مقامات نادر كاظم - المقامات والتلقي.. بحث في أنماط التلقي لمقامات الهمذاني في النقد العربي الحديث

لقد عرف النقد العربي الحديث والمعاصر مجموعة من المناهج النقدية نتيجة الانفتاح على الثقافة الغربية ، كان من بينها منهج التلقي والتقبل الذي يركز على القارئ أثناء تفاعله مع النص الأدبي ؛ قصد تأويله وخلق صورة معناه المتخيلة .

وتفيد منهجية القراءة والتلقي - في المقام الأول - في معرفة الآثار التي تتركها فينا الأعمال الأدبية ولاسيما الخالدة منها . ويعني هذا أن ما يهم هذه النظرية ليس ما يقوله النص ، ولا من قاله ، ولا مضامينه ومعانيه التي تبقى نسبية ، بل ما يتركه العمل من آثار شعورية ووقع فني جمالي في النفوس ، والبحث عن أسرار خلود أعمال مبدعين كبار وأسباب ديمومتها وحيثيات روعتها وعبقريتها الفنية . كما تحاول هذه النظرية أن تعيد قراءة الموروث الأدبي والإبداعي من خلال التركيز على ردود القراء وتأويلاتهم للنصوص وانفعالاتهم ، وكيفية تعاملهم معها أثناء التقبل وطبيعة التأثير التي تتركها نفسيا وجماليا لدى القراء عبر اختلاف السياقات التاريخية والاجتماعية . وهكذا يدعو كل من إيزر وياوس إلى إعادة كتابة تاريخ الأدب الغربي على ضوء جمالية القراءة ؛ لمعرفة الذوق السائد وطبيعة التفكير والتفاعل بين الذوات والنصوص الإبداعية والمقاييس الجمالية التي استخدمت في التأويل عبر التطور التاريخي والتحقيب الأدبي والنقدي .

من هذه النظرية ينطلق نادر كاظم في تتبع مقامات بديع الزمان الهمذاني باعتباره ( بدعة أدبية ابتكرت على غير مثال سابق ، وتفجرت حوله ... قراءات متباينة وتفسيرات متعارضة لطبيعته وسماته وقيمته الجمالية وأسباب ظهوره وعلاقته بخريطة الأنواع الأدبية المتداولة آنذاك )(ص11) . وقيمة هذه الدراسة العلمية والنقدية كما يرى الدكتور عبد الله إبراهيم تكمن في ( شيوع المبدأ التحليلي الصارم فيه ، والجرأة على نقض المسلمات الشائعة في قراءات المقامات الهمذانية ، وتقديم مقترح جديد في دراسة الأدب العربي )(ص10) .

وقد حدد الباحث عدة أهداف لهذه الدراسة أهمها الإحاطة بنوع العلاقة التي انعقدت بين التلقي العربي الحديث وبين تلقي الهمذاني ومعاصريه ومن جاء بعدهم . (ص11) ودراسة أنماط التلقي لمقامات بديع الزمان في النقد العربي الحديث منطلقاً من استنطاق التراكم القرائي الضخم الذي قدمه النقاد العرب بدءاً من عصر الإحياء حتى اللحظة الراهنة (ص14) ، حاصراً اهتمامه على نصوص من سمّاهم بالقراء الأكفاء الذين يشكلون نمط التلقي في مستواه التزامني ، وعلى القراء الأقوياء الذين يعبرون عن نمط التلقي في مستواه التعاقبي ، ويعبرون عن عجز نمط التلقي السائد وضرورة الانقطاع عنه ، من أجل استخلاص مجموعة من الأعراف التأويلية التي يمثلها هؤلاء القراء ، ومجموعة الاستراتيجيات التي يسلكونها في قراءاتهم وتتحكم فيها إلى حد كبير . (ص16)

قُسّمت الدراسة إلى مدخل وثلاثة فصول وخاتمة مختصرة جداً ، جعلها جميعاً تنساب مع بعضها البعض في تسلسل تاريخي منطقي ، ينهي كل مبحث فيها بما يفضي لما يليه .

حاول المدخل تأسيس تصور متميز لفعل القراءة والتلقي . ومن أجل بلورة هذا التصور أفاد المدخل من دراسات ياوس وإيزر وستانلي فيش . إفادة لم يكن غرضها التعريف بالنظرية أو التأريخ لها ، بل شرح أهم الآليات والمفاهيم التي استفاد منها وأعانته على تطبيق المنهج على المقامات .

كان من أهم ما قام به في هذا المدخل أن فتح جمالية التلقي التي عنيت بالتفاعل والتواصل بين النص والقارئ ( التلقي الداخلي ) وبالهيمنة التي تمارسها جماعات القراء على قراءة القارئ الفرد ( دينامية التلقي الخارجي ) . الأمر الذي قاده للحديث عن ( الفجوات ) في نظرية إيزر وهي المناطق المبهمة التي يملأها القارئ بخياله لإعادة تركيب النص .

استفاد الباحث من نماذج استرشادية عالجت عملية تعاقب القراءات ، هي نماذج توماس كون وريموند وليامز وإدوارد سعيد وهارولد بلوم ، ليصور فعل القراءة والتلقي باعتباره تواصلاً بين أنماط التلقي وجماعات القراء المتعاقبة من حيث العلاقات فيما بينها والتي تنتهي إما بالصراع
والتحريف وإساءة الفهم المقصودة ، وإما بالتسليم والاجترار والمحاكاة الحرفية (ص17،50) .

وتدور الفصول حول أنماط التلقي التي تشكلت حول المقامات ، يتصدى الفصل الأول لمجمل القراءات التي شكلت أفق الانتظار في نمط التلقي الإحيائي ، وعلاقاتهم بأفق الانتظار الذي شكله القراء الأوائل لمقامات البديع لحظة ظهورها . وقد أرخ لهذه الحقية أولاً مركزاً على أن إحياء التراث كان آلية دفاع لجأت إليها النهضة بعد صدمة الحملة الفرنسية على مصر أملاً في استرجاع المجد العربي القديم .

وقد دعاه سياق الحديث عن أفق الانتظار أن يعود إلى التلقي العربي القديم مبتدئاً بقراءة الهمذاني لمقاماته في رسائله ، واصلاً إلى حيث حجبت غشاوة المعاصرة جدة التجربة الهمذانية وخصوصيتها عن القراء فأدى إلى انقسامهم إلى تلق سلبي قادح عند الخوارزمي وأبي الحسن البغوي ، ثم تلق معجب ومكبر عند الثعالبي والحَصري . وأخيراً انحسارها بظهور مقامات الحريري . وقد كان يستقرئ خلال هذا العرض كل ما كتب عن المقامات في جيلها والجيل التالي وبعد ظهور الحريري وأوقات ازدهارها وانحسارها .

تجلى هذا التلقي الإحيائي الذي استقبل المقامات بوصفها كنزاً ثميناً من كنوز الأجداد في ثلاثة أنواع :

1ـ تلق أدبي في محاولات التقليد والمحاكاة والنسج على منوال المقامات عند اليازجي والشدياق والمويلحي .
2ـ تلق فيلولوجي في محاولات تصحيح المتن والتفسير والشرح والتحقيق في طبعة محمد عبده والطبعات السابقة لها .
3ـ تلق نقدي في محاولات تعريف النص وتصنيفه وتحليله وشرحه وتقويمه ومقارنته وتأويله كما عند الطهطاوي وروحي الخالدي .

وينتهي إلى أن قراءة الخالدي جورجي زيدان والحمصي للمقامات كانت بمثابة مرحلة انتقالية متذبذبة بين نمط التلقي الإحيائي ونمط التلقي الاستبعادي . حيث ظهرت مآخذ على المقامات جعلتها كنزاً غير نافع مما أدى إلى سرعة الإجهاز عليه .

أما الفصل الثاني فقد دار حول كسر أفق الانتظار ونمط التلقي الاستبعادي الذي مثل حالة انقطاع جذرية عن النمط الإحيائي . أدت إلى الإجهاز على نمط التلقي الإحيائي وعلى المقامات . حيث صنعتها وأعادت إنتاجها في صورة هزيلة . وقد أرخ الباحث لهذا النمط بتأثر معايير الأدب الحديثة بتعبيرية الأدب أو تصويرية الأدب كما عند هيبولت تين ، حيث تتنافر المقامات مع جمالية التعبير الرومانسي للأدب . وقد ظهرت في هذه الحقبة معارك أنصار القديم وأنصار الجديد ، واختلفت شروط الإبداع ومفهوم الأدب عند هذا الجيل تبعاً لاختلاف النظرة إلى اللغة وماهيتها ووظيفتها ، وانتهت هذه المعركة إلى النظرة الانتقاصية للغة حيث هي مجرد علامات ورموز لا قيمة لها إلا بما ترمز إليه من فكر وعاطفة .

ومن هذا المنطلق تحدث الباحث في هذا الفصل عن انتهاء المقامات في صورة هزيلة مزرية في قراءات محمد حسين هيكل ويحيى حقي ومحمد نجم ومحمد مندور وعلي الوردي وأنور الجندي وأحمد سالم ، وعن زكي مبارك وشكه في أصل المقامات وسبق ابن دريد الهمذاني إليها ،
وتجواله من أفق تلق لآخر في قراءته . ثم عن شوقي ضيف الذي ثبّت الغاية التعليمية للمقامات ، وعن حنّا فاخوري الذي بأّر عدسة القراءة على هذه التعليمية ، فانتهت إلى نص متعفن من نصوص عصر الانحطاط .
وبالرغم من كثرة هؤلاء القراء واختلاف منطلقاتهم وغاياتهم إلا أنهم اتفقوا في جعل المقامات مجرد كتابة شكلية جوفاء احتشدت فيها ثروة من الألفاظ والأمثال والتعبيرات لغاية تعليمية لغوية ، فهي بعيدة كل البعد عن الأدب العصري التعبيري التصويري لخلوها من المضمون الإنساني الاجتماعي .

أما الفصل الثالث فيتوقف عند تعديل أفق الانتظار ونمط التلقي التأصيلي ، وأثره في إعادة الاعتبار للمقامات وإعادة صنعها والانتصار لها وللتراث العربي وللذات العربية ، بعد تحطمها مع النمط السابق . وانحصر عمل هذا الجيل في تغيير مواقع تبئير فعل القراءة وإعادة تصنيف وتأويل المقامات ، فاخترقت الكثافة اللفظية واستكشفت البعد الاجتماعي الواقعي الذي كان غائباً في معظم القراءات السابقة .

وقد وقفت الدراسة في هذا النمط على قراءات كل من فاروق خورشيد ، وتوفيق الحكيم وعبد الملك مرتاض وفخري أبو السعود ومارون عبود والعقاد ومصطفى الشكعة ومحمد غنيمي هلال . ولم تهمل الدراسة في هذا الفصل التطورات الأخيرة التي مست طرائق قراءة المقامات منذ الثمانينات ، حيث ماجت الساحة النقدية بمرجعيات النقد الغربي من شكلانية وبنيوية وشعرية وسيميائية وتفكيكية وغيرها ، ونبهت على دورها في استيعاب مأزق التلقي التأصيلي ، تمهيداً لانبثاق نمط تلق جديد للمقامات ، ينطلق من أفق مختلف .

آليات المنهج وأدواته :

ـ اعتمد تطبيق هذا المنهج على المقامات على إثارة أسئلة والإجابة عنها . وهي آلية اعتمدها ياوس حينما كان اهتمامه بالتلقي منطلقاً من حقل تأريخ للأدب ، رغبة منه في تأسيس تأريخ أدبي جديد . لذلك ألح مثل إيزر على أهمية التواصل بين النص والمتلقي ، وجعل تاريخ تأويلات العمل الفني عبارة عن تبادل تجارب أو حوار أو لعبة أسئلة وأجوبة متبادلة بين النص والمتلقي ، أو بين المتلقي السابق واللاحق (ص31) . والأسئلة هي أبرز ما يلاحظه قارئ البحث مبثوثة في كل مباحث الكتاب .

ولعل هذه اللعبة تهدف الوصول إلى إحدى آليات المنهج البارزة ، وهي تعيين أفق الانتظار وخصوصيته في كل لحظة من تاريخ التلقي (ص38) . الأمر الذي قسّم عليه الباحث فصوله ، وجعل لكل أفق نمطاً معيناً من أنماط التلقي التي تعاقبت على قراءة المقامات منذ عصر الإحياء حتى اللحظة الراهنة وشكلت بتعاقبها تاريخ تلقي هذا النص ومن ثم تاريخ المقامات (ص40) .

ـ كان الباحث يبتدئ كل فصل بالتأريخ لحقبة التلقي للوقوف على مرجعياتها المشكلة لأفق الانتظار ، ويبني على هذا الأفق مجمل الأحكام الصادرة على المقامات من نقاد هذا النمط بحيث يوضح أثر أفق الانتظار على نمط التلقي وكيف يقلب إيجابيات نمط ما إلى سلبيات عند نمط آخر .

ـ كان الباحث يفسر الأحكام الصادرة على المقامات في القراءات موضوع الدراسة وإيضاح دوافعها وأسباب إصدارها ، ويبدي ملاحظات دقيقة عنها ، ويبين موقفه منها وفق ما توصل إليه عن طريق دراسته للتلقي . وقد يستدعيه الأمر أن يقارن فيما بينها لإثبات وجهة نظره ، أو يقيس الأحكام بعضها على بعض للتحقق من موضوعية الناقد . هذه الأحكام مبثوثة كذلك في طيات المباحث .

لعل أبرز مثال على ذلك المبحث الذي تحدث فيه عن عمل الشدياق الساق على الساق فيما هو الفارياق (ص111) . فدوافعه لكتابة المقامات الاحتفال باللغة وإظهار القدرة على مجاراة الأقدمين فيها . وهي محاكاة ساخرة تمهد لكسر أفق التوقع . وهو أجرأ كاتب على مر تاريخ المقامات لتسمية بطله باسمه ولقبه ( الفارياق ) . وهو يغير اسم البطل إلى الهارس بن هثام لا تشويهاً بل لتقطيع المقامات القديمة حيث أخذه من عمل وضيع هو دق حب الهريس وسحقه . واستخدامه للفظ حدّس بدلاً من حدث . وقد اختار الفصل الثالث عشر من كتابه لإيراد المقامات لما ارتبط هذا الرقم من شؤم عند المسيحيين والغرب .

ـ اعتمد الباحث طريقة شرح المفاهيم التي يمر بها في تضاعيف كتابه ، وهي ميزة علمية إذ يضع في الاعتبار مستويات عدة من القراء رغبة في إفادتهم أجمعين . من تلك المفاهيم ( نمط التلقي ص14 ) ، ( الفجوات أو الفراغات ص26 ) ، ( أفق الانتظار ص33 ) ، ( الجماعة التفسيرية ص41 ) ، ( التراث ص93 ) ، ( القارئ الضمني ص64 ) ، ( تعبيرية الأدب وتصويرية الأدب ص159 ) إلى آخر هذه المفاهيم . ولعل هذا راجع إلى رغبة الباحث في جعل كتابه مستقلاً برأسه فيما يفيد نظرية التلقي خصوصاً أنها من النظريات الحديثة التي تقل تطبيقاتها في الأدب العربي .

ـ يستطرد الباحث ويطيل ويفصل في أمور ثانوية يقصد منها إثبات بعض وجهات نظره وأحكامه . وكان من تفصيله واستطراده أن وضع تصوراً عاماً للنقد العربي في العصر الحديث بمختلف مراحله في سبيله لدراسة تلقي المقامات .

ـ يصف الباحث نصوصه وصفاً دقيقاً محاولاً الوصول إلى مصداقية أحكامه حوله . فهو يهتم اهتماماً بالغاً بما سماه المعلومات الببلوغرافية والسياقية عند تناول أية قراءة لأن لها - على حد تعبيره - أهمية كبيرة ( ص315 ) .

ـ لا نستغرب حين نرى كثافة مصادر البحث ومراجعه العربية والأجنبية والمترجمة ، لأن هذا ما اقتضته طبيعة البحث ، وما أدى إليه استطراد الباحث وتفصيله .

ـ لم يخرج عن آليات النظرية المتبعة طوال فصول الكتاب ومباحثه ، إلا في مواطن قليلة ظهرت فيها ذاتيته وتعاطفه من المقامات خصوصاً عند حديثه عن قارئي النمط الاستبعادي . ولكن مع ذلك فقد أجاد الباحث فعلاً في تطبيق نظرية التلقي على مقامات الهمذاني وقراءاتها على مر العصور ، وخرج بنتائج مرضية أضافت شيئاً جديداً إلى تاريخ الأدب العربي .

أخيراً فقد ختم الباحث دراسته بخاتمة موجزة بين فيها أن غرضه لم يكن قراءة جديدة للمقامات ، بل مقاربة جملة من قراءاتها ، وإدراجها ضمن الأنماط الثلاثة : الإحيائي والاستبعاد والتأصيلي ، التي تسربت إلى بعضها البعض وانبثقت بوادر التالي من السابق ، ولا تزال ثمة تشكلات أولية لنمط بديل قادم . وأمل أن تكون دراسته فاتحة لدراسات تالية تتناول تأريخ التلقي العربي العام ، من خلال البحث عن الروابط القائمة بين تواريخ التلقي الخاصة بكل نص ( ص406 ) .
 
أعلى