نقد فوزي محيدلي - ماركيز وبازوليني عشقاها، كامو وناباكوف مارساها، أورويل وإيكو توجّسا

عندما تتقبّل الجماهير موت آخيل على أرض الملعب

هل ثمة قوة على كوكب الأرض أعتى بل أكثر سطوة من كأس العالم في حينه؟ سؤال قد يبدو غريباً للبعض لكن هل يمكن نكران أن أنفاس أكثر من نصف العالم تنخطف صوب الساحرة المستديرة حين تبدأ مباريات كأس العالم!

يتذكر الروائي والفيلسوف الإيطالي إمبرتو إيكو في مقالة له بعنوان «كأس العالم وأبهاته» أنه حضر في الثالثة عشرة من عمره برفقة والده إحدى مباريات الكأس محاطاً بآلاف مؤلفة من عاشقي الكرة. لكن الكاتب الإيطالي أعطى توصيفاً مثيراً للجدل بخصوص مهرجان الكرة قائلاً بانطوائه على «حركات لا معنى لها» من قبل اللاعبين، متابعاً أن الأمر عبارة «عن أداء كوني لا معنى له»: «بقدر ما أستطيع العودة بالذكرى ارتبطت كرة القدم لدي بغياب الهدف وعبثية كل الأشياء».

ويتابع إيكو قائلاً إن الهرج الرياضي قد يشكل بديلاً للجدال السياسي.

روح الجماهير

يقال إن إيكو، الذي كتب المقالة بعد قيام الألوية الحمراء الإيطالية بخطف وإعدام رئيس الوزراء ألدو مورو، كان يتساءل عن القوة غير العادية لكأس العالم في تأجيج أو كبح حماسة مجتمع أهل الأرض صوب الحرب، والإرهاب، أو الاشتراك في العراك السياسي. يرى إيكو أنه في حين يعمل الإرهاب والحرب على بث اللااستقرار، ثمة قوة أكبر لكأس العالم في إعادة الاستقرار. يصار إلى خدع الإرهابيين، لأن القوة الحقيقية، القوة العظيمة لا تكمن واقعاً في الاغتيال أو التدمير بل في «طاقة المجتمع على إعادة توزيع التوتر، على مكامن أخرى، أقرب التصاقاً بروح الجماهير. بمعنى أنه من الصعب إثارة اهتمام الناس بالجريمة والإرهاب فيما مباريات كأس العالم على قدم وساق.

يرد البعض على كلام إيكو بالقول أن كرة القدم طبعاً أقرب إلى روح الجماهير، بل هي بالأحرى ليست «حركات لا معنى لها»، بل هي لدى مشاهدة سَحَرَة من أمثال ميسي ورونالدو البرتغالي أو رونالدو البرازيلي وتوريس الإسباني غدت أشبه بعزف عقول وأرواح وليس مجرد أقدام، وإلا ما معنى إلحاق معالجين سيكولوجيين بالفرق النخبة في أوروبا!

كامو ودوراس

مهما يكن، بالعودة إلى الزمن الجميل للرواية، أيام ألبير كامو، الروائي والفيلسوف، الذي قبل كتابته تحفته «الغريب» وغيرها من كلاسيكيات الرواية في أيامه، كان الرجل حارس مرمى لفريق راسينغ الجامعي الجزائري، يكتب هذا الفيلسوف الأسطوري الفرنسي: «بعد سنوات طوال من العمر، شاهدت خلالها الكثير من الأشياء، بات ما أنا متأكد من معرفته، بشكل مؤكد، بخصوص الأخلاق وواجب الإنسان، أدين به إلى الرياضة وما تعلمته في فريقي الراسينغ».

خلال الاستعدادات لكأس أوروبا العام 2008، أُجريت مقابلة مع الروائي التركي أورهان باموك قال فيها أنه لم يزل «قادراً على ذكر أسماء كامل فريق فينربخشه لعام 1959 لكنه يحزن لاستغلال سياسيي تركيا اليوم لهذه اللعبة: «هنا كرة القدم هي بمثابة آلة لإنتاج القومية، الخوف من الأجانب، فضلاً عن إنتاج التفكير الفاشستي». وحين سُئل عن التصريح الشهير لألبير كامو (كل ما أعرفه بكل تأكيد حول الأخلاق وواجب الإنسان، أدين به لكرة القدم)، أجاب هذا الأديب التركي الذي نال عام 2006 جائزة نوبل للآداب بما يشبه الرفض قائلاً: «الفضيلة هي على الأرجح آخر شيء يمكن أن تتعلمه من كرة القدم اليوم».

بعض مشاهير الأدب ينجذبون بشكل متواتر إلى كرة القدم الدولية، معلنين أحياناً بوضوح تعلقهم بلاعبين نجوم، وأحياناً التعبير عن شعور ينطوي على مفارقة تتراوح بين الشك والحسد لا سيما فيما يتعلق بانجذاب الجماهير العريضة إلى هؤلاء النجوم. قبل كأس العالم الأخير هاجم حائز نوبل الألماني غانتر غراس «الفيفا» متهماً إياها بـ»الجبن»، بمعنى أن «كرة القدم لم تعد رياضة للجماهير وإنما عبارة عن حالة بيزنيس كبيرة».

يعرف عن الكاتب والمخرج الإيطالي بيار باولو بازليني هوسه بكرة القدم، وقد وُجِد عام 1975، والظاهر أنه قُتل، على أرض ملعب كرة مهجور. من جهته حوّل النمسوي بيتر هاندكه روايته «خوف حارس المرمى من ضربة الجزاء» إلى عمل سينمائي بإدارة ويم وندرز مع أن موقع هيئة أو السياحة النمسوية كتب بشكل ضيق، «يمكن الاستنتاج أن هاندكه لا يملك أدنى فكرة عن كرة القدم. عادة، منفذ ضربة الجزاء هو الخائف».

إضافة إلى عبارة كامو ثمة مشاركات فرنسية أخرى على صعيد هذا التلاقي بل والتصادم للثقافات تشتمل إحداها على المقابلة الغريبة لمارغريت دوراس مع رجل الكرة الفرنسي الشهير ميشال بلاتيني.

[ مارغريت دوراس: إذن ترى أن يكون المرء لاعباً عبقرياً مثل بلاتيني يعني هو مدعو للقيام بمهمة الاستشهاد؟

ـ ميشال بلاتيني: ربما ذلك.

أما مشاركة الفيلسوف برنار هنري ليفي فتمثلت في ردة فعله على نطحة زين الدين زيدان للمدافع الإيطالي في كأس العالم مستشهداً بهوميروس ودوستويفسكي ونيتشه، واصفاً تلك النطحة «عصيان الإنسان ضد القديس... وكأن ذلك الإنسان يقول: لست صاحب القدرة السحرية، لست ذاك الطاغوت الفارغ، لست ذاك معلم الطريقة، أو ذاك المحلل النفسي الذي كان هوس أو جنون كرة القدم يحاول تحويلي لأن أصحبه».

من جهتها، تركز الكتابات الأدبية البريطانية على النوادي كما في أعمال يحتفى بها لهورنباي، ودون باترسون وإيرفين ويلشن. من جهته يبدي مارتين آميس اهتماماً بالمدرب: «ثمة حميمية في أوامره الخوارية العالية الصوت: هو أشبه بأستاذ المدرسة ذاك الذي يعرف كل نقاطك الحساسة، الذي يحضّك على تجاوز قدراتك ومن ثم يتوسل مهادنتك بضربة على المؤخرة».

مع أن الولايات المتحدة ليست قديمة في عشق كرة القدم البريطانية النشأة، إلا أن ذلك لا يمنع بلاد الأحلام من تحقيق كل ما تعمل عليه. يقول كريستوفر ميريل: «عدم تحول الولايات المتحدة إلى الفريق السندريللا ليس بالمفاجأة عند معظم المهتمين بكرة القدم، لكن تلك المعلومة لا شك مقبولة دوماً في البال. نحن نود الإيمان أن بمقدورنا فعل شيء. في الرياضة، كما في الميدان العالي، نحن معتادون على شق دربنا. إنه لأمر مؤلم اكتشافنا حقيقة أننا لسنا بمعزل عن أن نقهر. ربما فشلنا في كأس العالم لعام 1990 في إيطاليا شكّل مجرد خطوة فيما سيبدو في النهاية مسيرة لا بد منها فيما خص علاقاتنا ببقية العالم».

أورويل وجيلينيك ينضمان إلى إيكو

قد يتبدى قدر من الالتباس في موقف فلاديمير نابوكوف، يعزف على تحوله إلى شاعر وبين التباعد بينه وبين أعضاء الفريق كما سجل ذلك عام 1966: «كنت أبعد من أن أكون حارس مرمى مني حارس سر ما. مع ثنيّي لذراعيّ وإسنادي لظهري بالعمود اليساري للمرمى، استمتعت بفسحة إغلاق عيني، ما أتاح لي الإصغاء إلى ضربات قلبي واستشعار الرذاذ الهائل على وجهي، وسماعي، في البعيد، الأصوات المتكسرة للمباراة، متصوراً نفسي كمخلوق خرافي غرائبي يقوم بنظم الشعر بلسان، لغة، لا أحد يفقهها حول بلد بعيد لا أحد عرفه من قبل. المثير للعجب أنني لم أكن على وفاق مع رفاقي في الفريق».

أما ما يقوله جورج أورويل فلا التباس فيه. فقد كتب بخصوص المنافسات البلدية: «إذا شئت الاضافة إلى المورد الشاسع من النية السيئة الموجودة في العالم في هذه اللحظة، افضل ما يتجلى ذلك سلسلة من مباريات كرة القدم.... ثمة ما يكفي العالم من اسباب وجيهة للمتاعب، ولسنا بحاجة إلى إضافة المزيد إليها من خلال تشجيع الشبان على ركل بعضهم على الساق وسط زئير المشاهدين الحانقين».

من جهتها تذهب (جيلينيك) الروائية الحائزة نوبل للآداب لعام 2004 أبعد في فلسفة عدم استساغتها لكرة القدم. تقوم هذه الأديبة النمساوية، ألفريد جيلينيك، أن الرياضة مرتبطة بالقيمومة البطريركية ـ بالتعصب الوطني، الفاشية والعنف. لكن خطاب نيلها الجائزة العالمية أوحى بأنها قد تشكل مشجعة لصيقة تختلس النظر إلى مباريات بطولة أوروبا لعام 2008 وإلا لماذا أعطت خطابها ذاك عنوان «I am Abseits» الذي يوحي بموضوعية ضرورة «تحييد» الكاتب نفسه، ولكن الكلمة المقصودة بل العبارة قد تعني أيضاً «أوفسايد» (هنا، «تسلل» خارج نطاق الحد الذاتي؟).

قد يكون من المفيد إدراج ما قاله جان بول سارتر أيضاً لمزيد من السفر في حل الإشكالية التي تطرحها كرة القدم: «في كرة القدم كل شيء يتعقد بوجود الفريق الخصم».

يبدو أن الفرنسيين رغم ما عرف عنهم من رقة وكياسة يدارون في موقفهم من كرة القدم لكن تبقى كلمات أورويل البريطاني هي الاقسى. نعود لننقل عنه: «عافت نفسي اللعبة، وبما انه لم يكن بمقدوري رؤية اي مسرة أو استفادة منها، كان من الصعب علي إظهار الشجاعة لممارستها. كرة القدم، بدت لي، لا تلعب لمتعة ركل كرة في الأرجاء، لكنها احد أنواع القتال».

وهذا يأخذنا إلى بريطاني آخر هو الكاتب انطوني بيرغيس. يرى بيرغيس انه «في اميركا اللاتينية الحدود بين كرة القدم والسياسة غامضة، ثمة قائمة طويلة من الحكومات التي سقطت أو اسقطت بعد هزيمة منتخب البلاد الوطني». وهذا يعيدنا إلى تميز كرة القدم بطاقة اكبر من اعادة التوازن أو الاستقرار في المجتمعات حسب إيكو الذي يتساءل، وإن بلاغياً: «هل ثمة امكانية لحدوث أي صراع مسلح يوم كأس العالم؟ هل الثورة ممكنة في ايام كأس العالم».

إذا كان كل من ايكو واورويل يريان في كرة القدم كمثال على ركل يأخذ الحياة إلى اللامعنى، فان كاتباً بريطانياً مثل باتريك دافيدسون روبرتس يرتفع بلاعب الكرة إلى مرتبة الشاعر ولكنه «شاعر ـ محارب» قائلاً وجود شيء ما لا يمكن ان ينقسم بخصوص سحر الأدب وكرة القدم: «ترعرعت في أيام اللاعب كشاعر ـ مقاتل أيام كانتونا غينغز ايضاً، وكول، والأهم شيرر. قد يكونون مختلفين من حيث ومضات الألق الكيتيسي (نسبة للشاعر كيتيس) التي أسبغها كل من غاسغوين وبيكهام لكن طابع الواقعية الخاصة التي جلبها هؤلاء الشعراء إلى الملعب جعلت هوميروس ذي معنى عندي. فكرة ان هؤلاء الناس، هؤلاء الشخصيات، انوجدوا كقدرة أو موهبة مطلقة أمر لم يكن بمقدوري زحزحته. أهمية اللاعب لجمهور المشجعين، ولاء الجانبين إلى النادي جعل أولئك الناس مهمين، وهذا بدوره هو سر الدراما الممكن تصديقه. تقبلت جماهير المشجعين على أرض الملعب موت آخيل البطل ـ وهذا ما جعله اشبه الآن بغزة المحاصرة... لكن هذا لا يمنعني من تشبيه اللاعب شيرر بالاغريقي الآخر أوديسيوس. نظرة فهمه التي تقول انه فيما قد يندفع الآخرون إلى الأمام ( «كالجنود الفرسان» بكلمات الشاعر أورن)، فان اليد الثابتة والعمل الشاق هو دربه إلى الخلود».

ستفتقد الكرة غابرييل غارسيا ماركيز

مع السماع بموت الكاتب الكولومبي ماركيز مؤخراً، حائز نوبل لعام 1982، حضرت في البال الطرق العدة التي ربطت الكاتب الاسطوري بعالم كرة القدم عبر عمله اللامع.

بدأ الأمر معه حين كان صحافياً شاباً في حزيران من عام 1950، وذلك حين كتب سارداً مباراة وهزم يومها فريق جونيور بارانكويلو فريق ميلونا ريوس بوغوتا، الذي كان يضم في صفوفه المهاجم الأسطورة الفريد دي ستيفانو:

«من جهة أخرى، لو أن لاعبي فريق جونيور لم يكونوا بالتأكيد لاعبين بل كتاباً أعتقد أن القائد هيليبو كان يمكن ان يكون روائياً خارقاً على صعيد أدب الجريمة... ولكان دي لاتور نظم الشعر. لا يمكن لوم آري على تعلقه بالشعر الملحمي. لا يمكن انتقاد آري لأن رفاقه في فريق الجونيور لم يوفروا له الفرصة ليظهر على أقل تعديل مواهبه الأدبية المتواضعة. هذا اذا لم نناقش بعد قدرات فريق ميلوناريوس الذي لا يشتهر عظيمه دي ستيفانو بأقل من البلاغة».

مع اكتشافه للعلاقة المتينة بين كرة القدم والأدب اعترف غابو. لقب ماركيز، قائلاً:

«لا أعتقد أني خسرت شيئاً بذاك الدخول الذي لا يلغى والذي اقوم به اليوم ـ علناً ـ إلى الأخوية الورعة لمشجعي الكرة. لا أحتاج إلى من يهديني.

لم يهجر ماركيز ذلك الشغف حين ترك كولومبيا، لكنه ترك ركناً في فؤاده لفريق مكسيكي معين. كان ذاك الفريق بوماس يو.ن.آ.م. وفي عام 2005 حضر للفريق مباراة ضد فريق تولاكا.

كما الأسطورة التي كانها، كرمته كرة القدم الكولومبية حين كان على قيد الحياة باهدائه كرة «ماكندو». وهذه الكرة التي صممتها شركة العاب رياضية كولومبية تدعى غولتي، أوحت بها البلدة الخيالية التي وقعت فيها أحداث «مائة عام من العزلة». وقد استخدمت هذه الكرة من قبل المنتخب الكولومبي على درب مباريات تأهله إلى كأس العالم القادم في البرازيل.

كما فعل ماركيز عملت ماكوندو على الأخذ بيد الجماهير الكروية الكولومبية إلى عالم من السحر. عبر هذه الكرة تأهل المنتخب بعد مباراة مع التشيلي في 11 تشرين الأول من عام 2013 إلى نهائيات كأس العالم بعد 16 سنة من الصيام.

محبو كرة القدم والأدب على السواء يشعرون بامتنان ابدي لغابريال غارسيا ماركيز لتأييده فكرة أن حب الجماهير للرياضة لا يجعل منهم أقل إلماماً أو أقل معرفة من أولئك الذين يكرسون افئدتهم للأدب. لهذا السبب، وللعبقرية الكامنة في كتاباته، سيفتقد عالم كرة القدم ايضاً، «غابو» الشهير.

نختتم مع ما قالته الملكة إليزابيت الثانية، كرة «القدم شغلة صعبة... لكنها لعبة مدهشة». نقول هذا مع ان مواطنها الكاتب اوسكار وايلد قال:

«كرة القدم لعبة ولا أحسن للبنات الخشنات، لكن ليس للصبيان الناعمين رقيقي العود».


[SIZE=6]-فوزي محيدلي - ماركيز وبازوليني عشقاها، كامو وناباكوف مارساها، أورويل وإيكو توجّسا[/SIZE]ها
 
أعلى