قصي الحسين - رحلة الوهراني ووقوعاتها في الأقطار العربية

من يتصل بأدب الرحالة والرحالين، يعرف أن الرسالة الصغيرة لا تقل أهمية في تاريخنا عن الكتاب العظيم. وربما كانت الرسالة الصغيرة أشد أهمية. إذ جرت العادة أن المؤلف يحملها في معظم الأحيان، إما فكرة جديدة، أو نصوصاً مختلفة عن السائد. ونحن إنما نبحث في منامات الرحالة الوهراني ورسائله ونصوصه، عن هذه الرسائل الصغيرة وما يشبهها، حتى نقابل حركاتنا العقلية والاجتماعية والسياسية الجديدة بحياتنا السابقة، وحتى نطلع على بعض خصائص هذه الحياة في قعر المرايا الصغرى التي نخبئها عادة في الجيب الصغير من سترتنا لنرى بها أنفسنا.

وركن الدين الوهراني وهو الذي عاش في القرن السادس الهجري، يكاد أن يكون مجهولاً لدى جمهرة المتأدبين في عصرنا الحاضر. وهو حقاً من الرحالة المقلّين بما وصل إلى أيدينا من آثاره التي لا تتجاوز عدداً محدوداً من الرسائل والمقامات والمنامات والتي حواها هذا المجلد الذي بين أيدينا فاصفرّ ورقه منذ اكثر من نصف قرن من دون أن يلقى ما يستحقه من قراء العربية.

ويقول الدكتور عبدالعزيز الأهواني عن هذه النصوص والرسائل الصغيرة والتي كتبها الوهراني أثناء رحلته من وهران في المغرب العربي إلى مصر وفلسطين ودمشق فبغداد، إنها «تمتاز في تاريخ النثر الفني في الأدب العربي بميزات ترفعها إلى مقام عالٍ». ويضيف قائلاً: «ونحن لا نكاد نجد في النثر العربي القديم نصوصاً فيها ما في كتابات الرحالة الوهراني من حيوية وذكاء ولمحات تعبر عن شخصية الكاتب، وتصور في دقة وبلاغة بعض جوانب الحياة الفكرية والاجتماعية في عصر من عصور التحول في المجتمع العربي، وهو عصر الانتقال من الدولة الفاطمية في مصر إلى الدولة الأيوبية (ص: و).

تتصدر المقامة البغدادية رسائل الوهراني المغربي وفيها يصف بغداد وسفرته إليها، مادحاً الخليفة العباسي حيث يقول مشيراً إلى ترك وطنه (المغرب) ووصوله إلى مدينة السلام بغداد: «لما تعذرت مآربي واضطربت مغاربي، ألقيت حبلي على غاربي، وجعلت مذهبات الشعر بضاعتي ومن أخلاف الأدب رضاعتي... وتقاذفت بي الأقطار حتى قربت من العراق، فقصدت مدينة السلام، لأقضي حجّة الإسلام».

ربما دفع اضطراب بلاد المغربي والصراع على السلطة في القرن السادس الهجري إلى شحذ همة الوهراني ورحيله عنها، فدخل بغداد بعد مقاساة الضر ومكابدة العيش المر. وهو يصفها إذ يقول: «طفتها طواف المفتقد، وتأملتها تأمل المنتقد، فرأيت بحراً لا يعبر زاخره ولا يبصر آخره». وحين جلس إلى الشيخ أبي المعالي كشف الوهراني ما كان يجرى في المغرب من حوادث بين المرابطين والموحدين، وكيف «سقطت «دولة الملثمين» (المرابطين) وخمدت نارهم وبادت آثارهم، واسودّ ناديهم وملكتهم أعاديهم». وكيف صعدت دولة عبدالمؤمن مؤسس دولة الموحدين «المؤمنية» في المغرب وإفريقيا وتونس. وما هو رأي الوهراني فيها وفي الأحداث التي جرت ودعته إلى الرحيل والهجرة عن الأهل والوطن من المغرب إلى المشرق. حيث نقرأ: «قال: فما تقول في عبدالمؤمن وأولاده وسيرته في بلاده؟ فقلت: مؤيد من السماء، مسلط على ما فوق الماء. خضعت له ذوو التيجان، وخدمه الإنس والجان ولو أن للقلم لساناً، وللورقة إنساناً، لتألمت وتظلمت ولأنشدتك في الملا، قول الشيخ أبي العلا (أبو العلاء المعري): جلوا صارماً وتلوا باطلاً / وقالوا صدقنا فقلنا نعم. ولكن السكوت عن هذا أنجح، ومسالمة الأفاعي أصلح» (ص 3)

وفي رحلة الوهراني كتاب، وفيه «المنام» بناءً لطلب الحافظ جمال الدين، الذي وصفه في المقدمة بأنه الفاضل الأديب الخطيب المصقع الأمين، ركن الإسلام شمس الحفاظ تاج الخطباء فخر الكتاب زين الأمناء. وقد وصف فيه دمشق ذاكراً قراها وغوطتها، وما فيها من محاسن وغياض ورياض مثل: الميطورة والنيربين وشحرور وجبل سنير والربوة وعين سردا وسوق آبل وعين جور. ثم يخلص للحديث عن قرى وأنهار بلاد الشام ويسمّيها بأسمائها ويتحدث عنها كما يراها وكما يرى أهلها وحكامها. مثل السفيرة واليابوع والكبرا ودير سلوان والزبداني وكفر عامر والحوذان وبلودان وبقين. وهو يتحدث عنها بلسان «خادم أمين»، واصفاً إعجابه بما يرى في بلاد الشام من جنائن وبساتين، وغيطان، رغم سخريته من أهلها ونقمته عليهم منشداً: «ألا ليت شعري هل أراني ساعة/ أجرر ذيلي في ذيول سنير (جبل بدمشق)/ وهل أرد الماء الذي عند دمَّرَ/ أصيلاً وحولي ناصر بن منير». وهو إذ يتلمظ غيظه وحقده يعبر عن ذلك فيقول: «ويريد الخادم أن يطلق يده وقلمه، ويسابق بها لسانه وفمه، فإنه قد لحقه من الضجر والكلال ما يلحق الجحش الصغير إذا حمل أحمال البغال القروح» (ص 21).

وفي ذروة الخوف والخشية في دمشق، يقرر الوهراني الخروج إلى دار السلام/ بغداد، فيصف لنا كيف سهت عينه ونام: «ثم غلبته عينه بعد ذلك فرأى في ما يرى النائم في نومه: «كأن القيامة قد قامت وكأن المنادي ينادي هلموا إلى العرض على الله تعالى». ثم يقول: «فخرجت من قبري أيمم الداعي إلى أن بلغت أرض الحشر. وقد ألجمني العرق. وأخذ مني التعب والفرق. وأنا من الخوف على أسوأ حال، وقد أنساني جميع ما أقاسيه، عظيم ما أعانيه من شدة الأهوال» (ص 24).

ويصف الوهراني في منامٍ رأى ببغداد يوم الحشر، وكيف كان يشتاق إلى صنوف الطعام فيسمّيها بأسمائها ويحفظ للباحث الاجتماعي حقه في تسجيل صنوف الأطعمة العربية اللذيذة والأماكن التي كانت تشتهر بها، والموائد التي كان يبسطها الولاة للناس، عامة وخاصة، حين يكون السمر: «كنت أشتهي على الله الكريم في هذه الساعة رغيفاً عقيبياً وزبدية طباهجة ناشفة وجبن سفاري ونعارة نبيذ صعيدناني، والحافظ العليمي ينادمني بأخبار خوارزم وفخر الدين بن هلال يغني لي: «يا أهل نعمان إلى وجناتكم/ تعزى الشقائق لا إلى النعمان» (ص 24). ثم يجري الوهراني في أثر أبي العلاء المعري في رسالة ابن القارح، فيصف الجنة والنار ووقوف الناس في المحشر ينتظرون حكم الله في القيادات الإسلامية، وكيف كان القضاة الفاسقون في الدنيا يرتجفون خوفاً. وكذلك أدعياء الإمامة والخلافة. ومعهم الخلفاء والأمراء والولاة ومحازبوهم. فيبسط لنا الوهراني رأيه فيهم جميعاً: «وما كان بأسرع من أن حضر القاضي في جماعة من الأكراد (ومعه الفقيه عيسى بن راكب على نجيب من نور، والبقية يمشون في ركابه، فتقدموا من معاوية فسلّموا عليه. ثم التفتوا إلى ابنه يزيد فقالوا له: السلام عليك يا إمام العدل». فيقول يزيد للقاضي صدر الدين: «أوصيك بأصحابك الأكراد خيراً، فإنهم أولى بحسن تدبيرك من سائر الناس، فقال: نعم يا أمير المؤمنين، ما أحتاج فيهم إلى زيادة تأكيد، هذا أنا قد وليت القضاء لجماعة منهم. أنا اعرفهم لا يعيشون إلاّ من اللصوصية وسرقة الحمير والبقر» (ص 55). وهم برأيه لا يصلحون أن يكونوا إلاّ في البدود (مكان الأصنام) والمواخير. ثم يستعرض الوهراني جميع رجال يزيد في القضاء، مثل أبي القاسم الأعور والعليمي وابن الشهرزوري، منتقداً سيرتهم وخصيصتهم وما كانوا عليه من قبح وسوء في أعمالهم وولاياتهم على الناس في العراق عصر ذاك. ويعود الوهراني إلى يقظته فيقول: فبينما نحن في أطيب عيش وأهناه، وإذا بضجة عظيمة قد اقبلت وزعقات متتابعة وأصحابنا يهربون. فقلنا: ما لكم؟ فقيل: علي عليه السلام: قد أخذ الطرقات على الشاميين، وجاءنا سرعان الخيل فيها محمد بن الحنفية يزأر في أوائلها مثل الليث الهصور: فلما انتهى الينا صاح بنا صيحة عظيمة هائلة، أخرجتني من جميع ما كنت فيه، فوقعت على سريري فانتبهت من نومي خائفاً مذعوراً، ولذة ذلك الماء في فمي وطنين الصيحة في اذني ورعب الوقعة في قلبي إلى يوم ينفخ في الصور» (ص 60)... وقد استطاع الوهراني، أن يعبر عن واقع الأمة وعنف تاريخها بلسان النائم الذي هالته الدنيا بفجائعها وشهد عليها بعينه وقلبه ولسانه، من خلال سرد إحداثيات منامه.

وعلى لسان «جامع دمشق»، تصف رقعة الوهراني، مآل الحال في «جلق» وخرابها على يد ولاة الأمور وأئمة المساجد في دمشق، «لما تحكمت يد الضياع في مساجد الضياع، وارتج باب العدل وغلق، ونبذ كتاب الله وحلق، فزعت المساجد إلى جامع جلق» فكتب إليه جامع النيرب: «إن الخراب قد استولى على المساجد حتى خلت من الراكع والساجد فأصبحت مساجد الغوطة غيطان لا سقوف لها ولا حيطان، وجوامع حوران مخازن وأفران» (ص 64). ويتقصى الوهراني جميع العمائر الدينية التاريخية وقد أتت عليها يد الخراب: «فإن «مقام إبراهيم» أصبح في كل واد يهيم و «مغارة الدم» لا تستفيق من الذم، ومشهد الكهف لا يفتر من اللهف، ومشهد هابيل قد رمي بطير ابابيل، ومشهد شيث، قد استأصله الخبيث، ومشهد نوح نبكي عليه وننوح... وقبر الياس قد وقع منه اليأس. فلحقت المشاهد بأربابها، وأمست رميماً كأصحابها. قد محتها الغوادي، وحدا بها الحادي جرت الرياح على محل ديارهم/ فكأنهم كانوا على ميعاد» (ص 65).

ويدوّن الرحالة الوهراني رسائل يشكو فيها الزمان، وفساد الناس والأمة، وقطائع الإدارات والوزارات وأهل الأمر والنهي من أرباب الدولة وما يتصل بها خصّ بها: القاضي عبدالرحيم البيساني والأمير نجم الدين بن مصال والقاضي الأثير بن بنان والقاضي الفاضل وقاضي الفاسقين بمصر يشكو فيها نائبه بدمشق، وإلى مجد الدين بن عبدالمطلب وزير تقي الدين وإلى شمس الدين بن البعلبكي وشمس الدولة بن منقذ والشهرزوري. كما كتب إلى الملك الناصر صلاح الدين كتاباً يشكو فيه عوزه وفقره: «فما باله أدام الله ظله يتوانى عن عبده ويتوقف في رفده، وقد اضر به البوس، وأعوزه الملبوس. وقد هجم العيد، وهو لا يبدي ولا يعيد» (ص 200) ثم ينتقده بأسلوبه المحبب شاكياً من ولاته الذين اضروا به وهم على خيانتهم للملك الناصر: «أتراه الذي نهى شاور عن الاتفاق، وأمره بالغدر والنفاق، أو تعتقده الذي حنك ابن خياط وسار بالإفرنج إلى دمياط. لا والله ولكنه من الدعاة في الأمصار، ومن كبار المهاجرين والأنصار» (ص 201).

ومثلما كتب ابن شهيد الأندلسي رسائل على ألسنة الجن والحيوانات وكان سبقه إلى ذلك ابن المقفع فكتب «كليلة ودمنة»، فإن جديد الرحالة الوهراني، أنه كتب رسالة على لسان «المئذنة» وأخرى على لسان «شمس الخلافة» وغيرها على لسان «أهل الهوى» ورسالة عن «المعاشرة» وأخرى عن «صقلية» و «رسالة في الطير». وذكر عشرة أشياء من أبواب البر «تسخط الله وترضي الشيطان»، فقال: «انقطاع ابن الصابوني إلى الله عز وجل في القرافة». و «تعصب الخبوشاني (الصوفي) لقبر الشافعي»... و «قراءة الوهراني السبع في صبيحة كل يوم» و... و «حضور ابن مماتي لمجالس الوعظ في القرافة وبكاؤه عند قراءة القرآن»... و «إنكار أبي عبدالله البغدادي على المزارين، ولا يلتفت إلى غيره من الذنوب» (ص 233)... فكأني بالوهراني يتحدث في رسائله عن أهل هذا الزمان من دون أن يستثني نفسه من الذم أو المديح وهو القائل أيضاً: «إن كسرة في كسر بيتي أحب من «المأمونية» (حلوى الخليفة المأمون) تمتن بها عليّ» (ص 233).



- الحياة
 
أعلى