دراسة محمد عبدالحليم غنيم - أمين يوسف غراب (1912 ـ 1970 ) قراءة في السيرة والتجربة د.محمد عبدالحليم غنيم

  • بادئ الموضوع د.محمد عبدالحليم غنيم
  • تاريخ البدء
د

د.محمد عبدالحليم غنيم

ولد الأديب محمد أمين يوسف غراب في قرية محلة مالك , مركز دسوق بمحافظة كفر الشيخ في 31 مارس سنة 1912 , ثم انتقلت أسرته إلى دمنهور وهو في سن مبكرة , ومن هنا كانت النشأة ثم العمل في دمنهور فيما بعد . لم يدخل أمين يوسف غراب المدارس قط , ولم يتعلم تعليما منظما في حياته , كما إنه لم يقرأ حرفا واحدا حتى بلغ السابعة عشر من عمره على الرغم من نشأته في أسرة ثرية , لكن يبدو أن أبويه لم يأخذانه بالشدة فعاش مدللا ـ وهو الولد الوحيد ـ مترفا , فإذا ما رغب في عدم دخول المدرسة فله الأمر والطاعة , ومثل ما يحدث لشخصيات قصصه , أو هو القدر على حد قوله أيضا , انقلبت هذه الحياة من النقيض إلى النقيض, يصاب الأب الثري بنكسة تعصف بثروته , ثم بحياته بعد قليل من الوقت , ويضحى على الفتى المدلل المترف أن يواجه الحياة على قسوتها بمخالب ضعيفة وأم لا حول لها ولا قوة , غير أنه سرعان ما تشتد هذه المخالب وتقوى تؤازرها عزيمة قوية ورغبة شديدة في مواصلة الحياة , فيبدأ أمين يوسف غراب في تعلم القراءة والكتابة , وبفضلهما يعمل في أرشيف بلدية دمنهور موظفا , فيكاد يحصل على قوت يومه ويا للأقدار وصنعها , يغضب عليه رئيسه في البلدية , فيعاقبه ويكون العقاب نقله مساعدا لأمين مكتبة البلدية , بلدية دمنهور وفي هذه المكتبة تتهيأ لأديبنا الناشئ أسباب الاطلاع والمعرفة فيقرأ كل ما يقع تحت يده من أدب عربي وأدب غربي مترجم .

وقد أشار بالتفصيل إلى قراءاته وثقافته بشكل غير مباشر عبر روايته الأخيرة " الساعة تدق العاشرة " على لسان بطلها محمد الشربيني , الذي هو صدى لشخصية المؤلف أمين يوسف غراب : " كنت لا أستطيع أن أتصور أنني في السادسة أو السابعة عشرة من عمري وأني ابن موظف كبير في الدولة , وأجهل القراءة والكتابة ولا أعرف حتى كتابة اسمي ولذلك أردت أن أتحلل من هذا الجهل وأن أتطهر من هذه المهانة مهما يكن الثمن … وكانت تستهويني العناوين والأسماء .. الزناتي خليفة والزير سالم .. أبو زيد الهلالي سلامة .. ناعسة الأجفان .. قصة سيف بن ذي يزن .. الشاطر حسن والسبع بنات , كنت أشتري الكثير من هذه الكتب وكنت أتفحصها جيدا قبل أن أشتريها … وظللت كذلك زمنا طويلا التهم هذه الكتب التي كنت أظنها هي وحدها قمة الأدب والفن , إلى أن ظهر رجل رأيت صورته في الصحف , وكان وسيما في ملابسه التقليدية الجبة والقفطان والعمامة وكانت أمنيتي أن ألقاه يوما وأن أقبل يده , ولكن لم تتحقق هذه الأمنية .. كان اسمه مصطفى لطفي المنفلوطي , وكنت أقرأ له بنهم والتهم كتبه التهاما وأنا أقرأ ماجدولين أو تحت ظلال الزيزفون وبول وفرجيني وغادة الكاميليا وكل ما خطت يده من مترجمات .

… تدرجت إلى القراءة الجادة , وتعرفت إلى الأدب الصرف , قرأت شكسبير وبلزاك ودانتي وجورج صاند والفريد دي موسيه وجي دي موبسان وديماس الكبير وديماس الصغير وديستوفسكي وترجنيف وحفظت عن ظهر قلب جان جاك روسو وطاغور وأناتول فرانس وتولستوى وغيرهم من الكتاب والفلاسفة .

… وكان أحب هذه القصص التي قرأتها إلى نفسي وإلى قلبي أيضا هي التي تتحدث عن المرأة " (1) .

لا تكشف هذه الفقرات عن تنوع قراءات أمين يوسف غراب فحسب , بل تكشف لنا أيضا عن مراحل تكوينه الثقافي , ومصادر هذه الثقافة , فثمة ثقافة شعبية خالصة , ثم ثقافة أدبية بيانية قوامها إبداع المنفلوطي , ثم أخيرا ثقافة عالمية قوامها عيون الأدب العالمي لكبار كتاب الفن القصصي والمسرحي من شكسبير إلى جي دي موبسان , وثمة إشارة أخيرة وهي مهمة أيضا وهي كثرة اطلاع أمين يوسف غراب على الأعمال التي تتحدث عن المرأة , إن هذا التكوين الثقافي والأدبي المتنوع سيلقي بظلاله على أعمال غراب طوال مراحل حياته الأدبية بدرجة أو بأخرى , لكن سيبقي للثقافة الشعبية والمنفلوطي أثرها الأكبر على إبداع الكاتب حتى آخر عمل له .

وعن نشأة أمين يوسف غراب الريفية في دمنهور يشير هو نفسه بشكل مباشر إلى هذه النشأة في افتتاحية قصة " 6 أشهر حب " من مجموعة " نساء الآخرين " الصادرة عام 1962 : " تربطني بالزميل الأستاذ محمود البدوي القصاص المعروف صلة صداقة متينة من زمن بعيد , يرجع إلى عهد الصبا وأحلام الشباب وبالرغم من أننا لسنا من بلدة واحدة , فهو أسيوطي من أغوار الصعيد , وأنا دمنهوري من أغوار الوجه البحري , وتختلف مشاربنا في أشياء كثيرة , وإلا فإننا أنفقنا معا أجمل أيام العمر وأهم ساعات الحياة , وكنا نقطن معا في سكن واحد في القاهرة , ولكننا لم نكن نستقر في بيت واحد أكثر من شهور , فقد انتقلنا إلى عدة بيوت في أنحاء القاهرة تزيد على العشرة " (2) .

تكشف الفقرة السابقة عن جانب آخر بالإضافة إلى نشأة الكاتب بدمنهور , هو حياة التنقل والترحال داخل أحياء القاهرة , مما مكنه من الاختلاط , بعوالم مختلفة من البشر , وقد أثرت بلا شك هذه العوالم عالمه القصصي , نرى ذلك بوضوح في تعدد شخصياته وتنوعها .

بعد هذه القراءات بدأ أمين يوسف غراب يكتشف في نفسه بذرة الأديب فكتب القصة القصيرة أول ما كتب , وعندما أعلنت مجلة الصباح عن مسابقة للقصة القصيرة اشترك فيها أديبنا الناشئ ففاز بالمركز الأول عن قصة " بائعة اللبن " سنة 1940 . وبعد عامين من هذا التاريخ احترف أمين يوسف غراب الأدب بعد أن نشر له الأستاذ محمد التابعي قصة " في البيت " في مجلة آخر ساعة في أبريل سنة 1942 , إذ أعجب بها التابعي إعجابا كبيرا , ثم جعله يكتب قصة العدد في المجلة لسنوات طويلة .

عاش أمين يوسف غراب القسم الأعظم من حياته في الريف , فلم ينتقل إلى القاهرة إلا في عام 1949 , وكان عمره آنذاك سبعا وثلاثين عاما , بعد أن تشبع بحياة الريف وقيمه ومثله وعاداته وتقاليده , فحمل معه إلى القاهرة تجاربه الأولي في الريف , ولعل هذا يفسر لنا أن معظم شخصيات قصصه تأتي من أعماق الريف , أو من أصل ريفي على الأقل , لقد استفاد أمين يوسف غراب من هذه النشأة الريفية , فهو بارع في تصوير الحياة الريفية , وبارع أيضا في تصوير الشخصية الريفية , وبارع في الغوص في أعماق هذه الشخصيات , وبارع في عرض التفاصيل الدقيقة الخاصة بالحياة بالريف , مثل قصص ( رمان الجناين , والشيخة غزال , ومائة دجاجة وديك أحمر , وزوجة رجل آخر ) وغيرها , وجميعها أيضا من أجود قصصه على المستوى الفني .

في القاهرة عمل أمين يوسف غراب في عدة وظائف , فبدأ كاتبا بسيطا في مطابع السكة الحديد عام 1949 , ثم سكرتيرا لمصلحة السكة الحديد عام 1951 , إلى أن انتقل للعمل مديرا للعلاقات العامة بالمجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية ( المجلس الأعلى للثقافة حاليا ) منذ عام 1956 , وقد ظل في هذه الوظيفة إلى أن توفاه الله في 27 ديسمبر عام 1970 , إثر تعرضه لنزلة برد حادة , نتج عنها نزيف قاس أودى بحياته , وهكذا مات عن عمر يناهز 58 عاما .

أتاحت الحياة في القاهرة لأمين يوسف غراب فرص الالتقاء بالنقاد والأدباء , والاقتراب بشكل مباشر من الصحافة , والاستفادة منها بصورة كبيرة , كذلك أتاحت له هذه الحياة الاقتراب والاختلاط بالوسط الفني في المسرح والسينما , فكتب للاثنين معا , فمثلت مسرحياته , وتحولت روايته شباب امرأة إلى فيلم سينمائي مشهور ,هذا إضافة إلى ممارسة الكتابة إلى السينما مباشرة فكتب أكثر من عشرين سيناريو لأفلام عن رواياته وروايات الآخرين من الكتاب , ولعل من أبرز نعم القاهرة على أمين يوسف غراب لقاءه بعميد الأدب العربي الدكتور طه حسين , الذي أعجب بقصص غراب , فكتب مقالا عنه في الأهرام عام 1952, جعله أمين يوسف غراب مقدمة لمجموعته القصصية " آثار على الشفاه " عام 1953 , وكان طه حسين قد تحدث في هذا المقال عن مجموعتي " يوم الثلاثاء " و " طريق الخطايا " الصادرتان عام 1952 , فأعجب بلغة الكاتب وأسلوبه ولما وجد لديه حسا روائيا في قصصه القصير نصحه بالاتجاه إلى كتابة الراوية , وقد استجاب أمين يوسف غراب لهذه النصيحة , أو كان لديه الاستعداد لتلبية هذه النصيحة فبدأ في نشر أول رواية له بعنوان " ست البنات " في العام التالي , ثم كتب بعد ذلك أربع روايات أخرى .

يقول الدكتور طه حسين " والأستاذ أمين يوسف غراب قاص مقصر إلى الآن , لم يحاول أن يطيل القصص فيما أعلم , وأكبر الظن أن الوقت لم يتح له كما لم يتح له فراغ البال , وإنه إنما يكتب هذا القصص القصير مستجيبا لفنه من ناحية , ولغرورات الإنتاج السريع المنتظم من ناحية أخرى " (3) .

وفي هذا المقال أيضا امتدح طه حسين لغة أمين يوسف غراب , فقال " كاتب يعرف لغته حق المعرفة , ويحسن التصرف فيها , غير متكلف ولا متصنع , لا يخرج عن ذلك إلا حين يضطره الفن إلى هذا الخروج حين يروي نكته عامية , أو يدير الحوار بين رجلين وامرأتين أو رجل وامرأة من أهل الريف , فأما حين يعرب عن نفسه , فهو يؤدي ما يريد في لغة نقية وأسلوب صفو , ولفظ يتخيره فيحسن تخيره , وهو يرتفع في كثير من الأحيان إلى ألوان من التشبيه الرقيق الدقيق الذي يبعد في غرابته حتى يفاجئ القارئ فجاءة حلوة , ويقع في نفسه أحسن الموقع ويترك فيها أحسن الآثار "(4) .

وقد أفادت شهادة طه حسين أمين يوسف غراب , فلم يستجب لكتابة الراوية فحسب , بل انطلق أيضا يكتب القصص القصير وينشر بغزارة فأصدر الكثير من القصص والروايات والمسرح , فكتب اثنين وعشرين كتابا طبع بعضها أكثر من طبعة في حياة مؤلفها , أما الصحف والمجلات فكانت تتلقف كل ما يخطه قلم أمين يوسف غراب , حتى إنه كان ينشر العمل الواحد في أكثر من صحيفة , وكان أحيانا يعيد نشر ما سبق نشره بعناوين أخرى , ويعيد صياغة بعض القصص ثم ينشرها بعنوان مختلف , ولنذكر مثالا هو قصة " أم بيومي " المنشورة في مجموعة (نساء الآخرين ـ 1962 ) يعيد نشرها في مجموعة ( أشياء لا تشترى ـ 1963 ) تحت عنوان جديد هو " ساعات الفراق " ولكن تتغير نهاية القصة , ففي القصتين امرأة تنتظر عشيقا لأول مرة في حياتها , لذلك فهي مترددة في خوض هذه التجربة , وقد حدد الساعة الثامنة موعدا لوصوله مساء في غياب الزوج , وفي القصتين تناجي المرأة نفسها وتفكر كيف أوقعت نفسها في هذا المأزق , ومن ثم كيف الخروج منه ؟ فتتمنى أن يأتي زوجها فجأة لينقذها من الوقوع في الخطيئة وتلويث شرفها . وهنا تختلف النهاية , ففي "أم بيومي " لا يأتي الزوج , وعندما تفتح الباب تجد أم بيومي و العشيق في وجهها , ترحب به وتدعوه للدخول , أما في "ساعات الفراق" فيأتي الزوج فجأة لترتمي المرأة في أحضانه باكية وحامدة ربها في سرها على وصول زوجها في الوقت المناسب .

أشرنا من قبل إلى أن بعض أعمال أمين يوسف غراب طبع أكثر من طبعة ونضيف هنا شيئا آخر وهو صدور أعمال لأمين يوسف غراب بعد وفاته لم تصدر في حياته , كما أن له أعمال لم تطبع بعد , على أية حال صدر لأمين يوسف غراب 22 كتابا في حياته وكتابين بعد وفاته , وفيما يلي ببلوجرافيا موجزة بأعماله المنشورة , اعتمدنا فيها على ببلوجرافيا الرواية العربية للدكتور حمدي السكوت ودليل القصة المصرية القصيرة للدكتور حامد النساج وببلوجرافيا الرواية المصرية حتى عام 1974 للدكتور طه وادي ومقالة محمد صبري السيد " من أرشيف القصة المصرية " عن أمين يوسف غراب المنشورة في مجلة القصة .


أولا : في القصة القصيرة :
ــــــــــــ

1 ـ الضباب , مطبعة الأهرام , دمنهور 1939 .
2 ـ هتاف الجماهير , مكتبة مصر ومطبعتها , القاهرة 1945 .
3 ـ أرض الخطايا , ط 1 , القاهرة 1948 , ط 3 , الكتاب الفضي , القاهرة 1958 .
4 ـ نساء في حياتي , كتب للجميع , ع 41 , القاهرة 1951 .
5 ـ يوم الثلاثاء , رو اليوسف , الكتاب الذهبي ع 5 , القاهرة 1952 .
6 ـ طريق الخطايا , كتب للجميع , القاهرة 1953 .
7 ـ آثار على الشفاه , مطابع الدار القومية , الكتاب الماسي , القاهرة 1953 .
8 ـ ساحر النساء , كتب للجميع , دار التحرير للطباعة والنشر , القاهرة 1954 .
9 ـ امرأة العزيز , روزليوسف , الكتاب الذهبي ع 34 , القاهرة 1955 .
10 ـ قلب في لبنان , كتب للجميع , دار التحرير للطباعة والنشر , ع 104 , القاهرة 1956
11 ـ هذا النوع من النساء , الشركة العربية للطباعة والنشر , القاهرة 1959 .
12 ـ نساء الآخرين , روزليوسف , الكتاب الذهبي, القاهرة 1962 .
13 ـ أشياء لا تشترى , الشركة العربية للطباعة والنشر , الكتاب الماسي , القاهرة 1963 .
14 ـ امرأة غير مفهومة , روز اليوسف , الكتاب الذهبي, القاهرة 1964 .
15 ـ يحدث في الليل فقط , مؤسسة أخبار اليوم , كتاب اليوم , القاهرة 1970 .
16 ـ زوجة رجل آخر , دار الهلال , القاهرة 1974 .
17 ـ إكليل من العار , مؤسسة أخبار اليوم , كتاب اليوم , القاهرة 1974 .


ثانيا : في الرواية الطويلة :
ــــــــــــــ

18 ـ ست البنات , المكتب التجاري , بيروت 1954 .
19 ـ شباب امرأة , المكتب التجاري , بيروت 1958 .
20 ـ سنوات الحب , الشركة العربية للطباعة والنشر , القاهرة 1962 .
21 ـ الأبواب المغلقة , القاهرة 1963 .
22 ـ الساعة تدق العاشرة , دار الشعب , ط 1 , القاهرة 1970 .


ثالثا : في المسرحية :
ــــــــــ

23 ـ شقة في الجيزة .

هذه ببلوجرافيا تقريبية لأعمال أمين يوسف غراب المنشورة , ومن ثم فهي غير كاملة , وإن كانت أقرب إلى الحقيقة , لأن الببلوجرافيا الكاملة لأعمال أمين يوسف غراب لم تكتب بعد .

[SIZE=5]ـ 2 ـ[/SIZE]
تدخل عالم أمين يوسف غراب القصصي فتجد نفسك كالغريق في بحر زاخر ولكن أي غريق ؟ إنه غريق عجيب , يشبه الطفل الصغير , تلهيه كنوز هذا البحر عن الواقع المؤلم المحيط به , فثمة لؤلؤ ومرجان وأسماك ذات ألوان , وكائنات أخرى عجيبة فاتنة , يبدو أنني وقعت ضحية سحر لغة أمين يوسف غراب وتشبيهاته الفاتنة , لكن لو شئنا ترجمة هذه التعبيرات البيانية إلى لغة علمية منضبطة لقلنا : إننا عند أمين يوسف غراب بإزاء عالم فني متميز في لغته وشخوصه وأحداثه وفضائه السردي وبنائه الفني و عالم مطبوع بطابع أمين يوسف غراب وبصمته الخاصة , إنه عالم يشدنا من أول لحظة من الواقع إلى خيال فني منظم يدفعنا في رفق إلى اكتشاف حقيقة أنفسنا والعالم من حولنا , إنه خيال قوامه سرد فني يزيد من خبرتنا بالحياة ويمتعنا بأساليبه المتنوعة وقيمه الجمالية المتجددة .

يدرج الدكتور السعيد الورقي في كتابه " اتجاهات القصة القصيرة في الأدب العربي المعاصر في مصر " أمين يوسف غراب ضمن تيار الرومانسية الاجتماعية , مع محمود تيمور وصلاح ذهني ومحمد عبد الحليم عبد الله وتوفيق الحكيم وثروت أباظة وغيرهم من رواد هذا الاتجاه , حيث " يصدر في قصصه عن تمثل لعدد من المشاعر الرومانسية التى شكلت رؤيته للواقع الاجتماعي , ومن هنا كان إسرافه في التعبير الوجداني الذاتي المشبوب , وفي النظر إلى المشكلة الاجتماعية من خلال تأثر واضح بما يطرحه الرومانسيون من أفكار تتعلق بالفرد والمجتمع . وقد ظهر هذا بوضوح كاف في موقف أمين يوسف غراب من قضية القدر وارتباطه بالصدفة , يقف أمين يوسف غراب مثل سائر الرومانسيين موقف الرافض المتمرد فيصفه بالظالم المتعنت " (5 ) .

والواقع أن في هذا التصنيف لأمين يوسف غراب بحشره ضمن تيار الرومانسية الاجتماعية ظلما بينا , لأن عالم أمين يوسف غراب القصصي وإن لمسنا فيه أثر للعناصر الرومانسية مثل مسألة القدر وكثرة الدموع مثلا , فإنه في رأيي أقرب كتاب جيله إلى التيار الواقعي , ولعل الدكتور محمود حامد شوكت قد لمس هذه الواقعية قبل السعيد الورقي بأكثر من عشرين عاما وهو يتناول المجموعات الثلاثة الأولى لأمين يوسف غراب , فقال : " طرق أمين يوسف غراب في (هتاف الجماهير) صورا من مفارقات الحياة القريبة المتناولة , ففي قصة يصور موت متشرد اشتهت نفسه قطعة من الطعمية ولم يتناولها , وفي قصة أخرى يصور ثراء يفرق بين صديقين , وفي قصة ثالثة يصور فتاة تهرب من حياة القصور إلى صاحبها البدوي … فالكاتب يصل القصة بتحليل إنساني يصور عيوب المجتمع ونظام الطبقات كما تتضح من قصص الكاتب الأخرى مثل (أرض الخطايا) و (يوم الثلاثاء) " (6)

ولن نذهب بعيدا وبين أيدينا مجمل أعمال الكاتب في القصة القصيرة والرواية , إن استقراء هذه الأعمال في مجملها يكشف لنا أن أمين يوسف غراب يعتمد في تجربته القصصية على رصد مفردات الواقع المحيط به , الواقع الذي خبره جيدا وعاش تفاصيله , سواء في القرية أو في المدينة , ولعل هذا يفسر لنا بروز أصداء من سيرة الكاتب الذاتية وتجاربه الشخصية في معظم أعماله , فلا تخطئ العين أو يعزب العقل في رؤية أمين يوسف غراب في ذلك الشاب الريفي الفقير في القرية أوالمدينة , فهو الطفل سلامة في قصة الدهليز من مجموعة " أشياء لا تشترى" وهو الصبي والشاب إمام بلتاجي في رواية "شباب امرأة " وهو الراوي الصغير في قصة آثار على الشفاه , حيث يسكن مع أمه في زقاق المرعشلي , وهو أيضا الشاب محمد الشربيني في رواية " الساعة تدق العاشرة " وهنا يجب الإشارة إلى مزية خاصة في عالم أمين يوسف غراب القصصي ألا وهي تشابك وتداخل معظم الشخوص والأحداث في قصصه القصيرة ورواياته , فنجد أن معظم رواياته الطويلة نبعت في الأصل من بعض قصصه القصيرة , فقصتي( أم نرجس) و(الأفوكاتو) إرهاص لرواية( ست البنات) أولى روايات الكاتب الصادرة عام 1954 , حيث تظهر الشخصيات الواردة في القصتين بعينها في الرواية فيما بعد .

وقصتي " الدهليز" و " آثار على الشفاه " تشكلان مقاطع كاملة وطويلة من رواية " شباب امرأة " الرواية الثانية للكاتب . أما رواية " الأبواب المغلقة " فلعل بدايتها الحقيقية كانت في قصة " الراقصة العالمية " إحدى قصص مجموعة (نساء في حياتي ـ 1951 ) , ففي هذه القصة ضابط مباحث من عائلة كبيرة يحقق في قضية مقتل رجل من كبار القوم , تتهم بقتله الراقصة " عطيات الإسكندرانية " وينتهي التحقيق دون إثبات التهمة عليها , لكن تبدأ أثناء ذلك علاقة حب بين الضابط والراقصة فيطاردها , لتكتمل العلاقة بالزواج منها , وعندما يأتي بها إلى منزل العائلة لتتفقد أثاث بيتها , وبمجرد دخولها الصالون , تقع مغشيا عليها وهي تهذي باسم والد الضابط , حيث تكتشف أنه والدها أيضا , فهو ذلك الرجل الثري الذي اغتصب أمها الخادمة , وكانت هي ثمرة الاغتصاب كما أخبرتها أمها , إن هذه القصة بمتنها الحكائي البسيط ستكون بناء حكائيا بوليسيا ومعقدا هو رواية " الأبواب المغلقة" الصادرة عام 1963 .

فضابط المباحث في القصة هو وكيل النيابة الحاصل الدكتوراه في علم الجريمة وابن أحد الباشوات الكبار ، يقوم بالتحقيق في مقتل امرأة من علية القوم ، أما المتهم فمثل المتهم في القصة فتاة جميلة تعمل راقصة أيضا، بيد أن اسمها هنا زينات التى تبرأ من تهمة القتل ، و يقع في غرامها وكيل النيابة ، وعلى اتساع الأحداث في الرواية وتشعبها تبقى النهاية في القصة والرواية واحدة ، فهذه الفتاة هي في نهاية الأحداث أخت الراوي من أبيه الباشا , الذي غرر بأم الفتاة مع اختلاف الأسباب في الرواية عن القصة , وإذا كان القاتل مجهولا في القصة فإن القاتل معروف هنا , ألا وهو الباشا والد الراوي وكيل النيابة ووالد الفتاة أيضا .

وقد لعب أمين يوسف غراب على هذه التيمة , تيمة اكتشاف أن المحبوبة أخت للحبيب , ومن ثم تكون العلاقة بينها غير شرعية أو محرمة , في أكثر من قصة قصيرة , فنجدها في "غلطة العمر " إذ يصر العمدة على رفض زواج ابنه من إحدى فتيات القرية ويصر على هذا الرفض لدرجة أنه يفقد أرضه وتسحب منه العمودية , ثم يفضي لابنه بالسر في اللحظة الأخيرة قبل إتمام الزواج بساعات , فهذه الفتاة أخت للابن، فقد أخطأ وأنجبها من زوجة العلاف , إنها غلطة العمر "

وفي قصة " الرجل الضاحك " من مجموعة ( نساء في حياتي ) يعزم الراوي على الزواج من إحدى فتيات قريته بعد وفاة زوجته , وهذه الفتاة هي التي التقاها بعد سنين طويلة كانت رفيقة طفولته وابنة علاف أبيه العمدة إنها منيرة بيومى التى تعمل مدرسة الآن, وقبل إتمام الزواج بيومين يستدعى الراوي إلى القرية لزيارة أمه المريضة , وعندما يخبرها بعزمه على الزواج تفرح , ولكن عندما تعرف أن الزوجة هي "منيرة بيومي " تقول له الحقيقة المرة :

" ـ حاذر يا بني .. إنها أختك في الرضاع .. إنها أختك في الرضاع " (7) .

أما روايته الأخيرة " الساعة تدق العاشرة " فبذرتها الأصلية قصة " لماذا لم يتزوج " المشورة في جريدة الجمهورية عام 1957 , ثم في مجموعتي " زوجة رجل آخر " و " إكليل من العار" الصادرتين بعد وفاة المؤلف بأربع سنوات . ففي هذه القصة يقدم لنا أمين يوسف غراب عبر رؤية سردية موضوعية قصة شاب جاء من الريف منذ ثلاثة أشهر للبحث عن عمل في القاهرة , وأخيرا يجد هذا العمل , سائق في أحد البيوت الكبيرة , فيلتقي بسيدة هذا البيت , الرائعة الحسن والوافرة الجمال , فيدور بينهما الحوار التالي :

ـ ما اسمك ؟

فأجاب مضطربا

ـ محمد
ـ أين كنت تشتغل قبل الآن ؟

فتلعثم ولم يجب , ولكن الشيخ أنقذه قائلا :

ـ كان يمتلك سيارة ويقودها بنفسه .

فنظرت إليه مرة أخرى تتفحص وجهه وعينيه :

ـ هل أنت متزوج " (8) .

ويخبرها الشاب أنه لم يتزوج , فتأمر على الفور بشراء ثلاث بدل له وتعينه سائقا بمرتب خمسة عشر جنيها , وتحلو الحياة للشاب في هذا البيت , وتحاول السيدة الجميلة الاقتراب منه وكلما لمحت إلى ذلك وسألته لماذا لم يتزوج ؟ بكى , ولما لم تجد منه السيدة استجابة لعواطفها , تأمر بطرده , فيعود إلى القرية وهناك يفاجأ بوفاة أمه .

إن شخصية السائق محمد هنا هي نفس شخصية محمد الشربيني في " الساعة تدق العاشرة " الذي جاء إلى القاهرة بسيارته التي ورثها عن أبيه , فيعمل عليها فترة من الوقت ثم يضطر أن يبيعها ثم يعمل سائقا بعد ذلك في عدة بيوت , يطرد منها بسبب خوف أصحابها الباشاوات منه على نسائهم وبناتهم , حيث أنه كان جميل الصورة , جذابا للنساء , وأخيرا يستقر في منزل أنوار هانم وفتياتها الثلاثة وزوجها عبد الحميد أفندي , وهكذا تتسع الأحداث وتتشعب هنا , ولكنها مثل القصة السابقة تنتهي بمأساة أيضا .

ربما نكون قد أطلنا الحديث عن هذه النقطة , غير أن هذا يجرنا إلى الحديث عن التيمة الرئيسية في أعمال أمين يوسف غراب , خاصة وأن التيمة لا يمكن فصلها عن الأحداث والشخوص والفضاء السردي عامة , هناك تيمة رئيسة لا يخلو منها عمل من أعمال أمين يوسف غراب , ألا وهي العلاقة بين المرأة والرجل , فلا نعدم وجود قصة واحدة أو رواية لا يكون البطل فيها رجل تشاركه امرأة أو امرأة يشاركها في الأحداث رجل .

وتحت هذه التيمة الرئيسية تنتظم تيمات فرعية متنوعة , أولها وأكثرها ظهورا تيمة المرأة الجميلة اللعوب تطارد شابا أو رجلا غرا قليل التجربة , مثل المعلمة شفاعات مع إمام البلتاجي في رواية " شباب امرأة " وأنوار هانم مع محمد الشربيني في رواية " الساعة تدق العاشرة " .

أما في القصة القصيرة فيمكن ذكر عشرات القصص التي تبرز فيها هذه التيمة , غير أن أبرزها قصتي " آدم العبيط " و " لماذا لم يتزوج " . ففي القصة الأولى تأتي امرأة جميلة فاتنة إلى عامل المتجر , وتقيم معه علاقة لعدة شهور , وفي إحدى الليالي التي كان يساعد فيها صاحب المتجر الذي يعمل فيه بمناسبة إنجابه ولدا , يلمح صدفة تلك المرأة الجميلة "عزيزة" التي كانت تأتيه في شقته , فيسأل عنها أحد الصبية الذين ينتشرون في الحفل , فيقول له :

" ـ إنها زوجة الشيخ يا عبيط " (9) .

وفي القصة الثانية تحاول السيدة الجميلة صاحبة القصر الاقتراب من السائق وإقامة علاقة معه , ولكنها تفشل وعند ذلك تأمر بطرده من العمل .

على أية حال تكثر هذه المطاردة من المرأة للرجل في كثير من قصص غراب , فغبر هاتين القصتين يمكن أن نجد الكثير من القصص التي تبرز فيها هذه التيمة .

وثانيها : تيمة الرجل العجوز الذي تجاوز مرحلة الشباب ينبهر بجمال فتاة صغيرة فيرغبها بقوة واقفا بعناد في وجه تقاليد المجتمع , حتى لو أوصله هذا الأمر إلى الطرد أو فقد ثروته أو حتى الجنون . وأبرز مثال لهذه التيمة قصة " أرض الخطايا " إذ يتكفل الشيخ مسعود حكيم القرية وشيخها , بتربية الفتاة اليتيمة "صفية " وعندما تكبر الفتاة وتبرز مفاتنها يحجبها عن الناس , ويشعر نحوها بعاطفة غريبة , هي خليط بين الحب الأبوي والرغبة الجنسية , ولكن الأمور تسير على عكس هوى الشيخ . إذ فجأة يكتشف أن الفتاة حامل , وهنا يتهم بها الشيخ ويدخل من أجلها السجن , وبعد خروجه يرجع إليها .

والمثال الثاني الذي تبرز فيه هذه التيمة بقوة أيضا قصة " رمان الجناين " في مجموعة (آثار على الشفاه ) إذ نجد عم رضوان العجوز الذي تخطى الثمانين من العمر يعطف على الفتاة مبروكة ويأويها تحت عربة الخضار والفاكهة التى يعمل عليها, ومع مرور الأيام تكبر مبروكة وتصبح فتاة جميلة ناضجة الثمار , فيفكر رضوان في تزويج مبروكة من الشخص الذي يناسبها , وعندما يعرض عليها الأمر ترفض الزواج من أي شخص , وتقترح عليه أن يتزوجها هو, فيتزوجها ويعيش أياما سعيدة , بيد أن السعادة لا تدوم , إذ تغرق مبروكة في الترعة , وعند ذلك يفقد الرجل صوابه , ويهيم على وجه في البلاد , يرى مبروكة في كل فتاة جميلة , وأخيرا يجدها في أنوار ابنة المعلمة لبيبة الكرشاتية , فيطارد الفتاة ويعرض عليها الزواج , فتستخف بطلبه , ولكن رغبته تدفعه في النهاية إلى محاولة اغتصابها فتكون المأساة ، إذ تقتله الفتاة دفاعا عن عرضها.

ويمكن إدراج قصة " زوجة رجل آخر " تحت هذه التيمة أيضا , فهناك الشيخ العجوز مروان والفتاة الجميلة الصغيرة سكينة , وإن اتخذت الأحداث مسارا مختلفا .

وثالثها : تيمة المرأة الجميلة العاقلة ( ست البنات ) مع الزوج اللعوب , الذي يتركها وحيدة في بيتها ويبحث عن نساء الآخرين . ولعل أبرز ما يمثل هذه التيمة هي رواية " ست البنات " حيث نجد الزوج(خيرى) الذي يعمل محاميا يقيم عدة علاقات مع عدد من النساء تاركا زوجته الجميلة( سميحة) تعاني الوحدة في البيت .

وإلى جانب تيمة المرأة / الرجل هناك تيمة رئيسية أخرى يكثر ورودها في معظم أعمال أمين يوسف غراب ألا وهي تيمة الشاب الفقير الذي ترك القرية وذهب إلى المدينة , وهناك تختلف حياته وتتغير تغيرا جذريا إلا أنه لا ينسى يوما أنه القروي الذي جاء إلى المدينة . والواقع أن هذه التيمة أقرب التيمات إلى شخصية المؤلف الحقيقية , وهي منتشرة في معظم أعمال أمين يوسف غراب سواء في القصة القصيرة أم الرواية .

وإذا انتقلنا إلى تقنيات الفن القصصي عند أمين يوسف غراب فأول ما يلفت نظرنا هو هذه القدرة الفنية العالية في صياغة الأبنية السردية , فحدث بسيط أو شخصية يمكن صياغته في بناء قصة قصيرة أو رواية أو مسرحية قصيرة , ولعل في تحويل بعض قصصه القصيرة إلى روايات خير مثال لذلك .

شيء آخر يلفت نظرنا بقوة في قصص أمين يوسف غراب ورواياته وهو الاعتماد على الوصف , إن الوصف يمثل تقنية فنية عالية لديه , سواء في وصف الأماكن أو الشخوص و وأعتقد أن هذه القدرة العالية في الوصف لا ترجع إلى قراءة غراب للمنفلوطي فحسب , ولكن إلى قراءته العميقة للأدب الشعبي , فالقصص الشعبي البسيط أبرز المنابع الثقافية التي كونت أمين يوسف غراب , يبدو ذلك بوضوح في الوصف الخارجي للمرأة , فهو وصف لا يتميز بالإثارة بقدر ما يتميز بالزخرفة ودقة الرسم , وهو في مجمله وصف مشبع بالعاطفة القوية والتقدير لجمال المرأة , وهنا أشير إلى أن أكثر الأجزاء وصفا في قصص غراب هو وصف صدر المرأة وثدييها , ولعل في هذا إشارة إلى الحرمان الذي عاشه الكاتب في الريف , لكنه من ناحية أخرى يعود إلى الأدب الشعبي حيث تميل هذه الآداب إلى وصف الأجزاء الخارجية البارزة في المرأة .

ويمكن إضافة عامل ثالث لكثرة الوصف عنده , ألا وهو هذه الحياة المفتوحة على عالم النساء التي عاشها الكاتب شخصيا في القاهرة بعد نزوحه إليها في عام 1949 , لذلك لا نعجب إذا كثر هذا الوصف بصورة لافتة في أعماله التي نشرها بعد استقراره في القاهرة , مثل "شباب امرأة" و "ست البنات" و "الساعة تدق العاشرة " كذلك في قصصه القصيرة أيضا , ولنقرأ له هذه اللوحة الجميلة في وصف الصدر من قصة " رمان الجناين " ولنلاحظ أن المقصود برمان الجناين هو ثديا المرأة :

" رأى صدرا عريضا قد خرج على الوجود فجأة في استعلاء واستكبار , وقد أخذته العزة بالجمال واستهوته الفتنة بالناس فأطل على الدنيا فخورا يختال تحت الثوب برمانتين جميلتين طاب جمالهما ونفذ سحرهما " (10 ) . ووصف الثديين بالرمانتين وصف شعبي محض .

وأمين يوسف غراب مغرم بوصف ثدي المرأة , وربما كانت الصورة الأكثر تكرارا عنده للتعبير عن جمال المرأة وأسباب الإثارة لديها , وفي المقابل نجد لديه وصف صدر الرجل بقوته وشعره الخشن دليل الإثارة من وجهة نظر المرأة , فشفاعات في "شباب امرأة " يثيرها إمام ويفجر فيها مكامن الأنوثة عندما تشاهد جسده الضخم وصدره العريض , " … ورأت صدره العاري , وتلك الظلة الكثيفة من الشعر الأسود الخشن التي عششت على الصدر "(11)

وفي " الساعة تدق العاشرة " يرقى ذوق غراب في وصف الصدر , فيشبه حلمة الثدي بمنقار العصفور , فيصف الراوي الخادمة كوثر وقد التصق الثوب بجسدها التصاقا ولا سيما عند منطقة البطن والصدر , فيقول :

" … أو في هذا المكان بالذات من الصدر لدرجة أنك تستطيع إذا أمعنت النظر أن ترى ما يشبه منقار العصفور يمتد إليك من خلال هذه التمزقات التي فوق الصدر " (12) .

وكما يجيد أمين يوسف غراب الوصف الخارجي لجسد المرأة , فإنه يجيد أيضا الوصف الداخلي للتعبير عن باطن الشخصية وما يعتمل في داخلها من إحساس , سواء كانت الشخصية لامرأة أم لرجل , فكثيرا ما تروى قصصه على لسان ضمير المتكلم , فتفيض الشخصية في التعبير عن دقائق مشاعرها وإحساسها , كما أنه يستخدم ضمير الغائب من خلال رؤية سرد ذاتية , فيبدو كان المتكلم هو الشخصية التي تقوم بالحدث وليس الراوي العليم .

ولا يقف الوصف عند أمين يوسف غراب عند وصف المرأة فحسب ن بل هو خبير به وبوظائفه في البناء السردي في قصة "البحث عن دنيا" يأتي وصف الليل والطبيعة معادلا موضوعيا للتعبير عما يعتمل داخل الشخصية الرئيسية في القصة وهى تلك المرأة التى تعانى من الوحدة والخوف والقلق بسبب غياب زوجها وإهماله لها ولنقرأ هذه اللوحة الوصفية آلتي تكشف عن قدرة فذة وموهبة أصيلة :

" وأطل عليها الليل من خلل نافذة الغرب بوجهه الأسود باردا مقرورا يرتعش وتبينت السماء فإذا بها تتهيأ لبكاء طويل يستحسها عليه الريح الأهوج الذى راح يرقص رقصاته العاصفة على ضوء البرق الخاطف ونغمات الرعد الذى يصم الآذان " (13)

يأخذ الدكتور السعيد الورقي على أمين يوسف غراب اعتماده على مفهوم الصدفة وتأثير القدر في بتاء أحداث القصة وتطورها , فيقول " اعتمد أمين غراب على هذا المفهوم الصدفي الذي لا يبرره سوى القدر الخارجي , بشكل غالب في بناء أحداثه وتطويرها "(14) . وهذا صحيح إلى حد كبير حتى أن لفظ القدر نفسه بحروفه ومعناه يتكرر كثيرا في معظم قصصه , إلا أن الحقيقة إن هذا المفهوم الصدفي في بناء الأحداث استطاع أن يتخلص منه أمين يوسف غراب في أعماله المتأخرة , فلا نجد مثل هذا المنطق الصدفي في مجموعاته الأخيرة التي نشرها في الخمسة عشرة سنة الأخيرة من حياته , ومع ذلك لو رجعنا إلى مجموعاته الأول التي استشهد بها السعيد الورقي مثل ( أرض الخطايا ـ طريق الخطايا ـ نساء في حياتي ) لوجدنا الكثير منها يخلو من هذا المنطق , مثل قصص: "الشيخة غزال" و "أول غرام "و "أرض الخطايا" و "غلطة العمر"

ومثلما تخلص أمين يوسف غراب في مجموعاته الأخيرة من منطق الصدفة في بناء الأحداث , نجده أيضا يتخلص أو على الأقل يقلل الجمل الوعظية والعبارات الخطابية التي كان يصدر بها بعض قصصه .

إن استقراء دقيقا لأعمال أمين يوسف غراب كان يمكن أن يفضي بنا إلى اختيار مجموعة من قصصه القصيرة تعد في زعمنا من عيون القصة العربية , التي يمكن أن نرى فيها الكثير من أسرار الصنعة القصصية وقوة الخيال وأصالة الموهبة .

لقد كان أمين يوسف غراب حريصا على تجويد فنه أولا بأول , ولكن القدر الذي تحدث عنه كثيرا في قصصه لم يمهله لكي يواصل صعوده الفني .





الهوامش :

ـــــ

1 ـ أمين يوسف غراب , الساعة تدق العاشرة , دار الشعب , ج 2 , القاهرة 1986 , ص 52 , 53 .
2 ـ أمين يوسف غراب , نساء الآخرين , روزليوسف , الكتاب الذهبي, ع فبراير , القاهرة 1962 , ص 138 .
3 ـ نقلا عن أمين يوسف غراب , آثار على الشفاه , مطابع الدار القومية , الكتاب الماسي , القاهرة 1953 , ص6 .
4 ـ أمين يوسف غراب , المصدر نفسه , ص5 .
5 ـ السعيد الورقي , اتجاهات القصة القصيرة في الأدب العربي المعاصر في مصر , دار المعارف , القاهرة 1984 , ص 113 .
6 ـ محمود حامد شوكت : الفن القصصي في الأدب العربي المصري الحديث (1800 ـ 1956 ) , دار الفكر العربي , القاهرة ا956 , ص 292 .
7 ـ أمين يوسف غراب . نساء في حياتي , كتب للجميع , القاهرة 1951 , ص 124 .
8 ـ أمين يوسف غراب , إكليل من العار , مؤسسة أخبار اليوم , القاهرة 1974 ,ص21 .
9 ـ أمين يوسف غراب . نساء في حياتي , مصدر سابق , ص 62 .
10 ـ أمين يوسف غراب , آثار على الشفاه , مصدر سابق ,ص17.
11 ـ أمين يوسف غراب , شباب امرأة , دار المعارف , سلسلة اقرأ , ط 2 , القاهرة 2001 , ص 104 .
12 ـ أمين يوسف غراب , الساعة تدق العاشرة , مصدر سابق , ص 23 .
13- أمين يوسف غراب ، نساء الآخرين, مصدر سابق ،ص92
14 ـ السعيد الورقي , اتجاهات القصة القصيرة في الأدب العربي المعاصر في مصر , مرجع سابق , ص 114 .






د.-محمد-عبد-الحليم-غنيم.jpg
 
أعلى