نقد مؤنس طه حسين - أبى طه حسين

حينما نشرت الصحف نبأ وفاة الدكتور مؤنس طه حسين نجل عميد الأدب العربي طه حسين في 27 نوفمبر الماضي بباريس فوجئ القراء بأن الابن البكر للدكتور طه حسين بلغ عند وفاته هذا العمر المديد 82 عامًا ومبعث ذلك أن أخبار مؤنس غابت تمامًا عن الإعلام منذ سنوات طويلة وظل في الذاكرة المصرية والعربية ذلك الشاب ابن طه حسين الذي كان يقدم له النصائح باعتباره ممثلاً للجيل الجديد.
وما بين تلك السنوات البعيدة (عقد الستينيات حينما اختار مؤنس طه حسين الإقامة في فرنسا والعمل في اليونسكو) وتاريخ الوفاة جرت في النهر مياه كثيرة، فقد توفي عميد الأدب العربي عام 1973 وانقطعت أخبار مؤنس عن مصر والعالم العربي وعاش في فرنسا كأحد أبنائها يكتب ويؤلف باللغة الفرنسية ويترقي في الوظائف في قسم الترجمة باليونسكو ولم يكن يزور مصر إلا لمامًا وكان آخرها في بداية التسعينيات حينما توفيت والدته.

كان مؤنس طه حسين أمينًا مع نفسه فهو قد تشرّب الثقافة الفرنسية (قال في حديثه الأخير وربما الوحيد لصحيفة عربية هي «الحياة» نشرته بعد وفاته بأيام أنه كان يتحدث في بيت أسرته بالفرنسية منذ الطفولة)، كما أنه درس باللغة الفرنسية وتثقف بها أيضًا فقد حصل علي شهادة الليسانس من جامعة القاهرة في اللغة الفرنسية وحصل في باريس من دار المعلمين العليا علي شهادة « الأجريجسيون» في اللغة والآداب الفرنسية ثم عاد إلي القاهرة ليعمل أستاذًا للأدب واللغة الفرنسية بجامعة القاهرة بعد أن حصل علي الدكتوراة في الأدب المقارن عن تأثير الآداب الإسلامية في الأدب الفرنسي من باريس أيضًا. كل ذلك جعله يختار الفرنسية حديثًا وتأليفًا بل يختار فرنسا ليتعلم فيها ولا يعنيه كثيرًا أن يواصل مسيرة والده الرائدة في مصر والعالم العربي، ربما لإدراكه بأن حظه في امتلاك ناصية الفرنسية أقوي كثيرًا من العربية وربما لإدراكه أن ما حققه والده العظيم لا يمكن له أن يتساوي معه أو حتي يطاوله.

ثم إن مؤنس نفسه لم يكن دائمًا يقتنع برأي أبيه عميد الأدب، مفضلاً الحقيقة التي يؤمن هو بها ويدافع عنها، علي مجاملة أحد آخر حتي لو كان أباه، كما حدث عندما كان طه حسين يختصم سعد زغلول، في الوقت الذي كان فيه «مؤنس» وأخته «أمينة» يهتفان باسم سعد زغلول، ولم يغضب طه حسين محترمًا رأي ابنه وابنته، أو كما يتذكر مؤنس «حاضرنا ونحن في تلك السن الصغيرة عن حرب الرأي، قال لنا: إن كل فرد حر في أن يعتنق وأن يدعو إلي الرأي الذي يراه بشرط واحد وهو أن يكون قد فهم حقيقة وهضم هذا الرأي، وبشرط ألا يكون قد اعتنقه تقليدًا ومسايرة بغير فهم» ولاشك أن طه حسين قد احترم اختيارات ابنه، كما أنه احترم ميوله إلي اللغة الفرنسية وفي نفس الوقت قرر أن يستثمرها ليربطه بتاريخه وحضارته فاقترح عليه أن يكون موضوع دراسته للدكتوراة عن تأثير الآداب الإسلامية في الأدب الفرنسي.

ولعل طه حسين قد أسدي إلي ابنه مؤنس، النصيحة لدراسة اللغة العربية ولكنه شأن كل الفتيان والشباب تمرد علي نصيحة أبيه واختار طريقه الذي اقتنع به، تمامًا كما أسدي النصيحة لأحفاده من خلال والديهم. حدثتني حفيدته سوسن الزيات قبل سفرها واستقـرارها بباريس وأسرتها بجوار خالها مؤنس فقالت: «إن طه حسين رغم ثقافته الفرنسية، كان متشيعًا لأمته العربية ولغتها العربية وتراثها العربي، علي سبيل المثال: أذكر أننا بعد عودتنا من الخارج دار حوار أمام جدي وجدتي، كان رأي زوجته سوزان أن نستكمل تعليمنا في مصر في مدارس فرنسية، بينما كان رأي الأسرة أن نستكمل التعليم في مدارس إنجليزية خاصة أنها قريبة من البيت، أما جدي طه حسين فقد كان من رأيه الذي قاله متوجهًا إلي ابنته أمينة التي هي في نفس الوقت والدتي: « ياشيخة أدخليهم مدارس عربية». وتؤكد حفيدته الأخري «مني الزيات» ـ هاجرت هي الأخري وأسرتها إلي أمريكا ـ في حوار لي أيضًا معها: « رغم أن جدتي سوزان لم تكن تتكلم اللغة العربية كثيرًا، فإنني فوجئت بها تحاول الحديث مع جدي طه حسين باللغة العربية رغم تمكنه من الحديث بالفرنسية إليها، وهي لم تكن تتحدث العربية مخافة أن تخطئ أمام الناس».

لقد حاول عميد الأدب العربي ألا تبعد المسافة بين ابنه وبين اللغة العربية ولذلك اختاره لترجمة مسرحية «روميو وجولييت» لوليام شكسبير ضمن مشروع قامت به الإدارة الثقافية لجامعة الدول العربية وكان يترأسها الدكتور طه حسين. ونشرت دار المعارف هذه الترجمة عام 1960.

لكن كما سبق القول فإن مؤنس كان قد اختار مصيره وعالمه وتحول إلي فضاء اللغة الفرنسية فكتب مؤلفاته بهذه اللغة وكذلك مذكراته التي كشف عنها خلال حديثه للحياة والتي أعلنت وزارة الثقافة المصرية أنها بصدد ترجمتها إلي اللغة العربية.

وهذه محاولة للاقتراب من عالم مؤنس طه حسين من خلال نشر شهادتين نادرتين له عن والده ورسالة من عميد الأدب العربي إلي نجله.


إبراهيم عبدالعزيز

لم يقض طه حسين في «الرامتان» إلا السنوات الست عشرة الأخيرة من حياته الطويلة (فقد توفي في الرابعة والثمانين من العمر). ولم يكن أبي من أصحاب الشعور القوي بالملكية، وإنما كان أقرب إلي البدو الرحل يهوي تغيير مسكنه (فقد كان علينا فيما أذكر أن ننتقل من مسكن إلي آخر ما يقرب من اثنتي عشرة مرة فيما بين العشرينيات والخمسينيات) إلا أن أبي أراد عند اقتراب الشيخوخة أن يستقر في نهاية المطاف، شأنه شأن السفينة التي تتجه «بعد طول إبحار» نحو الميناء الذي ترسو عليه، ولم يكن لطه حسين أي ثروة يعتد بها، فهو لم يكن قط من الأغنياء. فكان أن اقتني قطعة متواضعة من الأرض غير بعيدة عن طريق الأهرامات. وتولت والدتي رسم خطة الفيللا بمعونة مهندس معماري يوناني من أصدقاء العائلة. كما تولت بنفسها رسم خطة الحديقة وغرس الأشجار فيها وزرع الزهور.

وكانت هذه الحديقة علي درجة كبيرة من الأهمية فقد كان طه حسين ينفق فيها جزءًا كبيرًا من وقته طالما كان بصحةجيدة، وكثيرًا ما كان يجلس هنالك ليستمع إلي سكرتيره إذ يقرأ عليه الرسائل والصحف والمجلات فضلاً عن كتب الأدب القديم. ولم يكن يحول بينه وبين ذلك إلا المرض أو برد الشتاء. أما إذا أراد أن يكتب، فإنه كان يفضل الجلوس في مكتبه الذي ينفتح علي الحديقة مباشرة عن طريق فناء صغير من الطوب الأحمر، وفي هذه الحديقة التي حظيت دائمًا برعاية زوجه وحبها، كان طه حسين يولي انتباهه لأشياء عديدة: يصغي فيحسن الإصغاء لما يقرأ عليه، ولكنه في الوقت نفسه يستغل مواهبه الفذة التي كأنما عوض بها عن كفاف بصره، فيصيخ سمعه المرهف إلي نوعين من الموسيقي أحبهما أيما حب. فقد كان يأتيه صرير الهمس الشاكس تبثه أشجار «الكازوارينا» المصطفة بمحاذاة الأسوار إذ تهزها رياح الصحراء الغربية. كما كان يصله قرب الغروب ومع هبوط الشفق صياح الكروان يشق السماء، وهو الصياح الذي أجاد وصفه في روايته « دعاء الكروان»، صياح ذلك الطائر المهاجر الذي يسمع ولا يري.. ويحضرني بهذه المناسبة قوله ذات يوم وهو الذي كان يكره أن يشير إلي آفته (لأنه استطاع أن يتغلب عليها علي نحو مثير للإعجاب) قال: «وهكذا تري أنه لا فارق بيني وبينك فأنت تسمع غناء الكروان ولكنك مثلي تعجز عن رؤيته». وكان أبي يحرص علي أن يوضع مقعده المصنوع من القصب بالقرب من شجرة «سرو» لها مكانة في نفسه، فقد رجا والدتي منذ انتقالها إلي « رامتان» أن تعمل علي غرسها في وسط النخيل، وذلك أن هذه الشجرة ـ كما قال ـ لا تنمو في مصر بكثرة، وإن كانت أحد الرموز الدالة علي البحر المتوسط، وكلنا نعلم كم كان البحر المتوسط عزيزًا علي نفسه، بوصفه بحرًا وبوصفه مهد الحضارات القديمة. وكان كثير الذكر لليونان وروما وإيطاليا وإسبانيا، كلما كان يطيب له أن يذكر بأنه ناضل طيلة حياته لكي يكون لبلاده بدورها نصيب في البحر المتوسط.
 
أعلى