عبد القادرمغدير - الوهراني ومناماته

نبذة عن حياته:

قديما كتب عن الوهراني العديد من المؤرخين من بينهم ابن خلكان في الوفيات[1]، وفضل الله العمري في مسالك الأبصار[2]، والصفدي في الوافي بالوفيات[3]، وابن قاضي شهبة في الأعلام[4]، والسيوطي في الكتاب المنسوب إليه "الكنز المدفون" .

أما حديثا فقد كتب عنه محمد كرد علي في المقتبس[5]، وخير الدين الزركلي في الأعلام، وفريد وجدي في دائرة معارف القرن العشرين، والدكتور عبد المالك مرتاض في كتابه فن المقامات في الأدب العربي[6]، وأبو علي حيدر في مجلة عيون المقالات المغربية في عددها السادس والسابع الصادر عام 1987م، وصلاح الدين المنجد في مجلة المجمع العلمي، في جزئها الأول من المجلد الأربعين، والصادر في يناير عام 1965م، وغيرهم.

هو أبو عبد الله محمد بن محرز بن محمد الوهراني، الملقب بركن الدين، وقيل: جمال الدين[7]، أصله من وهران، بفتح الواو وسكون الهاء، وهي مدينة جزائرية كبيرة، تقع فيغرب الجزائر، وهي على ساحل البحر الأبيض المتوسط.

ولقد عرف عن سيرته بعد مطالعة آثاره المخطوطة، أنه زار دمشق فــي أيام نور الدين محمود بن زنكي (المتوفى سنة 569 هـ ) واتصل به[8]، وأنه مر بصقلية، وزار مصر وبغداد، ثم استقربه المقام بدمشق، التي كانت قبلة الأنظار، تهوي إليها أفئدة الناس من كل حدب وصوب. وكان نور الدين شديد العطف على المغاربة، فوجه خطابة مسجد داريّا[9] إلى الوهراني.

توفي بداريَّا سنة خمس وسبعين وخمسمائة (575هـ)[10] أيام صلاحالدين الأيوبي، ودفن في تراب أبي سليمان الداراني[11].

آثاره:

ترك الوهراني نصوصا نثرية في صورة منامات ومقامات ورسائـل وخطـب، جمعـها كتابه "جليـــس كل ظريـــف"، وقد حققه إبراهيم شعلان ومحمد نغش تحت عنوان: "منامـات الوهراني ومقاماته ورسائله"، وراجعه الدكتور عبد العزيز الأهواني، وصدر عن دار الكاتب العربي فـي القاهرة عام 1968م، يتألف من مائتين وسبع وثلاثين صفحة من الحجم المتوسط.

المنام الكبير :
لقد ابتدع الوهراني فن المنامات الأدبية، وقدشهر منامه الكبير الذي حاكى فيه أبا العلاء المعري في رسالة الغفران، قال ابن خلكان: "ولو لم يكن له فيها إلا المنام الكبير لكفاه، فإنه أتى فيه بكل حلاوة، ولولا طوله لذكرته … "

لقد جمع الوهراني في المنام ألوانا من الأدب والمزاح، فتخيل أنه رأى في المنام كأن القيامة قامت، ومناديا ينادي: هلموا إلى العرض الأكبر، فخرج من قبره حتى بلغ أرض المحشر، فوجد بها كثيرين ممن عرفه وعاصره، فسخر منهم جميعا وذكر ما حوسبوا عليه.

الهزل في كتابات الوهراني :

لقد اختار الوهراني لنفسه أسلوب السخرية والتهكم في الكتابة، وقد جمع في كتابه "أنيس كل جليس" الكثير من رسائله ومناماته وفصوله الهزلية. كتب على لسان بغلته رسالة إلى الأمير عزالدين موسك[12]: "المملوكة ريحانة بغلة الوهراني تقبل الأرض بين يدي المولى عزالدين حسام أمير المؤمنين، نجاه الله من حر السعير، وعظم بذكره قوافل العير، ورزقه من القرط والتبن والشعير ما وسق مائة ألف بعير، واستجاب فيه صالح أدعية الجم الغفير من الخيل والبغال والحمير…"[13].

وهكذا نرى أن الوهراني كان صاحب دعابة ومزاح، وأنه كان خفيف الروح مقبول الكلام، قال صلاح الدين المنجد: "هو ثاني اثنين سلطهما على أهل دمشق أيام الأيوبيين، ابن عنين في "مقراض الأعراض " شعرا، وهو في "رسائله" و"منامه" نثرا".

أقدم من ترجم للوهراني هو القاضي ابن خلكان، قال عنه إنه:" أحد الفضلاء الظرفاء، قدِم من بلاده إلى الديار المصرية في أيام صلاح الدين ـ رحمه الله تعالى ـ وفنه الذي يمُتُّ به صناعة الإنشاء. فلما دخل البلاد ورأى بها القاضي الفاضل وعماد الدين الأصبهاني الكاتب، وتلك الحلبة علم من نفسه أنه ليس من طبقتهم، ولا تنفق سلعته مع وجودهم، فعدل عن طريق الجد ، وسلك طريق الهزل…"[14].

يفهم من كلام ابن خلكان أن الوهراني ترك طريق الجد بعد أن لقي الفاضل والعماد عند صلاح الدين بمصر. والواقع أن الوهراني قد سلك طريق الهزل قبل أن يصبح صلاح الدين سلطانا. والدليل على ذلك أن الكثير من مقاماته الهزلية ورسائله كتبها في عهد نور الدين بدمشق، ثم إن العماد والفاضل لم يجتمعا بمصر إلا بعد موتنور الدين[15]، زد على ذلك أن قدوم الوهراني من بلاده إلى الشام لم يكن في زمن صلاح الدين، بل كان في زمن نور الدين كما أسلفنا.

ولعل سلوك الوهراني مسلك الهزل مرده إلى التكسب وطلب المال. يحدثنا هو عن نفسه فيقول :

"لما تعذرت مآربي ،واضطربت مغاربي، ألقيت حبلي على غاربي، وجعلت مذهبات الشعر بضاعتي… فما مررت بأمير إلا حللت ساحته، واستمطرت راحته، و لا بوزير إلا قرعت بابه وطلبت ثوابه، ولا بقاض إلا أخذت سيبه، وأفرغت جيبه…"[16].

وإن كان نور الدين قد سلم من لسان الوهراني اللاذع، فلأنه كان لا يعطي الأدباء والشعراء الأموال.

وأيًّا كان أمر الوهراني فيما ابتغاه من سخريته، فإن كتاباته جديرة بالدراسة الواسعة.

أسلوبــــه:

كتب الوهراني بأسلوب نثري مرسل، حاكى فيه كتاب القـرن الرابع الهجري وسجـع المقامات، ونأى به عن صنعة الهمذاني والقاضي الفاضل، فجاءت كتاباته عفوية؛ تتدفق بالحيوية.

ولما كان ظريفا خفيف الروح، بارعا في الهزل والسخرية، مجيدا للتهكم والسخرية، فقد صبَّ سخريته على كبار علماء دمشق وفقهائها وأطبائها وكتابها كالتاج الكندي، والمهذب ابن النقاش، والقاضي الفاضل، والقاضي ضياء الدين الشهرزوري، والقاضي ابن أبي عصرون، وغيرهم.

مضامين كتاباته:

نستخلص من قراءاتنا لآثار الوهراني، أنه قد سخّر قلمه للتشهير بكبار علماء زمانه مـن فقهاء وأدباء وأطباء وقضاة، كما فضح المتصوفة والشيعة، وكشفما يجري في الأوساط الدينيـة من التكسب بالدين واختلاس الأموال والتلاعب بموارد الأوقاف.

لقد عرّى الوهراني الكثير من المفاسد الاجتماعية والسياسية في زمانه، واحتـج عليـها بأسلوبه الساخر.

-------------
[1] الوفيات ، ص385 – 386.
[2] مسالك الأبصار، ص700-749.
[3] الوافي بالوفيات، ص696 –764 .
[4] الأعلام، ص 779 –851 .
[5] كانت تصدر بمصر سنة 1906 –1908م.
[6] صدر عن الشركة الوطنية للنشر والتوزيع ـ الجزائرعام(1980م).
[7] يراجع وفيات الأعيان لابن خلكان ، ص385.
[8] المرجعالسابق ، ص 263.
[9] " قرية على باب دمشق " وفيات الأعيان لأبن خلكان تحقيقإحسان عباس ، ص385 .
[10] وفيات الأعيان لابن خلكان ، ص 385.
[11] أبو سليمان الداراني: عبد الرحمن بن أحمد العنسي الداراني أبو سليمان، تابعي من أهلدَارَيَّا وإليها ينسب على غير قياس، وهي بلدة بالشام قريبة من دِمَشْق .ولد سنة (140)هـ، وتوفي سنة (215)هـ.
[12] الأمير عز الدين موسك- ابن خال السلطانصلاح الدين الايوبي وأحد أمرائه، كان طيباخيرا به تقوى، ويحترم العلماء، وتوفى فيدمشق 584هجريا.
[13] المنامات، ص90.
[14] المصدر السابق ،ص385.
[15] مجلة المجمع العلمي ، ص235.
[16] المنامات ،ص1.


- د. عبد القادرمغدير
أستاذ بالإمارات العربية المتحدة
 
أعلى