما يرام في تلك الساعة. لكن أمي لم تبتسم. كانت تبدو كالشبح الحزين. كانت قد بدأت تبرز في كل رأسها بعض الشعرات البيضاء الفضية بينما كان لباسها الأسود المخيف و الذي يساوي ضعفي قامتها يعطيها هيئة فظيعة. جلست في فراش لاوريتا و سوت المخدة التي تتخذ شكل قلب و بعدها نظرت إلي.

- لماذا، يا فكتوريا؟

ها نحن. تتكلم معي أنا فقط كما هي العادة فتمحي الابتسامة من وجهي. أقلق، أقلق كثيرا. أريد أن تصدقني فأبدأ في الحكي لها مرة أخرى من البداية عمَّا تعلق بالموت الصغير كي تتأكد من أنني لا أكذب. لقد بدأت أحمر من الحنق. أغمض عيني. أقول لها إن لاوريتا ألحت على لعب ذلك أول مرة ذات أحدٍ صباحا، بعد الرجوع من القُدَّاس و أنها كانت تلح على معاودة فعل ذلك. حكيت لها كيف كنا نصعد الدرج جريا بينما كان أبي يجلس في الصالون و هو يقرأ يوميته في حين كانت هي تتوجه إلى المطبخ كي تشرف على أعمال طباختنا ماتيلدي. كنت أمشي بخطوات خلف لاوريتا و هي تَخِبُّ إلى غرفة نومهما و التي كانت مكانها الأثير كي تموت. إذن، كانت تضطجع على فراش الزوجية بينما ترفع ذراعها مشيرة إلي بإيماءة متغطرسة كي أغلق باب الغرفة. و هكذا كنت أفعل. لم أكن أملك أن أخالف لها أمرا رغم أن ذلك اللعب كان يخيفني كثيرا.

طلبت منِّي أمي أن أتفضل بالهدوء لكنني لم أعرها اهتماما. عوض ذلك قلت لها على أني لم أكن أتحمل النظر إلى لاوريتا عندما كانت تبقى هامدة جدا، لكني لم أكن أستطيع فعل أي شيء آخر. كنت أبقى جنب السرير و أنا أنظر إلى شعرها الأسود يطفو فوق المخدة الناعمة كشعر تلك الممثلة المشهورة المتحجر و التي ألقت بنفسها في أحد الأنهار و ظهرت في جميع الجرائد. عندما كانت أختي تغمض عينيها كان الأمر كما لو أن جميع النجيمات البيضاء تنطفئ فجأة و التي كانت تلمع في داخلهما. كانت لاوريتا تشبه دميةً أكثر من أي وقت مضى. كان يخيفني أن أنظر إلى خياشيمها بحليتها و هدبها الطويلة المحنطة حول جفنيها و يديها الصغيرتين المتقاطعتين فوق صدرها و اللتين تشبهان يدي جدتها سيلفيا. كان ذلك عندما أتى ذاك الرجل الرشيق عن خدمة دفن الموتى و قال لنا بأننا يمكن أن نذهب لرؤيتها لأنها كانت قد جهزت للتشييع. كان ذاك اللباس الحريري الذي كانت أمي تلبسنا إياه نحن الاثنتين معا في أيام الآحاد لم يعد يشبه لباسي و تحول إلى كمة ثابتة لمصباح صغير. كان ساقا لاوريتا يبدوان كعَصَوَيْنِ صغيرتين مغمدتين في جوربيها البيضاوين اللذين انتهيا بحذاء جلدي أسود لامعٍ جدا و باطنه لا زال حديثا.

أنا كنت على قيد الحياة بينما كانت أختي لاوريتا قد غادرت إلى درا البقاء. و أنا جامدة جنب السرير، كان الواقع و اللعب يمتزجان فيتحولان إلى شيء واحد. لقد كنت على قيد الحياة بينما أختي التوأم قد غادرت إلى دار البقاء. كنت أحس بالذنب بينما كنت أمشي و أرتعش كما الورقة و عيناي مليئتان بالدموع التي بالكاد كنت أحتويها، في حين قد بقيت أختي هامدة إلى الأبد و الحذاء في رجليها. لقد كان ذلك أكثر سوءا، حذاؤها الحديث الذي لن يبلى أبدا. عندها عدوت نحو الخزانة، فتحتها و اختبأت داخلها. بقيت منكمشة هنالك وقتا طويلا إلى أن شرعت لاوريتا في الضحك و القفز فوق الفراش صائحة بي بأني حمقاء و جبانة فانزعجت و خرجت حانقة عندما لم أعد قادرة على المكوث هناك و خداي محمران جدا بسبب غياب الهواء.

لم أعد قلقة، الآن أضحك بينما أتذكر وجهي الأحمر كالطماطم و قهقهات لاوريتا المجلجلة و هي تشير إلي بينما تكاد تموت من شدة الضحك و هي تركل فراش والدي. عندما أنهيت حكي كل هذا إلى أمي انتبهت إلى أنني لم أعد في حاجة حتى إلى أن تصدقني. أخرجت أمي منديلها المجعد من قبضة قميصها و جففت الأثر الذي تركته الدموع على خديها. كانت لاوريتا تنظر إلي بعينيها الحاقدتين. نظرت إلى أمي متطلعة فقالت بينما كنت أعرف أنها ستقول ذاك لي:

- عزيزتي، لقد ماتت أختك. هل تفهمين هذا الأمر؟

لكنني لم أجبها لا بنعم و لا بلا. نظرت إلى لاوريتا التي أخرجت لسانها الآن و رفعت أصبعها إلى مستوى الصدغ محركة إياه. خامرتني ضِحكة. نعم، بالطبع هي ميتة، ما الذي ستعرفه هي.

بتريثيا إستيبان إرليس
 
التعديل الأخير بواسطة المشرف:
أعلى