نقد كارين صادر - جحا العربي

أشهر شخصية نمطية فكاهية
هو الوحيد الذي عاش كثيراً ثم امتد بعدها ظله مديداً، وهو لم يسكن يوماً إلا بيوتاً من زجاج، ولم يقترن على طول عمره الذي بلغ عصوراً إلا ببنات أفكار تلك العصور، ليصاهرهم ويحمل همهم ويكون رسولهم المرح الفكه والمتلون بين الغباء والذكاء. وهو الذي كان ومايزال وسيبقى الناطق بلسان حال المجتمع.
إنه أشهر شخصيّة نمطيّة فكاهيّة يكثر الحديث عنها، وهي ما تزال حيّة فاعلة حتى يومنا هذا في الذاكرة العربية الأدبية، والفولكلوريّة، والثقافيةّ. وقد بلغت حدّاً من الشهرة والذيوع والاستمرارية على مرّ العصور واتساع العالم الإسلامي جعلت واقعها الفني يطغى على وجودها التاريخي الذي يؤكد أن جحا شخصيّة حقيقيّة.
هو دُجين بن ثابت الكوفي الفزاري، أبو الغصن والمعروف بجحا :شخص عرف بين معاصريه بالطيبة والتسامح الشديدين، وكان صاحب نوادر ويضرب به المثل في الحمق والغفلة على الرغم من أنه كان بالغ الذكاء. وكانت أمّه خادمة لأم أنس بن مالك.
وكانت تنطوي شخصيّته على حسّ عال بروح السخرية والفكاهة، ووسيلته إلى ذلك إدّعاء الحمق والجنون أو بالأحرى التحامق والتـأبله في مواجهة صغائر الأمور اليوميّة. وقد شهدت الحقبة التاريخية التي عاصرها جحا أحداثاً جساماً كان لها أبعد الأثر في أسلوبه وفلسفته في الحياة والتعبير.
ويقال إنه كان في يسكن الكوفة إبان ثورة أبي مسلم الخراساني، وأدخله عليه مولاه يقطين ليروح عن نفسه، لكن جحا الذي كان يجهل سبب إدخاله على القائد الخراساني خاف وخشي على نفسه من قول يكون قد تورّط به، أو طرفة له حُمّلت معنى لم يقصده، فادّعى الحمق والجنون في حضرته، فقال: يا يقطين أيّكما أبو مسلم؟.
ومع ذلك أُعجب به أبو مسلم وحدّث عنه الخليفة العباسي أبا جعفر المنصور الذي بادر إلى استدعائه إلى دار الخلافة في بغداد لعلّه يتخذه نديماً أو مهرّجاً في بلاطه. وقد أدرك جحا عاقبة هذا الأمر ومخاطره وقيوده، فتمادى في ادّعائه الحمق والجنون حتى أفرج عنه المنصور بعد أن أجزل له العطاء. وكان لمثل هذا اللقاء أثره البالغ في ازدياد شهرته. وهنا قال جحا مقولته الشهيرة :" حمق يعولني خير من عقل أعوله."
وشرع اسمه يتردد في أدبيات القرنين الثاني والثالث للهجرة مقروناً ببعض النوادر . وكان الجاحظ كان أول مؤلف عربي ذكر جحا في مؤلّفاته، وذلك في رسالة عن علي والحكمين، وأيضا في كتاب البغال.
ولكن ما نكاد نصل إلى القرن الرابع للهجرة حتى تكون نوادره المتواترة شفاهياً قد عرفت طريقها إلى التدوين في أسواق الورّاقين باسم " كتاب جحا" الذي كان من الكتب المرغوب فيها على قول ابن النديم في الفهرست.
ومن أقدم التراجم التاريخية التي وصلت عن جحا الترجمة التي ذكرها الآبي منصور بن الحسين (ت 421هـ) في موسوعته " نثر الدرر"، وبعدها توالت التراجم الكثيرة التي أجمعت جميعاً على وجود تاريخي لهذه الشخصيّة، ولكنّها أنكرت كثيراً مما يروى عنه من نوادر بلغت من الكثرة حدّاً يستحيل زماناً ومكاناً أن يكون جحا قائلها. وقال الآبي صراحة :" إن له جيراناً كانوا يضعون عليه هذه النوادر، بل أضافوا إليه أيضاً نوادر غيره من الحمقى، والمغفّلين، والأذكياء، وعقلاء المجانين."
وهذا يعني أن الوجدان الشعبي العربي قد انتخب جحا رمزاً لكل ضروب الفكاهة، وخاصة بعد أن تزيّد الناس عليه، فنسبوا إليه على مرّ العصور آلاف النوادر حتى ليقول عباس العقاّد في كتابه " جحا الضاحك المضحك": "إن جحا لو تفرّغ في حياته لصناعة النوادر التي نسبت إليه لمات قبل أن تنفذ روايتها أو ينتهي هو من إبداعها." وهذا يعني أنه انفصل عن واقعه التاريخي وتحوّل إلى زمن فنيّ استقطب معظم ما قيل من نوادر التراث الذائعة.
ومازال المأثور الجحوي يتنامى يوماً بعد يوم حتى حصلت نقلة نوعيّة كبرى في حياة هذا النموذج في القرن العاشر الهجري، وذلك عندما دخل العرب تحت السيادة العثمانيّة حيث استهوى الأتراك آنذاك هذا النموذج الجحوي العربي، فقاموا بنقل نوادره وترجمتها إلى التركيّة ونسبتها إلى شخصيّة تركيّة شبيهة بالنموذج العربي اشتهرت أيضاً بميلها للدعاية وجنوحها إلى السخرية، هي شخصيّة "الخوجة نصر الدين" الذي كان معلّماً وفقيهاً وقاضياً، وقد قدّر له تاريخيّاً أن يلتقي بتيمورلنك الطاغية المعروف، وأن تكون بينهما من المواقف والطرائف ما يعكس حمق هذا الطاغية وظلمه وجبروته إزاء المستضعفين.
ومن جرّاء تلاقح الثقافتين الإيرانية والتركيّة إبان العصور الوسطى ادّعى الإيرانيون أيضاً لأنفسهم هذه الشخصيّة وأطلقوا عليها اسم "الملاّ نصر الدين" وزعموا أنها إيرانية ونسبوا إليها النوادر الجحويّة والتركية والعربيّة معاً، فزادت مساحة شهرته، وغدت هذه النماذج الثلاثة جزءاً من التراث الشعبي الإسلامي. وانتقلت هذه النوادر إلى الآداب العالميّة خاصة في أفريقيا وأوروبا وروسيّا وبلاد البلقان والصين. كما انتشر النموذج الجحوي في سائر الأقطار العربية وصار لكل قطر عربي جحاه الخاص حتى بات هناك جحا المصري، وجحا الليبي، وجحا السوري، وجحا العراقي....
ومن أسمائه لدى بعض الشعوب " هودجا "في آسيا الوسطى"، و "جيهان" في مالطة، و"جوكا" في بلاد السكسون، و "خوجة نصر الدين" في تركيا.
ومن نوادره أنه قيل لجحا : لو أنك حفظت الحديث كحفظك هذه النوادر لكان أولى بك، فقال: قد فعلت، فقالوا : فماذا حفظت من الحديث؟ قال: حدّثني نافع عن ابن عمر عن النبي صلعم أنه قال : من كان فيه خصلتان كتب عند الله خالصاً مخلصاً، فقالوا : إن هذا حديث حسن، فما هما الخصلتان؟، فأجاب : نسي نافع واحدة ونسيت أنا الأخرى.


الهوامش:
1ـ الموسوعة العربية، هيئة الموسوعة، 7/490.
2ـ الموسوعة العربية، هيئة الموسوعة، 7/491.
3ـ المصدر نفسه، 7/491.
4ـ الأعلام، الزركلي، 2/112.




د. كارين صادر
 
أعلى