هاني حجاج - الشطرنج.. ذلك المجهول!

1
شطرنج. البداية غريبة! إذ أعتبر الصولي أول زعماء الشطرنج إن لم يكن اللاعب الأول بعد انتصاره على الماوردي في حضور الخليفة المكتفي بالله؛ لكن تاريخ الشطرنج نفسه موغل في الغموض، فلا نعرف له أصل مؤكد ولا ينسب الفضل في اختراعه لأحد، تماماً مثل ألف ليلة وليلة! ساحر وخرافي ومهيب! في القصر المصري على عهد الفراعين كانت في السرايات والهياكل والقبور القديمة رسومات ونقوش أظهرت أشكالاً لرقعة الشطرنج لكن كل القطع على نسق واحد مثل ( الضامة )، وفي ( طيبة ) وجدوا بأحد القبور قطعاً منقوشة، ومنحوتة تشبه القطع الشطرنجية الحديثة، وهذا اختلف المؤرخون والدارسون في تحديد منشأ الشطرنج فظل مبهماً مدثراً بالظلام؛ قابضاً على سره الدفين. ولم يهتد أي من الباحثين إلى تأييد تخمينه بأدلة قطعية دامغة، وأقصى ما لدى الواحد منهم هو إسناد روايته إلى سلفه، وانتصر كل قول إلى قناعة شخصية أو ميل وطني ما دون جزم موضوعي.

وكأن الشطرنج أراد إضافة لغز إلى طلاسم جوهره العنيد فأخفى أصوله ودفن شهادة نسبه وفصله في قرار مكين! فهو عصي على التفسير أو التصنيف حتى لحظة كتابة هذه السطور، فهل هو رياضة؟ لكنه يخالف بشكل صريح كل قواعد الألعاب الرياضية، فلا ركض هنالك ولا تمرينات للبدن وحتى أقوى الرجال وأضخمهم ينهزم ببساطة أمام طفلة أو آنسة أكثر ذكاء ولماحية؛ فإن كان رياضة فهو أكبر تحدٍ معروف للذهن والنفس والعقل معاً. هل هو فن؟ فمن هذا الفنان وما هي الأدوات وأي صنف فني يحويه. أصحاب النظريات في تاريخ الفن سينظرون بشك إلى لاعب الشطرنج لكنهم لم يقدروا على إنكار النشوة العميقة واللذة الباهرة التي تنتاب اللاعب والمشاهد عندما يصل موقف شطرنجي إلى ذروته، نشوة وحده الفن قادر على خلقها. هل هو مجرد لعبة؟ من الصعب أن تساوي بين الشطرنج عظيم المغزى، هائل التفكير، ولعبة ورق ( كوتشينة ) يلعبها الناعس والبليد، أو لعبة طاولة كالسلم والثعبان يحكم نتيجتها الحظ وحده. لا دور للحظ في الشطرنج، فكل شيء ظاهر للجميع، واللعب على المكشوف، لا أوراق خفية ولا رمية زهر في علم الغيب، كل شيء يتوقف على براعة اللاعب وخبرته ونباهته. هل هو علم؟ بالتأكيد هو كذلك، إن مكتبة الشطرنج بها مجلدات تضاهي ما كتب في الفلسفة والجيولوجيا والفيزياء النووية، بعض كتب نهايات الدور حافلة بتفاصيل معقدة تجعلك تشعر أنك بصدد دراسة مرجع ضخم في الكيمياء العضوية! فما هو الشطرنج حقاً؟!


شطرنج2

الشطرنج رياضة وفن ولعبة وعلم . إنها صلبة ، متينة ، محددة بقواعد وأصول ونظام كأي رياضة هامة ، على أن أبطال الشطرنج من كل لون وجنس وسن ونوع. إنه فن باهر ساحر زاخر بالنغمات والألوان والتناسق البديع كما هو في لوحة أنيقة أو سيمفونية كاملة أو نص أدبي متقن. إنها لعبة مسلية جداً في أوقات الفراغ ونعومة البال ، لكنها أكثر قيمة وفائدة من الدومينو والطاولة ومعركتها أرشق وأقوى من كافة ألعاب الحرب الإلكترونية. إنها علم رصين له أسس ونظريات ، يناقشه أساتذة عظام بمنتهى الدقة والجدية. الشطرنج فلسفة شاملة !

فيما سبق نسب البعض اختراع لعبة الشطرنج إلى الفيلسوف كزير كسيس، كما نسب إلى أرسطو وإلى سقراط وإلى عوليس وإلى الرعاة السيتيين وإلى الأمير بالاميد الذي كان يلعب لعبة إغريقية ثقيلة الظل اسمها بيتيا تلعب على ورقة تشبه رقعة الشطرنج بخمس أحجار لكل من اللاعبين فالتبس الأمر على المؤرخين ؛ كما نسبوه إلى محاصري طروادة ، وإلى اليهود في شخص نبي الله موسى، بل نسب إلى نوح واّدم ! وكما نسب إلى المصرين القدماء، نسب إلى أهل الصين وأسيا الصغرى والكلداينين، وفي كتاب الشاهنامة للفردوسي شاعر فارس الجبار يقول أن ملك الهند أرسل سفيرا إلى كسري أنوشروان لعرض لعبة الشطرنج أن هذا السفير عرض اللعبة على بزرجمهر وزير العجم بدون أي تفسير بل جعلها كلغز ووضع القطع على الرقعة بدون أي ترتيب ـــــــ وأن بزرجمهر نفسه تمكن من أن يفهم كل خصوصيات اللعبة ! ورأي آخرون أن العرب هم أصل الشطرنج اعتمادا على Echecs الكلمة الفرنسية والتي تنطق مثل ( شيخ ) العربية ، لكن العرب لم يطالبوا مطلقا بنسبة الاختراع إليهم ( وفي ذلك نستطيع الرجوع إلي كتاب الهند ” للبيروني ” وكتاب ” مروج الذهب ” للمسعودي وفي الاثنين ينسب الشطرنج إلي الهند ) والأمر غريب في بابه إذ أن العرب أنفسهم لم يطلقوا كلمة شيخ للدلالة على الملك بل اقتصروا على كلمة ( شاه ) الفارسية .

وقال الزمخشري إن ملوك الهند كانوا حكماء لا يرون القتال وإراقة الدماء فوضعوا الشطرنج وكانوا إذا تنازع فريقان في مكان بالمملكة اصطف الجيشان وتقابل الفريقان وتقدم الملكان فلعب في موضع المعركة بالشطرنج فمن غلي استولي على ما وقع فيه النزاع من غير قتال وسفك دماء .


.

د. هاني حجاج
 
أعلى