نقد وسواس نجاة - السارد و المؤلف في تحليل الخطاب الروائي الجزائري

بدأ الاهتمام بالسارد في العصر الحديث بين النقاد و الروائيين باعتباره تقنية تقدم من خلالها المادة الحكائية نظرا لأهميته في الخطاب ، إذ بطبيعته و موقعه تتحدد طبيعة النص السردي ، و قد سعى معظم المبدعين إلى إخفاء صورهم ووضع سارد يسرد الأحداث وفق رؤيا معينة .

و مفهوم السارد ينطلق من كونه شخصية تخييلية أو كائنا ورقيا حسب بارت ، و لهذا فهو يختلف عن المؤلف الحقيقي للعمل الأدبي ، فهو شخصية واقعية ، و السارد تقنية يستخدمها هذا المؤلف ليقدم بها عالما تخييليا ، فهو حسب البعض قناع تبناه ليعبر به عن رؤياه الخاصة(1) .

إن السارد هو مانح السرد ، فهو الذي يرسله إلى الطرف الآخر (2) سواء تجلى هذا الآخر نصيا أم لا ، إنه كذلك ذلك الصوت الذي قد يغدو خفيا أحيانا و الذي " يأخذ على عاتقه سرد الحوادث ووصف الأماكن و تقديم الشخصيات و نقل كلامها و التعبير عن أفكارها و مشاعرها وأحاسيسها (3).

و يصر " ولفغانغ كايزر" ( W.Kayser ) على ذلك التباين الموجود بين السارد والمؤلف بل و جعل له بعدا أسطوريا كتلك الرؤية المماثلة للآلهة ، إن السارد " ليس هو المؤلف ، إن السارد شخصية تقمصها المؤلف ، و حتى الكلمة نفسها تؤكد ذلك ، فكلمة narrateur تعني فعلا كما علمنا فقه اللغة ممثلا ، إن هذه اللاحقة eur تومئ إلى أن الأمر يتعلق بالشخصية التي لها وظيفة أن تسرد " (4)

و من هنا يقدم لنا كايزر مسلمة مفادها أن جميع الأشكال السردية تحوي ساردا، الرواية كالأحدوثة كالقصة ، و حتى الأشكال التي يجهل مؤلفها باعتبار أن السارد صانع العالم التخييلي فيها ، إن هذا التباين بين السارد و المؤلف جذري سواء من حيث طبيعة كل واحد منهما أو وظيفته أو حتى – إن جاز القول – مبادئه ، فإن كان المؤلف حقيقيا تتمثل وظيفته في فعل الكتابة سواء أجادها أم لا فالسارد تخييلي ، فهو قناع يضعه الأول على أن هذا مقولة تخص آلية سردية يحاول المؤلف من خلالها التواجد في عمله و دون أن يختفي في الآن ذاته ، دوره الأساسي بناء عالم تخيلي ، لذلك يشير كايزر إلى أهم اختلاف بينهما – وهو يأخذ بعدا مبدئيا – يتمثل في إمكانية السارد على الكذب فيما يحكيه فهو إن لم يحسن الكذب فلن يؤمن فيما يحكيه ، في حين أن المؤلف غير قادر على الكذب " يؤمن السارد بهذا العالم حتى حينما يحكي حكاية حافلة بالأكاذيب ، لن يعرف كيف يكذب إذا لم يعتقد فيما يحكيه ، لا يمكن للمؤلف أن يكذب بإمكانه على الأكثر أن يكتب بطريقة جيدة أو رديئة " (5) .

و يفصل كرايزنسكي بين السارد و المؤلف و بين ما سماه بالسارد السيميائي والسارد معتبرا إياه الذات المنتجة للعلامات و المرسلة لها في حين أن السارد بنية ذات أصداء وسيطة متعددة تتجلى وظيفته نصيا فحسب ، كما يرى أنه الوجه المضاعف للمؤلف تقوم بينهما علاقات تقوم على التطابق و التماثل و الإختلاف و التعارض ، التعاطف و النفور ، السخرية و التجاوز .. فالمؤلف يعمل على تنظيم عوالم سيميائية يعمل السارد على إتمامها (6) .

و مع هذا تبقى سلطة السارد على محكيه قائمة تتجلى في صور شتى ، و لكن المؤكد من هذا كله أن السارد مختلف تمام الاختلاف عن المؤلف فهو مجرد وظيفة سردية تعرض بواسطتها الحكاية ، يختبئ المؤلف وراءها فيسقط عن نفسه المسؤولية لتنتقل إلى موقع اللامسؤولية بل أن يتحملها هذا الكائن الورقي .

السارد و المؤلف في النقد الجزائري :

يمكن القول إن اهتمام الناقد الجزائري بالسارد من حيث هو تقنية سردية تقدم من خلالها المادة الحكائية حديث جدا ، و لربما كان مع بداية وعي الروائي الجزائري في حد ذاته بهذه التقنية ، فقد تعلم هذا الروائي كيف يفسح المجال لصوت سارد يعرض تلك المادة دون أن يتدخل فيها فيتركه يفترض و يتساءل و ينفي و يصف فينشئ بهذا معرفة مشتركة و علاقة وطيدة مع الطرف الآخر ، سواء أعرف هذا الآخر أم كان القارئ عامـة ، و بهذا صار هذا السارد يعلم أشياء و يجهل أخرى بعدما كان سياسيا و محاميا و مدافعا و عالم نفس و مؤرخا و ناقدا للواقع (7) .

يرى " عبد القادر شرشار " ضرورة وجود سارد يسرد حكاية ما يتمثله مؤلف ما و لكنه يختلف عنه ، مرددا كلام " بارت " في أن السارد من خلق الروائي دون أن يكون هو إذ أن السارد شخصية ورقية ، و يرى شرشار أن معظم الأبحاث التي تحاول استكشاف المؤلف من خـلال السارد محاولـة فاشلـة تجد نفسها أخيرا تبحث في سمات السارد لا المؤلف ، و كأن هذا المؤلف يتنكر لذاته بل و يخلق منها ذاتًا أخرى تقوم على سرد القصة ، و من هنا لا يمكن إطلاقـا أن نطابق بين مقول السارد و مقول المؤلف (8) .

و يجمع معظم الباحثين الجزائريين على ذلك التمييز بين السارد و المؤلف * في أن الأول خيالي و الثاني واقعي ، إذا استثنينا " عبد الملك مرتاض " الذي يكاد ينفرد برؤية مخالفة حين قدم تعريفا لهذا السارد في أنه مجرد راوية يحكي عن راوية آخر و لهذا فهو لا يوجد إلا في المحكيات الشفوية لأنه أساسا يحكي حكاية غيره فهو لا يبدع ، أما في المحكيات المكتوبة فلا يمكن الحديث إطلاقا عن سارد بل عن مؤلف و لهذا نجد مرتاض يصيغ تواصلية السرد على الشكلين التاليين (9) :

- المحكيات الشفوية: سارد ـــــــــــــــــــــــــــــــ سرد ـــــــــــــــــــــــــــــــــ مسرود له
- المحكيات المكتوبة: مؤلف ــــــــــــــــــــــــــــ سرد ــــــــــــــــــــــــــــــــــ مسرود له

و يبني مرتاض نظرته هذه على أساس أن وجود السارد يمثل استباءً لحق المؤلف الذي دعت البنوية إلى قتله و إحلال السارد محله ، لذا رد على كثير ممن دعوا إلى التمييز بين المؤلف و السارد و في مقدمتهم " كايزر" ، مؤكدا أن مسألة الكذب التي بنى عليها هذا التمييز مسألة فنية لا تصلح لأن تكون حكما في أن يكون هذا السارد" المزعوم هذا الشيء الوهمي العبثي الذي يقال له السارد هو الذي يتولى الكتابة عن المؤلف " (10) .

و لكن النقد أو قراءة العمل الأدبي حسب وجهة نظر مرتاض سيتحول إلى ضرب من النقد البيوغرافي الذي يبحث في علاقة المؤلف بعمله الإبداعي ، فكيف يكون لمرتاض هذه النظرة و هو الناقد الحداثي ؟ هذا من ناحية ، من ناحية أخرى إذا كان مرتاض يقر بخيالية السارد الثاني و الثالث أو الرواة الذين يتناوبون السرد أو بتعبير " جيرار جينات " من الدرجة الثانية و الثالثة (11) ، لا يبرر أن يكون المؤلف هو السارد الأول ، إذ كيف يمكن أن يسلم هذا السارد / المؤلف السرد إلى سارد خيالي إذا لم يكن خياليا مثله ؟ بل كيف يمكن أن يخاطب هذا المؤلف/ السارد - و بخاصة في السرد بضمير المتكلم - شخصية من شخصياته و من ثم قد يسلمها السرد .

يعرض عبد الملك مرتاض في كتابه " في نظرية الرواية " نموذجا يفصل فيه عناصر العمل السردي و التي يحصرها في أربع المؤلف القارئ الشخصية و اللغة و لكنه يبدي اعتراضه عليه كذلك باعتبار أن هذا الرأي يهمل الحدث و الفضاء الزماني و المكاني ، ومن ناحية أخرى يعترض على إدراج القارئ كعنصر قار في أي عمل سردي باعتبار أن هذا الأخير لا عمل له سوى القراءة ، لذلك فهو ضرورة في السرود الشفوية فقط لا الكتابية ، ومن ناحية أخرى يرى إن المؤلف اغتيل من قبل البنيوية فكيف يوضع في مقدمـة هذه العناصر (12) .

و على الرغم من اعتراض مرتاض على إدراج المؤلف الذي اغتيل من قبل البنويين إلا أنه يعترض أيضا على السارد الذي اعتبره خرقا في السرد ، مقرا أن مسألة ميزه عن المؤلف ناتجة عن ذلك الاغتيال ، و ميز من ناحية أخرى بين السارد و المؤلف معتبرا المؤلف هو المبدع الحقيقي للعمل السردي و الذي يمْثل دوره في المحكيات الكتابية ، في حين أن السارد يتجلى في الأعمال الشفوية لا الكتابية ، و يعلل مرتاض هذا الطرح بأن متلقيا أو مستمعا إذا ما تلقى حكاية ما فهو يسجلها في ذاكرته و إذا ما حاول أن يعيد سردها فهو لا يدعي أنه مبتدعها حتى لا يلتبس مع المؤلف ، و على هذا النمط كانت تسير معظم السرود التقليدية أي على الرواية و الإسناد ، و هذا الإسناد كفيل بإزالة أي التباس بين المؤلف الأول للمحكي و باقي الرواة الذين يتناقلوه ، في حين أن السرود الكتابية تحمل في واجهتها شهادة يوقعها المؤلف باسمه فلا أحد سواه يسرد هذه الحكاية ، و لهذا نجد مرتاض يعترض على معظم الآراء التي تميز السارد عن المؤلف في الكتابات السردية وفي مقدمتها ما جاء به كايزر حين اعتبر مسألة الكذب دعامة ساعدت على ذلك التمييز ، في حين اعتبرها مرتاض مسألة فنية غير مطروحة من أجل "سلب " الحكاية عن المؤلف (13) ، و لهذا صاغ مرتاض تواصلية السرد على الشكل السابق (المحكيات الشفوية : سارد - سرد - مسرود له / المحكيات المكتوبة : مؤلف- سرد - مسرود له) ، في حين يعترض اعتراضا شديدا على الترسيمة :

- المؤلف ــــــــــــــــــــــــ السارد ـــــــــــــــــــــــــ السرد ــــــــــــــــــــــــــــــ المسرود له

فهو يتحفّظ على وجود السارد في الأعمال الكتابية لأن المؤلف فقط هو الذي يتواجد في الرواية و القصة و الأقصوصة و كل ما هو كتابي ، بينما يَمْثُل السارد في الحكايات الشعبية و الخرافات و الأساطير و كل ما هو شفوي ، لذلك فهذا الأخير شيء مزعوم وهمي عبثي مستبد ينتزع حيازة الكتابـة عن المؤلف الحقيقي باعتبار أنه غير موجود أساسا ، و إذا سلمنـا باندساس المؤلف وراءه - يقول مرتاض - فإننا لن نجد لا المؤلف و لا السارد بل سنجد "نصف" السارد و "نصف" المؤلف، ولذلك رأى أن مسألة اصطناع ضمير السرد سواء المتكلم أو المخاطب أو الغائب غير كفيلة بتأكيد ذلك التمايز بين السارد و المؤلف ، باعتبار أن ضميري المتكلم و المخاطب يحيلان في حقيقة أمرهما إلى المؤلف الذي يبتدع عمله السردي ، في حين أن ضمير الغائب يوحي – وكما تمثله السرود التقليدية – بشيء من حياد المؤلف ولكن سرعان ما يتفطن القارئ إلى أن هذا البديل ما هو إلا ظل للمؤلف بل إنه هو(14) .

لذلك نجد مرتاض يتعلق برأي – أو لنقل بتعبير فقط – أعاد صاحبه صياغته فيما بعد وهو لجيرار جينات حين ربط بين المصطلحين سارد /مؤلف [على هذا الشكل ] في حدود المحكي مشيرا بهما إلى الشخص نفسه (15) ، و قد لا يخفى على مرتاض أن جينات أصدر فيما بعد "خطاب الحكاية " و "عودة إلى خطاب الحكاية " اللذين ميز فيهما تمييزا دقيقا بين السارد و المؤلف .

و باعتبار وجود السارد في المحكيات الشفوية و المؤلف في المحكيات الكتابية ، يميز مرتاض بين زمن السرد الشفوي و زمن السرد المكتوب ، حيث يرى إنه إذا كان زمن الحكاية موجودا في النمطين فإن زمن السرد موجود في السرد الشفوي نظرا لوجود السارد فيه ، في حين الأمر في المحكيات الكتابية متعلق فقط بزمن الكتابة و لا مجال للحديث عن زمن السرد (16) .

و بهذا نجد الباحث يعقد في موضع من كتاباته عنوانا صيغته " السرد و السارد " معرفا السارد بأنه الشخص الذي يكتب العمل السردي و تطلق عليه اللغة اسم " المؤلف"، يمكن أن يتسع مجال أناه التي يعتبرها الكثير ضيقة إلى أنا موضوعية تحيل إلى ضمير مجتمع أو زمن فيكون السارد تبعـا لهذا ضميرا لأدب ما أو شعب ما أو زمن ما .. باعتبار أن الكتابة تجسيد لذات و غيرها ، فهو يحكي الحكاية من وجهة نظر عليا فيرعى نسيجها و نشأتها و تطورها إلى أن تبلغ غايتها ، كما أن شخصية هذا السارد متغيرة طوال العمل السردي و يتجلى هذا التغيـر من خلال تغير ضمائر السرد من "الأنا" إلى "الأنت" ، وبهذا يمكن أن يظهر السارد في شكلين اثنين فإما أن يكون داخليا فيندس في عمله مع شخصياته و يتخذ المواقف التي تتخذهـا ، و إما أن يكون خارجيا فيبتعد عنها و عن مواقفها وصراعاتها . إن لهذا السارد / المؤلف خلفية فكرية ثقافية يستمد منها أدوات و استراتيجيات معينة يتخذها في كتاباته " الروائية " و أهم استراتيجياته اصطناع ضمير السرد و الذي يحيل إلى ضربين من السرد : الشخصي و الذي يعتمد فيه ضمير المتكلم أنا الذي يحيل إلى الشخصية مباشرة ، و اللاشخصي الذي يقوم على ضمير الغائب (17) .

و الملاحظ على رأي الناقد أنه يرى أن السارد الأول أو السارد الإطار هو دائما المؤلف في حين أن السارد الثاني و الثالث ..الخ هم شخصيات ورقية خيالية ، و هنا يكمن الالتباس ، إذ كيف يمكن أن يحيل المؤلف فعل السرد إلى شخصية ورقية وخصوصا إذا كان هذا مشاركا في حكايته ، هذا من ناحية و من ناحية أخرى إن تعليق المؤلف بعمله السردي و نسبه له مباشرة في أي عمل نقدي سيحيله إلى ضرب من التحليل الاجتماعي الذي يستقصي ملامـح المؤلف دون السارد ، و من الغريب أن يتبنى مرتاض رأيا كهذا و هو الذي يعي أكثر من غيره أن أول ما استبعد من العمل النقدي هو المؤلف من خلال مقولة " موته" ، لذلك كان من الضروري إيجاد بديل للمؤلف في النص و التحليل السردي و قد كان هذا البديل هو السارد ، الشخصية التخييليـة التي لا علاقة لها بالواقع و التي لا تظهر ملامحها إلا من خلال النص الذي اعتبر ميدانه الخصب و ملكه بكل تفاصيله .

و على هذا الأساس كانت مسألة المطابقة بين زمن السرد وزمن الكتابة من المسائل التي كان يجب استبعادها باعتبار أن زمن السرد غير متعلق بالمؤلف بل بجميع الساردين و من ثمة فإن لكل سارد زمنه الخاص فيخالف بذلك فيه زمن المؤلف ، ولهذا فإن ذلك التطابق الذي أشار إليه مرتاض قد يكون غير جائز في كثير من الحالات .

يشير مرتاض كذلك إلى الترسيمة الدالة على تواصلية السرد في الأعمال الشفوية و الكتابية إلى المسرود له كمقابل للسارد و المؤلف معا ، فإذا سلمنا أن هذا المسرود له هو المقابل المنطقي للسارد – وهذا من الناحية التخييلية و المصطلحية – فإنه لا يمكن التسليم من ناحية أخرى أنه المقابل المباشر للمؤلف ، باعتبار أن المسرود له - و كما حددته السرديات الحديثة - يمكن أن يتجلى نصيا فقط كما كان شهريار و كثير من المسرود لهم في السرود القديمة و الحديثة ، الأمر الذي يجعلنا نتساءل لماذا وضع عبد الملك مرتاض القارئ كمقابل للمؤلف ، و بخاصة أنه أشار قبل هذا إلى أن هذا المؤلف قد لا يضمن دائما قارئا لعمله ؟ .

وعلى الرغم من هذا ، يعد رأي مرتاض من أكثر الآراء جرأة ، التي سعت إلى الخروج عن النقد الغربي و ما جرى مجراه من النقد العربي الحديث الذي تعوّد أن يميز بين السارد والمؤلف ، و هذا رأي قلما نجده ليس على المستوى الجزائري فحسب بل و على العربي أيضا ، حيث حاول مرتاض من خلاله تكوين موقف خاص به دون غيره، إذ إن الجمع و المطابقة بين السارد الإطار و المؤلف و الإيمان بورقية باقي الساردين فكرة قال إنها نابعة من الموروث الحكائي العربي الذي لطالما اُستهل بعبارات من قبيل " زعموا " و " قال الراوي " التي تقود القارئ – حسبه - إلى الإعتقاد أن من صاغ الحكاية هو من صاغ معها تلك العبارة الإستهلالية ألا و هو المؤلف ، و أن هذا الراوي المصاغ هو مجرد ذريعة استعملها مؤلفو السير الشعبية و المقامات و الحكايات الخرافية لإثبات تاريخية متونهم في محاولة منهم كسب أكبر قدر من الآذان و العقول .

- المؤلف و الصوت السارد في تحليل الخطاب السردي الجزائري :

تعد مقولة الصوت السردي من أكثر القضايا التي أثارت جدلا واسعا في الوسط السردي نظرا لتشابك المسائل التي تضمنتها هذه المقولة و خاصة مسألـة الضمير ، ويبدو أن الناقد العربي لم يهتم كثيرا بهذه المقولة رغم أن نظرية المحكي كما صاغها جيرار جينات * و التي تضم هذه المقولة لقيت صدى واسعا في النقد العربي إلا أنه ظل يتحاشاها على عكس الزمن أو الصيغة ، بل انه لا يكلف نفسه مشقة تبرير هذا التفادي رغم أنه كان بعيدا جد اعن تلك الجلبة التي أثيرت حولها ، وعلى غرار النقد العربي ، استهوت سرديات جينات كذلك كثيرا من النقاد و الباحثين الجزائريين ، من حيث الزمن و الصيغة و ظل الصوت حبيس بعض المقاربات القليلة أو بعض الإشارات النظرية العابرة .

1- في كتاب "المتخيل في الرواية الجزائرية من التماثل إلى الإختلاف " :

تتبنى أمينة بلعلى في كتابها ً المتخيل في الرواية الجزائرية ً نظرية التعدد الصوتي في الخطابات الروائية كما صاغها " باختين " و القائمة على تعدد الأصوات التي تقوم بعملية التلفظ في الخطاب الواحد .

أول ما يلاحظ على تحليل الناقدة هو الجمع بين المؤلف و السارد في عبارة واحدة في حديثها عن المحكيات القائمة على ضمير المتكلم ، و حتى رغم تعدده ، في حين أنها تنفي هذا التطابق عن المحكيات بضمير الغائب فتلجأ إلى استعمال لفظة سارد فقط (18) ، غير معيرة كبير اهتمام لأي مسافة يمكن أن تفصل بينهما ، و يبدو أن الروايات الجزائرية الحديثة الإصدار هي التي قادت الناقدة إلى تلك المزاوجة بين السارد و المؤلف متجاوزة بذلك كثيرا من طروحات النقد الغربي الداعية إلى ضرورة التمييز بينهما و تحديدا في السرود بضمير المتكلم .

تحدد الناقدة ساردي كل متن تعرضت له بالتحليل وقد كانت هذه المتون قائمة على تعدد الأصوات و لاسيما الساردة منها، فتحدد ملامحه الاجتماعية و النفسية كما تحدد في بعض الأحيان مستواه و علاقته بالأحداث، حيث أشارت كذلك مع بعض المتـون إلى التوزيع الجيد للأصوات من قبل السارد الإطار، إلا إنها ظلت رهينة فكرة أن السارد مجرد أداة لا تنفصل فكريا عن المؤلف و أنه سرب أفكاره من خلاله.

و باعتبار أن صاحبة الكتاب أشارت إلى مرجعيتها منذ البداية ممثلة في الحوارية و تعدد الصوت السردي كما صاغها باختين في بعض دراساته ، فإنها أشارت إلى تعدد الأصوات الساردة في المتون المحللة و إلى تنوع أصناف المحكيات و بشكل مختصر جدا إلى تنوع المنظورات تبعا لذلك ، و في الإطار نفسه تحدثت مطولا عن تلك التباينات اللغوية التي تظهر بين خطاب سارد و سارد آخر و هذا تبعا لمصادر السرد و الخلفيات الفكريـة التي ينطلق منها كل صوت ، حيث تحدثت عن "الأسلبة" و "التهجين" و "التناص" كإجراءات مساعدة أو ما سمته بخطابات الغير كتجل للتعدد الصوتي ، حيث يعمد السارد إلى التهجين كدليل على تطوره لغويا يسعى من خلاله إلى إنارة نصه بلغة غيره في حين أن " الأسلبة " هي تقمص أسلوب السارد لأسلوب آخر لتوضيح أفكاره و خلفياته الأيديولوجية ساعيا كذلك إلى إنارة و توضيح نصه أو التعبير عن أفكاره و السخرية من وضعيات معينة يرفضها (19) و من شأن هذا أن يظهر قدرا كبيرا من ذاتية السارد ، و قد عمدت الناقدة إلى رصد هذه الإجراءات في خطابات ساردي رواية " ذاك الحنين " مثلا للحبيب السايح ، حيث كان أهم ما شغلها هو مسألة المستويات اللغوية التي تكون عليها تلك الخطابات ، و هذا ما جعل البحث أقرب إلى القراءة الأسلوبية منه إلى تقصي الأصوات المتعددة في المتون الروائية .

وقد بدا أن الناقدة ظلت مصرة على عدم التمييز بين السارد و المؤلف ، فمرة كانت تنسب واحدة من تلك الإجراءات إلـى السـارد و مرة تنسبـه إلى المؤلف و أحيانا تعتبره نوعا من الوعي الإجتماعي .

ومسألة عدم التمييز بين السارد و المؤلف لم تكن فقط استنادا إلى ضمير المتكلم بل كذلك استنادا إلى تشابه في الأسماء أو بعض الملامح الإجتماعية الذي يمكن أن يقع بين السارد و المؤلف ، و لهذا كانت تضطر كذلك إلى نسبة وجهة النظر إلى المؤلف أو حتى طريقة تعامل معينة مع اللغة إليه ، و في هذا قدر كبير من إقصاء السارد من الدراسة ما قد يبعدها عن مرجعيتها ً التعدد الصوتي ً الذي يعير مسألة انفصال الأصوات السردية عن المؤلف قدرا كبيرا من الإهتمام سواء من حيث ملفوظة أو أيديولوجيته (20) ، في حين أن صاحبة الكتاب سعت إلى إبراز مدى تعالق هذه الأصوات بشخصية المؤلف في ظل إهمالها الملاحظ للضمير و مدى مساهمته في تحديد تلك الأصوات في وضعيتها المختلفة و مدى تطابق المحافل المشكلة للروايات المدروسة .

و يبدو أن الباحثة في المرات القليلة التي لجأت فيها إلى الضمير كإجراء تحليلي تقدم الضمير على المحفل السارد فترى أنه بتغير الضمير السردي تتغير معه مسائل أخرى كالشخصية الساردة و نوع السرد و الرؤية ، و لكن انتقال السرد مثلا من ضمير المتكلم إلى ضمير الغائب يفترض قبلا تغيرا على مستوى المحفل السارد باعتبار أن المؤلف ملزم على الإختيار بين وضعين سرديين ينتج عنهما صيغتان نحويتان و ليس العكس على حد تعبير جينات (21) .

و إذا كانت الرواية كسرت مثاليتها بتعدد الأصوات الساردة و أعطت لكل سارد خصوصية في الحكي فكان لكل سارد معجم خاص به يتشكل من طبيعة شخصية السارد و بيئته و ثقافته و طبقته الإجتماعية ما يجعله مختلفا عن معجم أي سارد آخر ، ما جعل الروايـة ميدانا واسعا تتعدد فيه اللغة نفسها و هي تنفتح على التاريخ و الإجتماع و الفن ، فلا بد أن الرواية الجزائرية و هي تنفتح على التاريخ برزت فيها كل هذه المعاني ، و لكن تظل الحياة واقعا و الروايـة خيالا ، و لكن الناقدة لم تلتفت إلى مثل هذه المسائل و لا إلى طبيعة الحياة و طبيعة المتخيل ، بل إن جل ما قامت به هو كثير من الإسقاطات لواقع اجتماعي جزائري في فترات معينة على الأعمال الروائية ، و كيف استطاع المؤلف من خلال السارد أن يعبر عن هذا الواقع ليس بطريقته بل بطريقة المؤلف التي مررها من خلاله .

لقد سيطرت فكرة الحالة و التحول و الفعل و الفاعل و المساند على معظم الدراسات التي تضمنها الكتاب و ليس تلك التي عادت فيها إلى النموذج العاملي فقط ، و يبدو كذلك أن تلك المرجعية الصوفية للناقدة باعتبار أنه كان لها اهتمام واسع بها في الموروث العربي ، نأت بآمنة بلعلا قليلا عن الدراسة البنوية المحضة ، فقد كان الواقع الجزائري مرجعا مهما لها ، كما أنها غاصت في غمار التاريخ قليلا تبحث في بعض الروايات الجزائرية التي عادت إليه تستلهم منه .

إلا أن كل هذا لا يقلل من قدر هذه الدراسة باعتبار أن صاحبتها سعت إلى إبراز مدى اهتمام الروائي الجزائري بفكرة تعدد الصوت السارد و عدم الإقتصار على الصوت الواحد أو السارد العليم الذي يقوم بكشف كل الأسرار و كل الحواجز ، فأبرزت كيف استطاعت الرواية الجزائرية أن تغير منظومتها فتفتح المجال أمام أصوات كانت خافتة كي تعبر عن نفسها بعيدا عن الصوت الواحد ، و كيف يكف الواحد عن أنانيته و ينزاح عن عليائـه فيعطي كل ذي حق حقه في التعبيـر و يخرج عن تلك الحدود التي رسمتها الرواية التقليدية ، فتعبر تلك الأصوات عن نفسها من موقعها و حسب مستواها الفكري و الإجتماعي ، و هذه سابقة تحسب للناقدة حيث أثارت جانبا كان مهمشا في الروايات الجزائرية حيث اعتاد كثير من الناقدين إما العودة إلى الوراء إلى الأشكال الحكائية المتقدمة أو النظر يمينا و شمالا في متون عربية أخرى مغاربية كانت أم مشرقية متناسين أن المتون الجزائرية خرجت عن الصراط الواحد إلى الصراط المتعدد .

و إذا كانت هذه سابقة تحسب للناقدة فهذا لأنها كانت أكثر اهتماما بالنزعات الصوفية التي كانت نادرا ما تخرج عنها ، و لعل هذا المؤلف من أولى خرجاتها التي تستقصي تحولات المتخيل الروائي الجزائري في موضوعاته و أساليبه و هو ينفتح على الآخر .

- إلتباس الصـوت السارد عند الطاهر رواينية :

تعد قضية السارد عند الطاهر رواينية من القضايا التي لم يحسم حولها الخلاف لأسباب عدة ، فالإطار العام الذي تدور فيه هذه القضية تتعدد فيه المسألة الواحدة ، والنظر في نمذجة السارد و تصنيفاته يقود القارئ إلى فكرة تعدد المعايير التي تقوم عليها التصنيفات سواء من حيث المشاركة أو عدمها أو الرؤية أو ... ، و باعتبار أن السارد ذو صلة وثيقة بتقنية الرؤية فإن هذا الأمر يحيل أيضا إلى صعوبة تحديد ذلك الإطار باعتبار أن وجهة النظر من المسائل الأخرى التي لم تقف على رأي واحد .

ويشير رواينية إلى علة أخرى كان ينبغي تقديمها خاصة و إذا أخذنا بعين الإعتبار أن المتن يجب أن يسبق القاعدة فيكون مصدرا لها لا أن تكون إسقاطا عليه ، و هي أن مسألة النصوص السردية و الروائية منها على وجه التحديد ذات حركية مستمرة و تجدد دائم فمهما قالت القاعدة قد يأتي النص بشيء يخالفها فيه حتى و إن كان تفصيلا دقيقا (22) .

يبدو من خلال حديث رواينية ذلك الوعي الكبير بالفروقات التي تفصل بين السارد والمؤلف و أنه ذو السلطة المطلقة على محكيه ، فالمتلقي يرى ما يراه هذا السارد / الراوي و يتلقى ما يقوله ، و باعتبار أن لكل نص سارده فإن لكل سارد ملامح تخصه لا تكون بالضرورة مطابقة للقاعدة و لا شبيهة بأي ملامح أخرى لسارد آخر ، إن النص هو مفتاح الأبواب التي يكمن وراءها السارد فالمؤلف بعيد كل البعد من أن يكون سبيلا أو مفتاحا إلى السارد حتى في أشد الحالات التي يكون فيها السارد شبيها بالمؤلف .

من ناحية أخرى أثارت تنظيرات فلاديمير كرايزنسكي اهتمام الطاهر رواينية حيث عاد إليها في مسائل متعددة في مقدمتها طبيعة العلاقة بين المؤلف والسارد و الراوي السيميائي ، حيث يمكن للمؤلف أن يتدخل في نصه من خلال الراوي السيميائي فيكون هذا الأخير وسيطا بين المؤلف و الرواة الحكائيين ، حيث يمكن لمثل هذا الحضور أن يخلق تعددا في مصادر السرد و يحدث تداخلا على مستوى اللحظات الزمنية ، و من ناحية أخرى يقود إلى نوع من التشابك بين القصة و السرد حيث يستطيع السرد أن يشوش القصة سواء في أحداثها أو زمنها (23) .

ينطلق رواينية في حديثه عن الراوي * - بشكل تتداخل فيه الممارسة التطبيقية مع التنظير – من أفكار كرايزنسكي في ضرورة وجود سارد في كل المحكيات أيا كانت طبيعته ضمني محين ، مجسد كامل عالم بكل شيء ، ذاتي موضوعي ، و لكنه يتجاوز المفهوم الذي وضعته له البنوية في أنه أداة تقدم من خلالها المادة الحكائية باعتبار أنه هو الذي يحدد طبيعة المحكي ، و انطلاقا من ضرورة الاعتقاد بالفكرة التي أسس لها كرايزنسكي و هي بنية بلاغة المواجهة " Structure réthorique de parabase" و التي تحيل إلى مجموع التغيرات و التعاليق و الافتراضات النظرية السائدة عن السارد ممثلة في مجموعة من الترتيبات و الإشارات السردية التي تسهم في صياغة المحكي فأصبحت بذلك وظيفة السارد لا تقوم على تحيين المحكي من خلال عملية السرد فحسب بل تعدته إلى كونه الصائغ الفعلي للعمل السردي و المعلق عليه ، ما ينتج شكلا من أشكال الجدل بين إمكانات الراوي السردية و قدراته المعرفية و بين اللحظة الراهنة للسرد (24) .

و هذه الخاصية من شأنها – كما يرى رواينية – أن تبرز نوعا من ذاك الحضور السائد للمؤلف في عمله السردي في شكل راوي على قدر كبير من الاحترافية ، يستطيع أن يقيم جدلا بين رواته ، و هنا تكمن فكرة أن الراوي عليه أن يتجاوز ذلك المفهوم البنوي و يجعل من الرواية جنسا أدبيا منفتحا يأبى الانغلاق (25) .

كما أن من شأنها أن تحدث التباسا على مستوى وظيفة السارد بحيث لا يمكن التعامل أو تأويل نص روائي كمنجز سردي من طرف السارد إلا في جدليته مع النص باعتباره منجزا سيميائيا من طرف المؤلف (26).

الأمر الذي يقودنا إلى القول – إذا ما تتبعنا كلام رواينية – إن وظيفة السارد قد تضمحل و تتفسخ أمام تدخلات المؤلف التي معرفته تبدو ناقصة أمام إمكانات المؤلف ، و يبدو أن الأمر عند الناقد من شأنه أن يزيد الاهتمام بالكاتب باعتباره ذا كينونة سيميائية منتجة للعلاقات الحكائية و مشيد عالم حكائي و منظم لأصوات سردية ، و حتى في علاقات هذا المؤلف بشبكة من النصوص السابقة و المزامنة ووحده القارئ الجيد يدرك بعد هذا كله صوت الكاتب وصوت السارد و بقية الأصوات و هي تتمايز عن صوت المؤلف (27) .

و قد سعى رواينية منة خلال هذا إلى رصد مدى تدخل المؤلف في المتون التي تعرض لها بالدراسة ، حيث رأى أن فرج الحوار مؤلف رواية " الموت ، البحر والجرذ " سعى من خلال تدخله في متنه إلى إشراك نفسه في تأويل النص ، حيث يتجلى هذا الحضور من خلال تخفيه وراء الأصوات الساردة حيث يمكن إدراكه بطريقة ما قد تكون من خـلال عمق التجربة التي خاضها الرجل و سربها من خلال تلك الأصوات (28).

و في تقصيه لرواة رواية " حدث أبو هريرة قال " للمسعدي ، انطلق رواينية من فكرة ما يمكن تسميته بالقوالب الجاهزة في الكتابة الروائية الحديثة، حيث يعمد كثير من الروائيين إلى استخدام شخصيات تراثية تُمَرَّر من خلالهم رسالة سردية ما و هو ما أدركه في بعض الروايات المغاربية، حيث أشار من خلال أسماء بعض رواتها الأساسيين إلى مدى تعلق هذه النصوص بالتراث، ولعل هذا الأمر هو الذي قاده إلى استخدام لفظة راوي بدل سارد نظرا للخلفية التراثية التي علقت بلفظة راوي .

- كيـف يمكن أن يتجاوز السارد ذلك المفهوم البنوي المغلــق ؟ .

يرى رواينية أن السارد في كونه يرمز إلى التاريخ في شخوصه و أساطيره فينطلق سرده من مستوى أعلـى يجمع كل ذلك التاريخ بين جناحيـه فيجسد الإنسانية و الرموز ، وهذا ما انطبق على شخصية أبي هريرة الراوي في رواية المسعدي التي جمعت ثلاث شخصيات ثلاث شخصيات منها اثنتان تاريخيتان و الثالثة هي الافتراضية التي تقوم بعمليـة السرد ، حيث ركز رواينية على فكرة الإسناد التي ربطت هذا الراوي بالتراث و أخرجته عن مجال التقرير إلى نمط جديد عتيد يجسد الذاكرة التراثية ، هذه الصيغ الإسنادية التي تكررت في النص جعلت رواينية يسمي أبا هريرة براوي الرواة (29) .

و على هدي جيرار جينات ، يرصد صاحب الرسالة الرواة الأساسيين و النواب ، حيث حدد وضعياتهم و مساراتهم السردية مرتبا إياهم حسب أهمية كل سارد على حده و محددا الوظائف التي اضطلع بها هؤلاء الرواة في متن المسعدي ، حيث أشار إلى أن السارد باختيار للصيغة السردية يؤدي وظيفتي السرد و التنسيق معا ، وكذا الوظيفة الأيديولوجية التي تتجلى من خلال المواقف التـي يتخذها هؤلاء الرواة تجاه بعض القضايا ، وفي إشارة السارد إلى المصدر الذي اخذ عنه الخبر المراد سرده و من خلال الصيغة الإسنادية يرى رواينية أن هذا الإسناد يتضمن وظيفة استشهادية حيث يشير هذا السارد إلى مصادر سرده (30) .

وقد بدا إصرار الناقد على شخصية أبي هريرة كصوت سارد يجر وراءه كل الثقافة العربية ، فهو راوي الرواة ، راو جمع – حسب تعبيره – مثقل بأصوات أخرى تهتف كلما تلفظ ، و بهذه الخلفية التاريخية التي ينطلق منها هذا الصوت السارد فهو لا يمثل في أي حال من الأحوال المسعدي و إنما هو مجرد سارد يخاطب قارئا مفترضا ، ولذلك نجد رواينية يربطه أكثر بالمؤلف المجرد ، إذ هو يمثل كاتبا مجردا تتجاوز معرفته مدى رؤيته (31) .

و في دراسته لرواية " الموت و البحر و الجرذ " التي اتخذ لها عنوانا أساسيا هو " الراوي و الشخصية و مرايا النص " ، يرصد رواينية الرواة الأساسيين في هذا المتن ، حيث حدد مساراتهم و القضايا المشتركة بينهم سواء في حديثهم عن الكتابة و الإبداع كهم مشترك أو في كزنهم الرواة و الشخصيات الأساسية التي تتداول أحداث المحكيات ، و في تفرد السارد الأول في كونه منجز النص و مقيم تمفصلاته و أحداثه و تحولاته السردية (32) .

و قد رصد رواينية في هذه الرواية كذلك سلطة المؤلف على الراوي الإطار من خلال تمهيد قدمه " فرج الحوار" لروايته تحدث فيه عن الكتابة و موضوع الرواية ، حيث كان هذا التمهيد مركز النص و الدليل إلى فحواه ، و لذلك اعتبر رواينية فرج الحوار الذي نسب إلى نفسه مباشرة هذا التمهيد واحدا من هؤلاء الرواة الذين ذكر بأنهم تولوا عملية السرد في هذه الرواية في محاولة منه تبيان مدى تدخل المؤلف في مجريات الحكي و رواته ما يجعلنا نتساءل كيف يعد المؤلف ساردا ضمن مجموعة من الساردين التخييليين ؟ ألا يعد هذا تجاوزا لمجموعة من التنظيرات الغربية التي تبنى هو واحدا أو اثنين منها و التي حددت طبيعة كل واحد منهما و مجال عمله و وظائفه ؟ .

و يبدو أن الناقد و هو يجعل الراوي الأساسي مجرد بديل للمؤلف أعطاه هذا المؤلف اسما آخر كان يؤسس لفكرة بلاغة المواجهة من خلال ذلك التخطيط المسبق للمحكي ، ولذلك يشير إلى أن محمد الجرذ السارد كاسم لم يكن له الدور المهم في هذه الرواية باعتبار انه يحيل مباشرة إلى المؤلف .

وباعتبار أن العنوان الذي اتخذه رواينية لهذه الدراسة يجمع بين السارد و الشخصية فإن عمله ابتدأ متقصيا لتلك الأصوات الساردة متتبعا إياها في مساراتها السردية، ثم انتقل إلى البحث في مدى حضور السارد الأساسي لهذه الرواة كشخصية في المحكي وعلاقته بالشخصية الأخرى، وظيفته التقليدية هي السرد، ثم راح يستقصي محكي كل سارد وكيف استطاع أن يولد محكيه من محكي السارد الأساسي (33).

و قد عد رواينية ذلك التدخل الذي أفرط المؤلف في إبرازه من خلال السارد المتعدد شكلا من أشكال استبداده على النص ، و بهذا يصل إلى نتيجة تمثلت في أن وظيفة السارد تحولت من مجرد السرد أو النقل لرسالة سردية إلى خلخلة ذلك التواصل الذي يربطه بالطرف الآخر و تشويشه و إحداث التباسات و إيهامات على مستوى النص ، و تحويله إلى جمالية يدركها الجميع ، استطاع بها أن يخرج هذا النص عن قالبه القديم ، و لعل هذا هو ما قاد الناقد إلى القول لن السارد استطاع الخروج عن كونه مجرد مفهوم بنوي مغلق بواسطة هذا التفسخ الوظائفي (34) .

يبدو صاحب الدراسة في بعض دراساته يسير ضد التيار السائد الذي لطالما فصل بين السارد والمؤلف باعتبارهما مختلفين في الطبيعة و الوظيفة ، و الذي ألزم التمييز بينهما بشكل قطعي ، و لربما هذا ما أوجب عليه إدخال طرف جديد في هذه المعادلة ، و لذلك استعار من " كرايزنسكي " اصطلاحا لمحفل جديد هو السارد / الراوي السيميائي و هو " المنظم المركزي لكل الصيغ السردية و المحدد لتموقعات الأصوات الساردة في المحكي " (35) .

و يرى الناقد أن العلاقة بين المؤلف و السارد معقدة و سبب تعقيدها هو ذلك التمييز بين المحفلين ، حيث أقصى الناقد هذا التمييز و أقر أن السارد يمكن أن يكون مرجعا أو ممرا نصل من خلاله إلى المؤلف ، وقناعا استطاع المؤلف بواسطته تحويل كل ما هو اجتماعي إلى محكي ، فكلاهما يتجه بشكل من الأشكال نحو الآخر محاولا إحداث نوع من الحضور في المحكي من خلال ترهين تلفظه ، ويرى كذلك أن انكفاء منهما نحو الآخر يدخل الباحث في مناطق وسيطة يبرز فيها السارد السيميائي باعتباره صائغ السرد و المحدد لمواقع الرواة (36) .

و في دراسته لرواية واسيني الأعرج " فاجعة الليلة السابعة بعد الألف " التي بدا فيها الثلاثة المؤلف و السارد السيميائي و السارد إجراءات تحليلية ، سعى رواينية من خلالها الثبات تلك العلاقة الغير مستقرة بين السارد و المؤلف ، و مدى تدخل المؤلف من خلال مضاعفـه في محكي السارد ، حيث يمكن لهـذا الراوي السيميائي التدخـل لا بالشرح و التعليق فقط ، و إنمـا باستلابه لخطاب السارد نفسـه و إدماجه في خطابه و جعله ذا بعد إيديولوجي مماثل لإيديولوجياه الخاصة التي ينطلق منها ، رغم أن كليهما يمارس سلطة من نوع خاص ، إضافة إلى أن هذا الراوي السيميائي من حقه التخطيط المسبق لما سيقع ، فهو ذو موقع و استراتيجي كالذي يحتله المؤلف ، فهو في حالات يمكن أن يحيل إليه بشكل مباشر ، و هنا يظهر ليس تدخلا في المحكي بل سلطة للمؤلف عليـه (37) .

يرى الناقد كذلك أن واسيني الأعرج سعى إلى إقامة علاقة مع الأصوات الساردة في روايته ، سادها التماهي و الاختلاف و المجاورة و الاحتواء ، حيث سعى الباحث إلى إدراك أشكال هذه العلاقة بين المؤلف و أربعة من الرواة الذين اتخذوا مواقع مهمة داخل المحكي حيث يشير الناقد إلى أسباب اختيار واسيني الأعرج لساردي متنه و تحديدا دنيازاد الساردة الأساسية في هذا المتن ، حيث حدد تلك الأصوات الساردة ووضعياتها في محكياتهـا و زمن سردها و مساراتها السرديـة ، وكيف يمكن أن يخـدم هذا الموقع و الزمن و إعادة إحياء شخصيات تراثية مسألة الترهين السردي للحكايـة ، مشيرا في خضم هذا كيف يمكن أن تتغير الصيغة اللسانيـة و الأهداف و المساعي الدلاليـة بتغير السارد و بخاصـة من شهرزاد إلـى دنيازاد ، و كيف يمكـن أن يساهم السرد و التمثيل معا – و هما ما أدتهما دنيازاد في الرواية – في تغيير تلك المساعي و تحويل وظيفة اللغة من أداة للتواصل إلى أداة للتحرر ، و هو ما تميزت به – يرى رواينية – لغـة دنيازاد و هي تتحرر من شهريار، و قد اعتبر رواينية هذا وجها آخر من وجوه خروج السارد المفهوم البنوي المغلق إلى تجسيد للضرورة التي تمثلت في التحرر (38) .

إن الراوي السيميائي يمكن أن يتدخل في محكي بطريقة ما ، سعى رواينية إلى رصد واحدة من تدخلاته التي سعى من خلاها إلى تنظيم العلاقة بين الحاضر و التاريخ و بين الوعيين الفردي و الجماعي ، ليبرز وراءه المؤلف وهو يحاول الحضور في النص ساعيا إلى تشويشه وخلق ذلك التداخل بين سرد السارد و سرد الراوي السيميائي ، و هنا يرى رواينية أن هذا التداخل يترتب عنه تداخلات أخرى على مستوى طبيعة المرجع أي التخييل و التاريخ و على مستوى زمن التلفظ فتداخل الماضي بالحاضر ، و على مستوى صيغته فامتزج السرد بالخطاب الذاتي ، و يرى الناقد كذلك أنّ هذا من شأنه أن يجعل السرد متداخلا (intercalé ) معقدا استجابة لغايـة جمالية مرتبطة بتأويل النص ، و في إطار هذا التداخل على مستوى الأزمنة تحدث عن كيفية إمكانية واسيني الأعرج أن يحدث ائتلافا بين أصواته الساردة و كيف يمكن أن تتحرر تلك الأصوات عنه راصدا أشكال ذلك الائتلاف و مواطن التحرر (39) .

ويرى الناقد أخيرا أن واسيني الأعرج وصل إلى حقيقة عمل هذا السارد ، و يبدو أن رواينية هو نفسه الذي توصل إليها و ليس الأعرج من خلال إصراره على فكرة الترهين السردي و الانطلاق من الحاضر نحو الماضي و العكس و هي " أن عمل الراوي هو مجرد إجراء سيميائي و عبر لساني ، تتداخل عبره الأصوات و الخطابات و تتسلسل الملفوظات منجزة علاقات تزامنية بين صوت الحاضر و صوت الماضي و كاشفة عبر ما توحي به من دلالات عن عنف سجالي " (40) .

فعلا إن عمل السارد هو مجرد إجراء سيميائي بواسطة صيغة لسانية يمكن أن يكون مثقلا بأصوات أخرى و بأفكار و خطابات أخرى ، و لربما كانت عتيقة ، و لكن كيف يمكن أن يعبر عن عنف سجالي بين طرفين لكل منهما سلطته الخاصة التي يضمن بها تأثيرا في الآخر ، إن هذا ما يفرضه محكي " فاجعة الليلة السابعة بعد الألف " و ليس كل المحكيات التي يمكن أن يعبر في بعضها السارد عن صوته الخاص و خطابه و سلطته الخاصة بعيدا عن أي طرف آخر .

إذا تتبعنا حديث رواينية نجد أن السارد يستطيع الخروج عن ذلك المفهوم البنوي المغلق بوسائط شتى لكن هذه الوسائط ستوصلنا جميعا إلى ربطه بالمؤلف ، ألا يعد المؤلف مفهوما آخر مغلقا يقلل من قيمة هذا السارد في نص لا يعلو إلا فيه صوته في ظل اختفاء ذلك المؤلف ؟ فعلا إن المؤلف هو صاحب هذا النص و صائغه و متخيل أحداثه و فضاءاته ، وهو الوحيد الذي يكتب اسمه على غلاف العمل الروائي ، و لكن من يُسمع داخل هذا النص ، ومن يتفاعل مع شخوصه الأخرى ؟ أليس السارد ، فماذا سيكون هـذا السارد إذا نسبنا كل شيء لمؤلف كان يجب أن يقتل! ؟ .

من ناحية، قرن رواينية مصطلحات عديدة بمصطلح "راوي" دون أن يحدد الفرق بينهـا ، فإن كان قد استعمل مصطلح " جون ريكاردو" " Jean Ricardeau " ، " narrateurs flottants " و الذي ترجمه إلى " الرواة العائمين " للتعبير عن الرواة الذين يتناقلون رواية معينة حيث يعمد الراوي الأخير إلى نقض الروايات السابقة و اعتماد روايته الجديدة من خلال تغيير بعض معالم و أحداث الرواية السابقة ، حيث يحاول رواة الليلة السابعة بعد الألف الجمع بين تلك الروايات لتدعيم محكيه ، و هذه خاصية لطالما اعتمد عليها الرواة قديما في نقل الخبر شفاهة ، ولكنه يستعمل إلى جانبها كذلك مصطلحات أخرى : الراوي ، الراوي السيميائي ، مضاعف المؤلف ، راوي الرواة ، الراوي الإطار ، المؤلف ، دون أن يومئ إلى أي فرق أو تقارب بينهما .

و إذا كان قد أشار إلى أن السارد السيميائي يقف كوسيط بين وظيفة المؤلف و وظيفة السارد، فما هي وظيفته هو تحديدا، و ما الفرق بينه و بين الراوي الإطار و راوي الرواة و مضاعف الراوي، بل بينه و بين المؤلف تحديدا؟ ، وهذه إشكالية معظم النقاد و الباحثين الجزائريين و ليس رواينية وحده، حشد قدر كبير من المصطلحات المتقاربـة .

أخيرا، لا يمكن لأي باحث يحاول أن يحصر مجال استحضار العلاقة بين المؤلف و السارد في النقد الجزائري إلا و وصل إلى نتيجة نهائية هي أن حضور هذا الأخير فيه حضور محتشم ، و لكنه حاضر ، و لربما كان حضورا آليا أو مختزلا في كثير من الحالات ، حيث تطرق الدارس الجزائري إلى معظم المسائل التي تطرق لها العرب عامة ، و تلك التي خصها الغرب بالتنظير إذا استثنينا البعض ، إلا أنه لم يكن بالمستوى المطلوب الذي قد يُعلي من شأن ما يمكن تسميته – مجازا - سرديات الخطاب الجزائري ، إذ كان في معظم دراسات الجزائريين للسارد كثير من الفجوات و لا سيما في الممارسات التطبيقية .

البعض اعتبر السارد هو المؤلف مباشرة ، و البعض اعتبر السارد بديلا للمؤلف ، في حين التزم معظم النقاد الآخرين بذلك الفصل الذي قدمه البنويون بينهما سواء من الناحية النظرية أو التطبيقية .

ينبغي أخيرا أن نسأل أنفسنا كيف خدمت هذه المقاربات المقدمة حول السارد المحكي العربي ؟ يمكن القول إن الحديث عما قدمته هذه المقاربات سابق لأوانه ، و هذا لربما عائد لسببين أساسيين : أولهما أن السرديات في الجزائر لا تزال في بداياتها ، فهي لم تحقق ذلك التراكم الذي يمكن بمقتضاه تقديم خدمة معتبرة للمحكي الجزائري والعربي في خصوصيته و تفرده ،و ثانيهما أننا لا نظفر في الجزائر بدراسة كاملة حول هذا السارد ، تتناوله في مختلف جوانبه ، فجل الدراسات المقدمة حوله لا تتعدى فرعا من مؤلف كامل أو مقالا ، و على الرغم من ذلك يمكن القول إن هذه المقاربات خطت خطوة إلى الأمام و بخاصة مع الرواية الجزائرية ، حيث كشفت هذه المقاربات كيف أن الروائي الجزائري بدأ ينسحب شيئا فشيئا من المحكي ، ليترك المجال لصوت غيره يسرد و يصف و يعطي وجهة نظره الخاصة تجاه مختلف القضايا .



* أ. وسواس نجاة
جامعة سيدي بلعباس (الجزائر)
 
أعلى