عمر بن قينة - أَدب المغرب العَربي و طبيعة النَشأة

أودّ في البداية أن ألاحظ أنه رغم بعدي تخصّصاً عن موضوع الأدب المغربي القديم ، أو أدب المغرب العربي فقد آثرت الحديث عنه هنا في أكثر فتراته تردداً وغموضاً، لا حبا فقط في ارتياد مجهول أو غامض غارق في الضباب، بل تعاطفاً وإسهاماً في الإنصاف لما لحقه -في هذه الفترة- من حيف، ربما أيضاً لتعاطفي مع كل مظلوم، قضايا ومواقف وأشخاصا.

وهكذا أجدني أدخل في هذه التجربة المتواضعة تحفيزاً للهِمم، وتفتيقاً للرؤى، بل ربما استفزازاً ما أدبياً مهما كانت نتائجه.. يبقى فيها الاجتهاد حسنة. فإن أصبت في بعض من ذلك فلله الحمد بدءاً وختاما على بعض توفيقه ، وإن خذلني التوفيق فأكون قد ظفرت بأجر الاجتهاد.

فلنتفق إذن على أن فترة النشأة هذه لأدب مغربي موطن فترة مظلومة ، يتحاشاها الباحثون، وينأى عنها الدارسون فما هي هذه النشأة وما طبيعتها؟

قبل التطرق إلى ذلك يحسن منهجياً أن ننبه -مجرد تنبيه- إلى بعض الجهود المغربية خاصة والعربية القليلة منها بعامة في الأدب المغربي ، وهي جهود تمثلت في الدراسات المختلفة المتخصصة والعامة ، من بينها أطروحات جامعية وغيرها، لكنّها بقيت مشدودة إلى العصر المرابطي والموحدي ، وبعضها القليل إلى ما قبل ذلك في العهد العبيدي -الصنهاجي والحمادي ، وهي مرحلة التمثيل والتأصيل والتعميم والتمكين ، وبقيت مرحلة النشأة في العصور الثلاثة الأولى الهجرية تعاني غموضاً وريبة وهجرا لعوامل مختلفة ، منها: هيبة المجهول الغامض ، وطبيعة النشأة المضطربة ، وقلة المصادر والمراجع والمادة معا ، وصعوبة الاهتداء ، إلى تلك القلة ويمكننا أن نقسّم مرحلة النشأة هذه نفسها إلى فترتين ، فترة الفتوحات الإسلامية أولاً وما اتسمت به من اضطرابات مختلفة في المغرب ، وفترة الامارات الثلاث ، الإمارة الرستمية (144-296هـ) و الإمارة الإدريسية (172-375هـ) و الإمارة الأغلبية (184-296هـ) الأقوى في المنطقة المغربية و الأقصر أجلا ، في سقوط هذه الإمارات في يد الحكم العبيدي.

ولكل فترة من هاتين طبيعتها من الناحية التاريخية والمادة الأدبية، لكنّهما معا عكسا حسا مغربيا في مجاله الحضاري الجديد (العربي- الإسلامي) تجسدت فيهما البذور الأولى لتوطين الكلمة الأدبية : حدثاً و مناخاً سياسياً و نفسياً و اجتماعياً و أدبياً أولاً و أخيراً. و لتكن أول وقفة لنا عند الفترة الأولى، فترة الفتح مع نهاية القرن الأول الهجري، فتنبغي الإشارة هنا إلى أن الفتح الإسلامي كان توثيقاً لما وهن أو انفصل عبر التاريخ بين أبناء الأمة الواحدة، وكان هذه المرة بواسطة العقيدة الجديدة بعمقها الإنساني والحضاري حين تذوب في الإسلام كلّ النعرات الإقليمية والعرقية ، ويبرز الانتماء الواحد لأمة الإسلام بفضل الدين التوحيدي الذي مقياسه التقوى. وجد هذا دعمه في جانب آخر بالشمال الافريقي هو صلة النسب بين الذين حملوا لواء الإسلام من الفاتحين وبين أبناء المنطقة ومن دون أن ندخل في مناقشات لم تعد تفضي إلى شيء حول عروبة (مازيغ) أو الأصل العربي للإنسان البربري والاتجاه الاستعماري الغربي الذي يرفض هذا الانتماء: يمكن القول: إن الإسلام تكفل بصهر أبناء الوطن الواحد في هم مشترك فصار في النهاية الانتماء حضارياً واحداً، وهو الانتماء الذي لم يلبث معه ابن الشمال الافريقي حتى حمل لواء الفتح لنشر الإسلام، كما غدا بعد ذلك عالماً ضليعاً في آداب اللغة العربية، حجة فيها، مؤلفاً في اللغة والنحو، كما غدا أمامها عالماً في أصول الفقه الإسلامي، ومجتهداً في أمهات المسائل باللغة العربية، وهو موضوع آخر لا يعنينا هنا.

غير أن القرن الأول بشكل خاص يبقى فترة الفتح، كما يبقى فترة صراع مبكر على السلطة، فترة فتح لدحر الوجود البيزنطي أولاً، ثم فترة معارك بين الولاة والأمراء المحليين من (البربر) أمثال (كسيلة) و (الكاهنة) ثانياً، مثلما كان عصر صراع وتنافس على السلطة بين الولاة أنفسهم ، مما كانت له انعكاسات سلبية خطيرة في مسيرة الفتح و على الرجال أنفسهم ، وفي العلاقة بين القائد المسلم والمواطنين ، كما حدث بين (عقبة بن نافع) و (أبي المهاجر دينار) الذي عينه والي مصر (مسلمة بن مخلد) على (افريقيا) سنة خمس وخمسين، فخرب القيروان التي بناها (عقبة) سنة خمسين وأسس أخرى، ومضى في الفتح حتى هزم (كسيلة) الذي أسلم على يده، غير أن (عقبة) الذي عينه (يزيد بن معاوية) بعد توليه الخلافة انتقم من (أبي المهاجر) وأساء لحليفه (كسيله) مما جعل الثمن باهظاً على المستوى الشخصي لـ عقبة وفي حركة الفتح في المنطقة، ثم على مستوى الثقة بين المسؤول والرعية.

هذا زيادة على كون المرحلة لم تخل من تذبذب في الموقف من الدين والسلطة والمناخ الجديد إضافة إلى أن المغرب كان في مرحلة تعرف على الدين والأخذ بتعلم العربية، هذا التعلم الذي لم تكن لتبرز نتائجه إلا في فترة متأخرة، خاصة حين أدرك الإنسان (المغربي) نوعية المناخ الذي بدأت تحدثه العقيدة الجديدة التي بات فيها المواطن إنساناً له كرامته وليس عبداً ذليلاً في خدمة الاحتلال الغربي المندحر أمام المدّ الإسلامي.

وقد برز في هذه الفترة من حركة الفتح الإسلامي أبطال من أبناء المنطقة أنفسهم لنشر كلمة الإسلام، فكان (طارق بن زياد) الرجل الذي جسّد التحوّل من مرحلة الشك والتردد إلى مرحلة أخرى حاسمة من الإيمان واليقين والعمل، صار فيها الإنسان المغربي صاحب القضية لنشر الإسلام واللغة العربية.

هنا يمكن أن نتوقف قليلاً عند هذه الشخصية المغربية لما تمثله من جوانب مختلفة من بينها الجانب التاريخي والأدبي بشكل أخص، فهي مؤشر فاصل في الموقف الذي صار لصالح الإسلام من أبناء المنطقة تشعباً به وحباً فيه، وإخلاصاً في الدفاع عنه، ثم تعبيراً عن ذلك بلغة عربية راقية كما تجلى في خطبته الذائعة الصيت التي ضج بها فؤاده، فتموّجت كلماتها بلغة صافية بليغة على لسانه وهو يعلن في جيشه "البحر وراءكم والعدو أمامكم" فكان الانتصار في المعركة كما هو معروف (92 للهجرة).

يعنينا في الموقف هنا هذه الخطبة الأدبية الرفيعة التي أنتجها قائد من (المغرب) أي من المنطقة التي أطلق على أبنائها اسم (البربر) وقد جاءت بلغة عربية صافية، بل إن مستواها الفكري واللغوي والبلاغي جعلها موضع شك في أن تكون لطارق (البربري) الذي بذر بهذه (الخطبة) ونص آخر أول بذرة لـ نشأة أدب مغربي، في فترة يتكهن البعض بأنها نشأة مشرقية على أيدي رجال فقهاء صحبوا الفاتحين : أئمة و وعاظا، وهو ما لا يصح أن يدرج في الأدب بعامة، ولا في الأدب المغربي ، هذا إن توفرت فعلاً هذه النصوص الدينية الوعظية.

ويرى المتشككون في نسبة هذه الخطبة لـ طارق: أنه لم يكن في مقدوره وهو (البربري) أن يلقي خطبة بهذا المستوى لعامل اللغة بالدرجة الأولى من دون شك، وهو الرأي الذي يسهو عن كثير من الحقائق في العلاقة بنسب (طارق) وبيئته التي نشأ فيها، رغم التضارب بين الآراء في نسبه الذي يعود به البعض حتى إلى (فارس) فيعتبرونه (همذانياً) ويكتفي (ابن خلدون) بأنه (ليثي) من موالي قبيلة (ليث) بينما الواضح أنه مغربي (بربري) من قبيلة (زناتة) كما يذكر ذلك (الشريف الادريسي) نفسه، وهي من القبائل الكبرى في افريقيا أو شمال افريقيا.. ولم يكن (طارق) -المتوفي سنة 101 هـ- 719م- حديث عهد بالإسلام والعربية، حتى يكون ذلك مصدر شك في نسبة الخطبة إليه، فقد أسلم أبوه قبله، بل يذكر البعض جدّه، وهذا واضح حتى من خلال الاسم واللقب.

لذا فإن أباه على الأقل اعتنق الإسلام، واتخذ له اسماً عربياً وصار مجاهداً في صفوف المسلمين، في ذلك الجو نشأ (طارق) وشب مع الإسلام مؤمناً مجاهداً، حتى تولى منطقة (برقة) كما تشير بعض المصادر كـ ابن الحكم في (فتوح مصر)(1) وهي التي فتحها قبل (عمرو بن العاص) سنة (22 هجرية) بعد الفتح في (مصر) بنحو عامين(2) كما يؤكد (عبد الله عنان).

في مسيرة الفتح هذه كان (طارق) من دون شك يتنفس مناخ الإسلام ويتعلم اللغة العربية ذات الصلة الحميمة بلغته الأولى (البربرية) ثم قبل هذا وبعده حتى على فرض الاختلاف العرقي فإن الإسلام وحّد المشاعر والآمال بين أبناء المغرب العربي من الذين حملوا لواءه فاتحين والذين اعتنقوه من أبناء المنطقة ونهضوا ينشرونه، فعبر العلاقات في وجوه الحياة المختلفة في المناخ الإسلامي، بما فيها من زواج وعادات وتقاليد نهض مجتمع متجدد متطور أمه (الجزائر) أو المغرب عموماً وأبوه الإسلام، كما يقول ابن باديس (فتبربر العرب وتعرب البربر) كما يقول كاتب جزائري في التاريخ أيضاً(3).

هذا الواقع الجديد يعتبر في وجهة نظر البعض من غير الغربيين طبعاً تتويجاً لموجات من العلاقات المتباعدة التي شهدتها المنطقة منذ العصور القديمة في الهجرات المتلاحقة، مما ينبه إلى الأصل العربي لسكان الشمال الافريقي القدماء زيادة على حقائق أخرى في اللغة والعادات والتقاليد، وهو -ربما- مما جعل المرحوم (شكيب أرسلان) يقول: "البربر في المواقف العامة هم أقرب إلى العرب من العرب بعضهم إلى بعض"(4).

زيادة على كل ذلك وغيره فقد فصل الإسلام في الأمر بمبادئه وقيمه الإنسانية في مثل قوله تعالى: "إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إخْوَة" وفي مثل قول رسول الله (ص): "لا فضل لعربي على عجمي.. إلا بالتقوى" ثم قوله في الأخير "ليس منا من دعا إلى عصبية".

في هذا الواقع الإسلامي الجديد انطلق (طارق بنزياد) مجاهدا،وقد عينه (موسى بن نصير) واليا على مدينة (طنجة) بعدما تولى هذا الأخير مهامه في (شمال افريقيا) في نهاية الثمانينات من القرن الأول للهجرة، فأسهم (طارق) في التمكين للإسلام ونشر العربية بعدما نشأ في أحضانهما.

لم يكن استثناء ولا عجبا في هذا الجو أن يجيد (طارق) العربية ويبدع بها، وهو أمر لا يتطلب سوى بضع سنوات لن يكون في حاجة إلى أن تبلغ العشرين أو الثلاثين، تساعد على ذلك عوامل مختلفة، وهي كثيرة ومتنوعة، منها: حب الدين الجديد الذي يشحذ العزيمة فتكبر الهمة ويهون الصعب، إضافة إلى الذكاء الفطري في الإنسان الريفي وحدة ذهنه وقدرته الفائقة على الحفظ التي تمكن من حفظ المنظوم والمنثور خصوصاً القرآن الكريم قمة الإعجاز البياني، وما فيه من نماذج مثالية لفن القول الرفيع.

هذه الثقافة اللغوية التي لم تزاحمها معارف أخرى غير المعارف الدينية إضافة إلى الخبرة بالحياة والتجارب الإنسانية هي التي أسهمت في صياغة خطبة (طارق) في جيشه في لحظات مشحونة بالتحفز والقلق، وهو يجد نفسه في مواجهة عدوّ ذي إمكانات كبيرة بعدما تلقى أمراً من (موسى بن نصير) سنة (92هـ) بالتوجه لفتح (إسبانيا) فجهّز جيشاً قوامه عشرة آلاف ممن يسمون (بربرا) مسلمين وبضع مئات من عرب المشرق، لمواجهة الملك الإسباني (لذريق) الذي لقي مصرعه في المعركة على يد (طارق) سنة (94هـ).

وهي المناسبة التي أبدع جوّها هذه الخطبة من عيون أدب الحرب، بكل ظلالها وأجوائها وثورتها وقيمها الطبيعية والشخصية والإنسانية المختلفة، والحضارية أخيراً.

لقد كانت خطبة (طارق) طفرة متقدمة في نشوء الأدب المغربي، ليس في مستواها الفكري ولغتها فحسب، بل حتى في نوعها ونوعيتها، فهي ليست من الخطابة الدينية التقليدية الباهتة، ولا هي مما تأسر فيه الزخارف اللفظية الجوفاء، بل تفجرت فيها المشاعر الجياشة متدفقة حارة نابضة بالصدق والإيمان، مشاعر الجهاد والاستشهاد، مشاعر الإيمان بالقضية والفناء في حبّها، فدخل بها عالم الأدب من باب الحرب، وهي إن عبرت عن ملامح شخصية عسكرية حازمة فقد وشت أيضاً بروح أديب فنان، لم يصلنا منه غيرها سوى ثلاث أبيات شعرية ذكرها له (المقّري) في (نفح الطيب) وهي قوله:

ركبنا سفينا بالمجاز مقيرا (*) *** عسى أن يكون الله منا قد اشترى
نفوسا وأموالا وأهلا بجنة *** إذا ما اشتهينا الشيء فيها تيسرا
ولسنا نُبالي كيف سالت نفوسنا *** إذا نحن أدركنا الذي كان أجدرا

وقد أتبع (المقّري) هذه الأبيات بتعليق أورده بعدها مباشرة "قال ابن سعيد(**) وهذه الأبيات مما يكتب لمراعاة قائلها ومكانته، لا لعلو طبقتها"(5) أي لضعفها، دون مكانة الرجل ومستواه الذي عرف بخطبته، لكن هذه الأبيات تؤكد حقيقة الرجل في كونه تمكن من العربية، حتى أجاد التعبير الرفيع بها، فأبدع في ذلك شعراً ونثراً، والملاحظ أن هذه الأبيات تستمد الظروف نفسها التي قيلت فيها الخطبة السابقة، غير أن الأبيات تبدو أسبق في القول عن الخطبة. الأبيات تصف عبور البحر من المغرب إلى اسبانيا، والخطبة تصور جوّ الاستعداد للمعركة للالتحام بالعدوّ، في الأرض الاسبانية.

وقد انعكست في هذه الأبيات نفس القيم والملامح الدينية حتى استمد النص الصريح من القرآن الكريم، فقوله في الشطر الثاني من أول بيت وما تبعه: "عسى أن يكون الله منا قد اشترى" هو صدى لقوله تعالى: "إنَّ الله اشتَرى مِنَ المؤمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وأمْوالَهُمْ بأنَّ لهمُ الجَنَّةَ، يُقَاتلُونَ في سبيلِ اللهِ فيَقْتُلون ويُقْتَلون وعْدًا عليه حَقًّا في التَّوراةِ و الإنجيلِ و القُرْآنِ..." إلى آخر الآية [111 من سورة التوبة]

مهما يكن من شيء فإن القرائن المختلفة ما ذكر منها وما لم يذكر تدلّ على أن الخطبة لطارق المغربي، خاطب الحسَّ الديني في جنوده، والنوازع النفسية، وما لحق هذه الخطبة من تغيير واختلاف بين رواية وأخرى راجع إلى فعل الرواة وتصرفهم في ذلك.

وهكذا نسجل هنا الظاهرة الأولى في أول فترة لنشوء أدب مغربي موطّن، بصاحبه وبيئته وظرفه ومناسبته، ثم نتطلع حولنا لاستمرارية هذه النشأة وامتداداتها على الأقل في القرن الثاني للهجرة، فلا نعثر على شيء معتبر إلا في أواخره.

د. عمر بن قينة

الدكتور عمر بن قينة.jpg
 
أَدب المغرب العَربي و طبيعة النَشأة "
الدكتور عمر بن قينة

2

وهنا نصل فعلاً إلى الإشكالية الحقيقية الثانية.. التي أدعو إلى التَدبَر فيها والبحث أيضاً والتفكير.. لماذا انتظرنا بعد (طارق) نحو قرن كي نرى نماذج أدبية جديرة بالاهتمام؟ هل غابت الظروف والعوامل؟ أهناك أثار ونصوص ضائعة؟ أم أنّ الحدث الذي فجر قريحة (طارق بن زياد) لم يتح مثله لـ غير طارق؟
أم انعدام أمثال (طارق) للتعبير عن الحَدث؟ أكان إذن (طارق) فلتة في هذه الفترة المبكرة من نشأة الأدب المغربي؟ فانتظرنا نحو قرن حتى التقينا نماذج أخرى من الأدب المغربي بعدما صار هذا المغرب دويلات صغيرة ومتنافسة متصارعة، الأقصى، الأوسط، الأدنى.. هذه هي الإشكالية التي تبقى مصدر تخمين وتكهن، بل قلق وازعاج. بماذا نملأ قرناً من الزمان فارغاً من أي أثر أدبي. هو قرن فارغ بين فترة أولى و فترة ثانية من نشأة الأدب المغربي؟ إنه أمر غير طبيعي وهو مصدر دوافع التكهن.. ودوافع القلق، أملاً في العثور على جواب شاف غير قابل للنقض والشك والرفض.

ومهما يكن من شيء، فقد جسدت خطبة (طارق) الفترة الخاصة بعهد (الولاة) في المغرب العربي صراعاً بين الإسلام والكفر، قبل أن يتجزأ هذا المغرب الكبير وينقسم على نفسه، فماذا عسانا نجد في عهد الإمارات أو الدويلات المغربية بعبارة أصحّ؟ أو من عساه يمثل الفترة إمارتياً أو بالأحرى مغربياً عاماً؟

هذه هي إذن الفترة الثانية من هذه النشأة لأدب مغربي صحبت التجزئة السياسية في عهد الإمارات المغربية، حيث نلمس أدباً مغربياً بمبدعيه، وبظروفه التي انتجته، وبطبيعة ما عالج من قضايا، فمثّله في كل إمارة صوت أو أكثر من صوت واحد، كان بعضهم من الأمراء في البلاط، أو ممن ينظمون الشعر ربما عرضا فقط لا موهبة مكينة، وممارسة دائمة، لكننا نجد إلى جانب ذلك من يمثله مغربياً عاماً في هذه الفترة من النشأة بغزارة انتاجه، وتنوع موضوعاته، وانفتاحه على مختلف الأنظمة، الثلاثة في المغرب العربي، وغيرها أيضاً في المشرق كما سيأتي.

ففي ظروف التصدع السياسي الإسلامي إذن الذي أصاب الخلافة الإسلامية في الصميم بعد انقضاض الأمويين أولا وافتكاك العباسيين ثانياً برزت الإمارات المغربية فكانت الأولى الإمارة الرستمية (144-296هـ) التي أسسها (عبد الرحمن بن رستم) والثانية الادريسية (162-375هـ) وقد أسسها (إدريس بن عبد الله العلوي) أما الإمارة الثالثة فهي الإمارة الأغلبية (184-296هـ) الأقوى في منطقة المغرب العربي الإسلامي، تأسست مستقلة -سلمياً- عن الدولة العباسية على يد (إبراهيم بن الأغلب) الذي كان والياً على (طبنة) شرق (الحضنة) ثم تولى القيروان (184هـ) حيث أقرّه العباسيون عليها تابعة لهم اسما مستقلة فعلا بالتدريج، وهي بذلك أكثر اتساعاً أيضاً بامتدادها حتى (طرابلس) واتجاهها إلى فتح (صقلية) حيث بدأ ذلك في عهد (زيادة الله) الثالث، يقول المستشرق الألماني (كارل بروكلمان): "وفي الحق أن سنوات السلام الثلاث والسبعين التي قدر للعرب أن ينعموا بها في صقلية منذ ذلك الحين كانت كافية لنشر حضارتهم والتمكين لها في ربوع الجزيرة إلى درجة بعيدة، حملت النورمانديين الذين قضوا على الحكم العربي سنة 1060 في عهد الكونت رجار على أن يأخذوا عن العرب نظامهم الإداري ويقتبسوا العناصر الأساسية للثقافة الإسلامية في حياتهم الفكرية وفي فنهم أيضاً"(6) وهذا بعدما أكد (بروكلمان) في كتابه (تاريخ الشعوب الإسلامية) ما تتميز به الدولة الأغلبية حين قال: "والحق أن الغنى والقوة اللذين تما للأغالبة بسبب من الموقع الممتاز الذي تتمتع به أراضيهم ببقاعها الداخلية الخصبة ومرافئها المسيطرة على تجارة البحر الأبيض المتوسط لا يزالان حتى اليوم يتجليان في جامع عاصمتهم القيروان الذي يعتبر من أفخم المنشآت الدينية في الإسلام"(7).

وإن اختلفت الأنظمة السياسية بين هذه الإمارات المغربية واختلفت المكانة الاقتصادية والدور الاستراتيجي من إمارة إلى أخرى فإن الحياة تبقى واحدة، مع اختلاف محدود في الدور الذي قامت به المراكز الثقافية في هذه الإمارات بخاصة جامع (القيروان) في عاصمة الأغالبة، مع القرويين بفاس، وكلاهما قد قام بدور تاريخي هام في الحياة الثقافية لأقطار المغرب العربي الإسلامي، بالإضافة إلى دور (تيهرت) الجيد بالمغرب الأوسط.

يقول (عبد الله كنون) عن القرويين أنه كان مصدر الإشعاع بفاس "يعد أقدم جامعة علمية في العالم الإسلامي، قد أسس في هذا العصر على عهد الدولة الادريسية.. في سنة 245هـ وكانت التي بنته سيدة فاضلة مهاجرة من القيروان تسمى أم البنين الفهرية. ولما كانت المساجد في المجتمع الإسلامي تؤدي مهمتين: مهمة دينية ومهمة ثقافية إذ تلقى في أروقتها دروس في مختلف العلوم والفنون فإننا نعتقد أن جامع (القرويين) منذ إنشائه كان مركزاً للدراسات الدينية والأدبية التي لم تنقطع منه أبداً، وأن تأسيسه كان مبدأ الارتكاز للحياة الفكرية في المغرب الأقصى"(8) ، أما جامع (القيروان) الذي رأى فيه (بروكلمان) رمز قوة وغنى فإن البناء جملة فيه يعود إلى عهد زيادة الله الأول الأغلبي الذي حكم في الفترة (201-223هـ) أما ما بناه الفاتح الأول (عقبة بن نافع) "لم يبق منه غير المحراب القائم اليوم وراء المحراب الحالي".

بينما يصف (مبارك الميلي) العاصمة الرستمية (تيهرت) بمساجدها وحلقاتها بأنها: "أصبحت.. معدن العلم والأدب ومحط رجال الطلبة حتى قال فيها أبو عبد الله البنّا (يفضلونها على دمشق وأخطأوا وعلى قرطبة وما أظنهم أصابوا) ولست أشك في أنها دونهما، ولكن حضورها في الذهن بحضورهما يكفي دليلا على تقدمها ورقيها"(9).

غير أن الملاحظ في الحياة الثقافية بالإمارات المغربية هو أن العلوم الدينية احتلت فيها الدرجة الأولى، لاعتبار أنها كانت الأساس الذي تقوم عليه ثقافة الفرد في العهود الإسلامية الأولى.

وقد نبّه (المقّري) إلى أن لا عناية لحذاق القيروان وافريقيا إلا بالفقه في السنين الأولى، وتأتي العلوم الأدبية في درجة ثانية، وفي مقدمة هذه الشعر. ينبغي أن نلاحظ هنا أن المثقف عموماً، والأديب بشكل أخص، كانا بشكل عام فوق الحدود الاقليمية، وما تمليه المصالح السياسية الظرفية للأنظمة، وهذا ما يوحي بسعة الأفق لدى رجال الحكم، كما يؤكد أن الأديب خصوصاً ينبغي أن يكون فوق التكتلات المحلية الخاصة، والانحياز الظرفي الذي تمليه مصالح سياسية لا ثقافية، إلا ما يرى في مناصرته حقا يجب أن يدعم ولا يخذل.

كان المفكر والأديب يتجاوز الحدود الاقليمية الضيقة- عموماً- ويلقى الترحيب حيث يحل، طالبا للعلم أو مسهما في التعليم، جواز مروره ورخصة إقامته الانتماء الحضاري، الحرف العربي والعقيدة، ولا شيء يقلق راحته في هذا القطر أو ذلك إلا إذا كان ذا نشاط سياسي جاد جداً، وذا فكرة مذهبية مكشوفة يعتنقها ويدعو إليها بشكل سافر، فحينئذ فقط يبيت الاحتمال واردا في تعرّضه لمضايقات قد تختلف حسب الظروف، كما قد تتشكل وتتلوّن لكنها عموماً لا تشنقه، فكان الأديب -عموماً دائماً- رسول وحدة، وتقارب وتآزر، فوق كل تحيز مقيت، وخير من يمثل ذلك في هذه الفترة مغربيا (بكر بن حماد بن سهل التيهرتي).

وقبل الحديث قليلاً عن هذه الشخصية المغربية المتميزة يحق لنا التساؤل عن بعض الذين كتبوا الشعر قطريا (كل وقطره) في هذه الإمارات المغربية في الفترة الثانية من مرحلة النشأة، حيث نلمس أدباً مغربياً بنسبه لأصحابه وبظروفه التي انتجته، وبطبيعة ما عالج من قضايا. وإن كان يتعذر تتبع ذلك في مثل هذا الوضع منهجياً واحصائياً، فإنه يمكن الاختصار الدّال، كما يمكن القول في الوقت نفسه أن بعضا من أمراء هذه الإمارات المغربية أنفسهم أسهموا في هذه النشأة بطبيعة تكوينهم الديني والأدبي، منهم بشكل خاص في الإمارة الإدريسية (إدريس) الثاني الذي حكم في الفترة (188-213هـ) وهو ابن المؤسس الأول للإمارة الإدريسية، كما نجد في الإمارة الرستمية مثلا (أفلح بن عبد الوهاب) الذي كان ثالث الأئمة الرستميين في الفترة الممتدة بين (188هـ) و(238هـ) خلفا لأبيه، وقد عرف بالعلوم الدينية، وكذلك بالشعر، وهو القائل:

العلم أبقى لأهل العلم آثارا *** يريك أشخاصا روحا و أبكارا

والثقافة الدينية و نظم الشعر مرة أخرى- مهما كان المستوى -صفتان لازمتا المثقف العربي عموما حتى العصر الحديث، للعلاقة الوطيدة بين العربية والإسلام.

أما في الإمارة الأغلبية، ففي المقدمة مؤسسها (إبراهيم بن الأغلب) في الفترة (184-196هـ) القائل اعتداداً بالنفس في كل ما كان يواجهه خارجياً وداخلياً من حروب وفتن بطابعها العسكري والسياسي المذهبي:

ما سار عزمي إلى قوم وإن *** كثرو إلّا رمى شعبهم بالحزم فانصدعا
ولا أقول إذا ما الأمر نازلني *** يا ليته كان مصروفا و قد وقعا
حتى أجليه قهرا بمعتزم *** كما يجلى الدجى بدر إذا طلعا
قوما قتلت وقوما قد نفيتهم *** ساموا الخلاف بأرض الغرب و البدعا
كلا جزيتهم صدعا بصدعهم *** و كل ذي عمل يجزى بما صنعا

يضاف إليه غيره من حكام الإمارة، مثل الأمير (زيادة الله) الأول
(201-223هـ) وخامس الأمراء الأغالبة حفيد إبراهيم بن الأغلب (محمد أبي عقال) في الفترة (226-242هـ) وغيرهما من الأمراء وسواهم.
وهذه نماذج فقط، عجلى لملامح أولية تعطي صورة تقريبية عما بدأ يعتمل في المحيط الثقافي بالعواصم المغربية الثلاث من نشاط فكري وأدبي، أنجزته هذه العواصم أو بدأت تنجزه منذ نشأتها لتأصيل بداية أدبية مغربية، فكانت البلاطات في الإمارات ذات دور في هذه البداية الثانية، وتأصيل التجربة المغربية بمناخها وأجوائها ضمن المحيط الحضاري العربي الإسلامي. في هذه البيئة الجديدة، إذن تأتي الفترة الثانية من نشأة الأدب المغربي في العواصم الثلاث التي أنجبت رجال فكر وثقافة وعلم وأدب، فمثلما أنجبت (القيروان) و(القرويون) نخبة من العلماء والأدباء في هذه الفترة أنجبت (تيهرت) نخبة أخرى، منهم (أبو الفضل أحمد بن القاسم البزاز) والشيخ أبو سهل الذي قيل عنه، إنه كان يجيد البربرية ومن أكبر المؤلفين بها، إضافة إلى إجادته العربية، و(ابن الصغير) صاحب كتاب (تاريخ الرستميين)(10).

غير أن الشخصية البارزة في الشعر التي يمكننا القول: إنها تمثل هذه الفترة من نشأة الأدب المغربي عن جدارة واستحقاق مغربياً بصفة عامة لا قطرياً، فهي شخصية (بكر بن حماد) الذي عاش بين (200-295هـ) لا لغزارة انتاجه وتنوعه نسبياً فحسب، بل بطبيعة علاقاته المغربية في الإمارات الثلاث كلها على مستوى (البلاطات) وكذا صلاته بالشرق العربي، وبرؤاه العربية والإسلامية العامة، فوق كل تحيز إلا ما يراه حقاً ينبغي أن يتبع ويدعم ويناصر، فكان أشهر شعراء الفترة في المغرب العربي ممن تركوا أثراً واضحاً في الحياة الثقافية والأدبية.

شخصية بكر بن حماد التيهرتي (200-296هـ) شخصية دينية أدبية، وهما صفتان لازمتا معا شعراء العصور الإسلامية الأولى في المغرب العربي الإسلامي، وهذا لاعتبار بسيط وهو أن أساس الثقافة العربية الإسلامية يومئذ هو الثقافة الدينية، حيث كان القرآن والحديث والدراسات الدينية والفقهية قاعدة أساسية لكل مثقف، وإلى جانب ذلك تنمو الثقافة الأدبية كما تنمو الميول الشعرية، لذا لا نعجب في هذه الفترة من غلبة الطابع الديني في الشعر العربي بشمال افريقيا خصوصاً.

وقد مثل هذه الرؤية بوضوح الشاعر التيهرتي (بكر بن حماد) كما سبق القول، بل يرى فيه البعض ممثلاً للفترة التي عاشها المغرب العربي كله، وهو ما برّر التسمية التي أطلقت عليه في بعض الأوقات أي (شاعر افريقيا) يزيد ذلك تأكيداً أن بكرا بن حماد في حياته وفكره، في تنقله وعلاقاته جسّد انتماءه الأكبر للمغرب العربي الإسلامي، مثلما جسد انتماءه للوطن العربي والعالم الإسلامي.

لقد ولد بكر بن حماد بن سهل الزناتي في مدينة تيهرت سنة (200هـ) درس في بلده حيث كانت الحياة الثقافية مزدهرة خاصة في العاصمة (تيهرت) التي كان امراؤها يولون عناية للثقافة والمثقفين، فكانت المساجد والمجالس التي هي (نوادي) ذلك الزمن تعج بالمثقفين والأدباء، وأفسح المجال لمختلف الفرق والآراء للحوار في ظل العدل الذي أشاعه امراؤها ذوو المذهب الخارجي.
حين بلغ (بكر بن حماد) سبع عشرة سنة شدّ الرحال إلى الشرق، وقد بدأت الرحلة في طلب العلم تأخذ طابع التقليد الجيد الذي لا يلبث أن يكون جزءاً من متممات التكوين العلمي والفكري، فالتنقل بين المدن والأقطار والأوطان يثري خبرة الطالب، كما يجعله احتكاكه بأساتذة مختلفين يكوّن شخصيته العلمية الخاصة زيادة على الاستفادة الكبيرة حين تتنوع منابع المعرفة، وتختلف مشاريعها.

وقد بدأت الرحلة في طلب العلم في العالم الإسلامي ترتبط بالرحلة إلى الحج وكثيرهم الرّحّالون الذين جمعوا بين القصدين في الرحلة إلى الحج وطلب العلم.
وأول محطة في رحلة (بكر بن حماد) الطويلة كانت (القيروان) التي كانت إحدى العواصم الثقافية في العالم الإسلامي، فحضر فيها دروساً عن بعض علمائها أمثال (سحنون بن سعيد التنوخي) و(عون بن يوسف الخزاعي) وقد كان حضور الدروس عادة لأيام أو أسابيع أو شهور أو سنوات يحضر الطالب الوانا من المعرفة على شيخ وأخرى على غيره، حريصاً في النهاية على اختبار معارفه وسماع رأي مشائخه فيه، مما عرف بالإجازات، كأن يقال اجاز فلان فلانا في كتاب كذا، أو فيما قرأه أو سمعه منه، مما يأخذ طابع التزكية التي تعني اليوم الشهادة العلمية.

لم تطل إقامة بكر بن حماد كثيراً في القيروان، فإما أن طموحه كان أبعد أو أن مشائخه أو بعضهم حثه على مواصلة رحلته في عاصمة ثقافية أخرى، فاتجه إلى العراق، واستقبلته (بغداد) و(البصرة) طالباً جاداً يهرع إلى تلقي العلم عن أقطابه يومئذ، ويحتك بأشهر الشعراء في العراق، متفاعلاً مع الجو وما يزجر به من نشاط، بما فيه من خلاف مذهبي، وصراع أدبي.

وهكذا درس (بكر بن حماد) على أمثال (مسدّد الأسدي البصري) و(العباس بن الفرح الترياشي) و(أبي الحسن البصري) وغيرهم، كما التقى أشهر شعراء العراق يومئذ، منهم: أبو تمام (حبيب بن أوس) والشاعر الأديب (علي بن الجهم بن بدر) و(دعبل الخزاعي) وغيرهم.

وقد قاده المحيط الشعري إلى بلاط الخليفة المعتصم بالله، فمدحه بشعره كما كان يفعل الشعراء الذين تبرز شهرتهم.

هذا يعني أن (بكر بن حماد) قد دخل بشعره معمعة الصراع في كواليس البلاط في بغداد، وهو إن لم يكن وصل إلى مستوى المتبارين في الفوز برضى الخليفة والفوز المطرد بجوائزه وعطائه فقد سجل حضوره الشعري في الساحة الأدبية.
من هنا لمعت شخصيته الشعرية في مستواها المعين، وغطت عما سواها من أعماله، خاصة في (القيروان) و(تيهرت)، وقد عاد إلى (القيروان) أستاذاً بجامعها الأكبر فقصده الطلاب من أنحاء المغرب العربي والأندلس، خاصة أن الحدود لم تكن عائقاً بين أبناء الأمة العربية والإسلامية، بل كان العلماء والمثقفون فوق الحدود والأنظمة، فالخلافات والصراعات التي كانت قائمة في المشرق وفي المغرب العربي (المنقسم إلى ثلاث إمارات، رستمية، وإدريسية وأغلبية) لم تكن تحول دون التواصل، فكان (بكر بن حماد) مواطنا في (تيهرت) كما هو مواطن في (بغداد) ومواطن في (القيروان).

ورغم أن (بكر ابن حماد) عرف شاعراً فإن ما وصلنا من شعره قليل، خصوصاً في غياب ديوانه الذي تذكر بعض المراجع أنه عثر عليه في (فارس) الأمس (إيران) اليوم. وهذا القليل توزعته مصادر ومراجع مختلفة، وكانت هناك محاولة في سنة 1966م لجمع بعض شعره في كتيب صدر عن المطبعة العلوية بمستغانم تحت عنوان: "الدر الوقاد من شعر بكر بن حماد"(11).

لكن المتوفر من شعره يعطي صورة تقريبية عن فكره واتجاهه ومستواه الفني والقضايا التي شغلته أو انفعل بها أو تفاعل معها سواء في المشرق أو في المغرب العربي.

سنكتفي هنا بجانبين اثنين في شعر (بكر بن حماد) الجانب السياسي الاجتماعي وجانب الزهد الذي طبع كثيراً شعره.

من الجانب الأول يمكننا أن نذكر قصيدته في الرد على (عمران بن حطان) الخارجي الذي مدح (عبد الرحمن بن ملجم) الخارجي لإقدامه على قتل (علي بن أبي طالب) فأتت قصيدة (بكر بن حماد) لتنقض قصيدة (عمران بن حطّان) فقال (بكر بن حماد):

قل لابن ملجم -والاقدار غالبة *** هدمت- ويلك - للإسلام أركانا
قتلت أفضل من يمشي على قدم *** و أوّل النّاس إسلاما و إيمانا
وأعلم الناس بالقرآن ثم بما *** سنَّ الرّسول لنا شرعا وتبيانا
صهر النبي ومولاه وناصره *** أضحت مناقبه نورا و برهانا
وكان منه على رغم الحسود له *** مكان هارون من موسى بن عمرانا
وكان في الحرب سيفا صارما ذكرا *** ليثا إذا ألقي الأقران أقرانا
ذكرت قاتله والدمع منحدر *** فقلت سبحان ربّ النّاس سبحانا
إني لأحسبه ما كان من بشر *** يخشى المعاد و لكن كان شيطانا
فلا عفا الله عنا ما تحمّله *** و لا سقى قبر ( عمران بن حطان )
لقوله في شقي ظلّ مجترما *** ونال ما ناله ظلما وعدوانا
بل ضربة من غويّ، أورثته لظى *** مخلدا قد أتى الرحمن غضبانا
كأنه لم يرد قصدا بضربته *** الا ليصلى عذاب الخلد نيرانا

وهذا الجزء المهم من القصيدة أبرز موقف (ابن حماد) الذي دعا بالشر على القاتل ومادحه، وبالوعيد الأسوأ على (ابن ملجم).

هنا قد يتساءل القارئ عن انتماء الشاعر المذهبي، وهو تساؤل ليس جديداً بالنسبة للشاعر، فقد سبق تصنيفه شيعيا كما صنف خارجيا حسب الاجتهاد، وهي من الأمور التي تلغي بعضها بعضا في شعر (بكر بن حماد) الذي مدح (المعتصم) العباسي كما مدح الإمام (عليا بن أبي طالب) مثلما مدح أحد الولاة في الإمارة الإدريسية زيادة على مدحه أمير (تيهرت) الخارجي، فمع من يكون؟

الإجابة الصحيحة في نظري أنه مع قناعته، مع استقلالية فكره، فهو ليس مذهبياً يتشيع لهذا الجناح أو ذلك، هو شاعر مسلم يرى كل المسلمين اخوته، وتناحرهم يهدمهم كلهم، ويمكن لعدوهم، إذن هو ضد الظلم والبطش، ضد الصراع والتفتت، ذو حس إسلامي، وشعوره بدوره يجعله فوق كل صراع.
لذا فهو بقدر ما مدح (عليا) وهو يهجو (قاتله) ومادح القاتل، مدح أيضاً أبا حاتم أمير (تيهرت) سادس الأمراء الرستميين الذي واجه فتنة يبدو أن (بكر ابن حماد) لم يكن بعيداً منها، فكتب له شعرا جمع بين المدح والاعتذار، بدا فيه مستعطفا يطلب الصفح ويثني على الأمير:

ومؤنسة لي بالعراق تركتها *** وغصن شبابي في الغصون نضير
فقالت كما قال النواسي(***) قبلها *** غريز علينا أن نراك تسير
فقلت جفاني يوسف بن محمد *** فطال علي الليل وهو قصير
أبا حاتم ما كان، ما كان بغضة *** ولكن أتت بعد الأمور أمور
فأكرهني قوم خشيت عقابهم *** فداريتهم والدائرات تدور
وأكرم عفو يؤثر الناس أمره *** إذا ما عفا الإنسان وهو قدير

وقد ظهر الطابع التقليدي جليا في عبارات الشاعر وصيغه ابتداء من الافتتاحية التقليدية غير البعيدة من التعبير عن واقعه، فإذا كانت كلمة (مؤنسة) مجترة فان شبابه الذي تركه في العراق وعاد شيخا إلى القيروان ثم تيهرت أخيرا هو الواقع غير البعيد عن كل ما عانى (بكر بن حماد) في حياته الطويلة والحافلة بالمتاعب والمصاعب.

هنا نصل إلى الحديث عن الزهدية في حياة الشاعر، نجد هذه النزعة مبثوثة في قصائد كثيرة من شعره، من بينها قصيدته في رثاء ابنه (عبد الرحمن) الذي كان من رواة شعره، وقد كان ذلك سنة: 295هـ أي سنة واحدة قبل وفاة (بكر بن حماد) نفسه.

أما عن ظروف الوفاة ومكانها فتبقى من بين الأمور الغامضة في هذا الموضوع، فبعض المراجع تذكر أن (عبد الرحمن) توفي بقرطبة بعد انتقال إلى الاندلس، لكن الأقرب إلى الصواب هو الرواية التي تقول إنه قتل في الطريق من (القيروان) الى (تيهرت) عندما كان عائداً نهائياً مع ابيه فهاجمهم اللصوص، قتلوا الابن وجرحوا الأب، ونحن لا نجد في قصيدة الرثاء التي رثا بها (بكر بن حماد) ابنه قرائن تبرز طبيعة الموت وظروفه لكننا نجد فيها القلب الجريح والروح الدامية، نجد فيها حزنا شديدا عمق الإحساس عند الشاعر بالرغبة عن الحياة، يقول (بكر بن حماد) مخاطباً ابنه:

بكيت على الأحبة إذ تولوا *** ولو أني هلكت بكوا عليا
فيا نسلي بقاؤك كان ذخرا *** وفقدك قد كوى الأكباد كيا
كفى حزنا بأني منك خلو *** وأنك ميت وبقيت حيا
ولم أكن أيسا فيئست لما *** رميت التراب فوقك من يديا
فليت الخلق إذا خلقوا بواق *** وليتك لم تكن يا بكر شيا
فلا تفرح بدنيا ليس تبقى *** ولا تأسف عليها يا بُنيّا
فقد قطع البقاء غروب شمس *** ومطلعها عليّ يا أخيا
وليس الهم يجلوه نهار *** تدور له الفراقد والثريا

وربما كانت المناسبة التعيسة التي فقد فيها ابنه واحدة من آخر الانكسارات المتتالية التي كانت تصيب الشاعر في حياته، فطبعت شعره بظلال تشاؤمية يظهر فيها طابع الضيق والملل من الحياة.
وما يستفاد من القصيدة أنها كتبت بعد الموت بفترة، فهي لا تحمل في طياتها أصداء الصدمة، بل تشي بالإحساس الحزين الهادئ الخاضع لشيء من ضوابط العقل والحسّ الديني، فجاء التعبير للرغبة عن الحياة بطريقة لا تنكر إرادة الله، بل يجعلها العقل تبحث عن السلوى، تتمثل بتعاقب الليل والنهار، تعبيرا على أن كل شيء إلى زوال.

ورغم كل هذا فلم يبرز الإحساس السلبي الشديد عند (بكر بن حماد) بوطأة السنين، وقد كتب القصيدة السابقة وهو في الخامسة والتسعين، لكن أمره لم يطل بعد رجوعه إلى (تيهرت) فتوفي سنة (296) أي بعد سنة واحدة من رجوعه النهائي وهي السنة نفسها التي سقطت فيها الإمارة الرستمية أو (الدولة الرستمية) أمام اجتياح العبيديين كما سقطت الإمارة الأغلبية في (القيروان) فرثى سقوط (تيهرت) وبكاها كما تنبأ بدنوا أجله، وهو يدعو- زاهدا- للرحيل عن الدنيا:

زرنا منازل قوم لم يزورونا *** أنا لفي غفلة عما يقاسونا
لو ينطقون لقالوا: الزاد ويحكم *** حل الرحيل فما يرجو المقيمونا؟
الموت أجحف بالدنيا فخر بها *** وفعلنا فعل قوم لا يموتونا
فالآن فابكوا، فقد حق البكاء لكم *** فالحاملون لعرش الله باكونا
ماذا عسى تنفع الدنيا مجمعها *** لو كان جمع فيها كنز قارونا

ومهما يكن من شيء فإن (ابن حماد) نتاج فترة ثانية من أول مرحلة في نشأة أدب مغربي متميز؛ فعبر عن مغربه شعرا، بعواطفه وبصلاته في الإمارات الثلاث، كما نقل صوت هذا المغرب إلى المشرق، وصور بعض ما كان يجري هنالك من نقاش وأفكار، وسجل موقفه منه كعربي بحس مسلم مؤمن بضرورة التزام ما يوحد واجتناب ما يبدد الطاقات ويفرق الجهود.

وإن ارتفع (ابن حماد) عن التكتلات الجهوية أو الفئوية والمذهبية، فقد فتح قلبه للجميع من أبناء أمته، كما اتّسع صدره لهم، وفي المقدمة أبناء منطقته (في المغرب العربي كله) من دون تمييز قطري.

فمثلما مدح (يوسف أبا حاتم) أمير تيهرت (في الفترة 281-294هـ) مدح (أحمد بن القاسم بن أدريس الثاني) الذي كان أميرا على مدينة (كرت) بالمغرب الأقصى، كما مدح الأمير الأغلبي على (الزاب)، (أحمد بن سفيان) إضافة إلى مدحه أيضاً الخليفة العباسي (المعتصم بالله): (218-227هـ) حين حلّ هنالك، فتعامل مع مختلف الأنظمة بروح إسلامية عامة، بعيداً عن الانتماء المذهبي الضيق، فلم يحشر نفسه في انتماء متحيز لهذا المذهب السياسي أو الديني أو غيره، كانت مثله -فيما يبدو- إسلامية عامة ذات نهج سني عموما- حسبما يظهر- كأغلبية المسلمين، مما جعله متفتحا على جميع المذاهب أو التيارات الإسلامية، تعبيرا عن رحابة صدره، وسعة أفقه الفكري في النظر إلى جميع أبناء الأمة الواحدة بعين الحب والود والوفاء.

وهكذا يتضح- كما نتمنى- أن الأدب المغربي عرف أول بذوره الناضجة مع نهاية القرن الأول الهجري، ثم تبعتها أخرى، فأينعت وأزهرت وتعددت ألوانها وأشكالها في القرن الثالث الهجري، فكانت طبيعة النشأة مغربية صرفة لكنها مترددة غامضة ضاعت إحدى حلقاتها، حرضتها ظروف الفتح أولا، ومكنت لها الحركة الثقافية التي بدأت ثانيا في الإمارات المغربية، مما يجعل الفترتين تمثلان مرحلة واحدة- رغم اتساعها- في نشأة هذا الأدب كلون أو كغصن من شجرة الأدب العربي ذي الاسهامات المعتبرة أخيرا في الإبداع الإنساني العام.


ـــــــــــــــــــــ
(1) ، (2)- عنان، عبد الله، دولة الإسلام في الأندلس، ج: 1- ط:3- ص15، مؤسسة الخانجي، القاهرة، 1380 هـ (1960م).‏
(3)- عبد الرحمان الجيلالي، تاريخ الجزائر العام، ج: 1- ص120- المطبعة العربية، الجزائر، 1375هـ (1955م).‏
(4)- انظر، عبد الله كنون: النبوغ المغربي، ط3- ص27، مكتبة المدرسة ودار الكتاب اللبناني، بيروت (لبنان) 1395هـ (1975م).‏
(*) من (القار) و(القير) اسم لمادة تطلى بها السفن، والابل أيضاً.‏
(**) هو علي بن موسى بن سعيد العنسي الغرناطي (610-673) من كتبه (المغرب) (المشرق) يعتمد عليه (ابن خلدون) كثيراً، خصوصاً في الأنساب والتاريخ، لمكانته وأهمية رأيه.‏
(5)- المقري، نفح الطيب، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، م:2-ص248، دار الكتاب العربي، بيروت (لبنان) من دون تاريخ.‏
(6)- كارل بروكلمان، تاريخ الشعوب الإسلامية، ترجمة: أمين فارس ومنير البعلبكي، ط: 3- ص249 دار العلم للملايين، بيروت (لبنان) 1965م.‏
(7)- المصدر نفسه، الصفحة نفسها.‏
(8)- عبد الله كنون، ص54.‏
(9)- مبارك الميلي: تاريخ الجزائر في القديم والحديث، ص452 الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر، 1396هـ (1976م).‏
(10)- حققه وعلق عليه الدكتور محمد ناصر وإبراهيم نجار، المطبوعات الجميلة، الجزائر 1986م.‏
(11)- قام بهذه المحاولة الجيدة الأستاذ الشيخ محمد رمضان شاوش- رحمه الله- المطبعة العلوية، مستغانم (الجزائر 1385هـ 1966م).‏
(***) لاعتبار أن (بكر ابن حماد) كان يتردد على (تيهرت) قبلا، بدليل مشاركته بشكل ما في الانتفاضة الشعبية على (أبي حاتم) وهو (ابن أبي اليقظان يوسف) تولى الحكم في الفترة الممتدة بين (281-294هـ)، حيث مات مقتولا في السلطة أخيراً.‏
 
أعلى