نقد أبو همّام عبد اللطيف عبد الحليم - مدرسة للعقّاد في الأدب المقارن

تتوزّع مدرستان معروفتان دراسة الأدب المقارن، إذا أردنا الإجمال، هما: المدرسة الفرنسية أو التاريخية، والمدرسة الأميركية أو النقدية. إلا أن ظاهرة المقارنة سابقة على هاتين المدرستين، فالكلام –مثلاً– سابق لقواعد اللغة، وربما كانت الموازنات التي تمَّت قديماً في الأدب العربي بين شاعرين، وفي الأدب الأجنبي -أيضاً- بين كاتبين، هي البدايات الحقيقية الساذجة لهذا العلم، لكن هذه المسائل ما لبثت أن أنتجت علماً يقف عليه الباحثون جهودهم.

ولُبّ الدراسة المقارنة عند الفرنسين - في أغلبها - يتّجه إلى التأثير والتأثّر، والوسائط، وأنواع العلائق، وربما كان تعريف جويار لهذا العلم بأنه «دراسة تاريخ العلائق الأدبية الدولية» يوجز حدود هذه المدرسة، وقد صادف ذيوعاً شديداً حتى بين الدارسين العرب الذين تلقّوا دراساتهم في فرنسا.

لكن المدرسة الأميركية ورائدها «رينيه ويلك» ترى أن اقتصار الدراسة المقارنة على مسائل تأثّر أدب ما بأدب غيره، أو تأثيره، تضييق لا مسوِّغ له، وأن الاهتمام بالوسائط والتاريخ يكون على حساب جماليات النص ونقده، وفيه أيضاً شبهة اهتمام بالأدب القومي، وشبهة استعلاء؛ ولذا رأوا أن الظروف المشابهة في بلدين، وتشابه القرائح حين تتّجه إلى معالجة موضوع واحد يمكن أن تقوم بها دراسة مقارنة، بصرف النظر عن الالتقاء التاريخي، وتأثير أدب في أدب آخر، بل وسَّعوا الحظيرة بعض الشيء لدراسة تشابه بين أديبين من لغة واحدة، ولعل دافعهم في ذلك هو اللغة الإنجليزية الموحّدة بينهم وبين الجزر البريطانية.

وقد هَلَّل كثير من الدارسين، حتى بعض الفرنسين أنفسهم، لهذا الاتجاه الجديد الذي بَشَّر به «ويلك» في دراسته: «أزمة الأدب المقارن» سنة 1949، ورأوا فيه فتحاً جديداً، وقد جمعه في كتاب صدر سنة 1963.

واتَّسمت النظرة الأميركية بالشمول والاتِّساع لتحوي الأدب ومقارنته بمجالات التعبير الإنساني الأخرى، كالفنون، والفلسفة، والتاريخ، والعلوم، متفادية بذلك أوجه القصور لدى الفرنسيين.

لكن التاريخ لهذا العلم بخع دور العقّاد، وكأنه لم يترك أثراً يُذكَر، والحق مجانف لهذا التاريخ من ألفه إلى يائه، لأن رجلاً طلعة مثل العقاد لابد أن يضرب بسهم هذا الحقل البكر، وطارقوه يمضون في وعثاء.

وفي سنة 1908، وفي جريدة الدستور، نشر العقّاد طائفة من المقالات عن بلاد فارس: شعرها، وشعرائها، قارن في إحداها بين الخيّام والمعرّي، والعقّاد كان في التاسعة عشرة من عمره. ويرى أنهما اتَّفقا في كثير من العادات والطباع «ولا يبعد أن يكون الرجل قد استقى فلسفته من أبي العلاء، فإن الشواهد تؤيِّد ذلك، وقد كان الخيّام يحسن العربية، فلا يعقل أنه لم يطّلع على مصنَّفات المعرّي... كما أنه لا يعقل أن يبلغ بينهما توارد الخواطر إلى حَدّ أنهما يَتَّفقان في التعابير والمعاني والمذاهب ذلك الاتِّفاق الغريب».

ثم يستطرد العقّاد بإيراد أمثلة تؤكِّد نظرته هذه من أقوال الشاعرين الحكيمين، وهو كلام يتَّسق ورأي المدرسة الفرنسية التي تبحث عن الوسائط والتأثر، والعلاقات التاريخية.

بيد أن الذي نريد أن نؤكِّده قبل إيراد نماذج من الدرس المقارن، حسب وجهة النظر الفرنسية، وهي حاشدة عنده، أننا نودّ التلبّث أمام حقيقة غفل عنها الباحثون جميعاً، وهي من الوضوح بحيث لا تعوز نظراً يرى؛ هذه الحقيقة هي سبق العقاد للمدرسة الأميركية بأكثر من ثلاثة عقود:

في سنة 1916 نشر العقّاد مقالين في مجلة «المقتطف» -سبتمبر، ونوفمبر- عن أبي العلاء المعرّي، مقارناً بينه وبين داروين، وشوبنهور، بَيَّنَ فيهما أن شيخ المعرّة تحدَّث عن مذهب النشوء وتنازع البقاء، حديثاً غير عابر. كما تحدَّث عنه داروين، مدلِّلاً على ذلك بنماذج من شعر أبي العلاء، وأقوال داروين، ثم عرض العقّاد لتشاؤم الشاعر العربي - وكان العقّاد في أوج تشاؤمه وعشقه للمعرّي آنذاك- والفيلسوف الألماني شوبنهور، مستشهداً بنماذج من كليهما، وانتهى العقّاد قائلاً: «فإذا قيل إن داروين واضع المذهب في عالم العلم، ساغ لنا أن نقول: والمعري واضعه في عالم الأدب والشعر.» وارتأى أن المزاج وراء تشاؤمهما، وأنهما يتلاقيان في حبّهما للحيوان ورأفتهما به، وفي وفائهما لوالديهما، مع أنهما سبب وجودهما في الحياة التي يفركانها.

وعاود الحديث عن المعرّي وشوبنهور مرة أخرى في كتابه «رجعة أبي العلاء»، مما يشي بإلحاح الفكرة عليه.

وفي مقال له بجريدة «البلاغ» 7 يناير 1924 يقارن بين المتنبي والفيلسوف الألماني نيتشه في فلسفة القوّة. ويعجب العقّاد لهذا التشابه فيقول: «إن آراء شاعرنا وآراء المفكِّر الألماني تَتَّفق في مسائل كثيرة اتّفاقاً توءمياً، لا نعلم أعجب منه اتّفاقاً بين نابغين مفكِّرين، ينتمي كل منهما إلى قوم وعصر وحضارة ولغة غير التي ينتمي إليها الآخر. تتَّفق في مقاييس الحياة، وقيم الأخلاق، وصرامة العبارة، وتفاصيل جزئيات شتى مما يتفرَّع عن هذه الأصول، ووجهة النظر -على الأقل- متّحدة في كل ما نظم الشاعر، وخَطّ المفكّر في المعاني الخاصة والعامة. فمن قرأ المتنبي، ثم قرأ نيتشه لا بد أن تكرّ الذاكرة به إلى كثير من أبيات المتنبي ووقائع حياته، كلّما قَلَّبَ الطرف في صفحات نيتشه من رأي إلى رأي ومن خطرة إلى خطرة، ولا بدّ أن يشعر وهو يتنقَّل من أحدهما إلى الآخر أنه ينتقَّل في جوّ واحد وبيئة واحدة».

وقد ردَّد هذا الرأي المستشرق الإسباني «غارثيه غوميث» في دراسته عن المتنبي التي ترجمها إلى العربية د. الطاهر مكي، من دون أن يشير الإسباني إلى رأي العقّاد، وما نظنّه إلا آخذه عنه، إبان إقامته في القاهرة منذ سنة 1923، وهو طالب بعثة.

ما قاله العقّاد منذ سنة 1916 هو ما بشَّرت به المدرسة الأميركية، وشايعها بعض الفرنسيين منذ سنة 1949، وكان «ويلك»، حين نشر العقّاد آراءه، في الثالثة عشرة من عمره، ولو كان كاتبنا المصري يكتب بغير العربية لكان لكتابته أثر آخر، ولَغَدا صاحب مدرسة تُنسب إليه في الأدب المقارن، تقف بجانب المدرسة الفرنسية ولا تُلغيها، لكنها تحدّ من غلوائها في حصارها الشديد، وتفتح المقارنة بين المعارف الإنسانية، كما حدث لدى العقّاد حين قارن بين شعراء، وفلاسفة، وعلماء.

أما صورة الأمّة في أدب أمّة أخرى، فله فيها صفحة باقية في تراثه، وأمامنا أربع دراسات - لم تنشر من قبل - عن صورة مصر في أربعة كتب، وهي رحلات واقعية أو خيالية: الكتاب الأول هو «صوت من مصر» وهو من وحي الخيال، ويذكِّرنا بـ«واشنطن أرفينج» في كتابه عن الحمراء، وتناول العقّاد الكتاب ومؤلِّفه بالنقد والتحليل، ومواطن الإصابة في وصفه الخيالي، والذي أثبتت الأيام واقعيته، ويختم كلامه بقوله: «وفي كتاب «صوت من مصر» أو هاتف من مصر ذخر موفور للدارسين والملاحظين، وذخر موفور للمتخيِّلين والمـتأمِّلين، ولا سيما إذا كانوا من أبناء البلاد التي تدور عليها أحاديث الكتاب».

والكتاب الثاني: «وباء مصر الأخير» ويتحدّث عن المخدِّرات.وهو كتاب حقيقة لا خيال، إلا أن فيه توشيات مثل نوادر شرلوك هولمز، كما فيه استعراض جيد لحقيقة المجرمين والمهرِّبين، ومطارداتهم.

والكتاب الثالث قصة للكاتب السويسري «جون نيتل» واسمها «الدكتور إبراهيم» وقد تُرجِم إلى الإسبانية. ويحكي قصة طبيب من الجيل الناشئ في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، ويتابع المؤلف رحلته في أقاليم مصر، ورأيه في العادات والتقاليد، ومحاولة تفسيرها وتعقيب العقّاد عليها.

أما الكتاب الأخير فهو رحلة إلى مصر قبل نحو سبعين سنة - أو منذ كتب العقّاد دراسته في الثلاثينيات - وهو للكاتب المصوِّر الفرنسي «إيجيين فرومتان»، ويوازن العقّاد بين ملكاته مصوِّراً وكاتباً، ورأيه في مشاهداته في مصر. وتذكِّرنا هذه القصة أو الرحلة برحلة «دومنجوباديا» الإسباني أو «علي بك العباسي» كما سمّى نفسه في عصر محمد علي.

والرحلات عموماً مصدر من مصادر دراسة الأدب المقارن، وإن كان بعض كُتّابها من الكتّاب الهواة أو من الدرجة الثانية، إلا أن القارئ لا يعدم بعض اللمحات التي تقع عليها الأعين المغتربة قبل الأعين الأهلية.

كما حدَّد العقّاد قضية التأثير والتأثّر، ومدى أصالة الكاتب، حين تحدَّث في شعراء مصر وبيئاتهم في الجيل الماضي عن مدرسته. يقول: «والواقع أن هذه المدرسة المصرية ليست مقلِّدة للأدب الإنجليزي، ولكنها مستفيدة منه. ولها بعد ذلك رأيها في كل أديب من الإنجليز كما تقدِّره هي، لا كما يقدِّره أبناء بلده، وهذا هو المطلوب من الفائدة الأدبية التي تستحقّ اسم الفائدة. إذ لا جدوى هناك فيما يلغي الإرادة، ويشلّ التمييز، ويبطل حقك في الخطأ والصواب، وإنما الفائدة الحقّة هي التي تهديك إلى نفسك، ثم تتركك لنفسك، تهتدي بها وحدها كما تريد، ولأن تخطئ على هذا النمط خير من أن تصيب على نمط سواه.».

ونعتقد أن هذا من خير ما قرأناه فيما يتعلَّق بالتأثير والتأثّر، وأصالة الأديب الحق، ولـ«جيتي» كلام مشابه... لكن ليس فيه مثل هذا الحسم.

ولعل خير ختام لهذه السطور العجلى ما قاله العقّاد ينفي الظنّة الببغاوية، ويؤكِّد أصالته الواضحة بنفسها، وتثبت سبقه، وهو قوله: «ولقد يرى بعض الناقدين أنني أتأثر بما أقرأ فيما أكتب، وأنني أنحو هذا النحو أو ذاك مما أعجب به من آراء المفكِّرين وأنماط التفكير، فليس لي أن أقول في هذا الرأي إلا أنني أعلم غير ذلك من شأني، وإنني لا أحسب تفكير الإنسان إلا جزءاً من الحياة، ونوعاً من الأبوة، فليس يسرّني أن تنمى إليّ أفكار كل من أَقَلَّتْهم هذه الأرض من الأدباء والحكماء والعلماء إذا كانت غريبة عني. بعيدة النسب من نفسي، كما ليس يسرّني أن ينزل لي كل من في الأرض عن أبنائهم وبناتهم، ولو كانوا أبناء سادة وذرّيّة ملوك، أقول ذلك ولا أجد فيه ادِّعاءً ولا عجباً، ولكني أقرِّر به حقيقة، وأبيِّن مذهباً، فمن شاء أن يعدّه من الادّعاء والعجب، فله مشيئته، وليس عليَّ أنا أن أنازعه فهمه وتفسيره..

ولو أن للخواطر يوم بعث تُرَدّ فيه إلى مناشئها، لَخلْتُ أن ستبعث معي في جسد واحد يوم يُنفَخ في الصور الموعود، أو لعادت معي إلى حيث كنا في الحياة، ولو كان لها ألف شبه بآراء المرتئين وكتابات الكاتبين».

وشهادة المرء لنفسه تبيح الأخذ بها حين ننظر بعيون آدمية لا بعيون الزجاج الممسوخ، حين نجد دلائلها شاخصة فيما خطّته يراعة العقاد رائد اتجاه في الأدب المقارن، قبل المدرسة الأميركية، وهو في غنى، بسبقه وأصالته، عن أي نافلة من الإعجاب أو الثناء.




عباس محمود العقاد.jpg
 
أعلى